رأی جدید فی تعدد الزوجات نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

رأی جدید فی تعدد الزوجات - نسخه متنی

محمد محمد المدنی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

رأي جديد في تعدد الزوجات

رأي جديد في تعدد الزوجات

للأستاذ محمد محمد المدني

ــــ

هذا البحث: يعالج النقط الآتية:

1ـ الشريعة الإسلامية تبيح تعدد الزوجات بشرط الأمن من الجور، وهذا الشرط مقرر بالإجماع أخذاً من قوله تعالى: ' فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة '.

فهل هذا هو الشرط الوحيدلإباحة التعدد؟ أو هناك شرط آخر؟ وإن كان هناك شرط آخر؛ فما هو؟ وما دليله؟.

2 ـ معروف أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان متزوجاً بعدد من النساء، وأن منأصحابه رضي الله عنهم من تزوج بأكثر من واحدة، وأنهم كانوا يستبيحون التعدد في عهده ومن بعده، فهل كانوا في ذلك متقيدين بالشرط المعروف المجمع عليه فقط، أو به وبالشرطالآخر أيضاً؟ وما دليل ذلك؟.

3 ـ هل يبيح الإسلام أن يتدخل ولي الامر للتثبت من تحقق ما شرطه الله في إباحة تعدد الزوجات، ليرتب على ذلك: الإذن به للأفراد، أو عدمالإذن؟.

4 ـ معروف ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له تسع نساء حين نزل حكم القرآن بالاقتصار على أربع، وأنه كان يأمر من عنده أكثر من أربع، ومن أسلموتحته أكثر من أربع، أن يفارق ما زاد.

فلم لم يطبق هذا التشريع على نفسه فيفارق ما زاد على الأربع من زوجاته؟.

هل هذه خصوصية له كما يقولون؟ ولم؟.

/ صفحه 413/

تمهيد:

لا نزاع بين المسلمين في أن الشريعة الإسلامية تقر مبدأ ' تعدد الزوجات إلى أربع ' وأنه بإقرار هذا المبدأ تخالف ما عليه المسيحيون في هذا الشأنالاجتماعي الهام مخالفة أساسية.

وقد صار هذا المبدأ معلوماً من الدين الاسلامي بالضرورة، أي يستوي في العلم به جميع المسلمين لا فرق بين خاصتهم الذين يعلمون الأحكاممن أدلتها التفصيلية، وعامتهم الذين يعلمونها عن طريق التقليد والثقة بما يقوله الأئمة وأهل الفقه.

وذلك لورود القرآن الكريم والسنة المطهرة به، ولقيام العمل عليهمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأصحابه وتابعيهم وسائر المسلمين في مختلف الأزمنة والأمكنة والمذاهب الإسلامية إلى يومنا هذا.

وإذن فهذا المبدأ يعتبر فيمنزلة الأصول التي لا تقبل الخلاف، ولا تكون محلا للإجتهاد، بل تلتحق بالقطعيات الثابتة يقيناً وروداً ومعنى.

هذا كله في مبدأ ' تعدد الزوجات إلى أربع' وليس كلامنا فيهذا المبدأ، وما ينبغي لنا أن نتكلم عنه إلا من جهة بيان حكمة الإسلام في تقريره، وصلاح أمر المجتمعات عليه، وما يتصل بذلك من رد الشبه والمطاعن التي توجه إلى الإسلامورسوله الكريم من أجله.

* * *

ولكنَّ وراء هذا المبدأ القطعي أموراً قابلة للنظر والاجتهاد، وقد كثر الكلام فيها، وتعددت وجهات النظر، فأردت بهذا البحث أن أدليبدلوي، وأن أحقق هذه الأمور على قدر جهدي، معتمداً على الحجة المستمدة من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فإن يكن ما رأيته صواباً فمنالله، وإن تكن الأخرى؛ فالخيرَ أردتُ ' وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، واليه أنيب '.

* * *

/ صفحه 414 /

1

دراسة لآية التعدد في سورة النساء

لم يتحدث القرآن الكريم عن ' تعدد الزوجات ' بعبارة تفيد حكمه التشريعي إلا في موضع واحد هو الاية الثالثة من سورة النساء، وإن كان الحديث عنه كمبدأ مقرر قد جاء في غير هذاالموضع.

ولما كنا بصدد تكييف الصورة التشريعية التي أبيح بها التعدد إلى أربع، ولسنا بصدد مبدأ التعدد نفسه؛ فإن الذين يعنينا هو آية النساء، لأنها هي المادة التييستند اليها التشريع، واليت يتبين من نصها ما إذا كان التعدد مباحاً إباحة مطلقة، أو إباحة مقيدة.

يقول الله تعالى:

' وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي فانكحوا ماطاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنة ألا تعولوا '.

وأول ما يلاحظ: أن هذه الاية جاءت بين أحكام اليتامى، فقدسبقت بالامر ـ في الاية الثانية ـ بإيتاء اليتامى أموالهم، والنهي عن صور اغتيالها، إذ تقول: ' وآتوا اليتامى أموالهم، ولا تنبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلىأموالكم، إنه كان حوباً كبيراً ' وجاء بعدها طائفة من أحكام اليتامى والسفهاء، ترجع إلى حفظهم في أموالهم وفي أنفسهم وارتسام النوايا الصالحة في جميع شئونهم، والتحذير منأكل أموالهم ظلماً ـ واقرأ في ذلك الايات من الخامسة التي تقول: ' ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفاً ' إلىالاية العاشرة التي تقول: ' إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسَيَصْلوْن سعيرا '.

ومجئ حكم التعدد بين هذه الاحكام يجعلنا نتساءل:

لم جاء هذا الحكم الأساسي الذي له هذا الشأن الهام في المجتمع عرضاً أثناء الحديث عن غيره؟.

ولم جاء بين أحكام اليتامى بالذات؟.

/ صفحه 415/

وشيء آخر نلاحظهفي نص هذه الاية، وهو مجئ هذا الحكم جواباً لشرط، والشأن ألا يتحقق المشروط إلا مع تحقق الشرط، لارتباط بينهما لاحظه المتكلم.

ولكن هذا الشرط يبدو غريباً عن المشروط،فما هي العلاقة المعنوية بين ' خوف عدم الإقساط في اليتامى ' وإباحة تزوج ما طاب من النساء ' مثنى وثلاث ورباع '؟.

هذه ثلاث ملاحظات، أو ثلاثة أسئلة، لا نكون مسرفين إذاقلنا: إن ما من باحث منصف لنفسه، حريص على الاقتناع القلبي إلا بدت أمامه، وكان عليه قبل كل شيء أن يدرسها.

فتعال معي ـ أيها القارئ ـ إلى المفسرين، لنرى ما يسوقونه منالآراء والروايات في هذه الاية، فلعله يلقى ضوءاً يعيننا على ما نريد من فهم الامر فهماً واضحاً صحيحاً.

أشهر الآراء:

1 ـ رأي عائشة:

في الصحيحين وغيرهماعن عروة بن الزبير أنه سأل خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن هذه الاية فقالت: يا ابن أختي. هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها. ويعجبه مالها وجمالها،فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط لها في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنُهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سُنَّتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحواما طالب لهم من النساء سواهن ـ قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد هذه الاية فيهن، فأنزل الله عزوجل: ' ويستفتونك فيالنساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ' (1). قالت: والذي ذكر الله انه يتلى عليكم في الكتابالاية الاولى التي قال الله فيها: ' وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى

ــــــــــ

(1) الاية 127 من سورة النساء.

/ صفحه 416/

فانكحوا ما طاب لكم من النساء 'قالت عائشة: وقولُ الله في الاية الأخرى: 'وترغبون أن تنكحوهن ': رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنُهوا أن ينحكوا ما رغبوا في مالهاوجمالها إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن ـ ا هـ.

هذه هي الرواية الأولى التي يوردها المفسرون حين يشرعون في تفسير هذه الاية، وهي رواية قوية السند، رواها البخاري،ومسلم، والنسائي، والبيهقي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وكما ثبت معناها عند أهل السنة؛ ثبت عند الامامية، فقد ذكر العلامة الطبرسي في كتاب ' مجمع البيان،لعلوم القرآن ' هذه الرواية عن عائشة، ثم قال: وروى ذلك في تفسير أصحابنا، وقالوا: إنها متصلة بقوله تعالى: ' ويستفتونك في النساء '... الاية، وبه قال الحسن، والجُبَّائي،والمبرِّد(1) ـ اهـ.

ولذلك يميل المفسرون إلى قبول هذه الرواية، ويفسرون الاية على هداها. وجملة ما جاءت به هذه الرواية هو ما يأتي:

1 ـ أن الله تعالى ينهى ' الأوصياء' عن التزوج باليتيمات إذا خافوا عدم الإقساط اليهن.

2 ـ وأن عدم الإقساط مقصود به عدم إطائهن أعلى سنتهن في الصداق.

3 ـ وأن المراد باليتامى في قوله تعالى: ' وإنخفتم ألا تقسطوا في اليتامى ' إنما هو اليتيمات، والمراد بالنساء في قوله جل شأنه: ' فانكحوا ما طاب لكم من النساء ' إنما هو غير اليتيمات، وتقدير الكلام: وإن خفتم ـ أيهاالأوصيا ـ ألا تقسطوا في اليتيمات اللواتي تحت ولايتكم بألا تعطوهن أعلى سنتهن في الصداق، إذا رغبتم في التزوج منهن، فالتمسوا نكاح ما طاب لكم النساء غيرهن، اثنتيناثنتين، أو ثلاثاً ثلاثاً، أو اربعاً أربعاً.... الخ ـ قال ربيعة: أي اتركوهن فقد

ــــــــــ

(1) ص 5 من الجزء الثالث من كتاب ' مجمع البيان ' طبع مطبعة العرفان بصيدا(لبنان) سنة 1935 م.

