قال شيخي
لحضرة الكاتب الفاضل الأستاذ احمد محمد بريري قال شيخي:
إني لمهد من ثنائي فقاصد
أهز به في ندوة الحي عطفة
قليل التشكي للمهم يصيبه
يظل بموماة ويمسىبغيرها
ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي
إذا حاص عينيه كرى النوم لم يزل
ويجعل عينيه ربيئة قلبه
إذا هزه في عظم قرن تهللت
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي
بحيث اهتدت أمالنجوم الشوابك
به لابنعم الصدق شمس بن مالك
كما هز عطفى بالهجان الأوارك
كثير الهوى شتى النوى والمسالك
جحيشا ويعروري ظهور المهالك
يمنخرق من شدة المتدارك
له كالئ من قلب شيحان فاتك
إلى سله من حد أخلق صائك
نواجذ أفواه المنايا الضواحك
بحيث اهتدت أمالنجوم الشوابك
بحيث اهتدت أمالنجوم الشوابك
/ صفحه 205/يقين من أنها مغتالة فريسة يقدمها إليها شمس بن مالك، هذا الوحش الآدمي المستأنس بالوحدة المستغني عنالدليل. اللهم إلا أن يكون الشمس أو المجرة فهو مهتد بما تهتدي به النجوم أو أمها.
قلت: له الله من جاهل يحسب الشمس أم النجوم، ولو أنه عرف ما يعرفه الآن تلاميذ المدارسالأولية، لعلم أن الشمس، بل المنظومة الشمسية مثلها، شئ حقير بالقياس إلى الشعري العبور أو أختها الغميصاء أو ما شاء من نجوم السماء التي يستطيع أصحاب الفلك أن يحدثوه عنعظمتها حديثاً حيقيقاً يعجز الخيال أن يرقى رقيه.
إن القافلة العلمية ما كانت لتسير إلا مجهزة بأجهزتها الفلكية وغيرها مما قد تدعو إليه الحاجة، وإذا كانت السلامة فيجانب صاحبكم عشرا فهي في كنف أصحابي مائة عشر، ألا فلتسمح لي أن أخالف عن أمركم، وأن أستظل بظل العلماء وأتبعهم حيثما ارتحلوا وأينما حلوا.
قال: إلى حيث ألقت رحلها امقشعم، أو إلى حيث طار الطائر الميمون فلست أدري. ذلك بأن السلامة والندامة لا ترتبطان لا بعلم ولا بجهل، ولكنه (القدر) فيما يعلم المؤمنون (والحتم) فيم يقولون الكافرون. قلت: ولكني أوجه نظركم إلى موضع حديثنا … كنا في شمس بن مالك أو في الهجان الأوارك التي اهداها إلى ابن عمه تأبط شراً فكانت هبة بعوض، عوضها هذا الشعر الذي أنشدتمونيهوهأنذا أفكر فيه وفي القيم الإنسانية وكيف تتحول بها الأحوال. فما أحسب هذا المديح الذي هز عطف ابن مالك يرضى الان المتواضعين من الرجال … وإلا فمن ذا الذي يبعثكبرياءه في أيامنا هذه أن يقال له: إنه يستأنس بالوحشة، فاتك ما ينفك وراءه مطالب بدم، فهو يقظان هاجع عينه ربيئة قلبه، وقد يضطره مطاردوه إلى أن يعدو عدوا سريعا يسبق وفدالريح، فهو طريد شريد، يصبح في فلاة ويمسى في غيرها. ثم هو جحيش.
/ صفحه 206 /ألا ترون في جحيش) هذه شيئاً بغيضا؟ فلست أدري ماذا يصيبني لو أنى واجهت رجلا أيداًبأنه جحيش؟.
