قال شيخي
لحضرة الكاتب الفاضل الأستاذ أحمد محمد بريريوقالوا لها لا تنكحيه فإنه لأول نصل إن يلاقي مجمعاً فلم تر من رأى قتيلا وحاذرت تأيمها من لابس الليل أروعا تقدم اليها خاطباً فرجعت إلى ذويها تسألهم ماذا يرون؟ فقالوا: كلا لا تتزوجيه. فهو هامة اليوم أو غد مطلوببثارات كثيرة. فحينه لابد حائن. أفتريدين أن تصبحي عروساً أيما؟ نصحوا لها فانتصحت. وردت لابس الليل هذا الأروع الذي يرى أنها أخطأت فلم تتبع أحسن الرأى.
قلت: بل رأتعين الصواب. فخطل الرأي أن تضرب خباءها على رجل روحه ليس ملكا خالصاً له. وإنما فيه شركاء متشاكسون. كل منهم يدعيه. فأما هي فليس لها إلا الجثة الهامدة تدعيها إن شاءت. قال: رويدك بعض غلوائك. فما كانت المقادير لتجري وفق مشيئة الموتورين. أولئك الذين ودوا لو كان لتأبط شراً ألف روح يزهقونها ثم يعيدونها إلى الوجود ليزهقوها مرة أخرى.فلست أشك ان حقدهم عليه كان عنيفاً إلى درجة إبطال العفو وإلغاء الرحمة. وكل إحساس أو شعور يمكن أن تتضمنه الإنسانية حسب مفهومها الان. إن المقادير تجري في اعنتها. وفققضاء الله سبحانه وتعالى وبمقتضى حكمته. وقد تكون واتراً يتطلب دمك آلاف الناس. ولكنك مع هذا تغدو وتروح ما شاء الله من السنين تلو السنين. لا يلحقك مكروه، ثم تموت علىسريرك. وقد تكون بريئاً لم تجن على أحد، معافي في بدنك. لا مرض يقلقك ولا هم يؤرقك فتأخذك سكتة قلبية أو إصابة عرضية. ما كنت لها غرضا في ظاهر الأمر وإن كانت لك قدراًمقدوراً
/ صفحه 288/في باطنه، إذن فتأبط شراً كان مصيباً حين اتهم رأى تلك المرأة: فهي حقاً لم تر من رأى قتيلا إذ خشيت تأميها من رجل شجاع كان حريا ان تقر بهعيناً وتطيب نفساً.
قلت: هذا من حيث النظر، فأما من حيث واقع الأمر فلله ما أصدق فراستها... أصبحوا ذاك يوم فوجدوه قتيلا بين الصخور تتنافس فيه سباع السماء والارض. قال: لكأنك كنت في الجي معهم وحفظت تاريخ الخطبة وتاريخ مصرعه، فكان الفرق الزمني بينهما قصيراً إلى حد يحملك على التعجب من فراسه تلك التي كانت تقراً عن ظهر الغيب... ياهذا. لا تأخذ الأمور هكذا في نزق كأنك ما زلت في ميعة الصبا بل الطفولة. حيث لا تبعة في قول ولا عمل.
قلت: يعلم الله أني ضربت في مفازة الكهولة ولكنكم مع هذا تجدوننيأجهل روابط العلل بمعلولاتها.
قال: ليس ذلك ببدع. وإنما هي جد الانسان مذكان. وسيظل كذلك أبداً. ما إن يعلم علماً جديداً حتى يتبين له أن جهله أكثف مما كان يتصور. إنهمحين نزل قوله تعالى: وما اوتيتم من العلم إلا قليلا لم يكونوا يقدرون تلك القلة كما نقدرها نحن الآن. ولا ريب أن من سيعمرون الارض بعدنا سيكونون أصدق منا قدراً. على أن ثمحقيقة واضحة ما يزيدها كر الغداة ومر العشى إلا وضوحاً. ذلك أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.. رحم الله أبا حامد الغزالي. لقد بسط هذه المسألة وزادها أيضاحاً حتى لكأنه أبوعذرتها.
قلت: مدى علمي أنه لم يبسطها ولم يبينها التبيين الشافي بدليل ما أثارت بعده من جدل عنيف بين أصحاب الكلام. فهذا يرفضها في إصرار وذاك يقبلها في اقتناع. وماأحسب أحداً جاء فيها بفصل الخطاب حتى كان ليبنتس ففصلها تفصيلا. ثم أجمل بيانه الشافي في عبارة لعلها في الغرب أشهر من عبارة الغزالي في الشرق.. قال ليبنتس: كل شئ أحسن فيأحسن كون ممكن. يعني أولا: أنه سبحانه وتعالى عرض كل الأكوان الممكنة حال ثبوتها في ظلمة العدم. ثم اختار
/ صفحه 289 /أحسنها فأخرجه إلى حين الوجود. إن صورةالوجود القائمة واحدة من ألوف أو ألوف ألوف لا يحيط بها إلا المحيط بكل شئ جل جلاله. ولا شك أن هذه الصورة التي أخرجها بارئ السماوات والأرض هي أحسن الصور جميعاً وأتمها.