/ صفحه 417 /

أحللت لكم أربعاً فوَسَّعت عليكم في غيرهن حتى لا تظلموهن، وهذا كما لو قال قائل: النساءُ غيرهن كثير، ولكم أربع إن شئتم، فدعواهؤلاء والتمسوا غيرهن.

4 ـ وأن هناك اتصالا بين هذه الاية وقوله تعالى فيما يأتي من سورة النساء: ' ويستفتونك في النساء ' وذلك أن قوله: ' وما يتلى عليكم في الكتاب فييتامى النساء' المراد به هو: ' وإن خفتم ألا تقسطوا... ' الخ.

5 ـ وأن المراد بقوله تعالى: ' وترغبون أن تنكحوهن ' هو الرغبة عنهن، لا الرغبة فيهن.

6 ـ ولم تتعرض هذهالرواية لبيان المراد بقوله تعالى: ' اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ' وقد رويت عن عائشة رواية عند تفسير هذه الاية تقول: إن المراد بذلك عدم إيتائهن صداقهن الذي وجب لهن (1)،وهذا يتمشى مع رأيها في قوله: ' وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ' لأنها جعلت عدم الإقساط هو الرغبة في عدم إعطاء اليتيمة صداقها.

هذا هو رأي أم المؤمنين عائشة، وقد أخذبه أكثر المفسرين، لقوة سنده كما بيَّنا، ولقوة معناه فيما يرون.

* * *

نقدنا لهذا الرأي:

ونحن نرى أن هذا مع قوة سنده، ليس قوياً من جهة المعنى، وأنه يردعليه اعتراضات كثيرة سنبينها، ولا ينبغي أن يفهم أن كون هذا الرأي لعائشة رضي الله عنها يحول بين الباحث ونقده، فإنها لم تنسب ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآلهوسلم)، ولم ترو لنا نصاً عن الرسول نقف عنده، ونحمل المعنى في الاية على ما حمله عليه، ولا حجة لقول أحد من الناس في مثل هذا الصدد إلا لقول رسول الله (صلى الله عليهوآله وسلم)، وقد اختلف الصحابة أنفسهم في تفسير هذه الاية،

ــــــــــ

(1) راجع تفسير ' روح المعاني للألوسي ' ص 144 ج 5 طبع إدارة الطباعة المنيرية عصر. وتفسير 'مجمع البيان ' للطبرسي ص 118 ج 3 طبع صيدا.

/ صفحه 418/

وروى عنهم ما يخالف تفسير عائشة، فما علينا نحن أن نخالفها أيضاً إذا تبين لنا أن وجه الحق في غير ما تقول معإجلالنا لمقامها العظيم، رضي الله عنها.

وهذه هي الاعتراضات:

1 ـ إذا كان الغرض نهي ' الأوصياء ' عن ظلم اليتيمات بالزواج منهن دون إعطائهن مهر مثلهن؛ فإن أسلوبالتعبير عن ذلك، إما أن يكون نهياً صريحاً عن هذا بأن يقال مثلا: لا تبخسوا اليتيمات مهورهن، أو إيجاباً صريحاً لحقهن في ذلك بأن يقال مثلا: آتوهن مهورهن كاملة، أما أنيقال لإفادة هذا المعنى: ' وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع... ' الخ، فهذا بعيد.

أولا: لأنه ليس نهياً مباشراً عن عدمالإقساد في اليتيماتن والغرض المسوق له اكلام في الايات كلها يقتضي أن يعبر عن ذلك بأسلوب النهي المباشر، إذا المراد تشريع ما يحفظ على اليتامى أموالهم.

ثانياً: لأنكلمة ' تقسطوا ' لا تختص بالإقساط في دفع المهور فحسب، فالإقساط هو القيام بالقسط في كل شيء، وهو الذي جاء التعبير عنه في الاية الاخرى بقوله تعالى: ' وأن تقوموا لليتامىبالقسط '، فحمله على ناحية معينة هي ناحية المهر تحكمُّ، وما أبعد المهر عن أن يكون له هذا الاعتبار القوي في نظر المشرع حتى إنه من أجل المحافظة على إيصاله كاملا غيرمنقوص ليتمية تخطب؛ يصرف الأكفاء عنها، ويفتح باب التعدد من غرها صيانة لبعض مالها، وهل هذا يتفق وروح الإسلام الذي يتجلى في مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): 'التمس ولو خاتماً من حديد'.

وهنا نأتي بموضوع موجز على سبيل الاستطراد، وهو أنهم يروون أن عمر رضي الله عنه كان يخطب على المنبر ذات يوم فنهى عن التغالي في مهورالنساء، فقالت له امرأة: يا عمر إن نهيك هذا ينافي قوله تعالى: ' وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً ' (1)، فقد أباح الله تعالى

ــــــــــ

(1) الاية 20 من سورة النساء.

/ صفحه 419 /

أن يكون المهر قنطاراً، فكيف تنهى عن المغالاة مع هذا، فرجع عمر عن نهيه وقال: كل الناس أفقه منك ياعمر حتى النساء، وفي رواية: أصابت امرأة وأخطأ عمر! وأقول: إن هذه الحجة التي روى أن المرأة احتجت بها ما هي إلا مغالطة، فإن القرآن الكريم ليس بصدد تحديد المهر، وبيانأعلاه أو أقله في هذه الآية، وإنما هو بصدد نهي الأزواج عن الطمع في مهور أزواجهم بالغة ما بلغت إذا أرادوا استبدال زوج مكان زوج، فأتى بهذه الصورة على سبيل المبالغة حتىلا يظن أن عظم المهر مبررٌ للطمع في بعضه، فهي صورة فرضية يكمل بها معنى النهي، ولا تدل على رضا المشرِّع بها، وكل ما تدل عليه هو صحة العقد على المهر المغالي فيه، وشتانبين الصحة وما يؤثره المشرِّع ويحبه للمصلحة والتخفيف عن الناس، ونهيهم عن كل ما يصعب عقد الزواج. وشبيه بهذا ما روى من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ' من بنى للهمسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له قصراً في الجنة ' فإن هذه مبالغة في ترتب الجزاء حتى على المسجد الصغير، ولا يجئ في الحسبان أن يرغب الناس في إنشاء مساجد منها ما هو قدرمفحص قطاة! وإذن فالنظرية التي جاءت بها هذه الرواية على لسان عمر بن الخطاب نظرية سليمة متفقة مع روح الإسلام في التيسير، ومع حبه لقيام عقد الزوجية، وترغيبه فيها، أماقول المرأة ففيه من المغالطة ما لا يخفي على مثل عمر في قوة تفكيره، وعمقه الفقهي، ولذلك لا أميل إلى تصديق هذه القصة، وأرجح أنها من القصص المصنوعة لغرض معين قد يكون هوبيان إنصاف عمر، وسرعة رجوعه إلى الحق، وما أغناه عن التصيُّد له لو كانوا يعلمون.

هذا هو الاستطراد الذي أردناه، وليس غريباً عن الموضوع، فإنما نريد به أن نبينرأينا في أن المهر إن زاد أو نقص ليس له في نظر المشرع هذه الأهمية التي تجعله يفتح باب التعدد باثنتين وثلاث وأربع من أجله، أو من أجل كماله.

ونعود بعد هذا إلى باقي مايرد على رواية عائشة رضي الله عنها من اعتراضات:

ثالثاً: لأن لفظ ' اليتامى ' شامل للذكر والأنثى، وعائشة رضي الله عنها تجعل المراد به في الاية هو الاناث، أي اليتيماتليلتئم لها القول بأن الخفو من عدم الإقصاط إنما هو عند رغبة الوصي في نكاح يتيمته دون أن يوفي لها مهر مثلها.

/ صفحه 420 /

وإذا نظرنا إلى المواضع التي استعملفيها القرآن لفظ ' اليتامى ' فإننا نجدها كلها مقصوداً فيها اليتامى من الذكور والإناث جميعاً، مثل قوله تعالى: ' وآتوا اليتامى أموالهم '، ' وابتلوا اليتامى '، ' إن الذينيأكلون أموال اليتامى ظلماً '، ' وأن تقوموا لليتامى بالقسط ' وكل هذا في سورة النساء، وقد جاء هذا أيضاً في غير سورة النساء، مثل قوله تعالى: ' ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحلهم خير'، و ' واليتامى والمساكين وابن السبيل ' إلى غير ذلك، فإذا أراد القرآنٌ اليتيمات خاصة صرح بذلك ما في قوله تعالى: ' وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامة النساء '.

وإذن فعُرْفُ القرآن في هذا اللفظ لا يساعد على قبول رأي عائشة في أن المراد باليتامى في قوله تعالى: ' وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ' اليتيمات خاصة، ويتفرع على هذا أنالتفسير الذي يحتاج إلى هذا التخصيص أيضا، بعد تخصيص الإقساط بناحية المهر، ليس تفسيراً قويا.

رابعاً: لأن لفظ النساء في قوله تعالى: ' فانكحوا ما طاب لكم من النساء'عام شامل لليتيمة وغيرها، فالنساء اسم جمع للأنثى، وليس له واحد من لفظه، ولكن واحده امرأة، أو مرأة، وهي الأنثى الآدمية، كما أن امرءاً أو مرءاً يقال للذكر من بني آدم،وإذن فقد خصصت عائشة رضي الله عنها لفظاً ثالثاً حين جعلت المراد من النساء في هذه الاية من سوى اليتيمات، وبذلك تكون قد تصرفت بتخصيص ثلاثة ألفاظ في جملة واحدة، ويكونلنا أن نتوقف في قبول التفسير الذي يلجئ إلى ذلك.

خامساً: وعلى فرض أن أن يكون الامر كذلك، فان المقام لا يستدعى مجئ جواب هذا الشرط على ما جاء به من التبرع بذكر الزواجمن غير اليتامى باثنتين، أو ثلاث، أو أربع، وأن ذلك عند الأمن، أما عند الخوف من عدم العدل فالواجب الاقتصار على واحدةن أو على ما ملكت أيمانكم ـ كل هذا يكون مجتلباً منغير ان يستدعيه المقام، وأسلوب القرآن الكريم وبلاغته وإعجازه في المحل الأرفع.

