الغزالي
في فلسفة الاخلاقية والصّوفية
لحضرة الكاتب الفاضل الدكتور محمد البهيأستاذ الفلسفة في كلية اللغةالعربية (ب) ما السبيل إلى بلوغ الفضيلة؟
أما السبيل إلى تحصيل الفضيلة وبلوغها في سلوك الإنسان كما يراه العزالي. فهو رياضة النفس مع العبادة. فليستالعبادة وحدها بكافية، بل لابد معها من الرياضة النفسية حتى يكون أداء العبادة مع رغبة ومحبة، لا مع استثقال وكراهية. وليست الرياضة أيضاً وحدها بكافية، بل لا بد معها منالعبادة، لأن مقصود العبادة التأثير على القلب، وبدون العبادة لا تؤثر الرياضة، وإن كانت تيسر عي الإنسان اتيان العمل. فالرياضة والمجاهدة مع العبادة معاً ينشأ عنهمارقة القلب وصفاؤه مع يسر ورغبة في إتيان العمل الفاضل، يقول في ذلك: ((والرياضة حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب، فمن أراد مثلا أن يحصل لنفسه خلق الجود،فطريقه أن يتكلف تعاطى فعل الجواد وهو بذل المال. فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليه تكلفاً مجاهداً مجاهداً نفسه فيه، حتى يسير ذلك طبعاً له، ويتيسر عليه فيصير به جوادا..ولن ترسخ الأخلاق الدينية ما لم تتعود النفوس جميع العادات الحسنة، وما لم تترك جميع الأفعال السيئة، وما لم يواظب عليها مواظبة من يشتاق إلى الأفعال الجميلة، وينعم بهاويكره الأفعال القبيحة، ويتألم لها كما قال صلى الله عليه وسلم: ((وجُعلت قرة عيني في الصلاة)). ومهما كانت العبادات وترك المحظورات مع كراهة واستثقال فهو النقصان.. وإنمامقصود العبادة تأثيرها في القلب، وإنما يتأكد تأثيرها بكثرة المواظبة عي العبادات)). فهنا في السبيل والطريق الذي رآه الغزالي موصلا لتحصيل الفضيلة أمسك بطرف منالدين وطرف آخر من العقل. ربط العبادات في صورتها الاسلامية بمنهج تكوين العادة في الانسان، وهو ما سماه الرياضة النفسية والمجاهدة الروحية.وأولى مراحل تكوين العادة فيمنهج تكوينها إدراك العقل لما يطلب أن يكون عادة للإنسان، وحمل النفس بالإرادة على الإتيان به، ثم بعد تكراره يصبح عادة ويستغني عندئذ عن الادراك والإرادة. فهو قد ربطهنا بين الدين والعقل، كما أوضح أن كلا منهما يتوقف عليه الطريق السليم لتحصيل الفضيلة.
نعم هو وإن ربط بي الدين والعقل في ذلك، وجمع بين العبادة والمجاهدة، إلا أنهأسهب كثيراً في آثار المجاهدة، وفيما تستطيع أن تأتي به من تكوين العادات المطلوبة، والاقلاع عن العادات الأخرى غير المرغوب فيها. ولعله كان يعرف أن قبول العبادة أيسرلدي النفوس من محاولة الرياضة والمجاهدة، بحكم أن العبادة دين وقد استقر أمره في النفوس باعتبار أنه عقيدة. أما الرياضة فلأنها متكلفة أول الأمر قد يحجم عنها الناس لسببولغير سبب. ولذلك نراه في غير موضع يبسط أولا إمكان الرياضة. وثانياً: النتائج الحتمية التي تأتي بها، فمثلا يقول: ((واعلم أن بعض من غلبت عليه البطالة استثقل المجاهدةوالرياضة، والاشتغال بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق، فلم تسمح نفسه بأن يكون ذلك لقصوره ونقصه وخبث دخيلته، فزعم أن الأخلا قلا يتصور تغييرها، فإن الطباع لا تتغير. واستدلفيه بأمرين، أحدهما: أن الخلقُ هو صورة الباطن، كما أن الخَلق صورة الظاهر. فالخلقة الظاهرة لا يدر الإنسان على تغييرها، فالقصير لا يقدر أن يجعل نفسه طويلا، ولا الطويليقدر أن يجعل نفسه قصيراً، ولا القبيح يقدر على تحسين صورته. فكذلك القبح الباطني يجري هذا المجرى. والثاني: أنهم قالوا حسن الخلق يقمع الشهوة والغضب. وقد جربنا ذلك بطولالمجاهدة، وعرفنا أن ذلك من مقتضى المزاج والطبع، فإنه قط ال ينقطع عن الآدمي. فاشتعاله به تضييع وقت بغير فائدة. فإن المطلوب هو قطع التفات القلب إلى الحظوظ العاجلة،وذلك محال وجوده. فنقول: ((لو كانت الاخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((حسنوا أخلاقكم)). وكيف ينكر هذا فيحق الآدمي، وتغيير خلق الهمية ممكن! إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الانس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد،وكل ذلك تغيير للأخلاق...)).