قال: رويدك بعض سخريتك، فجحيش هذه تساوي (فريداً) فالكلمتان مترادفان فلماذا يغضب من تواجهه بأنه فريد. فريد في نوعه. فريد في علمه. فريد في حلمه أو فيماشئت؟ فالكلمة في ذاتها لا تتضمن قدحا ولا مدحا وإنما توجهها حيث شئت إذا خصصتها بإضافة أو غيرها. ألا وإن الصفات التي خلعها بأبط شراً على ابن عمه لحميدة جد حميدة. أدخل فيحسبانك ظروف الزمان والمكان وما يترتب عليها من تحول في السلوك؛ تجد الصفة الشخصية هي هي ولو أخذت بالضرورة لون البيئة أو نشاط الوسط الاجتماعي. فشمس بن مالك مثلا رجلجلد، صبور، يقظ، متحرك أبداً ولو كان قد قدر له أن يعيش في أيامنا هذه، لكان رجل أعمال من الطراز الأول. يمسى في أوربا ويصبح في أمريكا ثم لا يلبث أن يستقل (نفاثة) تحمله إلىآسيا، ولكن الله خلقه في القرن السادس الميلادي لا في القرن العشرين، وفي البادية لا في مدينة أوروبية أو أمريكية فكان دأبه أن يستقل، بدل (النفاثة) العصرية، ناقة جمالية،وأن يرتاد، بدل المدن الآهلة الفلوات القاحلة. هو على أي حال نشاط تختلف أوجهه باختلاف الملابسات، فشمس بن مالك قد يصبح (فورد)، وفورد قد يصبح شمس بن مالك لو تبادلا ظروفالزمان والمكان.
قلت: خيال يسرح بنا أيما مسرح.
قال: أو يشطح بنا أيما مشطح، أو قل سمادير رمضان، ومرة أخرى لنعد إلى ما كنا فيه: إلى تأبط شراً عفا الله عنه.
قلت:كيف يعفو عنه، وهو ممن كانوا يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً، فهو لم يك إلا صعلوكا قاطع طريق، أكبر همه الجريمة، يأكل أموال الناس بالباطل، ويقتل النفس التيحرم الله. ثم هو قبل هذا كله مشرك، والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
/ صفحه 207/قال: ومع هذا كله يغفر الله سبحانه وتعالى لتأبط شراً ما تقدم منذنبه وما تأخر، فما كان إجرامه ولا إشراكه لينقض حكما آخر جا ء في كتاب الله: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقد قتل تأبط شراً في الجاهلية، فهو من أهل الفترة الذين يعلمصبيان الكتاب أنهم ناجون من العذاب، وهذه مسألة تتناول تأبط شرا وكثييرين غيره وهو حسبنا اليوم وكفى: كانت حياته عفا الله عنه جافة حازمة قاسية لم تعرف الهزل ولا الدعةولا النعمة أليس هو القائل: ـ
ولا أقول إذا ما خلة صرمت
لكنما عولي إن كنت ذا عول
على بصير بكسب المجد سباق
يا ويح نفسي من شوق وإشفاق
على بصير بكسب المجد سباق
على بصير بكسب المجد سباق
قلت:أحسبها عقدة نفسية، فأنا أعلم أنه كان يتعشق جارية ويتعقبها فلا يسعفه الحظ، ثم قيض له شيطان ساقها إليه فجاءته هي تسعى اليه، جاءته تتهادى في استرخاء وتكاسل أو كما قال:
تمشي إليك مشية حوقلة
كمشية الأرخ تريد العلة
كمشية الأرخ تريد العلة
كمشية الأرخ تريد العلة
قال: نعم أرويه ولكني لا أرى فيه ولا في الواقعة ما يمكنأن يكون جرثومة عقدة نفسية، بل أنا بصفة عامة، لا أقبل ـ إلا متحرزاً كل التحرز ـ ما يقوله أصحاب علم النفس في العقد النفسية وغيرها من المسائل التي عرضوا لها وظنوا أنهمجلوها في حين أنهم أبهموها بل لقد افترضوا افتراضات ثم حجوها
/ صفحه 208/حقائق ثابتة أثبتوها مقدمات جاءت نتائجها متوهمات يرفضها العقل بل ترفضها الفطرة قبلالقياس العقلي كالشعر المكسور تمجه الغريزة الشعرية قبل وضعه في قالب التفاعيل … هذا على أنك تعرف في غير مشقة ولا عسر: النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة والنفسالمطمئنة، فليت القوم نحوا هذا النحو وخلاهم ذم.
قلت: ولكن علم النفس ارتفع إلى منزلة ما كان لينزل عنها وحسبه أنه علم.
قال: كونه علما موضع نظر، أفليس أكثره نظرياتلا يستطيع أصحابها أنفسهم الزعم بأنها ارتفعت إلى درجة القوانين؟
قلت: أفقرأتم ما كتبه أعلام علم النفس والتحليل النفسي وبخاصة ما كتبه (سيجمون فرويد).
