لكن قال شيخى
للسيد الكاتب الفاضل الأستاذ أحمد محمد بريرىقال شيخى:
حلت الخمر و كانت حراماً
فاسقنيها يا سواد بن عمرو
ان جسمى بعد خالى لخلّ
و بلأى ما ألمت تحل
ان جسمى بعد خالى لخلّ
ان جسمى بعد خالى لخلّ
و لو لا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدك لم أحلف متى قام عودى
وجدك لم أحلف متى قام عودى
وجدك لم أحلف متى قام عودى
لست أدرى ما ذا: ((تحت الخباء الممدد)).
فليسقه رفيقه: سوادة بن عمروكيما يمتلىء جسمه هذا الخل و يعود كما كان أيداً متيناً مستحصد القوى، مستعداً لما عسى أن يأتى به الحدثان غدوة أو عشياً.
لقد كانوا يحرمون على أنفسهم شرب الخمر و غسلالرأس من الجنابة، و ثالثة كان يحرمها بعضهم فقراً أو تجملا دون تكليف، أو استكمالا لمثالية الحرمان، ذلك أنه لا يأكل اللحم فهو أيضاً مما لايحله الا أن يعطى السيف حقهحين يتغافل غيره عن أداء هذا الحق الكريه.
ان الشواء و النشيل و الرغف
و القينة الحسناء و الكأس الانف
للطاعنين الخيل و الخيلقطف
و صفوة القدر و تعجيل اللقف
للطاعنين الخيل و الخيلقطف
للطاعنين الخيل و الخيلقطف
فأنت ترى أن تأبط شراً لا يأتى بدعاً من الأمرقولا أو فعلا حين يبتغى إلى صاحبه أن ينهله و يعله و لا بأس أن يتخير له ألوان النقل:
قلت: طبيعة الاشياء أن الشعوب البدائية لاتعرف الخمر، و لحكمة يعلمها علام الغيوبشاء أن تعرف العرب الخمر في جاهليتها، و تدمنها أشد الادمان، الا من عصم الله من تلك القلة التي يحدثنا عنها أصحاب الاخبار و السير.
قال: لاتنس أولا أن الشعوب التيحدثنا عنها أصحاب الاخبار كلها عرفت الخمر أشكالا و ألواناً.
ثانياً: أن العرب في جاهليتها لم تكن شعباً بدائياً بالمعنى الاصطلاحى الذي يعنيه أصحاب ((علم الانسان)) بللقد كانت تجاوزت ((طور البربرية)) و هو كما تعلم طور تقدمى بالقياس إلى ((البدائية)) نعم فلقد كان للعرب حين ذاك حضارة أو مدنية حتى في قلب الصحراء، مع ملاحظة أن لفظ ((مدنية))له دلائل أخر غير النسبة إلى المدينة أو التطبع بطوابعها، اقرأ القرآن و فكر و قدر و تدبر، فلن يعدوك أن تراه يخاطب قوماً غير بدائيين ولامبربرين، بل قوماً لهم منطقهم ولهم خصائصهم المميزة و كبرياؤهم و غرورهم الذي يشاء لهم أن يقسموا بني آدم إلى قسمين:
القسم الاول: العرب... و انها لاولية معنوية هم بمقتضاها الخلاصة.
و القسمالثانى: بقية بني آدم، أسودهم و أحمرهم سواء، فكلّ أعاجم أو عجماوات ان اهتديت بهدى ((أبى علاثة)) الذي لم يكن يسيراً عليه أن يقول: سبحانه و تعالى.
((يأيها الناس اناخلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا
/ صفحه 300/ان أكرمكم عندالله أتقاكم، و إذا قال لهم النذير: كلكم لادم و آدم من تراب، أو الناس سواسيةكأسنان المشط، ((لقد جئتم شيئاً اداً تكاد السموات يتفطرن منه و تنشق الارض و تخر الجبال هدا)) فلا أقل من أن يخرجوه من البلد، و ما دروا أن ربه يخرجه من بيته بالحق، لقدكانوا قبله يعلمون أنهم فيما بينهم سواء ((كأسنان الحمار)) بيد أن تلك المساواة و السوية التي تقتضيها أمور خاصة لايجوز أن تجوز حيزها الخاص إلى المحيط العام.