وإلى هنا عالج الفضيلة في معناها ووسيلة تحصيلها على أساس من الدين والعقل، لم يفرط في واحد منهما، وكذلك لو انتقلنا به إلى الغاية من العملالخلقي وهو العمل الذي يوصف بأنه فضيلة، والذي يتوصل إليه بالمجاهدة والرياضة النفسية، والعبادة في صورتها الاسلامية ـ لو انتقلنا إلى تحديد الغزالي لهذه الغايةلوجدناه قد استعان في ذلك بالشرع والعقل أيضاً دون أن يهمل واحداً منهما.
(جـ) غاية العمل الخلقي:
يقول في كتابه الإحياء: ((وغاية هذه الأخلاق أن ينقطع عن النفس حبالدنيا، ويرسخ فيها حب الله، فلا يكون شيء أحب إليه من لقاء الله عز وجل، فلا يستعمل جميع ماله إلا على الوجه اليد يوصله إليه. وغضبه وشهوته من المسخرات له، فلا يستعملهماإلا على الوجه الذي يوصله إلى الله تعالى، وذلك بأن يكون موزونا بميزان الشرع والعقل، ثم يكونه بعد ذلك فرحا به، مستلذاً له..)). فالمتعة النفسية والتلذذ الروحي حلقةأخيرة في غاية العمل الخلقي عند الغزالي. وقبل هذه الحلقة حلقة مباشرة، هي أن يغلب على النفس حب الله دون حب الدنيا، وألا يكون شيء أحب اليها من لقاء الله. أو أن أحداهمامقدمة والأخرى نتيجة لها. وغاية العمل الخلقي إذن عنده مجموعهما، وهو المتعة النفسية بلقاء الله. وهو إذن في غائيته من أصحاب السعادة النفسية. وأمارة تحقق هذه السعادةعنده أن يكون موزونا بميزان الشرع والعقل. وهو لهذا في المصدر الذي يصدر عنه يدعو إلى الاستقلال وعدم الاستقلال، هو ديني وعقلي.
ويشرح الغزالي امكان تحقق هذه الغايةبأسلوبه المقنع الذي اعتاده وهو أسلوب التشبيه والتنظير، فيقول: ((وإذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى القبائح، فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه والتزمتالمواظبة عليه، بل ميله النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع، يضاهي الميل إلى اكل الطين. فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة. فأما ميله إلى الحكمة وحب اللهومعرفته وعبادته، فهو كالميل إلى الطعام والشراب، فإنه مقتضى طبع القلبب. فإنه أمر رباني، وميله إلى مقتضيات الشهوة غريب من ذاته، وعارض على طبعه. وإنما غذاء القلبالحكمة والمعرفة، وحب الله عز وجل..)).
إلى هنا وقفنا على الغزالي الفيلسوف في أخلاقه في صورة إجمالية. وحددنا مذهبه بأنه يسعى إلى وضع سعادة الإنسان النفسية كمغايةللعمل الخلقي، وأنه يعتمد على مصدرين متقابلين فيما رأى هنا، وهناك في تحديد الفضيلة، والوسيلة إلى تحصيلها. لم يتخل عن ضروب العبادة في الإسلام، كما لم يغمط شأن الفكرالأفلاطوني والأرسطي في دعائم المذهب الخلقي عنده: وهو قائم الآن على الفضيلة والوسيلة ـ والغاية.
