قال شيخي
لحضرة الكاتب الفاضل الأستاذ أحمد محمد بريري مقدمة من المحرر:
في هذا العام اختار الله تعالى إلى جوارهقطباً ربانيا من أقطاب الدعوة الى الله بالقدوة الصالحة، والمثل العملي، مفكراً من كبار ذوي العقول الثاقبة، والبصائر النيرة والعلم الغزير الذي لم تفسده الفروضالسقيمة، ولا المجادلات العقيمة، وإنما جلته الفطرة السليمة، والسليقة المستقيمة. ذلكم هو الرجل البار التقي النقي، السيد أبو الوفا الشرقاوي، طيب الله ثاره، ورضىعنه وأرضاه.
عزف هذا الرجل الكبير عن الدنيا عزوف الزاهد فيها، لا العاجز عنها، فقد كان يستطيع أن يكون من أعظم رجال المادة لو أراد، وكلنه آثر ما اختاره الله له: أنيكون روحاً هادياً، قبل أن يكون جسماً رائحاً وغاديا، فعاش ما عاش معتكفا متفكرا، يرسل شعاعه إلى الناس من خلال وصاياه ونصائحه ودعوته، ولا يلتقي به إلا الذين يراهمجديرين بلقائه ومودته، وما كان يبدو إلا في الحين بعد الحين، ليفعل خيراً، أو ينشر برا، أو يأمر بإصلاح بين الناس.
فكان الناس إذا رأوه استبشروا بطلعته، وتسابقوا إلىحضرته، وأجتمعوا على حديثه يتلقفونه تلقفا، ويتزاحمون عليه تزاحماً، كأن كل امرئ منهم يريده لنفسه فقط، حتى إذا عاد إلى معتكفه راحت الألسن تروي عنه، والعقول تتفهممقالاته، وتزن كلماته، وتدرس إشاراته.
/ صفحه 24/تلك كانت منزلة الشيخ أبي الوفاء، وإنا لنحتسب على الله أن ينزله منازل الصديقين والشهداء.
ولسنا ننسى ماكان منه يوم زاره سماحة أخيه العلامة الجليل السيد محمد تقي القمي السكرتير العام لجماعة التقريب ـ وكان له نعم الاخ الذي يعرف قدره، ويؤمن بدعوة التقريب التي ينادي بهاـ وكان ذلك في اليوم الحادي والعشرين من شهر شعبان المبارك سنة 1376 من هجرة خاتم المرسلين صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
لقد استقبل القطب الرباني،ضيفه المجاهد في الله استقبالا يدل على مكانته في نفسه، وعرفانه بحقه، فخرج يومئذ من معتكفه، ورآه الناس بعد غيبة طالت عنهم ينتقل معه من مكان إلى مكان، ويبالغ فيالحفاوة به وإكرامه، ثم لم يلبثا أن اعتكفا ليلتين فرغا فيهما إلى ذكر الله تفكراً وتدبراً ودعاء وتضرعاً.
لقد سمعت العلامة القمي يتحدث عن هذه الأيام، قبل وفاةهذا الإمام، فكان حديث الأخ الوفي عن أخيه الوفي، وكأنما كان هذا الاجتماع رمزاً إلى المؤازرة والتعاون بين القطبين الحبيبين، والداعيين إلى الله، كل بأسلوبه، وكأنماتم ذلك في شهر شعبان تهيؤا لاستقبال رمضان، وما رمضان إلا شهر الصفاء، وشهر النور، الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
ولو كان سماحة العلامةالأستاذ القمي بمصر الآن لاستزدناه من حديثه، أو استكتبناه عن تاريخه.
فحسبنا أن نقدم نفحة من نفحات روحه، استوحاها مريد من خاصة مريديه هو الأستاذ الكبير أحمد محمدبريري.. قال:
***
أما الشيخ أبو الوفاء الشرقاوي قطباً صوفياً ربانياً، فأنا أغلظ نفساً وأكثف من أن أعرض له . غير اني أشهد أني رأيت كبار القوم بين يديهمريدين لا يزيدون، وكذلك كبار العلماء ـ أهل الظاهر ـ تراهم في حضرة أبي الوفاء.
/ صفحه 25/طلبة علم غير منكرين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، وهواعلم حيث يجعل رسالته.