قلت: ولما ذا الجاهلية و تمثل أمثالها، فلقد يتهيأ لى أيام كنت صبياً يسألنى سائل: أمسلم أنت أم عربى؟ و لما كنت من بيئة مسلمة كان يتعذر على أن أجيب اجابة لاتتضمن أنى مسلم، الاأنى عربى مستمسك بعروبتى، فيتعذر على كذلك أن أجيب اجابة تغفل هذه العروبة، فكنت أجيب أنى عربى مسلم، ولكن السائل يريد أن يعبث بى فيلحف في المسألة: كلا لابد أن تختار أحدالأمرين، فأنت اما عربى و اما مسلم، و يغيثني الله برجل واسع الافق يقول لى: أجب بأنك عربى تام، فإن العروبة لم تتم بل كانت معنى منقوصاً أتمه الاسلام أو أكمله، فاذا قلتأنا عربى تام أو عربى كامل تضمن هذا التعبير و أشباهه أنك مسلم، و لم يكن عجيباً أن أفقه هذا النحو من الكلام على صغر سنى، فإن الصغار يفهمون أشياء تبدو متعذرة الفهم متىكان الشارح ممن يحسنون الافهام فوق احسان الفهم، كذلك لم يكن عجيباً أن يستجيب العرب لدعوة الرب حين أرسل اليهم محمداً صلى الله عليه و على آله و التابعين.
لست أدرى منفقيه اللغة أو ((اللغات المقارنة)) الذي قال ان لفظ ((عرب)) أصله العتيق هو ((على الرب)) صارت إلى ((عرّب)) ثم خففت الراء فهى ((عرب)) كما أن لفظ ((عجم)) أصله ((على الجم)) أى على الماءصارت عجّم، ثم خففت الجيم كما خففت راء عرب، فالعرب في عيشها على الله أو على الرب مع الكلأ حيث شاء الله أن ينبت، فاذا استنفدته يممت غيره، فإن أرض الله أريضة هريضة وفيها مراغم كثير وسعة على خلاف غيرها من الامم التي تضرب أو ((تخيم)) أو تبني قراها على الماء و على الأنهار، أو تستنبط الماء من الابار لتسقى الزرع أو ترويه ريا فنيالايعرفه أولئك الذين يحلون و يرتحلون حيث شاءت منازل الغيث، انه لتعليل
/ صفحه 301/تسكن اليه النفس العربية سواء أصدق أم كان رجماً مما ترجم به الظنون، أنمبادىء اللغات و سائر المقولات و المحسات و المجردات و الماديات و المعنويات، كلها لاسبيل إلى اليقين فيها، و انما هي احتمالات و راجحات و مرجوحات، و هو - وحده سبحانه -بكل شىء محيط: على أنه يرد على هذا الذي أقول أن العرب في جاهليتها الاولى لم تكن أمة راعية فحسب، بل كانت زارعة تزرع و تروى بالطرق الفنية.. و الا فقيم الضياع - جمع ضيعة - والقطائع - جمع قطيعة - أفليست هي المزارع بمعناها الفنى العصرى.
قال: على رسلك، فلقد انتجعت و أبعدت النجعة، أما ((الجاهلية الاولى)) فهى في اصطلاح أصحاب التاريخ، تلكالتي كانت ثم درست و بادت و لم يبق منها باقية الا ((النقوش)) و الاحجار، أعنى الاثار في مختلف صورها، و إذا صدقت الذين كتبوا التاريخ و حياً أو استيحاء من تلك الاثار فهميقررون أن العرب التي أرسل اليها محمد صلى الله عليه و سلم كانت قد أنسيت تاريخها هذا القديم المجيد، فلم يغالب الزمان منه الا عقابيل ارتسمت فيما يسمونه العقل الباطن أوما وراء الشعور... و القرآن نفسه يؤيد هذا النظر اذ يقول عن أحد تلك الشعوب العربية البائدة: ((فهل ترى لهم من باقية))؟ فهذا التعبير يدل على أنهم اجتثوا أو استؤصلوا فلن ترىمنهم شيئاً يمكن أن يسمى باقية، ان الجاهلية التي يمكن أن تتكلم عنها بما يملا الفم لهى تلك التي سبقت الاسلام بنحو مائة أو مائتين أو ثلاثمائة سنة أو أكثر أو أقل فيما هوقريب من هذا الحيز الزمنى الذي لم توضع فيه أصول اللغات العربية و غيرها من أخواتها الساميات، ذلك عهد استأثر بعلمه، و لا حيلة للمنقبين، أو - كما سماهم ابن النديم -المنقرين غير الحدس و الظن و استنطاق ((الصم الخوالد)) التي ((لايبين كلامها)) كما قال لبيد في معلقته:
فوقفت أسألها و كيف سؤالنا
صما خوالد ما يبين كلامها
صما خوالد ما يبين كلامها
صما خوالد ما يبين كلامها
/ صفحه 302/لم يكن متأثراً بأحكام سابقة و أغراض خفية حتى على أصحابها الذين يتجنون و يظلمون و هم لايشعرون، أفلميكن رينان - مثلا - من وجوه التاريخ الوجيهة التي زارت الاماكن المقدسة و شهدت الارض التي بارك الله حولها؟ بل و لقد كتب في ذلك صحفاً خالدة في تاريخ الفكر الاوربى، و انهليستطرد إلى العالم القديم أيام المسيح
(عليه السلام)حين كانت تلك البلاد عامرة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، تأكل من فوقها و من تحت أرجلها إلى حد أن الاثراء كانميزة ربما نزل عنها صاحبها اختياراً، اذ لافرق يذكر بين اثنين أحدهما غنى و الاخر فقير، فيم اذن تبعة الغنى و تحمل أعباء ليس ثم ما يدعوا إلى تحملها الذي لايعطى الانسانشيئاً يحرمه غيره من بني الانسان، ولكننا في نهاية القرن التاسع عشر، اذ نرتاد تلك البلاد، لانجد الا الحرمان: الجوع و المرض و الجهل و ملحقاتها التي تتعلق بها تعلق الظلبصاحبه، على أنه لايفوتك أن تلاحظ مع هذا الشقاء الانسانى في أبشع أشكاله أن النساء في ((الناصرة)) جميلات فاتنات رضيات الخلق كريمات طيبات، أفتراها حقاً كرامة شاء اللهأن يكرم بها السيدة العذراء كما فطن لذلك أحد كتاب القرن السادس الميلادى و غيره ممن راعتهم تلك الظاهرة؟ ان ((رينان)) ليتساءل هذا التساؤل على الرغم من اعلانه أنه كفربالمسيحية، أجل ولكنه مؤمن بالمسيح مرتبط بأخلاقه، و هو في واقع الأمر لم يكفر الا اضطراراً اذ استمع إلى حديث عقله، آه لو استطاع أن يلغى هذا العقل المشؤوم، اذن لعاشسعيداً و مات سعيداً كغيره من النصارى الصادقين المخلصين.
و المهم فيما نحن فيه أنه علل هذا الاجداب بعد الاخصاب، و الفقر بعد الغنى، و الشؤم بعد اليمن، بتلك الكارثةالتي ابتلى الله بها الانسانية، فاستولى المسلمون على بيت المقدس، فكانت النتيجة الطبعية أن يغيض ماء الحياة جراء هذا البلاء العظيم.
قلت: مدى علمى أن ((رينان)) منالمفكرين الاحرار المؤرخين الجادين الذين لايعنيهم الا كشف الحقيقة، سواء لديه أرضى الراضون أم سخط الساخطون، كان ((مثالياً علمياً)) يريد العلم على أن يقوم بين الناسمقام المعتقدات القديمة البالية التي لم يعد في الامكان حمل الناس عليها بعد أن أصبحت مقولاتها كذباً صراحاً يستحيل
/ صفحه 303/أن يكون موضع خلاف، على أن هذاالكذب الصراح ليس الا الشكل أو الصورة، فأما اللب أو الجوهر فهو الحقيقة الابدية الخالدة التي عبر عنها السيد المسيح
(عليه السلام)، و هو من أجل هذا متخلق بخلق المسيحمرتبط بجوهر الدين، و المتدينون الحقيقيون لابد متبعوه آخر الأمر.
قال: رويدك بعض حماستك، فلقد تركتك تهذى ما شاء لك رينان أو الشيطان فلست أحسبه الا احدى أحابيله. انها لمدرسة رئيسها ((سانت بيف)) و ليس من شك أن رينان كان من التلاميذ النجباء الذين يعتقدون أن السيد رئيس المذهب بكل شىء عليم، فتلك عبارة رينان نفسه في كتاب ((ذكرياتطفولته و صباه)).