4 ـ الغزالي كمتصوف في أخلاقه:
لم يفترق الغزالي المتصوف فيأخلاقه عن الغزالي الفيلسوف الاخلاق في اعتبار الدين كمصدر لآرائه الأخلاقية هنا عند ما مال إلى التصوف وجنح عن الفكر الفلسفي. بقى اعتبار الدين عنده كما هو، والذي تغيرفي الاعتبار والنظر هو العقل. هجره هنا، واستعاض عنه بالإلهام الصوفي. ولعل منهجه في البحث الأخلاقي كله سار على منهج الفلاسفة الإسلاميين قبله كالفارابي وابن سينا. وهوالابتداء بالمنطق والاعتماد عليه عند الدخول في البحث، حتى إذا قارب هذا البحث الانتهاء، أغفل المنطق والعقل وحل محله ذلك الالهام أساس التصوف ودعامته. هنا فيالجانب الصوفي في أخلاق الغزالي يكاد يقصر بحثه على الالهام ونتائجه ومقدماته. ومعنى ذلك أنه يجانب الدين يضع الالهام؛ أما الحديث عن الفضيلة وحدودها، وغاية العملالخلقي، فإن تغرض له تعرض بالبسط لا بالتغيير والمخالفة عن ذي قبل.
(ا) اهتم بالإلهام فقال: ((اعلم أن من انكشف له شيء ولو الشيء لليسير بطريق الالهام والوقوع في القلبمن حيث لا يدري، فقد صار عارفا بصحة الطريق. ومن يدرك ذلك من نفسه قط فينبغي أن يؤمن به، فإن درجة المعرفة به عزيزة جداً، ويشهد لذلك شواهد الشرع والتجارب والحكايات. أماالشواهد فقوله تعالى: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)) فكل حكمة تظهر من القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلم، فهو بطريق الشكف والالهام. وقال صلى الله عليه وسلم((من علم بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، ووفقه فيما يعمل)) حتى يستوجب الجنة، ومن لم يعلم لما يعلم تاه فيما بعلم، ولم يوفق فيما يعمل، حتى يستوجب النار)) وقال تعالى: ((ومنيتق الله يجعل له مخرجاً)) ـ من الاشكالات والشبه ـ ((ويرزقه من حيث لا يحتسب)) ـ يعلمه علماء من غير تعلم، ويفطنه من غير تجربة)). وروي الحسن عن رسول الله صلى الله وسلم أنهقال: ((العلم علمان، فعلم باطن في القلب، فذلك هو العلم النافع(( وسئل بعض العلماء عن العلم الباطن ما هو؟ فقال: هو سر من أسرار الله تعالى، يقذفه الله تعالى في قلوب أحباثه،لم يطلع عليه ملكا ولا بشرا)).
(ب) وبعد أن حدد الإلهام على هذا النحو أنه علم بدون تعلم يقع في القلب من حيث لا يدري صاحبه، وأنه لذلك مغاير للعلم المكتسب، وهو الذييحصله الإنسان عن طريق عقله وحواسه ـ بعد ذلك دلل على وقوعه، وعلي أنه حقيقة لا تنكر، وأن الوحي الذي هو الشرع مؤيد له وشاهد عليه على نحو ما فسر بعض آيات القرآن الكريموحديث الرسول عليه الصلاة والسلا.
ثم أوضح أن السبيل إليه هو رياضة النفس ومجاهدتها وورعها وتقواها، ((والسبيل إلى العلم اللدني)) ((وعلمناه من لدنا لعما)) المجهدة،والورع، والإغراض عن شهوات الدينا. وقال بعض العلماء: يد الله على أفواه الحكماء، لا ينطقون إلا بما هيأ الله لهم من الحق. وقال آخر: لو شئت لقلت: إن الله يطلع الخاشعين علىبعض سره)).
والغزالي هنا في أخلاقه الصوفية يمعن في المجاهدة ورياضة النفس، والإعراض عن الدنيا. والقسم الثاني من القمسين الرئيسين لكتابه إحياء علوم الدين خصصه لهذاالجانب، خصصه لما يجب أن يكون عليه الذي يجاهد نفسه ويروضها، حتى يصفو قلبه ويُقذف فيه من حيث لا يدري بنور الكشف والإلهام.
وهذا الذي يجب أن يكون عليه مجاهد النفس فينظر العزالي أمران:
1 ـ الأمر الأول أن يتخلى عن الدينا ومباهجها تماما. ويصور ذلك فيما كتبه عن ذم الدنيا، وذم المال والبخل، وذم الجاه والرياء. 2 ـ الأمر الثاني أنيسعى إلى الفقر والزهد، ومراقبة النفس ومحاسبتها والتفكير في ذات الله سبحانه وتعالى، وتذكر الموت. وسمي الجانب الأول بالمهلكات، وسمي الثاني بالمنجيات.