وهو اسمى من أن يحمل على هذا التصيد لأبعد المناسبات، ومن أن يقرر حكما

/ صفحه 421/

في شأن اليتامى فينتقل إلى حكم اجتماعي أساسي هامن وهو حكم التعدد فيجعله طرفا تابعاً، وحاشية مسوقة عن طريق المصادفة هكذا ارتجالا ومفاجأة.

2 ـ ثم إن الأمربإيتاء النساء صدقاتهن كاملة، واعتبارها نحلة لهن وحقاً مكتسباً لا يجوز لأحد أخذ شيء منه إلا بطيب نفس؛ قد جاء في الاية التالية لهذه الاية: ' وآتوا النساء صدقاتهن نحلة،فإن طِبْنَ لكن عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئا ' فهذا حكم عام في مهور النساء، يتيمات أو غير يتيمات، فهل ترى الاية الاولى جاءت لتقرره أصالة، فدارت حوله هذا الدورانالذي زعموه، ثم جاءت الاية التالية لها فصرحت به تصريحاً، ووضحته توضيحاً؟ وما فائدة هذا التكرار مرةً بخفيِّ الإشارةن ومرة بصريح العبارة، وهل عُهِد مثلُ ذلك في موادالتشريع وفِقَر القانون؟.

3 ـ ثم إذا كان الأمر كما تقول؛ فلم جاء جواب الشرط ' فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع' ولم تبْدَأ الإباحة ـ كما هو مقتضى الحالـ بالواحدة من غيرهن، فيقال مثلا: أحاد، ومثنى، وثلاث، ورباع، أليس الكلام فيمن يريد أن ينكح اليتيمة غير مقسط لها في صداقها فليقل له: اتركها وتزوج واحدة غيرها، ولا أظنأن المناسب أن يقال له: اتركها وتزوج اثنتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً، فلو أن الاية ـ إذ أرادت ذكر التعدد هنا ـ بدأت بالواحدة، ثم ثنت بالاثنتين، وهكذا؛ لكان أقرب إلى مايقتضيه المقام على حسب ما يتصورون.

4 ـ ثم إن هذه الرواية تربط بين آية ' وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ' وآية ' ويستفتونك في النساء ' وهذا الارتباط بين الآيتين مسلم،ونحن لا ننكره، ولكن على الوجه الذي سنبينه فيما بعد، غير أن تلك الرواية تفسر ' وترغبون أن تنكحوهن ' على معنى. وترغبون عن أن تنكحوهن، مع أن المتبادر أن الكلام على معنى'في'، وهو المناسب لما ذكرته الرواية من الرغبة في نكاح اليتيمات في آية ' وإن خفتم ألا تقسطوا '.

ثم إن قوله تعالى: ' وترغبون أن تنكحوهن ' وارد في ضمنم ' ويستفتونك '

/ صفحه 422/

فهل ترى أحداً يستفتي في الدميمة التي يرغب عنها فيقول: أنا راغب عنها فماذا أصنع؟ إنما الذي يُسأل عنه هو حالة اليتيمة المرغوب فيها فيقول وصيها: أناراغب فيها فهل أتزوجها؟.

5 ـ ثم إن تفسير: ' اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ' بمنعهن مهو رهن غير جيد، لأنه لا يقال في المهر عندئذ ' كتب لهن ' والمفروض أن الكلام فيمن يرغبأو لا يرغب في نكاح اليتيمة، وهي مجرد رغبة لم تتم حتى يكون هناك ما يسمى صداقا كتب لهن، وإنما التفسير المناسب لتاريخ النساء في العرب هو أن الله تعالى يبطل بهذا ما كانواعليه من منع النساء من الميراث، وينهاهم أن يمنعوهن حقهن الذي كتبه الله لهنن فيما تقدم من الايات الاولى من السورة، ومن بينه آيات الميراث التي تثبت حق النساء كما تثبتحق الرجال.

* * *

وبهذا كله يتيين أن هذا الرأي غير مقنع، وأن الاية على تقديره تكون ذات أسلوب عجيب في عدم تماسكه، وذات تعبير بألفاظ محتاجة إلى تخصيص مفهوماتهااللغوية، وهو ما يجل القرآن عنه، وترتفع بلاغته وإعجازه عن مستواه: ' كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ' (1).

* * *

وجوه أخرى مروية

في تفسير الاية (2)

بـ وعن ابن عباس، والضحاك، والربيع، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والسدي، وقتادة ـ فيما رواه ابن جرير ـ:

أنهم كانوا في الجاهلية ينكحون عشراً من النساء الأيامي، وكانوايعظمون شأن

ــــــــــ

(1) الاية الاولى من سورة هود.

(2) اقرأ في تحصيل هذه الوجود مثل كتاب ' مجمع البيان ' للطبرسي، فقد عد خمس منها غير الوجه الاول الذيجاءت به الرواية عن عائشة ـ ص 6 ج 3.

/ صفحه 423 /

اليتيم، فتفقدوا من دينهم شأن اليتيم، وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية ـ فلم ينتهوا عنه ـ فقال تعالى: ' وإنخفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ' ونهاهم عما كانوا ينكحون في الجاهلية، قال ابن جرير: فقيل لهم كما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى،فكذلك فخافوا في النساء ألا تعدلوا فيهن، ولا تنكحوا منهن إلا من واحدة إلى الأربع ولا تزيدوا على ذلك، وإن خفتم أيضاً ألا تعدلوا في الزيادة عن الواحدة، فلا تنكحوا إلاما لا تخافون أن تجوروا فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم.

* * * *

1 ـ إن هذا الرأي يتصور أمراص مخالفاً للواقع التاريخي في شأن معاملة أهل الجاهلية لليتيم، وخوفهمعدم الإقساط في شأنه، والقرآن الكريم لا يساعد على قبول هذا التصور، لأنه إذا كان اليتيم في الجاهلية ذا شأن معظم، وكان مجتمعهم يخشى عدم الإقساط في شئون اليتامى، إلىالحد الذي يجعل الاية تعتد به، وتقيس عليه شأن النساء كما يقرر هذا القرأي، فما الذي دعا القرآن إلى أن يوصى باليتامى في كثير من آياته، مثل: ' أرأيت الذي يكذب بالدين فذلكالذي يَدُعُّ اليتيم ' (1) ' ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ' (2) ' وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكمإنه كان حوباً كبيراً ' (3).

2 ـ إن الإسلوب الطبيعي ـ إذا كان المعنى على ما يقولون ـ هو أن يقال مثلا: وإذا كنتم تخافون ـ أو: وإذ كنتم تخافون ـ ألا تقسطوا في اليتامى...الخ.

أولا: لن ' إذا ' تستعمل حيث يكون شرطها متحقق الوقوع، أما ' إن ' فإنها تستعمل حيث يكون الشرط مشكوكا في وقوعه، فمقام المعنى الذي يذكرونه يقتضي ' إذا ' لا ' إن '.

ــــــــــ

(1) الايتان 1، 2 من سورة الماعون

(2) الاية 152 من سورة الأنعام.

(3) الاية 2 من سورة النساء.

/ صفحه 424/

ثانياً: ولو استعمل لفظ ' إذ 'لكان مناسباً للمقامن فإنه ظرف يفيد منشأ الحكم الآتي ومبعثه، أو العلة التي روعيت فيه، كأنه قال: وما دمتم خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فخافوا كذلك ألا تقسطوا في النساء.

ثالثاً: إذا دخلت أداة الشرط على ماض صيرته مستقبلا، فقول القائل: إن أطعتني كافأتك؛ يفيد السامع أنه يريد منه الطاعة في المستقبل، لا أنه يحدثه عن طاعته الحاصلة فعلا.

هذا هو الأسلوب الطبيعي في جملة الشرط وأداتها لو كان المقام لهذا المعنى، وكذلك يقال في الجواب، فإن الأسلوب الطبيعي يقتضي أن يقال: وإذا كنتم تخافون... الخ. فلاتنكحوا من النساء عددا ينتهى بكم إلى الجور في شأنهن، أو نحو ذلك التعبير، أما أن يقال: ' فانكحوا ما طالب لكم ' بصيغة الأمر الدالة على الرغبة في تحصيل مضمونه، وبلفظ ' ماطاب لكم ' الدال على مراعاة رغبتهم في الجمع، لا ع لى مدافعة هذه الرغبة كما يقتضيه مقام معالجة الجور؛ فذلك بعيد، والذوق الأبدي يشهد ببعده، وكتاب الله تعالى أجل وأعلىمن أن يحمل على مثل هذا المعنى المتخاذلن الذي لا يؤازره اللفظ ولا الأسلوب ولا واقع الحال.

* * *

ج ـ وقيل: كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى وأكل أموالهم، إيماناًوتصديقاً، فقال سبحانه: إن تحرجتم من ذلك؛ فكذلك تحرجوا من الزنا، وانكحوا المباح من واحدة إلى أربع.

د ـ وقيل: المعنى وإن كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى فتحرجوا منالجمع بين النساء وألا تعدلوا بين النساء، ولا تتزوجوا منهن إلا ما تأمنون معه الجور.

* * *

وهذان الوجهان أشد تهافتاً قبلهما كما هو واضح، ويبدو في تلك الوجوه كلهاالتحايل على الربط بين الشرط والجزاء على نحو لا يفيد القارئ اقتناعاً، ولا يبعث في نفسه ارتياحا.

وإذن فمن حقنا أن نميل إلى رفض هذه الأوجه كلها.

/ صفحه 425/

رأي جديد:

هـ ـ أما التفسير الصحيح في نظرنا، والذي لا يرد عليه أي اعتراض جدي، والذي نقرره مطمئنين إليه، وإن لم ترد به روايةن ولم يعرف عن أحد من قبل: فيتلخصفيما يأتي:

1 ـ إن العرب في الجاهلية كانوا يستضعفون اليتامى والنساء، وكان من مظاهر هذا الاستضعاف:

أنهم كانوا يحرمون الصبي والمرأة من الميراث.

