رجال صدقوا
لحضرة صاحب السماحة العالم الجليل الأستاذ محمد تقى القمىالسكرتير العام جامعة التقريب تتميز حقبة منالزمن عن سواها بما يقع فيها من أحداث، و كلما ازدادت أهمية تلك الاحداث، ازداد الاهتمام بزمن وقوعها.
و يتميز رجال عن غيرهم بما يصدر عنهم من أفكار و أعمال، و كلماكانوا أبعد أثراً، كانوا أبقى ذكرا; حتى ليسجلهم التاريخ فى الخالدين.
و تتميز فكرة عما عداها بما يترتب عليها من آثار قد تصل بها إلى مرتبة المبادىء الضرورية التىتفرض وجودها و يكتب لها البقاء.
و قد أراد الله أن يكون ربع القرن الاخير من الزمان ظرفاً لحدث تاريخى فى الاسلام يميزه عن غيره من الاحقاب.
كما أراد سبحانه أنيجتمع فى هذه الحقبة القصيرة نفر من المصلحين، قلما يجتمع نصف عددهم فى قرن من الزمان، و أن يحملوا فكرة اصلاحية كانت أمل كثير من المصلحين منذ قرون، و أن يكونوا أقوياءلا يخافون فى الله لومة لائم.
و أراد الله لفكرة أصيلة مدروسة ممحصة أن تطلع على العالم الإسلامى فى صورة دعوة اصلاحية دينية تعالج أعظم داء ابتلى به المسلمون، و هوالتفرق المذهبى، و أن تصبح هذه الدعوة نقطة انطلاق و مبدأ تحول فكرى لعالمنا الإسلامى فى وقت يحتاج فيه إلى اجتماع كلمة أبنائه كى يتمكنوا من نشر رسالتهم على هذا العالمالمضطرب.
صحيح أن ربع القرن الذى انقضى من عمر دعوة التقريب - و فيه سنوات التمهيد - ليس شيئاً يذكر فى عمر الدعوات، فان خمسة و عشرين عاماً فى عمر الدعوات ليست الاكساعات أو أيام فى عمر الانسان، الا أن ما تم فيها من أعمال، و ما أنجز فيها من أمور خلدت هذه الحقبة من الزمن.
/ صفحه 188/
فما السر فى ذلك؟
السر هو ايمانالقائمين على هذه الدعوة و ملاء متها للفطرة السلمية. و الايمان يصنع ما يشبه المعجزات، انه يمنح صاحبه من القوة ما يتخطى به كل عبقة،و يتغلب به على كل صعوبة.
ففىهذه الحقبة من الزمن اجتمع نفر من المصلحين من مختلف المذاهب، و من شتى البلاد، و تفاهموا رغم اختلاف مذاهبهم و ديارهم، و لم يكن للتعصبات المذهبية عليهم تأثير، و لا كانفى أعمال تفكيرهم رواسب، و اتفقوا على العمل، و أفرغوا فيه جدهم، فأخذت الدعوة لون المدرسة الفكرية العلمية التى تقوم بذاتها و بدراساتها، و لا ترتبط بذوات الاشخاص أوبمراكزهم، و لا تتأثر ببقاء الاشخاص أو زوالهم، و بمعرفة الناس بهم أو جهلهم اياهم، حتى أن بعض من تفانى فى خدمة هذه الفكرة ثم اختاره الله إلى جواره، لم يعرف الناس إلىالان عنهم شيئاً.
لم يكن الحال يوم بدأت فكرة التقريب كما نحن عليه الان، كان سلطان التعصب قوياً يتحدى أن انسان يروج لمثل هذه الفكرة، و كان عامة الناس لايطيقون أنيسمعوا عن التقريب بين الشيعة و السنة، اذ الشيعة فى زعم بعض السنيين هم الغلاة و أصحاب مصحف خاص، و السنة فى زعم بعض الشيعة هم النواصب و المجسمة، و إذا كان الخاصة و همأئمة الفكر و الدين قد عرفوا الحقائق، فان أحداً منهم لم يقدم على عمل ايجابى، خوفاً من الشائعات التى كانت تلصق بكل فريق و تصدق عند الفريق الاخر، و خوفاً من أنصافالعلماء أو أشباه المثقفين الذين لايعرفون غير كتب مذهبهم، و لا يقرءون سواها، و لهم تأثيرهم المباشر فى عامة الناس.