وبين فيكثير من الوضوح والتفصيل الطريق العملي لكل صفة يجب أن يتخلى عنها المجاهد، وكل صفة أخرى يجب أن يسعى إليها المجاهد مما يدل على عمق صلته بالحياة، وكثرة تجاربه فيها،وسعة فهمه للنفس وأحوالها وعاداتها.
وبعض الطرق التي يشير بها الغزالي لتحقيق مجاهدة النفس ورياضتها لو يشار به اليوم لعد غريباً غير مفهوم: فمثلا يشير على من عندهمال ـ والمال مطلوب التخلي عنه ـ أن يدفع به إلى الخيرات، وعلى من هو متكبر أن يخرج للأسواق والأماكن العامة للسؤال. يطلب من صاحب المال أن يتخلى عنه، ويطلب من المتكبر أنيتوسل حتى تحقق عنده مجاهدة النفس وحتى ترتاض نفسه، فيصفو قلبه ويعد عندئذ للإلهام والكشف يقول: ((... فإن رأي الشيخ مع المريد ـ المريد طالب المجاهدة، والشيخ هو موجهه ـمالا فاضلا عن قدر ضرورته اخذه منه ورفه إلى الخيرات، وفرغ قلبه منه حتى لا يلتفت إليه، وإن رأى الرعونة والكبر وعزة النفس غالبة عليه فيأمره أن يخرج إلى الأسواق للسؤال،فإن عزة النفس والرياسة لا تنكسر إلا بالذل، ولا ذل أعظم من ذل السؤال، فيكلفه المواظبة على ذلك مدة حتى كبره وعزة نفسه، فإن الكبر من الأمراض المهلكة)).
كما قد يوجبعلى الانسان الذي اعتاد النظافة وشغل بها والتفت إليها، أن يمارس أعمال النظافة في دورات لامياه أو في المطبخ أو فيما شاكل ذلك. يقول: وإن رأى ـ الشيخ ـ الغالب عليهالنظافة في البدن، ورأى قلبه مائلا إلى ذلك فرحا به ملتفتاً إليه، استخدمه في تعهد بيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمته المطبخ حتى تتشوش عليه رعونته فيالنظافة)).
ولكن من الوجهة النفسية في تكوين العادات ـ والرياضة وسيلة لتكوين العادة ـ ما بشير به الغزالي سليم كل السلامة. فمن يريد أن يقلع عن التدخين لا ينتظر حتىينتهي من تدخين ما يملكه بل عليه في الحال أن يتخلى عنه، ومن يريد السير كوسيلة لتخفيف سمنته لا ينتظر حتى يرصف الطريق أو تظلله الأشجار، بل عليه أن يتحمل مشقة السير ليصلإلى غايته، وهكذا...
(جـ) الأمر الثالث الذي تحدث عنه هنا في أخلاقه الصوفية بعد حديثه عن طبيعة الإلهام ووسيلته من الرياضة والمجاهدة، على نحو ما ذكر من وجوب التخلي عنالمهلكات والسعي إلى المنجات ـ هو نتائج الالهام والشكف. وهو في هذا يعرض لانكشاف الوجود على حقيقته للإنسان، ثم ما يمكن للإنسان عندئذ أن يعرفه من الاسرار التي تغيب علىغيره ممن لم يصل إلى هذه الدرجة من الكشف والتجلي. وهده الأسرار هو ما يعبر عنه بالكرامات، إذا تحدث عنها صاحب الكشف ووقعت في هذا الوجود.
والانسان إذا وصل إلى درجةاشكفل، وتجلت له ذات الله سبحانه وتعالى عندئذ تتم سعادته، وتتحقق متعته. ((والسعادة التي وعد الله بها المتقين هي المعرفة والتوحيد. والمعرفة هي معرفة الربوبية المحيطةبكل الموجودات، إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله، والكون لكه من أفعاله، فما يتجلى من ذلك للقلب هو الجنةبعينها عند قوم، وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق،وتكون سعة نصيب الانسان من الجنة بحسب سعة معرفته، وبمقدار ما يتجلى له من الله وصفاته وأفعاله...)).