وأنهم كانوايطمعون في أموالهم إذا كانت لهم أموال غير الميراث أيضاً، فكانوا يخلطونها بأموالهم، ويتبدّلون رديئهم بالجيد منها إذا شاءوا، ويميلون عليها في أزماتهم ولا يتحرجون منإنفاقها في مصالحهم الخاصة.

وأنهم كانوا يعضلون النساء كلما وجدوا سبيلا إلى ذلك، كي ينتفعوا من هذا العضل، فإذا ورث الرجل زوجة أبيه أو زوجة أخيه، كان له أن يعضلهاحتى تفتدي منه بمال تدفعه له، وإذا كره زوجته التي معه، علقها فلم يطلقها، ولم يعاملها معاملة الزوجة، وذلك حتى تفتدي منه بمال تدفعه له، وإذا كان تحت يده يتيمة عضلها عنالزواج حتى لا تفلت أموالها منه... وهكذا.

2 ـ وقد جاء الإسلام بإبطال ذلك كله، وجعل لليتامى حقوقا، وارتفع بهم عن أن يكونوا في المجتمع محلا للإستضعاف في صورة منالصور، فلما أخذ المسلمون بتلك الأحكام وشدد النكير على من يظلم اليتامى والنساء، أصبح هناك روح عام متغلغل في المجمع الاسلامي، ذلك هو الخوف من مخالطة اليتامى لئلايصيبهم الوعيد بالعذاب، فجاء القرآن بالرخصة في ذلك بأباح لهم أني خلطوا أموالهم بأموال اليتامى ما داموا لا يبتغون إلا الإصلاح، وعرفهم بأن اليتامى ما هم إلا إخوانهم،والأخ مأمون على أخيه، والشأن أن يكون بينهما كل مظاهر التعاون بين الإخوة، فانتهت بذلك مشلكة الخلط حيث استجازوه بعد أن كانوا يتحربون منه، وبرزت مشكلة أخرى هي: كيفيمكن أن يقوموا لليتامى بالقسط في كل شيء.

/ صفحه 426 /

3 ـ ولذلك كان الرجل ربما تحرج من ولاية شئون اليتامى، إذ أنه سيكون مضطراً في سبيل رعايتهم إلى أن يداخلهمنوفيهم فتيات، أو يرى أمهاتهم الأيامي وهو يدخل عليهم ويخرج، وذلك فيه من الحرج ما فيه، فتيات، أو يرى أمهاتهم الأيامي وهو يدخل عليهم ويخرج، وذلك فيه من الحرج ما فيه، حيثلا تؤمن الدواعي النفسية من رجل يدخل على أيِّم من النساء، وعلى بناتها، وله الحق بحكم وصايته أن يراهن ويتحدث اليهن، ويجلس معهن، فإذا أراد أن يبتعد عن ذلك، وأن يصد عننفسه عوامل الفتنة بالابتعاد، أو بتقليل الزيارة والتعرف، فإنه سيكون مقصراً غير قائم لليتامى بالقسط على الوجه الذي أمر الله به، وعلى الوجه الذي يقتضي إصلاح أموالهم،ومعرفة مشاكلهمن وإصلاح أنفسهم بالمعروف.

4 ـ فالأوصياء إذن كانوا بين نارين من هذين الواجبين: واجب القيام بالقسط لليتامى على وجهه الصحيح ـ وهو يقتضي ملابستهمومداخلتهم والجلوس اليهم، وفيهم من هي صالحة للزواج، وبينهم ـ في كثير من الأحيان أمُّهم نفسها، تلك الأم التي مات عنها زوجها، ولعل فيها بقية من شباب وصلاحية للزواج ـومن واجب آخر هو واجب الاعتصام، والابتعاد عن الفتنة، والمؤمن لا ينبغي أن يضع نفسه وضعاً يكون فيه فاتناً أو مفتوناً، فما السبيل إلى الخلوص من هذا المأزق.

إنه هوالحكم الذي شرعته الاية: ' وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ' أي ألا تقوموا فيهم ـ وأقول فيهم لأني أفهم أن الضمير لليتامى عامة ذكوراً وإناثا ـ فإن خفتم ألا تقوموا فيشأنهم بالقسط تحرجا من مداخلتهم ومجالستهم في بيوتهم التي لاتخلوا من يتيمات أو أيامي؛ فالمَخْلصُ من ذلك هو: ' تعدد الزوجات '.

إنه هو الذي يوجد فيه الحل لهذاالاشكالن فقد أباح الله للرجل في مثل هذا الظرف أن يكون له أكثر من واحدة إذا أمن الجور، فليدخل الأوصياء هذا الباب، ومن كان منهم متزوجاً بواحدة، فلا بأس عليه أن يضماليها ما طاب له من النساء، فيتزوج إحدى يتيماته، أو يتزوج الأمَّ نفسها، وبذكل يصبح دخوله هذا البيت دخولا مأمون العاقبة، فيجمع بذلك بين رعاية مصلحة اليتامى الوجهالمطلوب، وبين وقاية نفسه، ووقاية غيره، من عوامل السوء والفتنة.

/ صفحه 427 /

5 ـ والاية الأخرى على هذا التفسير يبدو ارتباطها بهذه الاية وبغيرها من آيات إصلاحاليتامى، واضحاً جلياً، وذلك أنها تحدثنا عن سؤال المسلمين للنبي في النساء، وعن بقايا تحرُّجهم في شئونهن، كرغبة الولي في يتيمته، ومن عرف المجتمع في عدم توريثهن أوتوريث الولدان عامة فتقول: ' ويستفتونك في النساء' ثم تحيل على ما سبق تقريره في الكتاب من أحكامهن وأحكام المستضعفين من الولدان، وما أمروا به من القيام لليتامى عامةبالقسط كاملا دون عبث أو تهاون في إقامته، فتقول: ' قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في تيامى النساء ' وانظر إلى قوله: ' يتامى النساء ' وكيف يشير إلى ما سبق منقوله: ' وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ' ثم تقول: ' اللاتي لاتؤتونهن ما كتب لهن ' وذلك هو نصيبهن في الميراث فالتعبير بقوله: ' ما كتب لهن ' لايليق إلا بشئ مكتوب مقرر مفروض، وقد وصف الله الأنصبة بقوله في آية المواريث: ' فريضة من الله '، وقد بينا أنه إذا فسر ذلك بالصداق، فإنه لا يناسب، لأنه لم يتم زواج حتى يقالصداقٌ وكتابٌ مكتوب، ثم تقول: ' وترغبون أن تنكحوهن ' وهي الرغبة في نكاح الأيم أو اليتيمة، وهي المعبر عنها في الاية السابقة بقوله: ' فانكحوا ما طاب لكم ' أي أن إباحةالتعدد ملاحظ فيها الرغبة وطيب المرأة في نظر الراغب فيه إلى جانب الغرض الذي قررناه، وهو التمكن من ان يقام لليتامى بالقسط كاملا، ثم تقول: ' والمستضعفين من الولدان 'فتعطف المستضعفين من يتامى الصبيان على المستضعفين من يتامى النساء، لأن الولدان جمع وليد للصبي، اما الأنثى فوليدة وجمعها ولائد، وتختم بقوله تعالى: ' وأن تقومواللتامى بالقسط ' أي لليتامة عامة بالقسط التام على ما أمر الله به في مواضعه من الكتاب العزيز.

6 ـ وينبغي أن نتنبه في هذا المقام إلى أن ربط إباحة التعدد في هذه الايةبالخوف من عد الإقساط لليتامى؛ لا يراد به قصر الإباحة على هذا الشرط بعينه فإنه لم يرد هذا الشرط لذاته، ولكن لأنه صورة من صور كثيرة للمبررات التي تبيح التعدد، يمكنالاستناد اليها بالقياس عليه:

/ صفحه 428/

فمرض الزوجة مرضاً ميئوساً من شفائه، أو مرضاً يمنعها من إنجاب الأطفال، أو من أن تحقق رغبة زوجها في المتاع؛ مبررللتعدد.

وظروف الحرب التي من شأنها أن يقل فيها عدد الرجال عن عدد النساء، مبرر للتعدد.

واغتراب الزوج عن زوجته اغتراباً بعيداً مع عدم إمكان استصحابها أو الرجوعاليها لموانع مادية أو أدبية؛ مبرر للتعدد.

وهكذا... كل أمر مصلحي يعترف الشارع بجنسه، ويشبه في غايته هذا المبرر الذي ذكرته الاية، وهو الخوف من عدم الإقساط فياليتامى، يمكن اعتباره والاعتداد به بالقياس على هذا المبرر المنطوق به.

ويتلاقي هذا مع ما نعرف من أن جميع زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إنما تزوجهنلمثل هذا الغرض الشريف:

فمنهن من تزوجها خوفا عليها أن تفتن في دينها، وهي سودة بنت زمعة التي كانت من المؤمنات المهاجرات، ومات زوجها، فرأى رسول الله (صلى اللهعليه وآله وسلم) أنها لو عادت إلى أهلها لعذبوها وفتنوها، فكافأها على تضحيتها بأن تزوجها وصانها.

وزينب بنت عمته تزوجها تحقيقاً لأمر الله، وإبطالا لما كان عليهالجاهلية من البني وتحريم تزوج الرجل مطلقة مُتَبنَّاه، وسيأتي في الفصل الثاني زيادة بيان لهذا الشأن من شئون زواج النبي صلى الله عليه وسلم.

وجُويريه تزوجها رسولالله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنها كانت بنت سيد قومها الحارث من بني المصلطق، وكان المسلمون قد أسروها وأسروا من قومها عدداً كبيراً، فأراد الرسول أن يحملهم علىإطلاق الأسرى بهذا الأسلوب، فتزوجها فقالوا: ليس لنا بعد ذلك أن نُبقى أصهار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأسر، فأعتقوهم جميعاً، فكانت سياسة موفقة رحيمةمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

/ صفحه 429 /

وهكذا كل زوجية عقدها رسول الله لنفسه كان لها هدف شريف، ويمكن معرفة ذلك على وجه أكثر تفصيلا بالرجوعإلى كتب السيرة ونحوها.