أو تدرى ما العلم الذي ترهب له أولئك السادة فكانوا حوارييه و قديسيه القائمين يصلون في المحراب؟ انه مجموعة العلوم الاجتماعية: التاريخ والاجتماع واللغات و فقهها إلى آخر قائمة الحساب، حساب تلك العلوم التي يأبى أصحاب العلم الحق: الطبيعة و الكيمياء و غيرهما من مجموعة العلم بمعنى الكلمة الاصطلاحى عند العلماء الذيدرسوا الكون من أعلى أفلاك السماء إلى الذرة السوداء، أعنى هذه الارض التي كانت إلى عهد قريب مركز الكون، حتى جاء ((كوبرنيك)) فكانت الثورة الفكرية التي ما نزال في معمعتها.يقول لك رينان صاحبك هذا الذي أردت أن تمضى في الحديث عنه، لو لا أن وقفتك أن العلم - بالمعنى العلمى - لاعلاقة له بتشككه أولا، ثم بيقينه بعدُ أن الكتاب المقدس لايعبر عنالحقيقة، ولكنه فكر و قدر و نظر في فقه اللغات السامية، و منها العربية التي يعترف أنه كان ضعيفاً فيها ضعف أستاذه الكبير العلامة ((لاهير)) فكان نتيجة نظره أنه كفر والعياذ بالله.لقد مكر به الله و هو خير الماكرين، و أتاه من حيث لايحتسب، جاءه من حيث اللغة التي يقول فيها الشماخ بن ضرار رضى الله عنه:
كما خط عبرانية بيمينه
بتيماء حبر ثم عرّض أسطرا
بتيماء حبر ثم عرّض أسطرا
بتيماء حبر ثم عرّض أسطرا
/ صفحه 304/عريضة بينة، فذلك هو التعريض، و كذلك معالم الاطلال التي وقف عليها الشماخ بعضها خفى لايدركه البصر، و انما تدركه عين القلب أو البصيرة، أو كماقال آخر:
و تلفتت عينى فمذ خفيت
عنى الطول تلفت القلب
عنى الطول تلفت القلب
عنى الطول تلفت القلب
/ صفحه 305/اضافي نسبى لايرتقى مرتقى الاطلاق... فالارض - فيما نعلم ترجيحاً لاتحقيقاًيقينياً - تدور حول الشمس. و ربما كان العكس هو الصحيح، فكانت الثوابت سيارات و السيارات ثوابت، ولن تتغير النتائج، و انما ينخرم قانون ((بذل الجهد الاقل)) الذي لايزيد علىكونه كغيره نسبياً، ان وحده النتائج لاتعنى وحدة الاسباب، ان السبب الواحد لاينتج الا نتائج واحدة، ولكن النتائج الواحدة ربما كانت خلائف أسباب كثيرة يعرف بعضها و يجهلبعضها، أو لعل ما نعرفه و هم لم يكشفه العلم، و سوف يكشفه أو لن يكشفه، فعلم ذلك عند مالك الملك الواحد القهار.
ان اليقين في ((الكونيات)) مستحيل، لانطمع أن يكون يوماًفي حيز الممكنات حتى لقد تساءل فلاسفة العلم: إذا كان التطور سنة الوجود، أفلا تكون قوانين هذا التطور نفسها داخلة فيه بمعنى أن القوانين الكونية التي نستظل بظلها الانغير التي كان يستظل بظلها أسلافنا منذ ألوف السنين أو ألوف الالوف؟
لقد أرسل الله الرسل بالايات و خوارق العادات الذي كذب بها الاولون زمان كان الانسان طفلااجتماعياً قاصراً عقله أن يدرك تلك المعجزة الكونية الكبرى التي يحدثنا عنها ((بوانكاريه)) و أضرابه من فلاسفة العلم الحديث.. فلما بلغ القاصر سن الرشد، و كبر عقله بالقدرالذي يمكن له أن يسبر غور هذا الهول الهائل، أرسل محمداً صلى الله عليه و آله و صحبه أجميعن خاتم الانبياء و المرسلين ليخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم و يهديهمالصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين.
انك لتعلم أنى لست ممن يفسرون القرآن بالعلم الحديث، فليس هو كتاب هندسة أو جبر أو طبيعة أوكيمياء، ولكن حضّه الناس على أن يتفكروا في خلق السموات و الارض و ما خلق الله من شىء، أو توجيهه النظر إلى هذا النظام أو الاتساق الكونى المعجز ليس من هذا الضرب فيالتفسير الذي لست منه في شىء... أفتراك لو ردت توابع الشمس فزرعت المريخ حنطة، و الزهرة شعيراً، و القمر أعناباً، و سائر المجموعة ما شاءالله أن تزرع انتقصت قاعدة ((ماأوتيتم من العلم الا قليلا))
/ صفحه 306/كثيراً أو قليلا؟ كلا بل أنت كاشف مجاهل جديدة كنت تحسب من قبل أن علمك بها وفير غزير.
لقد بهر علم النهضة الاخيرة التينهضها الانسان عينيه و أثار اعجابه و غروره إلى حد الايمان بالعلم الهاً جديداً، فظن ((فولتير)) أنه آن لبنى آدم أن يكفروا باله هو الخبز يؤكل، أو النبيذ يشرب، و خلف من بعدهخلف و خلف، ثم سكن الانسان من ثائرته في أعقاب القرن التاسع عشر و بداية العشرين، بيد أنه قبل ذلك قد حاك ما شاء أن يحوك من خرافات العلم، و لماذا لاتكون للعلم الحديثخرافاته.. أفلم يكن لاهل الاديان خرافاتهم، لاأعنى الاسرائيليات فحسب، بل قل ماشئت عن خرافاتالنصارى و المسلمين، ودعك من عصور أساطير الاولين.