فلم يكن بد اذن من تهيئة الجو قبل الاقدام على أىعمل ايجابى، و التمهيد للفكرة قبل الخروج بها على الناس، و هكذا مرت فكرة التقريب بمراحل ثلاث: مرحلة التمهيد، و مرحلة التكوين، و مرحلة التنفيذ.
و هناك رجال عشاوا فىالتقريب منذ المرحلة الاولى، و آخرون بدءوا مع المرحلة الثانية، و الاحياء من هؤلاء و أولئك لايزالون يجاهدون فى هذه الدعوة
/ صفحه 189/و أعمالهم تتحدث عنهم،أما الذين سبقونا إلى رحمة ربنا فان علينا نحوهم واجباً يقتضينا أن نشير إلى بعض ما قاموا به و نقدمه للتاريخ.
و ما دام فقيدنا الاخير، فقيد الاسلام شلتوت، بجانبعضويته الدائمة فى التقريب منذ سبعة عشر عاماً، قد تولى مشيخة الازهر فى السنوات الخمس الاخيرة، فاننا سنذكر فى هذه العجالة شيوخ الازهر الشريف الذين خدموا فكرةالتقريب، سواء من كان فى جماعتنا و تولى مشيخة الازهر، أو من لم يكن رسمياً من أعضاء الجماعة. ان الذين أسهموا من شيوخ الازهر بطريق مباشر أو غير مباشر فى دعوة التقريبأربعة، هم المغفور لهم: / محمد مصطفى المراغى، و / مصطفى عبدالرازق، و / عبدالمجيد سليم، و / محمود شلتوت، و الاولان لم يكونا رسمياً من أعضاء الجماعة، لكنهما كانا يؤمنانبالفكرة ايماناً عميقاً، و قد وقف أحدهما بجانبها و هى فى مرحلة التمهيد، و وقف الثانى بجانبها و هى فى مرحلة التكوين.
أما الشيخ المراغى فكان على رأس الازهر حين جئناإلى مصر أول مرة سنة 1938 داعين لفكرة التقريب، و كان رحمه الله شيخاً و قوراً، قوى الشخصية، متزن الفكر، و اسع الافق، لمست فيه أول مالقيته ايماناً بالفكرة، الا أنه كانبحكم مركزه لايستطيع أن يدعو إليها بنفسه، بل أنه و هو امام أهل السنة لم يكن يستطيع أن يظهر بمظهر المؤيد لفكرة كهذه أمام الجو الذى كان يسود الازهر، و بالتالى يسود هذاالبلد العزيز.
لكنه رحمه الله عرف كيف يخدم الفكرة، ففتح أمامنا المجال لالقاء محاضرات فى الازهر و خارجه، و سهل لنا الاتصالات الشخصية برجال الازهر للتفاهم، و كانيجمعنا بمن يعرف فيهم الميل إلى التقريب من العلماء الذين يعترف بعلمهم، و حسن استعدادهم لدراسة الفكرة، و كنا على اتفاق فى أن المسألة دقيقة، و أن أية فكرة لا يمهد لهايقضى عليها في مهد هاشم استقر الرأمي فيما بيننا على ان يقوم الأزهر بعمل شىء فى مناسبة عيده الالفى الذى أزمع عقده بعد ثلاث سنوات من ذلك الحين، الا أن اتساع الحربالعالمية الثانية حال دون عمل شىء، و ان لم يقض على ما وصلنا اليه من تفاهم.
/ صفحه 190/و انتقل الشيخ المراغى إلى رحمة ربه، بعد أن أسهم بصورة فعالة، فى ايجادالتعارف الشخصى، و الاتفاق على النقط الاساسية، و تهيئة الجو عند بعض القادة من علماء الدين، و فى مقدمتهم الشيخان: مصطفى عبدالرزاق، و عبدالمجيد سليم.
و إذا كانالحرب قد أطاحت بكثير من المثل، و هدمت بيوتاً و بلاداً و نفوساً و أرواحاً، الا أنها لم تعصف بما ثبته الله فى قلوب علماء مؤمنين من تفاهم و تعاطف فظلت عامرة بهذه المعانىإلى أن عدنا لمصر سنة 1946، و قد أكسبتنا مرحلة التمهيد تجارب خرجنا منها بأن الاتصالات الشخصية التمهيدية لابد أن تسبق كل دعوة، و أن أية فكرة يراد له االبقاء يجب أن تخرجمن النطاق الشخصى، و توضع على أكتاف جماعة من المؤمنين العاملين بحيث إذا غاب فرد حل مكانه سواه.