وأما الشيخ الشرقاوي عالما قرآنيا فقه كتاب الله، وفقه كل العلوم التي تمت إليه بسبب قريب أو بعيد، فلقد قال لي هو ـ غير مرة ـ إني أحسن الاستماعإليه والرواية عنه، وأن منهجي في الكتابة هو منهجه حين كان شابا وكهلا صحيح الجسم لا يعييه ان يكتب فكرته: ولقد كان ـ رضي الله عنه ـ إذ يقول هذا ـ يعلم أنه يرهقني من أمريعسراً، وأني أود لو وجدت نفقا في الأرض أو سلما في السماء كيما أهرب مما أسمع وأرى . فلقد كان له نظرة إذا تناولتك فهي البطشة الكبرى
أعلم أني أكتب غير متكلفإذا استقامت الفكرة في ذهني عبرت عنها بأول لفظ يردني أفتراه منهج الشيخ سلكته دون أن أشعر؟.
قال لي مرة: نحن مالكية أليس كذلك؟ وكان يبدو ناسيا حقيقة، إذ كانيسأل عن مذهبنا الموروث، وفي صعيد مصر تجد القرية الصغير مقتسمة بين مذهبين أو ثلاثة، وهذه القسمة ليست نتيجة الدراسة في الأزهر، بل قد تجد العشيرة أمية كلها، أو تغلبفيها الأمية، وهي مع هذا شافعية أو مالكية أو حنفية، ولم يكن نادراً ان تسمع رجلا أميا يقول فعلت كذا على مذهب الاحناف أو الشافعية، يعني على غير مذهبه بالنظر إلى يسرالمذهب الآخر في تلك المسألة.
وكذلك ترى في الحياة العاملة اختلاف أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين رحمة للعالمين، كما أرسل خاتم النبيين والمرسلين، إنه لوضعفطري طبعي لو تتلمذ فيه العلماء للعامة لكان خيراً وأهدى سبيلاً، ما في ذلك أدنى ريب.
ولم يكن سراً أن الشيخ أبا الوفاء الشرقاوي في عبادته ومعاملته إنما يرجع إلى الأصول لا إلى هذا المذهب أو ذاك، فليس عجيباً أن ينسى المذهب الذي ولد في رحابه، وبخاصة لأنها كانت تتسع لمذاهب متعددة متجاورة متعاونة كما أسلفت.
قال: إن صورةالاختلاف المذهبي اللطيفة التي تراها هنا في القرية كانت تنقلب إلى النقيض إذا يممت الأزهر وحلقات الدرس، لقد تغيرت الحال متدرجة
/ صفحه 26/منذ الحربالعالمية الاولى، أما قبل هذا التاريخ، وقبل إنشاء المعاهد الدينية حين كان طلبة العلم كلهم يقصدون إلى الأزهر في القاهرة، فقد كان الاختلاف المذهبي يعني عداوة تشتدأحياناً فلا يغني فيها ما كانوا يسمونه السلاح الأحمر فلا يكون بد من الرجوع إلى الهراوات الغليظة يحكمها طلبة العلم فيما شجر بينهم من خلاف، فتكون المواقع و الأيام فيوم كذا كانت الدائرة للمالكية على الحنفية، والأيام دول، فهؤلاء المنهزمون يتربصون الدوائر لعدوهم، وهم لابد ثائرون منتصفون.
