الشيخصية المحمدية
لصاحب العزة الاستاذ محمد فريد وجدي بكيصِم الملحدون الأديان بأنها تصرف الناس عن الاهتمامبأمور دنياهم، فيكثر فيهم الزهاد المتقللون، و العباد المتقشفون، ادعاءً منهم بأن الغنى ينافى التقوي، و يجافى المسكنة التى يجب أن تكون شعار المؤمنين! و هذا لو صدق علىأديان محرفة أو طوائف متطرفة، فليس من الاسلام فى شيء، فلقد شهد التاريخ جملة و تفصيلا بأن الاسلام ما حل بأمة فى عهد نهضته الأولى إلا زاد ثروتها، و عمر بلادها، و أحيامواتها، فكان أهله حيث حلوا حلت العدالة فى الأحكام، و المساواة فى الحقوق، و نشط الناس لطلب بركات الأرض، باستثمار سهولها، و استخراج المعادن من حزونها، حتى عمرغامرها، و أخصب مجدبها، و ازدهر عمرانها، و تلألأت مدنيتها، و ارتقت معارفها و صناعاتها؛ و لست بمطلق القول جُزافا فى هذا الموطن، فهو من الحقائق التاريخية التى لا يمارىفيها إلا جاهل أو مكابر، و هل بعد أن يشهد بذلك مؤلفو الفرنجة مكان للشك و الارتياب؟ قال العلامة «دريبر» المدرس بجامعة «هارفارد» بأمريكا فى كتاب: «المنازعة» بين العلم والدين»: «إن الشتغال المسلمين بالعلم يتصل بأول عهدهم باحتلال الاسكندرية سنة 638 ميلادية، أى بعد موت
/ صفحه 263/محمد بست سنين، و لم يمض عليهم بعدذلك قرنان حتى استأنسوا بجميع الكتب العلمية اليونانية و قدروها قدرها الصحيح».
إلى أن قال:
«ولو أردنا أن نستقصى كل نتائج هذه الحركة العلمية العظمي، لخرجنا عنحدود هذا الكتاب، فإنهم قد رقوا العلوم القديمة ترقية كبيرة جداً (تأمل)، و أوجدوا علوماً جديدة لم تكن معروفة قبلهم».
إلى أن قال:
«إن نتائج هذه الحركة العلميةتظهر جلياً بالتقديم الباهر الذى نالته الصناعات فى عصرهم، فقد استفادت منها فنون الزراعة فى أساليب الرى و التسميد، و تربية الحيوانات، و سنن النظلم الزراعيه الحكمية،و ادخال زراعة الأرز و قصب السكر والبن. و قد انتشرت معاملهم و مصنوعاتهم لكل نوع من أنواع المنسوجات كالصوف و الحرير و القطن، و كانوا يذيبون المعادن و يجرون فى علمها علىما حسنوه و هذبوه من سبكها و صنعها. و إننا لندهش حين نرى فى مؤلفاتهم من الأراء العلمية ما كنا نظنه من نتائج العلم فى هذا العصر. الخ الخ»
وقال العلامة (جيبون) المؤرخالانجليزى المشهور عند ذكره للرعاية و الحماية التى بذلها المسلمون للعلوم:
«كان من أثر تنشيط الأمراء المسلمين للعلم أن انتشر الذوق العلمى فى المسافة الشاسعة التىبين سمرقند و بخارى إلى فاس و قرطبة. و يروى عن وزير لأحد السلاطين أنه تبرع بمائتى ألف دينار لتأسيس جامعة علمية فى بغداد، و وقف عليها خسة عشر ألف دينار سنوياً، و كان عددطلبتها ستة آلاف لا فرق فيهم بين غنى و فقير، الخ الخ».
و قال العلامة (سِدِيُّو) أحد وزراء فرنسا فى كتاب (تاريخ العرب):
«كان المسلمون فى القرون الوسطى متفردين فىالعلم و الفلسفة و الفنون الجميلة، و قد
/ صفحه 264/نشروها أينما حلت أقدامهم، و تسربت عنهم إلى أوروبا، فكانوا هم سببا لنهضتها و ارتفائها.
«و لميكتف المسلمون بأن يكونوا معلمين للأوروبيين، و ملقنين لهم النهوض و المدنية، و لكنهم أسسوا فى بلادهم جامعات، و اقاموا مراصد، باعتبار أنها كانت تحت سلطانهم، فبقيتلأهلها بعد جلائهم، و أثمرت ثمراتها اليانعة لهم».