7 ـ وينبغي أيضاً ألا يغيب عن البال أن كلامنا فيما مر إنما يرجع إلى الشرط الأول من الشرطين اللذين اكتنفا إباحة التعدد، وهو قوله تعالى في أولالاية: ' وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ' أما الشرط الثاني، وهو قوله تعالى في آخر هذه الاية ' فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ' فهو في موضع الإجماع بين جميع العلماء، فلا يجوزلمن خاف عدم العدل بين الزوجات ان يقدم على التعدد.

وسيأتي لذلك مزيد بيان.

* * *

وبذلك يتبين:

1 ـ أن تعدد الزوجات إنما شرع لمثل هذه الغاية الشريفة،التي هي الرغبة في القيام لليتامى بالقسط، تحقيقاً لأمر الله، ورعاية لمصلحة اليتامى أنفسهم، وأنه ليس مشروعاً لمجرد إرضاء النفس، وتحقيق دواعي الرغبة في النساء.

2ـ وأنه بهذا التفسير ليس غريباً عن موضوع اليتامى. ولا دخيلا في أحكامهم، فإنه ذكر حلا لمشكله من مشكلاتهم في المجتمع، حين تقضي المصلحة بأن يقوم عليهم وصى بالقسط، وتقضيالآداب الإسلامية بأن يتحرج الرجل من الالتقاء بمن هنَّ أجنبيات عنه.

3 ـ وأنه يمكن القياس على هذا الغرض، فيباح التعدد إذا دعا داع إليه، ويمنع إذا لم يكن له داع يشبهما ذكره القرآن الكريم من إقامة القسط في شأن اليتامى.

4 ـ وأن هذا الشروط ـ مع توخي الغاية الشريفة ـ بأن يأمن الزوج عدم الجورن فإذا خاف الجور وجب عليه ألا يعدد.

/ صفحه 430 /

التحقق من شرطي التعدد

حق مشروع لولي الأمر:

قررنا فيما سبق أن قوله تعالى: ' فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ' هو تقييد لإباحة التعدد، بأنهاإنما تكون عند الأمن من عدم العدل، أما من يخاف عدم العدل بين الزوجات، فإنه لا يحل له.

والخوف أو عدم الخوف: حالة وجدانية يشعر بها المرء إذا تدبر أمره، وعرف مدىقدرته وطاقته المادية والأدبية وظروف حياته، فإنه عندئذ يجد في نفسه معنى الخوف أو الاطمئنان، أي يستطيع الحكم على نفسه وتقدير أمره تقديراً صحيحاً، فيخاف إن علمقصوراً، ويطمئن إذا علم كفاية واستعدادا.

وليس في الشريعة ما يمنع أن يعهد بتقدير ظروف الناس في هذا إلى هيئة رسمية اجتماعية أو قضائية، وأن يقيد الناس في التعدد بحكمهذه الهيئة جوازاً أو منعاً، فإن هذا أمر ربما طغت على الرجال فيه عوامل الرغبة فلم يحسن بعضهم تقدير ظروفه، وتدبر قدرته أو عدم قدرته، وربما ترتب على هذا ضرر يصيب غيره منزوجته الحالية أو المستقبلة، ومن واجب ولي الامر أن يحتاط للضرر فيمنع وقوعه، ويتخذ لذلك من الوسائل ما يراه، وليس ذلك من باب تحريم المباح، فإن الذي معنا مباح مشروطبشرطين: أحدهما أن يكون له مبرر وداع العدل، فوليُّ الأمر لا يقول: أحرم ما أحله الله، وأمنع ما أباحه، ولكن يقول: أراقب تحقق الشرطين اللذين قيد الله بهما هذه الاباحةلئلا يقع من عدم تحققهما ضرر يكرهه الله ولا يأذن به، فهو بذلك خادم للحكم الشرعي، لا معطلٌ له.

/ صفحه 431 /

2

أسئلة وأجوبتها

لقد درسنا آيةالنساء، واستعرضنا الآراء فيها، ونقدنا هذه الآراء، ثم أدلينا برأينا وحجته.

غير أن هذا الرأي الذي رأيناه يرد عليه أسئلة:

هل لنا أن نرد رأي عائشة:

السؤال الاول: هذا رأي عائشة أم المؤمنين، وهو رأي ثابت من جهة النقل عنها، فكيف يسوغ لنا أن نخالفه؟.

والجواب: أن هناك غير هذا الرأي عدة آراء أخرى منها ما هوللصحابة، ومنها ما هو للتابعين، فالسؤال وارد على أصحاب هذه الآراء كما هو وارد علينا، فما يسعهم يسعنا، وعائشة رضي الله عنها لم تنسب هذا إلى الرسول (صلى الله عليهوآله وسلم) حتى يكون المؤمن ملزما بقبوله، وإنما هو رأي لها، على أنه قد روى عن عائشة رضي الله عنها في الآيتين (1) روايات أخرى منها ما جاء في صحيح مسلم ' عن أبي بكر بنشيبة وأبي كريب، قالا: حدثنا أبو أسامة، حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة في قوله تعالى: ' وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ' قالت: أنزلت في الرجل تكون له اليتيمة، وهو وليهاووارثها، ولها مال، وليس لها أحد يخاصم دونها، فلا ينكحها لمالها، فيضرُّبها ويسيء صحبتها، فقال: ' وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء ' يقول:ما أحللت لكم، وردع هذه التي تضُّر بها '.

ومنها في مسلم أيضاً: حدثنا أبو بكر بن أ بي شيبة، حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام عن أبيه عن عائشة في قوله: ' وما يتلى عليكم فيالكتاب في

ــــــــــ

(1) آية ' وإن خفتم ألا تقسطوا ' وآية ' ويستفتونك في النساء '.

/ صفحه 432 /

يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن، وترغبون أنتنكحوهن '. قالت: أنزلت في اليتيمة تكون عند الرجل فتشركه في ماله، فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيشركه في مالها فيعضلها فلا يتزوجها ولا يزوجها غيره ' (1).

وهذه الرواية الأخيرة صريحة في إفادة لو أراد أن يتزوجها لكان له ذلك على أن يقسط لها، فهي إذن حث على تزوج اليتيمات مع القسط لهن، لا نهى عن تزوجهن إذا خيف عدم القسطفي صداقهن.

ومهما يكن من شيء، فإن لعائشة رضي الله عنها رأيها، وللباحث أن يدرس هذا الراي ويعرضه على أصول البحث العلمي، وموازين النقد، فإن استقام في نظره قبله،وإلا كان في حل من رده.

السؤال الثاني: إذا كان تعدد الزوجات مقيداً بما ذكرته من أن يكون له مبرر، فلم لم يقيد الرسول أصحابه بذلك، فإنه لم يرد أبداً أن أحداً منالصحابة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا من بعده توقفوا عن التعدد لأنفسهم أو لغيرهم حتى يتبينموا: هل له مبرر مشروع أو ليس له مبرر مشروع، فدل ذلك علىان هذا القيد غير معتبرن إذ لو كان معتبراً لحرص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يقيد به الناس، وأن يراقبهم ليعلم هل تقيدوا به أو لا، ولو عرف الصحابة شيئاًمن ذلك لرووه والتزموه، ولرأيناهم يتساءلون عند ما يعددون: هل هناك مبرر أو ليس هناك مبرر؟

فأقول: إنني لم أقل شيئاً يستدعي هذا، وإنما قلت مالا يتعارض أبداً مع فعلالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، بيان ذلك أنني قلت: لابد من مبرر مشروع، شبيه بما ذكر في الاية من الخوف من عدم الإقساط في اليتامى، وهذا المبرر قد يكون هومراعاة حالة الأمة في ظروف الحروب، وما تؤدي إليه من نقص في الرجال، وتأييم للكثيرات من النساء، فهذا نفسه من أهم المبررات للتعدد،

ــــــــــ

(1) راجع كتابالتفسير من صحيح مسلم.

/ صفحه 433/

ومن حق الأيامي الذين فقدوا ما كان لهم من أزواج في الحروب أن ينظر اليهن نظرة يقصد بها علاج مشكلتهن، ولا سيما أن بعضالأزواج الذين قتلوا في سبيل الله قد يكون لهم بلاء حسن، وإقدام في ساحة الجهاد مذكور، فعلى المجتع أن يلاحظ ذلك، وليس من الوفاء، أن يترك أبناؤهم وأراملهم يكابدونالحياة بلا عائل ولا مصلح.

لذلك تعد ظروف الحروب من اهم المبررات لتعدد الزوجات ما في ذلك شك.

وسطية الإسلام، وشهادة الرسول:

وقد كان العرب في الجاهليةيعددون، ولم يكن ذلك معيباً فيهم، حتى جاء الإسلام وهو شريعة الوسطية، أي أنه في كل حكم أتى به يلتزم الجانب الوسط، فلا يميل إلى جانب الإفراط، ولا إلى جانب التفريط،ولذلك يقول القرآن الكريم مخاطباً المسلمين: ' وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا ' (1).

فمعنى: ' لتكونوا شهداء على الناس ':لتكون أحكامكم ومبادئكم ومثلكم هي المقياس الصحيح، والميزان الذي تعدل به أحكام الناس ومبادئهم ومثلهم، وتلك ثمرة من ثمرات التوسط، ' ويكون الرسول عليكم شهيداً ': أيتكون أحكامه وأفعاله ومبادئه ومقاييسه هي المرجع والتعديل الصحيح، وذلك يستلزم أمرين:

أحدهما: أن الإسلام دين وسط، فلا انحياز له إلى طرف وخير الأمور الوسط.

والثاني: أن أحكام الرسول وأعماله هي المرجع عند الاختلاف أو الاشتباه في معرفة الوسط الذي هو شريعة الله وحكمه العام للناس، فمن سنة الرسول قولا وفعلا ومثلا وسيرة نأخذما يدلنا على حكم الله، وشريعة الله.

