رأي في تأويل فواتح السُّورَ
للأستاذ عبد الوهاب حموده إن في القرآن الكريم تسعاً وعشرين سورةمن مائة وأربع عشرة، افتتحت بحرف أو أكثر من الحروف الهجائية، وقد أسبغ عليها علم التفسير تأويلات مختلفة وبحثت فيها عقلية العصور المتأخرة، وتناولها أيضاً المستشرقونفيما تناولوه من ترجمة معاني القرآن الكريم. كل ذلك سنشرحه إن شاء الله ونبين وجه الصواب فيه، ثم نعقب على ذلك بالرأي الذي نميل إلى ترجيحه مع ذكر أدلة ذلك وبراهينه.
ولنبدأ بترجمة مقال نشر في مجلة ' اسلاميك ريفيو ' للعالم الكبير السيد محمد على الهندي، يرد فيه على ما ذهب إليه الأستاذ نصوح طاهر الفلسطيني في موضوع هذه الافتتاحات.
والسيد محمد علي الهندي معروف بنشاطه في خدمة الدين الإسلامي، فقد ألف كتاب ' الدين الإسلامي ' وترجم معاني القرآن الكريم إلى الانجليزية، وهي من أفضل الترجمات، صححفيها ما أخطأ فيه كثير من المترجمين الغربيين، ثم له كتاب في تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتاب آخر بعنوان ' فكر خوالد ' وكل هذه الكتب قد ترجمت إلى اللغة العربية،وله غير ذلك كثير من الرسائل والبحوث.
وكان رئيساً لمجلة ' ريفيو أوف ريلجن ' لتحمل تعاليم الإسلام إلى أوربا وأمريكا.
وقد نشأ السيد عاكفاً على الفضيلة، عابداً،مولعاً بالقرآن الكريم والتهجد به قبل أذان الفجر، واستمر على تهجده إلى آخر حياته.
ثم استقر في ' لاهور ' عام 1914، مبتعداً بنفسه عن الفتنة التي بدأت بسبب الخلافات فيالحركة الأحمدية، وأسس فيها الرابطة الأحمدية لإشاعة الإسلام،
/ صفحه 196/وانتخب لرياستها، وانقطعت صلته بالأحمدية في قاديان من ذلك التاريخ لما رآه من الشططوالانحراف والمغالاة من أتباع غلام أحمد القادياني مما ينكره الشرع الإسلامي.
ويكفي معرفة بفضل السيد محمد علي ما ذكره المستر ' ماردوك باكتال ' وهو من الانجليز الذينهداهم الله على الدين الإسلامي، ومن الذين تصدوا لترجمة معاني القرآن الكريم إلى الانجليزية. يقول (ماردوك) عن كتاب السيد محمد علي ' الدين الإسلامي ' أو ' دين الإسلام 'الذي ألفه في اللغة الانجليزية عام 1936 ما يأتي: ' لم يستطع إنسان من المعاصرين أن يخدم الإسلام بأوسع ما في الخدمة من معنى كما استطاع مولانا محمد علي '.
وقبل أن نبدأ فيترجمة المقال يستحسن أن نذكر جدولا إحصائياً للسور التي افتتحت بالحروف الهجائية:
الحروف أسماء السور التي افتتحت بها
الم البقرة ـ آل عمران ـ العنكبوت ـ الروم ـ لقمان ـ السجدة
المص الأعراف
الر يونس ـ هود ـ يوسف ـ إبراهيم ـالحجر
المر الرعد
كهيعص مريم
طه طه
طسم الشعراء ـ القصص طس النمل
يس يس
ص ص
حم غافر ـ فصلت ـ الزخرف ـالدخان ـ الجاثية ـ الأحقاف
حم عسق الشورى
/ صفحه 197/يقول السيد محمد علي الهندي:
يرى بعض المفسرين أن هذه الحروف تدل على صفات إلهية، وهذا هو الرأي السائد الغالب، وبعضهم يرى أنها تدل على قيمة عددية على أسلوب مايعرف بحساب الجمّل لحروف (أبجد).