انه لو قدر لهذه الارضأن تمتد بها الحياة لجاء زمن تبتسم فيه الناس لترهات عصرنا هذا، كما نسخر نحن من ترهات السابقين.
ان حديثك عن ((رينان)) ليذكرنى بلطيفة يرويها هو عن نفسه في بعض ما كتبيقول: انه يتسلم مرات في السنة منذ عدة سنوات كتاباً نصه الدائم الذي لايتغير هذه الكلمة ((و مع هذا إذا كان ثم جحيم)) فالكاتب اليه رجل طيب يخشى عليه أن يكون من حطب جهنمجزاء ما فجر و كفر و خرج على الكنيسة التي علمته و هيأته ليكون من رجالاتها الافذاذ.
و يقول في صورة هازلة: إذا كان ثم جحيم فلست أعتقد أنى أستحقها، بيد أنى لاأمانع أنأقيم مدة في ((المطهرة)) ثم يقيض لى الله أرواحاً خيرة تنتشلنى منها فإن الله غفور رحيم، ما ظنك في أنى أظنه جاداً لايهزل، فهو يطمع في عفو الله عنه، فتلك فطرة فطر اللهالناس عليها عسى أن يخفيهها الادمى أو يحاول اخفاءها، الا أنها ما تنفك تستبين في بعض ما يفعل أو يقول:
قلت: حين كان ((رينان، يكتب عن أصول النصرانية و الشعب الاسرائيلىو الاسلام، كان ((الفكر الحر)) هناك يسير في اتجاهين متضادين: يرى أحدهما أن المسيحية بالنسبة إلى الثقافة ((اللاتينية اليونانية)) كانت زمن فترة أو حجر عثرة..
/ صفحه307/مات ((پان)) الكبير - رمز الوثنية - فكان موته ايذاناً بزوال النور، و اقبال الظلمات من هذا الشرق الخرافي الذي سلمت يونان أن تأكلها بربريته، كما سلمت رومية التيهضمت البرابرة الذين أرادوا أن يبتلعوها فابتلعتهم، ولكن ما أعجز هؤلاة لم يعى به الدين الجديد، فسلام على ((زيس)) و ((چبتير)) و ((فنيس)) و الارباب و الربات جمعياً، فهو عهدالرهبان و الاحبار أصحاب اللاهوت الذين هم أحرص الناس و أخلص الحراص و أيقظهم و أصدقهم استحفاظاً على الجهالة، انهاألف سنة سلختها الانسانية في كهوف تلك الجهالة حتىاستيقظت الالهة القديمة في عهد النهضة الحديثة، و هل كانت دلالة يقظتها الا حركة الاحياء، احياء اللاتينية و اليونانية على أيدى، ((ايراسم)) و أصحابه ((الانسانيين)) الذيأحيوا الدراسات الانسانية، أى اليونانية و اللاتينية على أنقاض اللاهوتية و اللاهوتيين؟ الانسان هو سيد هذا الوجود، و ليس ثم قوة أخرى هو مسؤول أمامها، فعليه أن يحققوجوده أو ذاته، و سوف يخضع له الكون، فله المجد و عليه أن يكسب تلك المعركة أو الحرب الطويلة التي أقامتها الارض على السماء، و تمضى الدراسات قدما، و ينصرم القرن السادسعشر، فالسابع عشر، فالثامن عشر، بما انطوت عليه من أحداث و ثورات هائلة في التاريخ البشرى... وها نحن أولاء في القرن التاسع عشر، قرن التدوين و التجميع، فلقد قيل كل شىء، ووضعت أصول العلوم، و ما علينا الا أن نجمع و نرتب و نصنف و نشرح، و على السنوات الالف بخيرها و شرها العفاء، لقد كانت جاثوماً أو كابوساً أناخ بكلكه على الانسانية مدة ليستطويلة في عمر الارض... و لقد أدى من سبقونا منذ النهضة مهمتهم أتم أداء، فعلينا أن نكون خير خلف لخير سلف، و إذا كان لاصحاب اللاهوت قديسهم ((سان داكان)) فإن لنا قديسنا ((سانتبيف)) و ليحيى ما قبل المسيحية: تراثنا التليد المجيد موصولا بعهدنا الجديد.
قال لبث قليلا: تقول ان الانسانية و الانسانيين قامتاً مقابل اللاهوتية و اللاهوتيين،فلماذا لم يسموهما الناسوتية و الناسوتيين تمييزاً لهما من الانسانية و الانسانيين بمعنى الطابع الادمى أو الخلق أو الادب الانسانى، أفليس واضحاً أن
/ صفحه 308/تلك الدراسات تقوم على أساس تمجيد الانسان أو تأليهه كفراناً بالواحد الديان، أو ليس مقتضى التسمية أو مفهوم المخالفة أن كل من ليس على شاكلة ((ايراسم)) و صحابته فهوعديم الانسانية في حين أن هذا اللبس غير قائم في اللغات الاوربية فهم يقولون ((هيمانيسم)) يعنون الدراسات التي تكلمت عنها، و ((هيمانيست)) يعنون أصحابها، و يقولون:((هيمانتى)) و ((هيمان)) يعنون الانسانية بمعناها العام المعروف في كل اللغات، سواء منها المتصلات بالثقافة اللاتينة و اليونانية، و غير المتصلات.