و قال العلامة (دريبر) السابق ذكره:
«أول مدرسة انشئت للطب فى أوروبا هى المدرسة التى أسسها العرب فى (بالرم) منإيطاليا؛ و أول مرصد أقيم فيها هو ما أقامه المسلمون فى أشبيلية بأسبانيا، ولو أردنا أن نستقصى كل نتائج هذه الحركة العظمى لخرجنا عن حدود هذا الكتاب، فإنهم قد رقواالعلوم اقديمة ترقية كبيرة جداً، و أوجدوا علوماً أخرى لم تكن موجودة من قبلهم»
إننا نستأنس بهذه الذقوال عن علماء الفرنجة المعاصرين لندل قراءنا على أن الإسلام قدأحدث انتقالا عالمياً من ناحيتى العلم و المدنية لم تكن لتحلم به الإنسانية فى عهد من عهودها السابقة؛ فهو ليس بدين خنوع و استكانة، و لكنه دين ترق عقلى و مدنى لا يقف عندحد، و هذا كله يرجع إلى الروح العولية المحمدية التى فقهت مرامى الوحى الإلهي، فأدركت كيف يمكن أن يجمع المسلمون بين العقائد الصحيحة و السيرة القويمة المؤديتين إلىأرقى مراتب الحياتين الروحية و المادية، و بين الخلط و الخبط فى المدركات الدينية، حتى تسقط بأهلها إلى حضيض المهانة، فتكون سبباً إما فى هلاكهم أدبياً و اجتماعياً، وإما فى خروجهم على الأديان باعتبار أنها تودى بذويها إلى حياة الصغار والذل، و تقذف بهم إلى هوة الانحلال و التلاشي.
احتاط النبى
(صلى الله عليه و سلم)لوقاية أمتهمن التأدى إلى هذه النهاية فأيقظ فيهم روح العمل لطلب الدنيا إلى جانب نشاطهم لا قامة الدين عملا بقول الله تعالي: «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة و لا تنس نصيبك منالدنيا، و أحسن كما أحسن الله اليك، و لا تبغ الفاسد فى الأرض،
/ صفحه 265/إن الله لا يحب المفسدين، فلمتأهل فى أحاديثه الكريمة يدرك لأول وهلة» ممايراه فيها من المبالغة فى التحضيض على العمل الدنيوي، أنه يرمى إلى غاية سامية كل السمو، و هو أن يحمى المسلمين من الضعف المادى الذى يصيب الغالين فى الدين، فيكون ذلكسبباً لتدهور الأمة، و صدَّا لها عن بلوغ الغايات القصية من الوسائل المادية الضرورية لمتابعة ترقيها إلى امثل العليا للحياتين معا.
لقد انتقل المسلمون طفرة، بفضلحكمه القرآن الكريم، و سمو قيادة محمد
(صلى الله عليه و سلم)للنفوس، من جاهلية جهلاء، إلى إيمان راسخ رسوخ الأطواد، و حب للتعبد و نيل الدرجات الروحية، فاقوا فيماالذين توارثوا الدين و الكتب السماوية أجيلا كثيرة، حتى آثروا أن يشاركوا النبى فى تهجده بالليل، و منهم من حرموا على أنفسهم الطيبات، و من شرعوا يصومون الدهر، فكان(صلى الله عليه و سلم)يعدِّل من غلوائهم فى ضروب العبادات، و يلطف من تشددهم فيها، لما كان يخشاه من أن إيثارهم للعبادة إلى هذا القدر، يحد من نشاطهم للقيام بالأعباءالمادية، و المهام العلمية و الصناعية، التى لا محيص عنها لأمة اختيرت لأن تبلغ أرقى ما يمكن الوصول اليه من الناحيتين الدينية و الدنيوية، فلذلك أكثر من حضهم على طلبالدنيا، و اعتبر مثوبة العمل لها مساوية لمثوبة العمل للآخرة. و بدأ وبدأ فوضع أصلا لهذه الوجهة فقال (ص) اليس خيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه، و لكن خيركم منأخذ من هذه و هذه»، و هى كلمة لم تؤثر عن أى مصلح دين فى الأرض، لأنه أدرك بسموتعقله، و علو تفكيره، أن الإنسان فى هذا العالم المادى لا يستطيع أن يبلغ درجة الكمال الروحى والعقلى إلا إذا أمن غوائل الحاجة، و هى لا تؤمن إلا بالعمل الجثماني، و أنه كلما ازداد أمنا من هذه الناحية ازداد نشاطه الروحي، و ارداكه العقلي؛ فأشاد لهم بثواب العملللدنيا، إشادته بثواب العمل للآخرة، دفعاً لهم إلى طلب مقوّمات الحياه الاجتماعية، و من يتأمل فى أحاديثه المروية عنه فى هذا الباب، يجد ما يدهش له، و يتضح له بُعد مدىادراكه لعوامل الارتقاء فى الشعوب، و سمو فهمه لمقومات العمران، و لعلاقة هذا العمران ببقاء الدين الذى يدعو اليه، و بمناعة
/ صفحه 266/المجتمع الذىيعيش فى ظلاله. العمران، و لعلاقة هذا العمران ببقاء الدين الذى يدعو اليه، و بمناعة المجتمع الذى يعيش فى ظلاله.