وهذا التأويل الأخير ظاهر الخطأ، واضح النقص والبعد عن الصواب، فإن القيم العددية نفسها أمر مبهم لا يؤدي إلى كشف عن معنى.
ونحنإذا سلمنا بصحة هذا الرأي فرضاً، فتطبيقه لا يمكن إلا في سورة واحدة من التسع والعشرين، فمثلا يقول أصحاب هذا الرأي أن ' الم ' التي بدئت بها سورة ' آل عمران ' مجموع حروفهافي حساب الجمّل (71) وهي تشير بذلك إلى السنة التي يبلغ فيه الخليفة يزيد بن معاوية قوته التي فيها يتحول مجرى التاريخ، فإذا أردنا تطبيق هذا الرأي على بقية السور لا نجدهيستقيم معنا، ولا تسلم لنا النظرية، لهذا لا نستطيع أن نقول أن هذا تأويل وتفسير لهذه الافتتاحات.
أما الأستاذ نصوح طاهر الفلسطيني، فقد قام بمحاولة لحل هذهالمشكلة، ورأي أن القيم العددية لتلك الحروف إنما يقصد منها الدلالة على عدد آيات تلك السورة التي جاءت الحروف في أوائلها.
لو صح هذا الاتجاه، وصدق هذا التأويل، لكانبلا شك تفسيراً مقنعا لتبيان القيمة العددية لهذه الأحرف، غير أن نصوح طاهر كان مخطئا في هذا الرأي، فإن تطبيقه لا يصدق حتى في سورة واحدة من التسع والعشرين.
فإذا عدتهذه نظرية، فهي نظرية مجانبة للحقائق، فلا يوجد كاتب حصيف يسمح لنفسه أن يتقدم بمثل هذه النظرية، ويقف في وجه هذه الحقائق التي ذكرناها لأن هذه النظرية لا سند لها منالحق، بل هي مناقضة لكل صواب.
فبينما نجد سورة كسورة البقرة قيمة حروفها الافتتاحية (71) بحساب الجمّل إذا بمجموع آياتها (286) وسورة قيمة حروفها الافتتاحية (271) كسورةالرعد وهي لا تشتمل إلا على (43) آية، وهكذا فالباحث يعجب من جرأة هذا الكاتب كيف استطاع أن ينشر مثل هذا الرأي، ويعلن مثل هذا الكلام الفارغ.
/ صفحه 198/والذي يظهر لنا أنه كاتب لا يمل من إعلان الحقائق المشوهة، ونشر الآراء الممسوخة. فإذا كان القرآن الذي بين أيدينا يقوم شاهد صدق على بطلان هذه النظرية، فإن الكاتب لميتحرج من الإتيان بترتيب جديد الآيات القرآن، ويضع في كل سورة عدداً من الآيات يوافق قيمة حروفها بحسب الجمل لتصح نظريته، وبذلك امتدت يده بالخلط والتشويه والاضطرابلكتاب مقدس، لم يستطع ألد أعدائه، وأشد النقاد لنصه أن يدعوا أن فيه اضطراباً أو تشويهاً ومسخا، بل اعترف الجميع بأنه نص محفوظ ظل سالماً من التحريف اثني عشر أو ثلاثة عشرقرنا.
أما النصوح طاهر فيريدنا على أن نعتقد أن هذا القرآن الذي بيد المسلمين جميعهم لم يصل إليهم في صورته الحاضرة إلا بعد تنقيح عثمان بن عفان لنصه، وقد كان قبلعثمان يتطابق تمام المطابقة في عدد آياته مع مجموع حروف افتتاحه بحساب الجمل في التسع والعشرين سورة التي افتتحت بتلك الحروف.