قلت: عسى أن يتجهالشارع اللغوى عندنا هذه الوجهة، بل عسى أن يقوم عليها اعتراضات، و الذي يهم فيما نحن فيه الان ألا ننسى الاتجاه الثانى من ((الفكر الحر)) بمعناه الذي تعين و تحقق و أخذشكله النهائى في القرن التاسع عشر... قال أصحاب ذلك الاتجاه: مهلا و بعض غلوائكم... لاتغلوا في مهاجمة الدين و أصحاب اللاهوت بالحق و بغير الحق، فإن المزامير و الاناشيد لمتطمس على ((هومير)) و ((فرجيل)) بل أضافت طريفاً على تليد، و كشفت عن مزايا انسانية، كانت محجبة على الوثنية، و على الالهة و أنصاف الالهة و الالاهات، و العذارى و ربات العلومو الفنون. ان ((بان)) الكبير لم يمت، و انما جاءه أخ له من الشرق يقص عليه قصصاً، و يخبره أخباراً ما كانت لتخطر له على بال لو بقى في عزلته، و لم يلتق الشرق بالغرب كرة أخرىبعد التي تمت فيما قبل التاريخ المكتوب، فلسنا ننكر الحقيقة الواقعة، و هي أن المعرفة اليونانية الاصلية انما جاءت من الشرق، نعم جاءت بدائية وحشية، فرعتها يونان حقرعايتها، و ما زالت تتعهدها بالتحسين و التجميل حتى انتهت بها تلك النهاية السعيدة التي تتمثل في صور الفلسفة و العلم و الفن الرفيع فكذلك نتلقى - نحن الغرب - تلك المسيحيةالتي جاءنا بها ((بولس)) بسيطة ساذجة، فتتعهدها بالعلم و الفن فنفلسفها فتصبح بهجة للناظرين، انه لو بعث الان بولس و بطرس و الحواريون لانكروا المسيحية أشد مما أنكرهاالوثنيون، اذ أخذتهم بغتة و أرادت أن تصرفهم عما كان يعبد آباؤهم الاولون.
لقد كانت الحياة الانسانية الكريمة في العالم القديم شأن البطاريق و أبناء
/ صفحه 309/البطاريق، فأما الرقيق و رقيق الارض و بنو غبراء جميعاً ((البليب)) فقد كان شأنهم العمل و الخدمة كى يقروا تلك الحياة السامية الرقيقة للسادة الاماجد، فجاء المسيحبالبشرى يخبر خبر السماء، و يعلن قيام ملكوتها أو مملكتها التي تتسع للبشر جميعاً دون تفرقة، فلا بطاريق و لا رقيق، و انما هم بنو الانسان أو أبناء الله يحيون معاًأسواء حياة اشتراكية تامة، فلن يقبل المسيح الا الانسان ينزل عما يملك للجماعة المسيحية التي هو فرد فيها، له مالها و عليه ما عليها، و كذلك عرفت الانسانية كما يقولرينان نفسه أول ما عرفت، فلم يكن لفكرة العدالة الاجتماعية وجود من ذى قبل... لقد انتهى عهد التمايز بالدم أو الطبقة، و أعلن حق الانسان بوصف كونه انساناً لاغير..... أفليستتلك قيماً روحية أو أصولا خلقية اجتماعية كانت محجبة بالقياس إلى أصحاب الفكر اليونانى اللاتينى؟ انها الاضافة الكبرى التي أضافها الدين إلى تراث الادميين، فالقول بأنالمسيحية قطعت رحلة الانسان التقدمية باطل و زور... و إذا كنا الان نرفض المعجزة و خوارق العادات أن نؤمن بها فلسنا نصدق أن المسيح أبرأ الاكمه و الابرص و أحيا الموتى باذنالله، أو بوصف كونه ابن الله فليس الله فيما نعلم الا قانون الطبيعة.. فتلك مظاهر أو قشور كان لابد لصاحب الدعوة الانسانية الكبرى أن يغلف بها جوهر رسالته، فانه لو دعاالناس حين ذاك إلى الاصول و المبادىء التي جاء بها مجردة عن عالم الغيب و ما فوق الطبيعة، اذن ما عبأ به الناس شيئاً، كانت الغيبيات و خوارق