وهذان المبدآن ـ ولله الحمد ـ منطبقان على ما ذهبنا إليه في شأن التعدد.

فمن حيث الوسطية نجد أنه كان أمام الإسلام في هذاالشأن واحد من ثلاثة طرق:

ــــــــــ

(1) الاية 143 من سورة البقرة.

/ صفحه 434/

إما أن يبيح التعدد إباحة مطلقة كما كان عليه الأمر في الجاهلية، فيكونللرجل أن يتزوج من النساء ما يشاء دون قيد ولا شرط، وهذا لا خلاف بين أحد من المسلمين، بل ولا غير المسلمين، في أنه فوضي ومجافاة للطبيعة، وإسراف في منح الرجال مالايستطعونه، ومالا يستقيم أمر المجتمع عليه، وإما أن يقصر الرجل على زوجة واحدة ولا يبيح له أن يتزوج غيرها معها بحال من الأحوال، وهذا طرف آخر مقابل للطرف الأول تمامالمقابلة: فهناك حرية تامة ليس عليها أي قيد، وهنا تضييق تام ليس فيه للرجال ولا للمجتمع أي منفذ، وكلاهما إسراف وتطرف، وما كان الإسلام ليرضى بأحدهما، فلم يبق إلا أنيسلك سبيلا وسطاً بين هذا وذاك، يلاحظ فيه مبدأ التحديد ومبدأ التسامح كليهما، وقد جاء التشريع في هذا الشأن محققاً هذه الوسطية:

فحدد الزوجات بأربع، باعتبار أنالرجل لا يستطيع أن يقيم العدل، وأن ينهض بأعباء الزوجية عادة، في أكثر من هذا العدد.

ثم لم يجعل التعدد إلى الأربع أمراً مباحا دون ضابط، فمن شاء فعله بمطلق حريته ـولو كان لاهم له إلا الشهوة وأن يكون من ' الذواقين ' الذي يتنقلون بين الزوجاب، فإذا انتهى نصاب الأربع، لم يقفوا بشهواتهم عنده، فطلقوا واحدة، ليتبدلوا بها غيرها وهكذاـ ولكنه قيد التعدد بقيد حين يعتزمه الرجل وهو أن يكون له مبرر، وقيد يجب أن يلاحظه ويعلمه في نفسه، وهو أنه سيكون عادلا منصفاً بين زوجاته، لا ظالما ولا محملا نفسة مالايطيق، فكان بذلك وسطاً، وكان صراطاً مستقيما.

وأما حكم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يرشد إلى ذلك ويكون شهيداً على المسلمين، فيظهر من أمرين:

أولهما: أن عهد الرسالة الإسلامية التشريعية بالمدينة حين شرع الإسلام قصر التعدد على أربع، وأبطل ما كان عليه الجاهلية من إباحة التعدد إلى أي عدد، أقول: إن عهدالرسالة الإسلامية حينئذ كان عهد جهاد وحروب وغزوات، فكان المسلمون

/ صفحه 435 /

لا يفترون عن ذلك عاماً واحداً، وكانوا يخرجون من معركة إلى معركة، ومن غزوة إلىغزوة، وكان رجالهم وشبابهم حصيدا لهذه الحروب وتلك الغزوات، وكانت نساؤهم وأطفالهم ضحايا لها، وكم من بيوت فقدت عمادها، واحتسبت رجالهان وكم من نساء تأيمت، ومن أطفالتيتمت، وقد استمر هذا شأن المسلمين حتى بعد وفاة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فقد كانت حروب الردة، وحروب الفتح ونشر راية الإسلام، فهل كان النبي والمسلمون إذن فيحاجة مع هذه الظروف إلى أن يتبينوا: هل تعدُّدُ الزوجات له مبررٌ أو ليس مبرر؟ إنهم يعيشون فعلا في هذا المبرر العام، يراه كل إنسان ويشهده ويلمسه، فسكوت الروايات عنه ليسلأنه غير موجود ولا مشترط، ولكن لأنه موجود وجوداً واضحاً حتى لا يحتاج إلى الكلام فيه، ولا إلى مراقبة المجتمع في شأنه ليعلم الرسول أو أصحابه هل تحقق شرط المبرر أو لميتحقق، فإنه متحقق تحققاً عاماً بهذه الحروب وهذه الغزوات، تحققاً أغناهم عن المراقبة والمحاسبة.

الثاني: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان يطبق ذلكعلى نفسه في صورة واضحة، دقيقة، فما تزوج امرأة قط إلا كان له من هذا الزواج هدف إما راجع إلى مصلحة الإسلام وتركيز دعوته، وإما راجع إلى غرض إنساني نبيل، وإما إلى غرضتشريعي وضعت خطته بأمر الله وكان أمر الله مفعولا.

ومن قرأ سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأمل ظروف حياته، وظروف زواجه في كل زوجية عقدها لنفسه، فإنهيلمس ذلك واضحاً بينا، ويعرف أنه يمقتضى كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيداً على المسلمين؛ عليهم أن يرجعوا إلى حكمه وعلمه وما كان يطبقه فيلتزموه ويتخذوا منهتفسيراً لكتاب ربهم حين يختلفون في جزئية من جزئيات هذا التفسير، كهذه الجزئية في التعدد.

وإذن فلا يقلْ أحد: اين كان هذا القيد، وكيف غاب فلم يعرف في زمن الرسول، ولافي زمن أصحابه لأن الواقع أنه عُرِف وطبق تماما في عهد الرسول وفي عهد الأصحاب، وهما الحجة والمرجع.

* * *

/ صفحه 436 /

لماذا أبقى الرسول على جميع نسائه:

بقي سؤال ثالث: ولكن هذا السؤال لا يوجهه أولئك الذين وجهوا السؤالين الأولين، وإنما يوجهه المستشرقون وأمثالهم، ويغتر به بعض المسلمين، ويتحدث به كثير من الشباب علىاستحياء، أو في استخفاء: ذلك هو: إذا كان الله تعالى قد شرع للمسلمين عامة حكما هو الاقتصار في التعدد على أربع، وكان الرسول يأمر من زادت زوجاته على أربع أن يبقى أربعاًويفارق الباقي، فلم لم يطبق هذا على نفسه، وكيف جاز له أن يبقى بعد هذا التشريع تسعا من النساء، ولا يكتفي هو أيضا بأربع ويفارق الباقي؟

هذا هو السؤال، وقد كان هذاالأمر موضع تهجم كثير على الإسلام ورسول الإسلام بغير حق، وبغير تأمل ولا بحث، ولو كان السائلون أو المتحيرون أو الشاكون منصفين، لتأملوا سيرة الرسول وظروف هذا الأمربالنسبة له (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنهم لو فعلوا ذلك لأدركوا الحقيقة على بساطتها، بل لأدركوا أن الإسلام لو لم يفعل ذلك لكان مجافيا للوضع السليم، تعالى اللهعن ذلك، فإنه هو الحكيم العليم الرحيم.

إن العلماء يسلكون في الرد على هذا السؤال مسلكا معروفاً، بأن يقولوا: هذه خصوصية من خصوصيات رسول الله (صلى الله عليه وآلهوسلم)، ولكن الاكتفاء بكون هذا خصوصية لا يكفي في الرد على السائلين، لأن هذا هو نفس السؤال: لمَ خُص بذلك؟ هل هي محاباة له من ربه؟ وأعداء الإسلام يقولون: إن محمداً هوالذي احتفظ لنفسه بهذه الخصوصية ـ يرمون بذلك لعنهم الله إلى أنه ليس رسولا وإنما هو مدع ـ.

فعلينا إذن ألا نكتفي بهذا الإجمال، وأن ندرس الامر في صميمه، وأن نتابعالظروف التي جاء فيها هذا التشريع العام للمؤمنين، والأسباب التي أبيح معها للرسول أن يحتفظ بنسائه هو خاصة من دون المؤمنين، أي أننا سنجيب عن السؤال الذي جاء أخيراً،وهو: لم كانت هذه الخصوصية؟

/ صفحه 437 /

لقد نزلت سورة الأحزاب بإجماع آراء أهل العلم في كل عصر قبل سورة النساء، وسورة النساء هي السورة التي جاء فيها حكمالتعدد والقصر على أربع، فانظروا ماذا فعلت سورة الأحزاب التي نزلت قبل سورة النساء:

إن سورة الأحزاب هذه قد عنيت عناية كبيرة بشئون الرسول الخاصة فيما كان من تبنيهزيداً، ومن تزويج الله إياه زوجةَ زيد بعد أن طلقها، ومن تخييره نساءه بين الحياة الدنيا وزينتها، وبين الله ورسوله، ومن تصيحة زوجات النبي بالتقوى وعدم التبرج وإبداءالزينة، وعدم الخضوع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض... الخ. ومن نصيحة المسلمين في شأن دخول بيوت النبي، والحديث ا لى نسائه والحجاب، ومن بيان ما أحله الله لنبيه منالنساء، وما حرمه عليه في شأنهن.

ومن قرأ هذه السورة تبدو له مراحل وملاحظات:

زواج الرسول من زينب

كان تنفيذاً لأمر من الله:

فيرى مثلا أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتزوج زينب إلا تنفيذاً لأمر الله، وأنه كان يخشى قالة الناس، وما سوف يتحدثون به من أنه تزوج حليلة متبناه، وقد عاتبه الله تعالى علىذلك، واقرءوا في هذا قوله تعالى: ' وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه، فلماقضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا، وكان أمر الله مفعولا، ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة اللهفي الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً، الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا ' (1).

وقف أعداء الإسلام من هذا الحادثالتشريعي موقفاً غير كريم، واتخذوا منه وسيلة إلى تشويه رسول الله بغير حق، وساعدهم على ذلك أنهم وجدوا روايات

(1) الايات من 37 إلى 39 من سورة الأحزاب.