ثانياً: هذا الكون الذي خلقه الله فأتمه في أحسن صورة ليس جامداً. بل متطور وهو في تطوره متحرك أبداً من طور إلى طور أحسن. إنه آخذ في التحسن ما دامت السماوات والأرض.هذا خلق الله فتبارك الله أحسن الخالقين.
قال: مع قدر ليبنتس حق قدره. لا أراه أضاف جديداً إلى عبارة ليس في الامكان أبدع مما كان. ولكنه التفكير والتعبير شاء الله أنيفترقا: فهنا المنهج القرآني. ثم المنهج اليوناني أو اللاتيني فأنت حين تسمع قوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا . وتتجه اتجاه الفطرة مهتديا بها وحدها تجدكقد حصلت على مدلول العبارة تاما لا ينقصه ذرة. في حين أنك لو اتبعت المنهج اليوناني أو اللاتيني لوجدتك مضطراً إلى أن تمهد للموضوع بمقدمة ثم تقسمه ما شاء الله من التقسيمالمنطقي ثم تنتهي إلى خاتمة.. أفتراك آخر الأمر قد حصلت على أكثر ما حصلت عليه بالطريق القرآني العربي غير ذي العوج؟ كلا. فأما أن تكون حصلت على أقل. فمحتمل.
قلت: اخشىأن يعوج بنا السبيل فنخرج عما نحن بصدده. فإن مفكري الغرب أو بعضهم لم يتقبلوا كلمة ليبنتس قبولا حسنا، فذاك فولتير مثلا يطلع على الناس بقصته المشهورة كانديد وفيهاتتوالي المحن والخطوب على الفتى وصاحبته وغيرهما من شخوص الرواية توالياً تبدو معه الحياة سلسلة من الشقاء. أو شيئاً بغيضاً لا ريب أن العدم خير منه.. والخلاصة فيما يرىفولتير أن كل شئ هو الأسوأ في أسواء كون ممكن وفولتير كما تعلمون كان فتنة للعالمين.. ومع هذا لم تلبث الفتنة أن نامت، ولم يلبث أولو الألباب أن تبينوا أن فولتير كان أهوجنزقا. يلعب ألفعاب سحرية على سطح الماء ويسخر من رجل لا تراه النظارة فهو ثم يخبر خبر الأعماق. إن الفرنسيين أنفسهم على ما بهم من عصبية وحمية هي حمية الجاهلية وبخاصةإزاء
/ صفحه 290/ألمانيا وكل ما هو ألماني؛ تجدهم الآن يسلمون أن صاحبهم فولتير كان غراً أحمق بالقياس إلى ليبنتس الألماني العلامة المحقق.
قال: ليكن يومامن أيامك التي تبدو فيها شيخ شيخك فماذا عن ليبنتس أيضا. أباق منه بقية؟
قلت: إنه عقل شامل من تلك العقول النادرة التي تجيئ على فترة ممن سبق. وما أحسبنا تدبرنا واحدةمما فكر وابتكر على كثرته حتى نقول بقية منه، وأكبر الظن عندي أن أهم ما يعنيكم منه هو المشروع الضخم الذي حاول مع بوسوي ان يضعه موضع التنفيذ: إنه مشروع جمع كلمةالمسيحية التي عدت عليها الطائفية. فشتتتها شيعاً ومذاهب وهي في الحقيقة أمة واحدة لو كانوا يعلمون.
قال: حسبي منك ومن ليبنتس. فهو على كل حال رجل استقام على طريقالفطرة. فأنت تعلم أن الانسان يولد والملة السمحة ملته. وإنما يهوده أو ينصره أبواه. أي ينحرفان به عن سواء السبيل. أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه. كذلك وصى الله نوحاوإبراهيم وموسى وعيسى.
قلت: هذا أمر لا شك فيه. ولكن تبقى المسألة الكبرى وهي: أكان قبل رسالة محمد
(صلى الله عليه وآله وسلم)
رسالة عامة إلى الناس كافة.
قال:أنت ـ مسلما ـ لا يجوز أن تسأل هذا السؤال فإنك لتعلم من تاريخ الرسالات أنها بدأت خاصة. أفلم يصطف سبحانه وتعالى بني إسرائيل؟ بلى ولقد فضلهم على العالمين. نحن شعب اللهالمختار. كذلك كانوا يقولون. وما كانوا كاذبين. هم وحدهم يعبدون الله وحده وسائر الناس من حولهم وثنيون. ولكن سنة الله كما يقال بحق صاحبك ليبنتس أن يتطور كل شئ إلى أحسن.فهذا الخصوص لابد مستحيل عموما.. على أن الخصوص العموم نهايتان بينهما برزخ هو فيما أعتقد رسالة عيسى (عليه السلام)ـ لقد جاء ـ كما قال: ورسولا إلى بني إسرائيل أني قدجئتكم بآية من ربكم. أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله.
وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون
/ صفحه 291 /في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين. ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم. وجئتكم بآية من ربكم. فاتقو الله وأطيعون.إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم . ومع كونه إنما جاء رسولا لبني إسرائيل. لم تكن دعوته لتمنع غيرهم من بني آدم أن يدخلوا في دين الله. بل إن تلاميذه بعد أن رفعهالله إليه تفرقوا في الآفاق. يدعون الناس إلى الله ويبشرونهم بمغفرة منه ورضوان. فكذلك هيأ الله سبحانه وتعالى الكون للنبأ العظيم الذي صدع به خاتم الانبياء والمرسلينالمرسل للناس كافة بل للثقلين محمد عليه صلوات الله والملائكة والناس أجمعين... لا إله إلا الله محمد رسول الله. ذلك الدين القيم. دين الله ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلنيقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين . ولو شاء ربك لأسلم من في الارض جميعاً. لكنه جلت حكمته أراد أن يكون له عباد مسلمون هم الأمة الإسلامية. أمة واحدة يجمعها معبود واحدهو الذي ألف بين قلوبها فمن لم يجد في قلبه هذا الشعور القدسي: شعور أنه ذرة من شجرة مباركة اصلها ثابت وفرعها في السماء، وأنه ـ مستقلا أو منفصلا عنها ـ عدم أو أسوأ منالعدم فلست أدري. أمسلم هو؟ إن وحدة الامة الإسلامية هي الإسلام. أعنى عنصراً أصيلا من كينونته على خلاف سائر الملل والنحل الأخر... فقل لليبنتس ماذا أنت قائل لمن يسمونهمالمحتجين. وهم في الواقع أصحاب حجة قوية غير قابل للنقض بالقياس إلى الكثلكة... وإذا سلمنا جدلا أنه مستطيع جمع شمل أولئك وهؤلاء فماذا تراه صانعاً مع أصحاب نسطور القائلين بأن المسيح
(عليه السلام)لي إلا رجلا حلت به كلمة الله. ومريم إنما كانت أم إنسان لا أم إله. فيجب أن تسمى أم المسيح لا أم الله.
قلت: عجيب أمر نسطور هذا.فتراه جاء بعد عهد الاصلاح.
قال: بل قبله بقرون عديدة.. ولد بسورية وكان بطريرك قسطنطينية حتى سنة 431 ميلادية، ومات بليبيا نحو سنة 440 ميلادية.. فأنت ترى ما بينهم من خلافإنما ينصب على أصل العقيدة بله الفروع وما إليها. فالتقريب بينها متجاوز
/ صفحه 292/حين الإمكان لا محالة. فأما الأمة الإسلامية أمة التوحيد الأمة الواحدة فإنالأمر فيها على النقيض مهما شجر بينهم من خلاف ومهما تعددت بهم المذاهب فإن التبعيد بينهم متجاوز حين الإمكان ذلك بأنهم إن فعلوا خرجوا على أصول العقيدة.
قلت: أمةواحدة ولكنه سبحانه وتعالى قطعها في الأرض أمما.
قال: بما كسبت أيديها. ولقد عفا عن كثير فما كان تعالى ليضل قوماً بعد إذ هداهم. وما كان مغيراً ما بقوم حتى يغيروا مابأنفسهم.
قلت: لو عرفنا أصل الداء لنشدنا الدواء.
قال: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علواً كبيراً. فإذا جاء وعد أولاهما بعثناعليكم عباداً لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً. إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكموإن أسأتم فلها. فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا. عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرينحصيرا .
قلت: أولئك بنو إسرائيل. وهم لنا عدو مبين والله المسئول أن يكون قد اقترب وعد الآخرة.
قال: ما كان القرآن الكريم كتاب تاريخ وما كان قصصه الحق مجرد تسجيللوقائع قد خلت من قبل وإنما هي عبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ودروس اجتماعية يفيد منها من سبقت لهم الحسنى ويعرض عنها من حقت عليهم الأخرى وما ربك للعبيد. عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا . أفتراها لبني إسرائيل خاصة؟ إنها للمجتمع في دورانه الدائب في إحدى اثنتين صحة العقيدة والعمل الصالح. هذه واحدة والثانية الفساد فيكليهما. وما دام المسلمون غير مستجيبين لداعي الوحدة فهو الفساد في كليهما. وهم والله للذين كفروا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
قلت: عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر منعنده.
قال: فذاك وإن تكن الأخرى فشىء أحاذره ونحن على كل حال بقضائه راضون، وهو حسبنا ونعم الوكيل.