و فى تلك الفترة بدأت مرحلة التكوين و كان الشيخ مصطفى عبدالرازقشيخاً للازهر، و استقر الرأى على أن يكون هو بجانب الدعوة فى خارج الجماعة يساندها إذا توتر الجو، و أن يكون الشيخ عبدالمجيد سليم فى الجماعة، و كان يرى أن عبدالمجيد سليمهو شيخ العلماء و أفقههم بلا منازع.
و قد وقع ما كان يخشاه، فان المتعصبين ما ان سمعوا بتكوين الجماعة حتى هاجوا و ماجوا، و شوهوا الفكرة عند المسئولين، و أدخلوا فى روعالسلطات كثيراً من الظنون و الاوهام، و هنا يقف مصطفى عبدالرازق حين استفحل الأمر، يقف أمام المسئولين مدافعاً عن سلامة الفكرة و سلامة العاملين لها وقيمهم و شخصياتهم ومراكزهم فى مصر و فى البلاد الاخرى، و لو لا هذا الموقف الصريح من هذا الرجل المؤمن الصادق لقضى على الفكرة فى بدء مرحلة التكوين.
كذلك كان له رحمه الله فضل اختيار بعضالاعضاء من علماء الازهر، و ذكر بعض النقط فى القانون الاساسى للجماعة، و وقف معنا يومئذ داخل الجماعة شيخنا الامام عبدالمجيد سليم بجهده و جهاده و علمه و ايمانه.
وبعد مدة و جيزة ذهب الشيخ مصطفى عبدالرازق إلى ربه، و كأنما كان عليه رسالة أداها و مضى.
/ صفحه 191/و ظن بعض المتعصبين المتربصين أن وفاة الشيخ مصطفى عبدالرازقفرصة للهجوم، لكن أعضاء الجماعة، و فى مقدمتهم عبدالمجيد سليم، صمدوا للهجوم و صدوه، و من ذلك الحين لازم عبدالمجيد سليم التقريب وجعله همه و رسالته، فلما اختير بعدسنوات شيخاً للازهر، احتفظ بعضويته فى الجماعة، و كثيراً ما كان يوقع خطاباته بصفته ((شيخ الازهر و وكيل جماعة التقريب)) و فى عهذه فتحت صفحة جديدة فى علاقات السنة والشيعة، فهو الذى افتتح الكتابة إلى علماء الشيعة و تلقى ردودهم، و هو الذى بدأ تحويل الازهر إلى جامعة اسلامية عامة بدل كونها قاصرة على المذاهب الاربعة الخاصة ليحققالوارد فى القانون الاساسى لجماعة التقريب بالنسبة للجامعات الاسلامية، و هو الذى أدخل - لاول مرة - فى قانون الاحوال الشخصية المصرية بعض ما كان يرجح فى نظره من فقهالامامية، و هو الذى اقترح على دار التقريب طبع تفسير مجمع البيان.
ثم ترك رحمه الله مشيخة الازهر و لم يترك جماعة التقريب و لا دارها حتى فارق الحياة، فعم الحزن كل منعرف مكانة الرجل العلمية و الدينية، و بقى التقريب برجاله يشق طريق دعوته، متكلا على الله، و محتسباً عنده فقد هذا الامام الجليل.
و كان الأستاذ الاكبر محمود شلتوت،من أعضاء جماعة كبار العلماء، و أستاذاً بالجامعة الازهرية يوم الشترك فى تكوين هذه الجماعة، و ظل مع زملائه فى الفكرة يقوم بواجبه نحو التقريب، و هو الذى اقترح فى أحدجلساتنا أن يعتبر السنة و الشيعة المشتركون فى الجماعة مذاهب اسلامية لاطوائف أو فرقاً، ثم أسندت اليه وكالة الازهر فلم تشغله عن الاسهام فى التقريب، و هو الذى كتبالمقدمة العلمية المعروفة لتفسير مجمع البيان، كما كان يكتب تباعاً تفسيره فى ((رسالة الاسلام)) ثم أسندت إلى الفقيد مشيخة الازهر، و إذا كانت فتواه المشهورة بشأنالمذاهب، الاسلامية، و جواز اتباع مذهب الامامية قد صدرت حين توليه مشيخة الازهر، فان هذا كان مجرد ميقات زمنى لصدورها، على سنة التدرج فى التنفيذ لا فى الفكرة و المبدأ،ذلك بأن هذه الفتوى كانت منبثقة عن مبدأ علمى ثابت مدروس من أول الأمر
/ صفحه 192/هو أساس من أسس التقريب، فهى فى المعنى ليست فتوى رجل واحد، و انما هى فتوى كلأولئك الرجال الذين حملوا أمانة التقريب، و فى مقدمتهم الأستاذ الاكبر الشيخ عبدالمجيد سليم.