/ صفحه 438 /

لها ظاهر يستطيعون التلاعب به، كالذي روى من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى زينب وهي متبذلة وقد انحسرت ثيابها عن بعض جسمها فهاله منظرها، وأحس في قلبهحباً لها فقال: سبحان مقلب القلوب! وبعض هؤلاء المترصدين يبالغ في التخيل فيصور محمدا وقد رأى زينب متمددة في فراشها قد خلعت ثيابها إلا لبسة المتفضل، فملكت عليه فؤاده،وشغفته حباً، وأحس بذلك زيدٌ مولاه، فجاء إليه يخبره بأنه قد اعتزم طلاقها، فقال له الرسول: اتق الله وأمسك عليك زوجك، يريد ذلك أن ينفي عن نفسه ما خالجها من حب هذه الزوجةواعتزامه أن يتزوجها إذا طلقت.

وهكذا هاموا في أودية الضلال والخيال، ولم يقدروا أن زينب هذه كانت بنت عمته، وأنه كان يراها منذ كانت طفلة، ويعرفها كما يعرف المرءقرائبه، وأنه هو الذي زوجها من مولاه زيد مع أنها قرشية من بنات عماته، وزيدٌ مولى من الموالي، وقد كانت هي وأخوها حين أمرهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذاالزواج معارضين في قبوله، كما يدل على ذلك ما نزل في سورة الأحزاب حثاً لهما إذ يقول جل شأنه: ' وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امراً أن يكون لهم الخيرة منأمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ' ثم أذعنا بعد نزول هذه الاية، وقبلت القرشية الشريفة الحرة أن تتزوج مولى من الموالي نزولا على أمر الله ورسوله، وبدأتخطةٌ تشريعية لوحظت في تنفيذها العوامل النفسية للمجتمع، واختير لتنفيذها أكبر رجل في هذا المجتمع، وللأفعال إذا باشرها موضع القدوة تأثيرها وسحرها في طاعة المقتدينالمؤمنين، وذلك يذكرنا بمشورة أم سلمة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينحر هديه، ويحلق رأسه، حين تردد المؤمنون في قبول أمره، فكان ذلك منها مشورة موفقة،ورأى المسلمون رسول الله يفعل ذلك، ففعلوه بعد أن كانوا مترددين، وكان يخشى عليهم أن تصيبهم مصيبة بعصيانهم الرسول، ومخالفتهم عن أمره.

/ صفحه 439 /

وإذنفالقدوة العملية هي التي كانت عماد هذه الخطة ووسيلتها إلى أن يقبل المجتمع في حسم ما لم يكن يقبله، لموضع الإلف والعادة في ألا يتزوج الرجل زوجة متبناه.

ولذلكنعتبرها تضحية من الرسول، وتنفيذاً لأمر الله، وسنة من سنن الأنبياء الذين يبلغون رسالات ربهم ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله، وليست الرسالات فقط قولية، وإنما تكونأحيانا عملية، كهذه الرسالة العملية لتي كلفها الرسول على ما بها من مشقة، فالرسول كان بهذا مضحياً متحملا في سبيل رسالة ربه، لا ناظراً إلى زينب وجال زينب، ولو أنه كانناظراً إلى زينب لخطبها لنفسه من أول الأمر قبل أن يحملها على التزوج من مولاه، ويومئذ ما كان ذلك يلفت نظر أحد، وما كان يتخذ سبيلا للقال والقيل.

وننتقل بعد هذا إلىنقطة أخرى:

أحكام انتقالية:

علم الله سبحانه وتعالى أنه سيشرع للمسلمين حكما يحد به من تعدد الزوجات على ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، أي أنه سيقصر العددعلى أربع، فلا يجوز لمسلم أن يزيد عليهن، فمهد لذلك بأحكام في شأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كلها جاءت في سورة الأحزاب، التي نزلت بالإجماع قبل سورة النساء.

زوجات الرسول أمهات للمؤمنين

ولا يجوز نكاحهن من بعده:

ولكي ندرك الجو الذي جاءت فيه هذه الأحكام وطبقت على الرسول يجب أن نستحضر ما يأتي:

إن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) له في الأمة منزلة التقديس والإجلال، ولا يتناسب وهذه المنزلة أن ينكح المسلمون أزواجه من بعده أبداً، ولذلك اعتبرت سورة الأحزاب أزواجه(صلى الله عليه وآله وسلم) أمهات المؤمنين، وذلك حيث يقول جل شأنه: ' النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم ' قال

/ صفحه 440 /

صاحب الكشاف: هذاتشبيه لهن بالأمهات في بعض الأحكام، وهو وجوب تعظيمهن واحترامهن وتحريم نكاحهن قال الله تعالى: ' وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إنذلكم كان عند الله عظيما '.

وهذا لون من التكريم معهود في الناس قديما وحديثاً فنساء العظماء عادة لا يتزوجن بعدهن، ومن كانت عند عظيم من الناس ثم انفصلت عنه، لا تقرعينا، ولا تستريح بالا إذا تزوجت من هو أدنى منه، فإما ان تتزوج بمساوله، وإما ان تعيش بقية حياتها دون زواج تعففا عن زوجية تنزل بها عن مكانتها التي تبوأتها بزوجيتهاالأولى، ومن هو أعظم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ ومن تلك التي ترضى بأن تكون زوجة لغيره بعد أن كانت زوجة له؟ إن هذا لا يناسب كرامتها ولا كرامة زوجها،ولذلك يقول الله عزوجل: ' وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً، إن ذلكم كان عند الله عظيما '.

وقد اختار الله عزوجل في تحريم إيذاء رسولهالكريم وتحريم نكاح أزواجه من بعده هذا الأسلوب فقال: ' وما كان لكم ' والأصل في هذا التعبير أن يكون للممتنع عقلا مثل قوله تعالى: ' ما كان لكم أن تنبتوا شجرها (1) ' أوالممتنع تنزيها لله تعالى مثل قوله جل شأنه: ' وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً، أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء (2) ' أو تنزيها لرسلة مثل قولهتعالى: ' ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله (3) '، ' وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأميإلهين من دون الله؟ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق '.

ــــــــــ

(1) الاية 60 من سورة النمل.

(2) الاية 51 من سورة الشورى.

(3) الاية 79 منسورة آل عمران.

/ صفحه 441 /

والمراد أن هذا الأمر منفي نفيا أصليا غير قابل لأن يكون، وليس مما يباح أو يستباح كالممتنع الحصول.

موقف الرسول وزوجاته

بعد قصر التعدد على أربع:

في ضوء هذا برزت مشكلة أمام التشريع الذي تأذن الله أن يكون، وهو تشريع قصر التعدد على أربع الذي جاءت به سورة النساء فيما بعد:

تلكالمشكلة هي: إذا كان التشريع العام هو قصر التعدد على أربع، وكان الرسول سيأمر من عنده أكثر من أربع، ومن أسلم وعنده أكثر من أربع، أن يمسك أربعا ويفارق الباقيات.

فماذا يكون شأنه هو؟.

إنه قد تزوج عدداً من النساء فوق الأربع في ظل الإباحة الأصلية قبل التحريم.

وتزوج كل واحدة منهن لغرض معين، وغاية تبرر هذا الزواج.

أفيؤمر هو أيضاص بأن يقتصر على أربع يختارهن ويطلق الباقيات؟

وهل تؤمن مغبة ذلك على الإسلام والمسلمين، وعلى المصالح العليا التي ابتغاها حين تزوج كل واحدة مننسائه؟.

إذا كان غيلان وأمثاله ممن أسلموا وتحتهم أكثر من أربع قد أمروا بمفارقة ما زاد عن الأربع اللواتي يقع عليهن الاختيار؛ً فإن هذا لا يحدث في المجتمع مشكلة،فسيجد النساء المتروكات من يتزوجهن غير غيلان من أمثال غيلان، ولا مانع يمنعهن من ذلك، أما زوجات الرسول ـ على فرض أنه طلق بعضهن فماذا يفعلن؟ هل يمكن أن يتزوجن غيره، وهنقد صرن أمهات المؤمنين، وما كان للمؤمنين أن يؤذوا رسول الله ولا أن ينكحوا أزواجه من بعده أبداً.

إذن ماذا يكون مصيرهن؟

وماذا نتصور أن يكون عليه مصير زوجة كريمةهي في المجتمع أم مصون؛ وقد اتصلت حياتها حينا من الزمان بأقدس شخصية في هذا المجتمع؟

/ صفحه 442 /

أتظل بقية حياتها في هذا الوضع القاسي؟ وإذن فلا يمكن أن يكونالفراق ـ فراق ما زاد على الأربع ـ هو الحل الطبيعي العادل في حق الرسول وزوجاته، وإن كان هو الحل في حق غيلان وأمثال غيلان.

لكن إذا بقي للرسول نساؤه جميعاً فلم يجزله أن يفارق واحدة منهن، وأن يختار كما أبيح لغيره أن يختار؛ فإن هناك مشكلة أخرى ستبرز:

أليس من حق النساء أيضاً أن يخيرون فلعل فيهن من تراودها نفسها إلى حياة أخرىتختارها، وحينئذ تكون غير صالحة للبقاء في هذا الكنف النبوي، وغير صالحة لأن تستمر في هذا الشرف.

ثم الرسول نفسه: ماذا يكون شعوره حين يعلم أن هؤلاء النساء باقيات فيعصمته جميعاً دون أن يباح له فراق إحداهن.

هذه المعاني كلها جعلت التشريع يأتي بأحكام خاصة في شأن الرسول وزوجاته، وكلها تمهيد لما سيأتي من الحكم العام:

تخييرأزواج الرسول

بين إبقائهن وتطليقهن:

1ـ فأول ذلك ـ بحسب ترتيب السورة ـ:

' يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكنوأسرحكن سراحا جميلا، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيما '.

والمفسرون يروون سبب نزول هذه الاية، وأنها نزلت حين طلبأزواج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منه الزينة والنفقة، وألححن عليه في ذلك، وأن رسول الله اعتزلهن شهراً لهذا السبب، وأن أبابكر كان له موقف مع عائشة، وعمر كانله موقف مع حفصة: كل منهما يُعنف ابنته ويهم بتأديبها على سؤالها النفقة والزينة من رسول الله وهو لا يجدها.