العادات و التلقى عن الله الذيخلق الارض و السموات دأب العصر و روحه، فأما و قد علمنا و تكشف لنا الغيب و تبيناً أن الشيخ الطيب ذا اللحية البيضاء التي يعبث بها الريح و هم صح في الاذهان ما شاءت الطفولةالانسانية أن يصح، فلن يضيرنا أن نغفل القشر أو المظهر و نحتفظ باللباب أو الجوهر الذي هو حق الانسان في أن يحيا مع أخيه الانسان حياة حرية و مساواة ترعاها و ترفرف عليهاالعدالة الاجتماعية، أو ما نسميه الاشتراكية التي هي في الحقيقة الواقعة فكرة المسيح التي طبقها تطبيقاً عملياً، و طبقها بعده الجماعة المسيحية الاولى، كذلك كان يتكلمالشطر الثانى من المفكرين الاحرار خلال القرن التاسع عشر، و ليس ثم شك في أن ((رينان)) كان زعيم هذه الطائفة
/ صفحه 310/أيام كان يبشر بالمسيحية الوضعية الطريفة،و كان من البداهة أن يجر هذا التفكير فكرة أخرى، فلقد قالت اليهود: نعم أو كان المسيح الا يهودياً أم كانت البيعة النصرانية الا بنت الكنيسة الاسرائيلية؟ لقد أنى للبنت أنتعود إلى أمها معترفة بخطيئتها و أنها فرطت في ذات أمها، ان المسيحية و اليهودية كلتيهما - بوصف كونهما دينيين يعمل بهما - أصبحتا في ذمة التاريخ، فنحن هوداً و نصارىلانتعبد كما كانوا يتعبدون في القرن الاول و قبل القرن الاول، و انما هي قيم روحية، و أصول خلقية، و ذكريات تاريخية و رثناها، فنحن فيها أسواء و بمقتضاها أشقاء، ان كل مافي الاناجيل و جاءها مستقيماً من التوراة، حى وسوف يحيا ما بقيت على الارض حياة، لقد آن للالهة أن تصطلح و هي - كما يعلمنا التاريخ - لاتصطلح الا إذا فقدت محاريبهاوكهنوتها، شاهد ذلك نراه قائماً في المتاحف، أفلست ترى في المتحف آلهة رومية و أثينا و مصر و سورية و غيرها متجاورة هادئة في وقارها و عظمتها، نراها على قواعدها الخشبيةأو البرنزية و عساها أن تتبادل النظر الشزر، ولكن كن على يقين أنها لن تمشى بعضها إلى بعض، و لن تتماسك بالمخانق، و غاية ما تحنق أو تختصم لن تتجاوز ذلك النظر الشزر، كذلككان يقول الاستاذ ((جام دار مستتير)) و يكتب في ((رسائله الشرقية)) أيام كان يحاضر في ((الكوليج و دى فرانس)) و هو حبر تحرير من أسرة يهودية مشهورة في تاريخ الفكر الفرنسى،فأخوه صاحب كتاب ((حياة الكلمة)) الذي له أهميته في فقه اللغة الفرنسية على صغر حجمه.
لقد كان رينان في الحقيقة راهباً من طارز جديد في دير جمع مختلف طوائف النصارى وطوائف اليهود، و لم يكن يخفى هذا التجديد، بل كان له داعية مسموع الكلمة.. أفلم يقل في لغة شعرية رائعة أنه شد ما ساورته الرغبة في أن يجثو على ركبه - أو ركبتيه ما دامحديثنا بالعربية - و ليس عندنا كما عندهم أقل الجمع اثنين - مناشداً أوربا المسيحية ألا تتناحر تناحر الاشقاء، و ألا تنسى مهمتها الحضارية الانسانية؟
لقد بدأ التقريباذن في الغرب بداية مدنية أو زمنية غير دينية، أو دينية بالمعنى الجديد الذي مات رينان معتقداً أن المستقبل له، و أن الشعوب قد تذوقت
/ صفحه 311/حلاوته، و أنهابالغريزة تفقع نتائج التجريبى في أحدث صوره، فليس في الامكان أن تفقه الدين الا فقهه هذا في طوره هذا الذي كان هو رسوله الامين المبين.