والآن عند الغزالي: الناس في المعرفة والايمان ثلاثة أصناف: ((أنالمعرفة والايمان ثلاث مراتب: المرتبة الأولى إيمان العوام وهو إمان التقليد المحض. والثانية إيمان المتكلمين وهو ممزوج بنوع استدلال، ودرجته قريبة من درجة إيمانالعوام، والثالثة إيمان العارفين وهو المشاهد بنور اليقين)). وينقل ابن خلدون عن الغزالي: ((أن هذا الكشف لا يكون صحيحاً كاملا عنده إلا إذا كان ناشئاً عن الاستقامة ـالعبادة ـ لأن الشكف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة وإن لم تكن هناك استقمة كالسحرة واغيرهم من المرتاضين، وليس مرادنا إلا الكشف الناشيء عن الاستقامة. ومثاله: أن المرآةالصفلية إذا كانت محدبة أو مقعرة وحوذي بها جهة المرئي فإنه يتشكل فيها معوجا على غير صورته، وإن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحاً، فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآةفيما ينطبع فيها من الأحوال.
إلى هنا انتهى الغزالي في أخلاقه الفلسفية والصوفية.
5 ـ الغزالي كما أرى:
أما بعد: فالغزالي في أخلاقه أولا وأخيراً، فيلسوفاومتصوفا، إن فتشنا عن ((محور)) ترتكز عليه نظرته الأخلاقية، ويدور حوله كل ما كتبه باسم الأخلاق أو علم الوجدان أو علم الباطن ـ لوجدنا هذا ((المحور)) يسبقه أساس هو تمهيدله، وتعقبه غاية هي نتيجة له. أما الاساس فخطوتان: العبادة والاستقامة. ولك بالعمل بما جاء في الشرع من كتاب وسنة من جانب، ثم الحرص على تنحية العوئق في سبيل صفاء النفس منمال وجاه، مع الحرص أيضاً على تحصيل المنجيات من زهد ومحاسبة للنفس ومراقبة لها وتفكر في ذات الله وتذكر للموت من جانب آخر. وأما الغاية في صفاء النفس والقلب. وعندصفاء القلب ينجلي للإنسان الوجود لعي حقيقته، وحقيقة الوجود هي الربوبيه وآثارها. فالوجود ليس إلا الله تعالى وأفعاله. وعند ما تصل معرفة الانسان إلى هذه الدرجة تتمتعنفسه ويقيم على متعتها هذه لأن ذلك هو النهاية.
استخدم بعد ذلك الشروح النفسية للفكر الإغريقي، استعان بتجاربه في الحياة وخبرته في جاهها وعرضها، فسر بعض آيات القرآنعلى وجه خاص، اعتمد على بعض أحاديث لم يحقق سندها، كل ذلك أتى به لنوضح فكرته وليقنع بمنهجه، أنه صاحب مذهب أخلاقي، أملته عليه ظروف الحياة اليت عاش فيها. عاش في الكفاحوالخصومة، وعاش في جاه الحظوة والامامة، ولكنه رأى الناس متهالكين على جاه الدنيا وعرضها، أكثر من إيمانهم بقيمة المبادئ والفضائل وبما أنه قد عاش في حظوة السلطان، فيإمامة العلم والمعرفة، وخبر ما لهذه وتلك، هاله أن يرى تهافت الناس على ذلك تاكين القيم الحقيقية وهي قيم المبادئ والفضائل. والمبادئ والفضائل وراء الجاه والمال، وراءجاه السلطان وجاه العلم ووراء المال والاعتماد عليه. هي في ذات الانسان هي في الاستغناء عما يذله، ويحركه ذاث اليمين والشمال، هي في التزام النفس عدم التعلق بالدنيا. لهذا قام مذهبه على عدم التعلق بالدنيا، واضطر بعد ذلك لأن يوضح كيف لا يتعلق الانسان بالدنيا وهو فيها، كما اضطر لأن يبين كيف يستعيض عن لذة الدنيا بلذة أخرى هي أبقى،إن قاوم تعلقه بالدنيا وانتصر على إغرائها، وتلك هي لذة انكشاف عالم الروبوبية له.
الغزالي في مذهبه الأخلاق متجاوب مع تطوره، ومتجاوب مع حياته وصدى لأحاسيسه التيكونها عن جماعته في وقته. رأي أن المنهج الذي وضعه لسلوك الانسان هو المنهج الذي يجنبه الذلة في الحياة، والتردد بين مغرياتها ومفاتنها هو الذي يجنبه الشعور باللذةالمؤقتة ـ وهي لذة الدنيا ـ والألم بعد ذلك عند فقدها الغزالي في مذهبه الأخلاق قوم ((ارادة)) الانسان وجعلها هي الانسان نفسه. فعند ما يطللب مجاهدة النفس، يطلب أن نستخدمارادة الانسا، وأن يكون موضوع استخدامها هو ذاته ونفسه.