بحسب الداعى إلى دين أن يحل طلب أهله لما يقّومجماعتهم من تكاليف الحياة، ولكن محمداً
(صلى الله عليه و سلم)لم يكتف بذلك، بل جعل لطلب هذه المقوّمات ثواباً يساوى ثواب المجاهدين فى سبيل الله. فأول مافعله فى هذاالموضوع أنه جعل طلب الحلال فريضة يأثم تاركها و يحاسب عليها فقال: «طلب الحلال فريضة على كل مسلم». ثم شرعى يدعو إليه بعبارات مؤثرة تشعر بجلالة خطره، فقال: من سعى علىعياله من حله فهو كالمجاهد فى سبيل الله، و من طلب الدنيا حلالا فى عفاف كان فى درجة الشهداء»؛ وزاد فى الدعوة اليه حتى فضله على نوافل العبادات فقلا: «العبادة عشرة أجزاءتسعة منها فى طلب الحلال». بل قال: «من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهمُّ فى طلب المعيشة».
و رفع من قدر أما كن المبادلات، و محال المبايعات فقال: « الأسواق موائد اللهتعالي، فمن أتاها أصاب منها» فأى ورع يمنع من غشيان الأسواق بعد هذا؟
و قال مشيدا بالكد فى طلب العيش: «من أمسى و انيا من طلب الحلال بات مغفورا له، و أصبح والله عنهراض» و من ذا الذى لا يحب أن يصبح على هذه الحال؟
يرى القاريء مما سردناه عليه من هذه الأحاديث سمو إدراك محمد
(صلى الله عليه و سلم)لمقوّمات الحياة الإنسانية، وشمول نظره لعوامل ارتقاء الجماعات البشرية، و إيصالهم إلى المثل العليا من الكمالات المادية و المعنوية، و قد فهم المسلمون الأولون مراميه البعيدة
(صلى الله عليه وسلم)فجدوا للحصول على الحسنيين معا، فبلغوا من التدين إلى ما لا يروى عن سوهم من الاخلاص و الوراع، و من المدنية المادية إلى مالم تدانهم فيه أعرق الأمم فى الحضارة،حتى شهد متمدنو هذا العصر من الغربيين أن المدنية المادية التى و صلوا إليها لا تقل عن المدينة العصرية رونقا و لألاء، فقال الأستاذ (دريبر) فى مؤلفه (المنازعة بين العلموالدين):
«لم تكن أوروبا العصرية بأعلى ذوقا، ولا أرق مدنية، ولا ألطلف رونقا
/ صفحه 267/من عواصم الأندلس على عهد العرب، فقد كانت شوارعهم مضاءةبالأنوار، و مبلطلة أجمل تبليط، و البيوت مفروشة بالبسط، و كانت تدفأ شتاءً بالمواقد، و تهوّى صيفا بالنسمات المعطرة بوساطة إمرار الهواء تحت الأرض من خلال أوعية مملوءةزهرا، و كانت لهم حمامات و مكتبات، و محال للغذاء و ينابيع مياه عذبة. الخ الخ».
قال المؤلف نفسه مقارنا مدائن الأوربين بمدائن المسلمين: «فى هذا العهد كانت البيوت فىباريز ولو ندرة تبنى من الخشب و الطين المعجون بالقش و القصب، و لم يكن لها نوافذ ولا أرضيات خشبية، أما الأبسطة فكانت مجهولة لديهم، و كان يقوم مقامها القش ينشرونه علىالأرض نشرا، إلى أن قال:
«و كان الناس لا يعرفون معنى النظافة فيلقون أحثاء الحيوانات و أقذار المطابخ أمام بيوتهم أكواما تناصاعد منها روائح قاتلة . الخ الخ».
هذاغيض من فيض، ولولا كراهة الاطالة لأمعنا فثى الكتابة، فمعذرة؟
علويّات
سئل الإمام على كرم الله و جهه فى فداء أسرى المسلمين من أيدى المشركين، فقال: فادُوا منهممن كانت جراحاته بين يديه دون من كانت من ورائه فإنه فارّ. واوصى رجل إلى آخر أن يتصدق عنه من هذه الألف دينار بما أحب، فتصدق بعشرها، و أمسك الباقي، فحاصموه إلى علىرضى الله عنه، و قالوا: تأخذ النصف و تعطينا النصف، فقال: أنصفوك! قال: إنه قال لي: أخرج منها ما أحببت، قال: فأخرج عن الرجل تسعمائة و الباقى لك! قال: و كيف ذاك؟ قال: لأنالرجل أمرك أن تخرج ما أحببت، و قد أحببت التسعمائة فأخرجْها!