قال: بل أنت مخذوع أو مفتر، لقدمات يائساً أو شبه يائس، نقل ذلك عنه ((أناتول فرانس)) في بعض ما حدث عنه... و لقد حدثنى أستاذ جامعى واع عاد في الاوانة الاخيرة من أوربا بعد أن زار جملة من بلادها، قال: انالكنائس ثم عامرة بالشباب، شباب ما بعد الحرب العالمية الثانية، و ببقية من الشيوخ المعمرين الذين أبوا أن يؤمنوا بالمسيحية الوضعية ان الكفر و الالحاد في آيات اللهلفترات استثنائية في تاريخ البشرية، بذلك قضى الله و لا راد لقضائه يحكم ما يشاء و هو خير الحاكمين... ان ما كان يليه في القرن التاسع عشر المدنيون أو الزمنيون أو الاحرارالمفكرون أصبح الان يليه الكنائس و الكنسيون، أفلم يأتك نبأ المجمع المسكوفي الفاتيكانى؟ لقد تحدث البابا الراحل جان الثالث و العشرون إلى النصارى غير الكائوليكيينفكان مما قال: انه سبق له قبل أن يتبوأ الكرسى البابوى أن جمعته خدمة الانسانية بمسيحيين لاينتمون إلى كنيسة رومية، فكان - فيما يعلم - حريصاً و كانوا حريصين على ((ألايخلطوا في الاصول)) تعاونوا على البر و التقوى، فتحدثوا لم يجادلوا، و توادوا لم يتناقشوا)) و كيف تريد البابا على أن يقول غير هذا؟ ان الذين خروجوا على الكثلكة لاصحاب مللأو نحل، لا يمكن بحال من الاحوال أن تعرف بها... و ليس قليلا أن يواد كبير المنشق عليهم المنشقين، و ليس معقولا أن يخلط أو يخلطوا في الاصول، و حسبهم أن يتعاونوا في حدود:لكم دينكم ولى دين. و قبل هذا كان في نيودلهى مؤتمر المسيحيين غير ذوى الكثلكة التي مثلها هناك مراقبون مستمعون، و أقيمت صلاة جامعة، قيل حينئذ بحق إنها كانت الاولى مننوعها، بل لقد قدم اقتراح يهدف إلى حسم النزاع مع اليهود، فتعترف الكنائس أنها فقدت إلى الابد حق التبشير بين اليهود الذين لايحملون تبعة قتل المسيح و صلبه... ذلك بأنهلاتزر وازرة وزر أخرى، و أن ليس للانسان الا ما سعى، و لا شك أن اليهود الحاليين لم يسعوا و لم يأمروا بقتل المسيح أو صلبه، و الخلف غير مؤاخذ بما اقترف السلف.
/ صفحه312/أذكر أنى قرأت نص هذا الاقتراح، و قد أنسيت اسم صاحبه، و عساه أن يكون أحد الكرادلة، لقد كانت أحاديث القوم تدور حين ذاك حول موجة الالحاد و الفكر بالله سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً... و أنه يعنى المؤمنين به جل و علا على ما بينهم من خلاف، فإن الايمان بالواحد القهار جامعة، أفلاترى إلى المؤرخين للاديان يجمعون أصحابالدين السماوى كلهم تحت عنوان: ((أسرة التوحيد)) يريدون بها اليهود و النصارى و المسلمين؟
ان الفلسفة المادية لتقوم على أساس انكار الوحى، اذ نبت كل شىء من الارض و لمينزل من السماء، فكل موحى اليه، انما هو مفتر أو واهم موسوس شبه له أو خيل اليه، فالوحى ظاهرة اجتماعية كغيرها من الظواهر يجب أن تدرس و تتبين على هذا الاساس و أنت لاتجهلبطبيعة الحال أن دراسات كبيرة قامت عليه، فأى عجب في أن يتعاون اليهود و النصارى ليثبتوا - مثلا - أن الوحى حقيقة سماية واقعة و ليست افتراء مفتر، ولا وسوسة موسوس، لقد قالالكاردينال بيا: ان الخلاف من طبائع البشر، فهو شىء لايمكن اجتنابه، فلنختلف كما كان يختلف ((برنابا)) و ((بولس)) أو بولس و بطرس، فإن المسيحية تلمنا آخر الأمر فهى الوحدةالجامعة.
قلت: فأهل الكتاب اذن يتقاربون، و المسلمون ما خطبهم أولا فيما بينهم، و ثانياً فيما بينهم و بين الذميين؟
قال: أما فيما بينهم: فإن رقعة التقريب ما تزالمع كر الغداة و مر العشى تزداد اتساعاً، يقول كاتب فرنسى، هو الأستاذ ((سودريل دومينيك)) في كتيب له ظهر حديثاً بعد أن تكلم عن طوائف المسلمين: و مع هذا هم جميعاً خارجين وشيعيين و سنيين - أهل القبلة أو المسلمون. و أما فيما بينهم و بين الذميين، فليس في الامكان أبدع مما كان، و قاله الرحمن مخاطباً سيد بني الانسان: ((قل يا أهل الكتاب تعالواإلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد الا الله و لانشرك به شيئاً، و لايتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)).