قال: فهذامثلا رجل التوت به الغريزة فرد كل التصرفات الإنسانية إلى الغرائز بل إلى غريزة معينة، مغفلا العقل أوسمه العقال إن شئت، فهو الذي يقفك أو يعقل غريزتك إذا انطلقتإلانطلاق الحيواني البهيمي ولكن صاحبك (فرويد) هذا ينطلق ملتوياً مع غريزته إلى حد الزعم بأن بني آدم ضحوا بالنفس والنفيس في سبيل أصول خلقية ليست في واقع الأمر إلاأوهاما، إنه ليأسف ويتألم لبني جنسه الذين خدعتهم القواعد الخلقية دهراً طويلا حتى شرفت طلعته السنية، هذه الإنسانية التي تعذبت حتى جاءها المخلص فرويد آخر الدهر أولعلي أخطأت شخص المخلص، فعسى أن يكون آخر غير (فرويد) هو (أوجست كونت) صاحب الفلسفة الوضعية وإلغاء ما وراء الطبيعة، ومن يدري فلربما أخطأت في الثانية، فليس المخلص أوجستكونت ولا فرويد، وإنما هو صاحب الدعوة الكبرى (ماركس) ـ بهؤلاء وأمثالهم فتنت الإنسانية خلال القرنين الماضيين أو الثالثة فتنتها الكبرى، ولكن يبدو أن الغمامة منقشعة،فإن الرسل المزعومين الذين انبعثوا من تلقاء أنفسهم بعد بعثة خاتم النبيين محمد عليه صلوات الله والملائكة والناس أجمعين، أولئك الرسل كذب بعضهم بعضا، أولئك يلعنهمالله ويلعنهم اللاعنون، أولئك ذوو الآفات أرادوا الناس جميعاً على أن يكونوا زمني أمثالهم.
/ صفحه 209 /قلت: على رسلك يا سيدي الشيخ، من كفر فعليه كفره،وليزيدنهم ربك طغيانا وكفرا، ومهما يكن شأن ملاحدة النصف الغربي من الكرة الأرضية فان أثر إلحادهم وتشككهم وتشكيكهم إلى آخر أوجه الفساد والإفساد في أمور العقيدةوغيرها من شؤون العباد، كان أثراً ضئيلا في الإسلام والمسلمين، فما كان سوادنا قط ولن يكون فيما أعتقد من أتباع الفلسفة الوضعية ولا غيرها من الفلسفات الجديدة، سواءاتصلت بالمعتقدات أو بالسيرة الاجتماعية: تستطيعون أن تتحدثوا عن فلان أو علان ممن خلبهم بريق الفوضوية الفكرية والخلقية من وجودية وغير وجودية من المذاهب الشاذة التييعجز معتنقوها أنفسهم أن يدافعوا عنها، بل إن كثيرين منهم ليستحيون من أنهم إليها ينتمون، فلا تتبينهم إلا في مناسبات معينة كما كان المنافقون الأولون يستبينون على عهدالرسول الأمين إذا ذهب الخوف، أو بتعبير أعم إذا تحققت الحال التي يتأكد لهم معها أنه لن يلحقهم ضرر، ولن تفوتهم منفعة جراء ظهور نفاقهم، إن فلانا وعلانا وأضرابهما لايمثلون إلا قلة قليلة في العالم الإسلامي كله لا يؤبه لها ولا يعتد بها. لست أعنى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأننا نحن المسلمين في أحسن حال، وإنما أعنى أن الذينفسدوا منا بسبب المعرفة الجاهلة أو سمها الجهالة المتعالمة قليلون يعدون على أصابع اليدين والرجلين، فأما الفساد العام الذي شمل الأمة جمعاء فان له علة وحيدة ليست فلسفةولا شهوة ولا فاحشة أيا كان لونها مما تواطأت الناس على تسميته فواحش … علة وحيدة غفل المسلمون عنها ـ على خطورتها ـ مدى قرون طويلة أخذهم النوم فناموا عنها ثم نامواوطاب لهم النوم فاستغرفوا فيه ثم استغرقوا، ولكن جماعة من جملة النائمين استيقظت آخر الأمر، وهي الان مشغولة وستظل مشغولة أبد الدهر أو يستيقظ النائمون فيصحوا ويصيحوا،أعنى أنهم يبرءون من داء النوم.
قال: ليس بمحاورك حاجة إلى الذكاء كي يدرك أنك لا تعني بتلك العلة الوحيدة غير تفرق الكلمة التي ما نهض الإسلام ولا استقام على طريقتهإلا لأنها كانت مجتمعة.