فسورة ' البقرة ' مثلا كانت تشتمل على (71)آية بدلا من اشتمالها على (286) وسورة ' آل عمران ' كانت تشتمل أيضاً على (71) آية بدلا من (200) وسورة ' العنكبوت ' تشتمل على (71) آية بدلا من (69) كما هي عليه الآن، وهكذا.
وإذا لمتحظ الدنيا بنسخة من مثل هذا القرآن الذي ادعاه سيد نصوح طاهر، فإن الملوم في نظره على ذلك هو الزمان والظروف، لا نظرية نصوح طاهر الحديثة، إذ هو معصوم من الخطأ.
وإليكشهادة أشد خصوم الإسلام ونقاده، وهو السير ' وليم ميور ' حيث يعترف فيها بسلامة نص القرآن من التحريف، وحفظه من التغيير، حيث تحدث في كتابه ' حياة محمد ' عن سؤال أثيِرَ حولجمع عثمان للقرآن الكريم، فأجاب ' ميور ' بقوله:
' إنه مع تسليمنا بأننا نمتلك نسخة من القرآن الذي جمعه عثمان، والذي لم تمتد إليه يد التغيير، يبقى علينا أن نبحث عماإذا كان هذا النص هو عينه النص الذي كتبه زيد بن ثابت.
/ صفحه 199 /وبالرجوع إلى الروايات الصحيحة، والنقول الموثوق بها، نجدها تصلح أساساً قويالحملنا على الاعتقاد بصدق ذلك النص، ومطابقته للأصل الذي نقل عنه. فليس هناك حديث صحيح واحد يُلقي الشك على عمل عثمان أو يبعث الريبة في جمعه، إذ لم يرو لنا التاريخمعارضة ذات بال نادت باتهام عثمان، بارتكابه حدثا يعده المسلمون من أسوأ الأحداث، واقترافه لذنب هو من أعظم الذنوب، ثم أن الوقت الذي جمع فيه عثمان القرآن كان كثير منالصحابة يحفظونه عن ظهر قلب كما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
' هذا إلى أن شيعة عليّ الذين ظهروا في شكل مستقل، وشخصية متمايزة عند مقتل عثمان يدعون إلىخلافة علي، لم يكن من المعقول أنه حينما وصلت هذه الطائفة إلى قوتها أن تجيز قرآناً مشوهاً بيد عثمان فيه ما يبطل دعواهم، ويدحض حجتهم، بل نجدهم مع ذلك قد استمروا فيالاعتراف بهذا النص الذي كان لعثمان فضل جمعه، وتدارسوه كما كان يتدارسه خصومهم، ولم يرفعوا في وجهه أقل اعتراض أو معارضة '.
وهناك مسألة أخرى، وهي إذا فرضنا جدلا أن 'نصوح طاهر ' قد اكتشف العدد الحقيقي للآيات في السور التسع والعشرين، فما يكون الموقف إزاء آيات السور الباقية وهي (85) فهل يقلد المسلمون عثمان رضي الله عنه في جمعه، أويخترع لهم صاحب النظرية نظرية أخرى تحل هذه المشكلة ؟ وإذا كان الأمر كذلك فما علينا إلا أن ننتظر كشفاً أعظم من الكشف السابق فيه تمزق آيات الكتاب تمزيقا، ويقلب نظامهقلبا، بل ربما كان من أيسر الحلول على طريقته وأسلوب ابتكاره، القول بأن الحروف المقطعة التي كانت في افتتاحات (85) سورة باقية قد حذفت منها بيد عثمان، فإن من يستطيع أنيبدل من عدد الآيات في السور المختلفة، يسهل عليه بلا ريب أن يحذف افتتاحاتها بالأحرف المقطعة، وحاشا عثمان رضي الله عنه من ذلك.
ثم تنتقل المقالة إلى الحديث عن وروداستعمال الأحرف المقطعة في اللغة العربية مما سننقله في المقال الآتي إن شاء الله ـ تتمة للبحث.