/ صفحه 443 /

المفسرون يروون ذلك سبباً للنزول، وقديكون هذا هو السبب المباشر، أو الظرف الذي نزلت فيه هذه الاية المخيرة لنساء النبي، ولكن هذا لا يمنع من أن نفهم أن هذا التخيير كان لأمر آخر مع هذا، هو إتاحة الفرصة لمنلعلها تريدها بعد أن تبين أن حياة الرسول ليست هي الحياة اللينة الرغدة التي تلابسها زينة الحياة الدنيا، وأيا ما كان فقد نفذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا،وخير نساءه كما أمره الله فكلهن اخترنه، وقد بدا من أسلوب التخيير ما يشجع على هذا الاختيار فإنه عرض عليهن فيه: الحياة الدنيا وزينتها في جانب، ثم أيد الجانب الآخربتقرير أن الله ' أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً ' ولا شك أن هذا كله يوحى لهن بالخصلة التي ينبغي أن يخترنها، وهي التي تحقق كرامتهن وكرامة الرسول وكرامة المؤمنين في شأنأمهات المؤمنين، وفي الوقت نفسه روعي حق هؤلاء الزوجات، فأخذ رأيهن في أنفسهن حتى يستأنفن الحياة المقبلة على بصيرة من أمرهن.

* * *

تخيير الرسول في الإرجاءوالإيواء:

وبيان الحكمة في هذا التخيير:

2 ـ جاء بعد ذلك، وبعد بيان ما أحله الله تعالى لرسوله من الأزواج وأصناف النساء، قوله عزوجل: ' ترجى من تشاء منهن،وتؤوى اليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك '.

وهذه الاية تعطي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حقا مقابلا لم سيلزم به من الإبقاء على جميع الزوجات فيعصمته، ومن تحريم النساء بعد ذلك عليه.

جعل الله له أن يرجى من نسائه من يشاء أي يؤخرها ويعتزلها، وحسبها أنها بقيت فقي بيت النبوة زوجة للرسول محفوظة الكرامة، مصونة،وجعل له أن يؤوى إليه من نسائه من يشاء، وجعل له حق إعادة من يعتز لها حيناً ثم يشاء أن يؤويها.

وبذلك تحقق لأزواج الرسول بقاؤهن في عصمته مكرمات مصونات، وتحقق

/صفحه 444 /

للرسول حقه الطبيعي في أن يتخلى عمن شاء من نسائه بالإرجاء تخلياً لا يترتب عليه ضرر لها، ولا ضياع هيبة وكرامة، وأن يحتفظ بمن شاء منهن بالإيواء.

وبينتالاية الكريمة حكمة تشريع هذا الحكم، فقالت: ' ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن، والله يعلم ما في قلوبكم، وكان الله عليما حليما '.

ففهمنا منذلك أن حكمة التشريع هي أن هذا الحكم هو أقرب الأحكام إلى تحقيق الامور الآتية:

1 ـ قرار أعين أمهات المؤمنين.

2 ـ عدم حزنهن.

3 ـ رضاهن كلهن بما آتاهن الرسول.

4 ـ مراعاة شأن القلوب وميولها الطبيعية.

أما قرار أعينهن رضي الله عنهن، فبأنهن قد سكن إلى جناح الزوجية الأعظم، وأعطين ما به يكون القرار والطمأنينة، وأصل القرارفي اللغة السكون، ولما كانت العين تطمئن وتستقر إذا نظرت إلى ما يعجب وما يوافق؛ قيل للمرء حين ينال ما يطمئنه ويستقر عليه أمره ـ قرتْ عينُه، وهذا الامر يقر عينه ـ ': 'وقالت امراة فرعون قرة عين لي ولك (1) '. أي إليه نطمئن وبه تستقر نفوسنا وتسكن أعيننا من التطلع إلى الولد، ' ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين (2) '، ' كي تقر عينها ولاتحزن (3) '، فكلي واشربي وقري عيناً (4) '، كل ذلك بمعنى قرار الحال، واستشعار راحه النفس، وهدوء البال.

وأما عدم حزنهن ـ عليهن رضوان الله ـ فهو بالنسبة لمن يؤويها الرسولصلوات الله وسلامه عليه واضح، وبالنسبة لغيرها ممن ترجى وتؤخر أنها حين توازن بين

ــــــــــ

(1) الاية 9 من سورة القصص.

(2) الاية 74 من سورة الفرقان.

(3) الاية 40 من سورة طه.

(4) الاية 26 من سورة مريم.

/ صفحه 445 /

حالها لو بقيت في كنفه، وحالها لو فارقها، لا تحزن، أو تكون أقرب إلى ألا تحزن، وهذا مفهوممن قوله: ' ذلك أدنى ' يعين ليس هو بناف للحزن كله: وفي كل حال، بل هو أدنى الأحكام وأقربها إلى إبعاد الحزن، أو تقليله، وذلك قصد في التعبير.

وأما رضاهن كلهن بما آتاهنفإن كل واحدة حين تعلم أن ذلك من حق الرسول ينحسم الأمر بالنسبة لها، فالمرجاة لا تتطلع إلى غير الإرجاء، أو ذلك أقرب إلى ألا تتطلع، فإن المؤمن يرضى حكم الله ولا تنازعةنفسه إلى إنكاره والسخط عليه.

وأما أن هذا قد روعى فيه شأن القلوب وميولها الطبيعية، فو إشارة إلى أنه حكم قد تقرر بناء على ما يعلمه الله من قلوب عباده، وكما نقولنحن: إنه حكم مبنى على دراسة نفسية، وله هدف اجتماعي وليس سطيحا ولا تحكميا.

وقد روى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) آوى إليه من نسائه أربعا وأرجأ خمسا: فآوى عائشة،وحفصة، وأم سلمة، وزينب، وأرجى سودة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة (1).

3 ـ بعد هذا كله جاء قوله تعالى: ' لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولوأعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا '.

وبهذا مُنِع الرسول من أن يتزوج غير نسائه، ومن أن يتبدل بأيتهن زوجة أخرى، ولو أعجبه حسنها، إلا ما كان منالنساء عن ملك اليمين وبذلك وقف التعدد في شأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عند حد كسائر المؤمنين.

* * *

ــــــــــ

(1) ص 328 ج 4 تفسير أبي السعود المطبوع بدارالعصور بالقاهرة في سنة 1347 هـ (سنة 1928).

/ صفحه 446 /

النتائج العلمية لهذا البحث:

يتبين من هذا كله ما يأتي:

1 ـ أن مبدأ تعدد الزوجات مبدأ مسلم به فيالإسلام بنص القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وفعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وإجماع المسلمين.

2 ـ وأن مبدأ التقييد مسلم به إجماعاً أيضا، حيثاتفقت الامة على أنه يحرم على الرجل أن يعدد إلا إذا أمن الجور: ' فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم '.

3 ـ وأن الكلام في تفسير قوله تعالى: ' وإن خفتم ألاتقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء '، إنما هو آراء تحتمل الخلاف والنظر، وقد ذهبت إلى رأي رأيته بعد الدرس، وبينت وجهة نظري فيه.

4 ـ ولا حرج في أن تختلفالآراء في حدود أصل الإسلام، وقواعد العلم الصحيح.

5 ـ وأن عهد الرسالة وعهد الأصحاب كانا عهدي حروب وجهاد، فلم يكن بالمسلمين حاجة إلى أن ينظروا هل هم متقيدون بماقيدهم الله به أو ليسوا متقيدين في تعديدهم، وذلك لأن الأمر في هذا كان ظاهرة عامة، فالأمة كلها في حالة جهاد بتحقق معها شرط المبرر تحققا واضحا.

6 ـ وأن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) طبق على نفسه مبدأ المبرر المعترف بجنسه شرعا، فلم يعدد إلا في نطاق هذا المبدأ، وكان ذلك في ظل الإباحة الأصلية العامة الناس كلهم قبل نزولآية التحديد.

7 ـ وأن ما شرع من وجوب اقتصار من عنده أكثر من أربع على أربع وتسريح الباقيات، إنما يصلح ويطابق العدل والمصلحة في غير الرسول، أما الرسول فظروفة الخاصةوظروف زوجاته تحتم الإبقاء عليهن جميعا في عصمته، مع تشريع جزئيات خاصة علاجا لذلك، والهدف في ذلك هو المصلحة العامة، لا مصلحة الرسول خاصة.

/ صفحه 447 /

8 ـ وأنالرسول حُرِّم عليه أن يزيد على نسائه في المستقبل، فتساوى بذلك مع كل من استوفي الأربع من الأمة، بل ضيق عليه في أنه لا يستطيع أن يبدل إحدى زوجاته بغيرها مع أن ذلك مباحللمؤمنين، فلمن كان عنده أربع أن يطلقهن أو بعضهن ويبدل بهن أزواجا غيرهن.

9 ـ وأن ما قيل من أن ذلك خصوصية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مقبول، ولكن على أنهخصوصية لا يراد بها أن يتاح له من المتاع ما لا يتاح للمؤمنين، بل هي خصوصية أقرب إلى التضييق والتحجير منها إلى التوسعة والتيسير، وهذا شأن أغلب خصوصياته أقرب إلىالتضييق والتتحجير منها إلى التوسعة والتيسير، وهذا شأن أغلب خصوصياته (صلى الله عليه وآله وسلم)، كفرض قيام الليل في حقه، وجواز وصال يومين بالصيام دون إفطار فيهما،ووجوب صلا الضحى عليه. إلى غير ذلك. فهي خصوصية عليه، إن صح هذا التعبير، لا خصوصية له.

10 ـ وأخيراً: أن تشريع الإسلام في هذا الشأن هو التشريع العادل المحكم، وأن أمرالرسول فيه ليس خارجاً عن دائرة العدل والإحكام، ولا مراداً به منحه اختصاصات دون أمته فيها متاع لنفسه، ومجاراة لشهواته ـ حاش لله ـ.

* * *

والحمد لله الذي بنعمتهتتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

/ 1