قلت: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهممن بعد
/ صفحه 210 /خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون. هذا وعد بل عقد شبيه بذلك الذي اشترى به سبحانه وتعالى منالمؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فكل مؤمن تطيب نفسه عن بذلها وبذل ماله في سبيل الله له الجنة، وله أن يستبشر ببيعه الذي يقتضي ثمنه في الدار الآخرة، ولكنالإسلام دنيا قبل أن يكون أخرى، فكيف تنتظم أمورنا في الحياة الدنيا؟ ذلك هو محل الوعد أو العقد سألف الذكر إيمان وعمل صالح، ذانك هما الالتزامان اللذان شاء الله أنيلتزمهما المسلمون باعتبارهم هيئة اجتماعية، أعنى أنه تكليف للمجموع فإذا وفينا وأبرأنا الذمة فان المقابل هو الاستخلاف في الأرض وتمكين الدين فيها وإبدال الخوف أمنا،وتالله لقد برئت الذمة، ونصر جنده وأنجز وعده. فكنا خلفاء الأرض وملأناها عدلا بعد أن أتى عليها الجور أو كاد قبل أن يكرم الله العباد برسالة النبي الأمي الذي وجده أهلالكتاب مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل، ويضرب الدهر من ضرباته فإذا الخلفاء مستخلف عليهم، وإذا الدين المتمكن موشك أن يتهدم، وإذا الأمن خوف والمسلمون يتخطفهم الناسمن حولهم، أفليست هذه حالنا حقيقة لا مجازاً، فلماذا؟.
قال: الجواب يكاد يفصح عن نفسه دون حاجة إلى لسان أو قلم فاستمع إلى لسان الحال وخلاك ذم. فلماذا لماذا تلك التيقدمت؟ إنه عقد أو وعد نفذ واستمر تنفيذه حتى أخل به أحد الطرفين فكان جد طبعي أن يستعمل الطرف الآخر حقه فيقف التنفيذ. لابد إذا أن أحد الالتزامين أو كليهما ـ الإيمانوالعمل الصالح ـ قد قصر أو وهن فليس من الجائز أن يخلف الله وعداً أو ينقض عقداً إلا أن يقتضي عدله الإلهي وقف التنفيذ أو ما هو أدهى وأمر.
قلت: كان أكثر المسلمين حتى فيأيام خاتم الانبياء والمرسلين منطبقاً عليه قول أصدق القائلين: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئاً فليس شك في أن الناس المستكملة إنسيانيتهم قلة فيكل زمان: وآدم نفسه عهد الله إليه فنسى: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما .
/ صفحه 211/فما الذي طرأ على المسلمين حتى يأخذهم سبحانه وتعالى بماأخذهم به في الدنيا قبل الآخرة فالمساجد مليئة، والحاج يزداد عاما بعد عام، وكذلك الحال في سائر الطاعات التي تقع تحت المراقبة الحسية، اللهم إلا أن تكون النفوس قد تغيرتفان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
قال: أولا يقع تحت المراقبة الحسية أن نرى المسلمين مجتمعة كلمتهم أو منشقة عصاهم، دعني من الصلاة والصوم ـ ولست أعنىبطبيعة الحال الإقلال من شأنهما ـ وإنما أعنى بعض ما قاله حجة الإسلام في قرننا هذا ـ واعفني من ذكر اسمه (لقد كان الإسلام ولم تكن صلاة ولا صوم). اجمع كلمة المسلمين تجدهمخلفاء الأرض وأعلامها في الطول والعرض، إن عزة الإسلام رهينة التقريب، تقريب المتباعدين، وهم إخوة المبددين أمماً ضعيفة ذليلة، وهم الأمة الواحدة القوية الأبية.
قلت: منى إن تكن يوما تكن أحسن المنى
والا فقد عشنا بها زمنا رغدا
والا فقد عشنا بها زمنا رغدا
والا فقد عشنا بها زمنا رغدا
قلت: حين كنا ولا تسل كيف كنا: شطر بيت لعله لتأبط شراًفنحن فيه …؟
قال: أو هذه ألفاظ وتركيب يمكن أن يعزيا إليه؟ إنه لجهد ضائع إذا عجزت أن تميز أسلوب صعلوكنا الشهير … فإلى فرصة أخرى نستنقد فيها باقي هذا الحديث.