الغزالي بعد ذلك لم يشأ أن يجاري الناس في مبارشتهم للعبادة عي النحو الذي بياشرونها عليه في وقته، بل أراد أنيباشرها على نمط آخر. اراد أن بياشرها على نمط يجعل لها أثراً على قلبه. ((وإنما مراد الطاعات كلها وأعمال الجوارح تصفية القلب وتزكيته وجلاؤه)) ـ كما يقول في كتاب الإحياءـ. وهذا النحو من ممارسة العبادة في وقته لم يكن موجوداً، بل الذي كان موجوداً أداء العبادة وفقا للإجزاء والامتثال من نظر الفقه والفقهاء؛ لذلك بحث الصلة بين أنواعالعبادة وآثارها في النفس، وسأل عن نتائجها في تطهير القلب، وعني بمحاسبة النفس على ذلك.
عيب على الغزالي في مذهبه الأخلافي أنه:
1 ـ أفرط في طلب مجاهدة النفسورياضتها وفيما اشترطه لذلك من ترك الدنيا كلية. 2 ـ وبالغ في آثار الرياضة النفسية وحال الكشف والمشاهدة.
عيب عليه ذلك من وجهة نظر الإسلام، لأن الإسلام وإن لميجعل الدنيا هدف الانسان، لكنه طلب الاستعانة بها في تحقيق غايته الأخيرة، بل جعلها محل اختبار المؤمن، وذلك معناه عدم الانصراف عنها تماما، وإلا لما تحقق الاختباروالامتحان بها.
وكذلك المبالغة في آثار الرياضة النفسية من الكشف والمشاهدة قد تجر إلى أحداث الفتنة وانتسام الجماعة، لأنه ليس بمأمون أن يحترف بعض أدعياء الرياضةوالكشف بما يسمونه أسرار الهيئة، وذلك أمر لا ضابط له؛ يقول ابن الجوزي في كتابه ((تلبيس إبيلس)): ((إن التصوف رياضة النفس، ومجاهدة الطبع، برده عن الاخلاق الرذيلة، وحملهعلى الاخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والاخلاص والصدق، إلى غير ذلك من الخلال الحسنة التي تكسب المدائح في الدنيا والثواب في الآخرة.. هذا ما كان عليه أوائلالمتصوفة حتى لبّس الشيطان عليهم؛ فكان أول تلبيسه أن صدهم عن العلم، وأراهم أن المقصود العمل، فلما انطفأ مصباح العلم تخبطوا في الظلمات، فمنهم من غلا في ترك الدنيا وهيقوام مصالح الخلق، ومنهم من أغرى بتعذيب النفس بالجوع والعري، والفقر الالختياري، ومنهم من هام بالسماع، والوجد، والرقص، ومنهم من غلبت عليه الخيالات حتى قالوا بالحولوالاتحاد، وكانوا يعنون بالنظافة والتنطع في الطهارة؛ وراجت عليهمم لقلة العلم بالأحاديث الموضوعة...)).
إن الغزالي تتجلى أصالته الفكرية واعتداله في المزاج فيماكتبه في الفقه وأصول الفقه، ويتجلى جدله وقوته في الحجة والخصومة العقلية فيما واجه به الفلاسفة من نقد لما رأوه أو قبلوه عن غيرهم، وتتجلى سعة اطلاعه ووقوفه على احوالالنفس للأفراد والجماهير ومعرفته بأسلوب الاقناع، وخاصة في فن التمثيل والتشبيه، فيما كتبه لترغيب الناس في الزهد ومجاهدة النفس.
لو لا سلبية الغزالي العنيفة فيمذهبه الأخلاقي لطالبنا بتطبيقه في حياتنا الراهنة حيث سادت المادية، واكتسحت العلم موجتها الطاغية، وأحدثت من القلق الاضطراب ما ندرك في كل مكان آثاره.
نحن أفراداًوشعوباً وجماعات في حاجة إلى رياضة النفس، وصفاء القلب، لنكون إخواناً متحابين نقدر المثل، والانسانية لما فيها من معان فاضلة، ولكن في أسلوب أخف مما فرضه الغزالي علىنفسه ومريديه.