و ذهب شلتوت إلى ربه، و اهتز العالم الإسلامى لوفاته، و لاول مرة فىالتاريخ الإسلامى يظهر جلياً اشتراك السنة و الشيعة فى الاسى على شيخ للازهر، ذلك لانه كان يعمل لفكرة التقريب، و توحيد كلمة المسلمين، و نحن نؤمن ببقاء الله و حتميةالموت، الا أن هذا لا يعفينا من الحزن الشديد لفقد زميل عزيز، و عالم جليل، و مجاهد من الطراز الاول.
و لقد لفت نظرنا معنى تردد فى كثير من البرقيات و الرسائل والمقالات التى كتبت حول فقيدنا شلتوت، فان كثيرين ظنوا أن التقريب مؤسسة أزهرية، و أن من يتولى أمر الازهر يتصدر التقريب، و كثرت أسئله المنزعجين: ما ذا بعد وفاة الشيخ، وماذا يكون الأمر إذا لم يكن الخلف على سيرة السلف، و نحن مع شكرنا لهؤلاء المهتمين نريد أن نقول: ان التقريب فكرة اصلاحية اسلامية مستقلة قائمة على البحث الصحيح و العلم، وان الازهر جامعة اسلامية رسمية لها رسالتها العلمية، و يعتبر مناراً للدين، و هذه الجامعة العتيقة خدمت الاسلام كثيراً، و تخرج فيها كثير من العلماء و دعاة الاسلام،فمنالطبيعى أن تلتقى أفكار التقريب و الازهر، مثل ذلك كمثل الافكار الحسابية تصل دائماً إلى نتيجة واحدة، و كمثل الخطوط المستقيمة إذا وضعتها فوق بعض انطبقت تماماً، و هذاهو شأن الافكار السليمة المنبثقة من مبادىء دينية، لا سيما إذا كان الدين دين توحيد، و الدليل على ذلك أن دار التقريب أنشئت فى القاهرة بلد الازهر الشريف، و من أول من لبىهذه الدعوة عدد من أئمة العلم و الدين من علماء الازهر، فموقف الازهر الرسمى لايؤثر فى التقريب، بل ان بعض الرسميين لم يحسنوا ادراك رسالة التقريب فى كثير من الاحيان، ولم يؤثر هذا فى سير التقريب، و لم يمنعنا من احترام الازهر و رجاله، فان موقف الازهر الرسمى شىء، و موقف علمائه شىء آخر.
/ صفحه 193/ان التقريب يسير اليوم فىطريقه و بين جماعته رجال مؤمنون سيقدمون باذن الله لامتهم مثل ما قدم اسلافهم الصالحون.
و ان جهاد ربع قرن قد بدل الحال غير الحال، و لعل المتصلين بالتقريب لايحسونبمدى التحول الا إذا نظرنا إلى الايام الاولى و نظرنا إلى ما نحن عليه الان، و سنجد أن بعض من كانوا فى مقدمة المهاجمين لفكرة التقريب يسرهم اليوم أن يسلكوا فى أصحاب هذهالفكرة، و نرى أن ما كان يعتبر من قبل وسيلة للهجوم، يعتبر اليوم دليل تقدمية و اصلاح، و إذا كانت دعوة التقريب قد نجحت، فليس معنى هذا أن أصحابها و المشتغلين بها قداستراحوا و زالت من طريقهم العصبيات، كلا، فما زالت النفوس المريضة، و الكتب المشحونة بالدس و القطيعة كثيرة قوية التأثير، و أرباب التبشير و المتأثرون بهم لايزالونيكتبون، و تجار المذهبية لايزالون منبثين، و السياسات المفرقة لنا بالمرصاد.
هذه هى بعض مشالكنا رغم المغالاة فى التفاؤل عند بعض المتفائلين، و مع ذلك نحن نرحببالمعارضة، فان الدعوة لم تخسر منها شيئاً بل كسبت من ورائها الكثير، و فى نفس الوقت نقول لمن تخالجهم بعض الشكوك: ان الخطوات التى تمت لارجوع فيها، و نحن إلى الامام انشاءالله سائرون، و أن الذين تحرروا من سجن الضيق الفكرى، لن يعودوا إلى سجنهم أبداً بعد أن أصبحوا قادة التحرر الفكرى فى محيط المسلمين.