قلت: ولكني كنت أسمع إخواننابمعهد أسيوط ـ وكان فيهم مخضرمون أدركوا القديم ـ يقولون: إن المالكية لم يذوقوا الهزيمة قط، وإن الحنفية على العكس لم يكونوا غير منهزمين قط، ذلك بأنهم كانوا مترفينناعمين لا يعنيهم إلا المظهر، فهم يتهيئون ليكونوا قضاة شرعيين على خلاف المالكية الذين كانوا لا يعنيهم إلا الجوهر، فهم يطلبون العلم للعلم لا لحطام الدنيا الذي هو عرضزائل، فأما الحنفية فما تحنفوا إلا ابتغاء الحياة الدنيا أو المال أو كما قال الشاعر المالكي:
تحنفتمو للمال تبغون جمعه فعما قريب تسحبون لمالك
لقد أعرضوا عنمذهب صاحب دار الهجرة، جار الرسول، مالك الذي لا يفتي وهو بالمدينة، فهم ـ جزاء وفاقا ـ مجرورون مسحوبون على وجوههم إلى مالك آخر لا يجدون عنده علماً ولا فتيا: إنه مالكخازن النار. قال: أصحابك بمعهد أسيوط لابد مالكية وأنت مالكي، وقد جمعتكم العصبية البدائية الساذجة، وإلا أفتراكم عند الله أوجه وأكرم وآثر من رسول الله صلى اللهعليه وآله وسلم؟ فلقد عرف الهزيمة وذاقها شر مذاق إنك لو كنت وكان أصحابك حنفية لكان لك حديث آخر تجمع فيه للحنفية إلى جمال المظهر صدق المخبر أو الجوهر، إنه لعجبحقا أي عجب ذلك الذين تمخض عنه اختلاف أئمة المسلمين، فهو ـ أصلا وحقيقة ـ توسيع وتيسير وفرج من حرج، يقول لك بعضهم: في شرح علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل إن علماء أمةمحمد صلى الله عليه وآله وسلم
/ صفحه 27/أنبياء بل رسل حيث إن أقوالهم تشريعات أو قوانين من التزم أحدها فلا حرج عليه، وإن كان مناقضا لمجتهد آخر. والمجتهد مصيبأبداً لا يجوز عليه الخطأ. فإذا اعترضت بأن المصيب له أجران وللمخطئ أجر واحد أجابك بأن الخطأ هنا ليس في عين الاجتهاد أو الحكم أو الرأي، بل في السند أو الدليل، فهو له أجرواحد لأنه قصر في البحث والاستقصاء، ولو أنه جهد أو اجتهد أكثر مما فعل لم يخطئ السند فهو موجود على كل حال، وقد يجده غيره ـ أحد تلاميذ الشيخ المجتهد الذي لم يوفق إلىأصل رأيه مثلا ـ فرأى صاحب هذا الرأي أن المجتهد ـ من حيث الاجتهاد ذاته والحكم الذي ينجم عنه ـ مصيب حتما ثم هو يزيدك أنه معنى وسطية الشريعة المحمدية تلك الخصيصةالعجيبة حقا، فهي ذات مصادر سابقة، وأخرى لاحقة، فالرسالات والكتب السماوية التي جاء القرآن مصدقا لها مصادر تشريعية لنا، وأقوال العلماء من أمة محمد صلى الله عليه وآلهوسلم كذلك هي مصادر تشريعية، فالملة السمحة لها ما قبلها: ما جاءت مصدقة له فهي منه وهو منها، إنه دين الله واحد مذ أرسل أول رسول حتى جاء سيدنا وآخرهم عليه الصلاةوالسلام، ولها ما بعدها مما جاء به أبناؤها الذين نشأوا تحت ظلها على انه مهما يكن الرأي في هذا الذي وسع على المسلمين بقدر ما أدى إليه اجتهاده، فإن الذي لا شك فيهأن اختلاف الرأي بين المسلمين إلى حد التضاد والتناقض تيسير ورحمة، ولكن ضيق الطعن ـ أو كما يقال الآن: ضيق الأفق ـ والعصبية وسوء النية وما شاء الله مما ابتلى بهالمسلمين قلب الفرج حرجاً.
قلت: لقد أتى على المسلمين حين من الدهر كانوا يستطعيون خلاله أن يتحللوا من ربق كثرة المذاهب فيدمجوها مذهباً واحداً يلتزمه المسلمونجميعاً.
قال: كالمستجير من الرمضاء النار! فهذه أسوأ من تلك.. لقد أراد أحد الخلفاء العباسيين مالكا رضي الله عنه على أن يلزم المسلمين مذهب مالك، وهو حسبهم فيما يرىالخليفة، ولكن مالكا رضي الله عنه كان باتاً في رفض هذا الذي عرضه الخليفة، ذلك بأنه لم ينس كما نسيت أنت الان، وكما نسى الخليفة حين ذاك
/ صفحه 28/أن اختلافالائمة رحمة، وأن الخير في ان تبقى المذاهب كلها متعاونة على البر والتقوى، هذا على أن مارضيه المنصور قد يأباه المتوكل، ولن يكون توحيد المذاهب إلا الفتنة الدائمة، فيحين أن بقاءها معاً تتنافس في الصالح العام وتستبق الخيرات هو الغاية التي ليس وراءها غاية إذا صلحت حال المسلمين، إن المعونة التي تتلقاها من مذهب غير مذهبك تكون أحياناضرورة اجتماعية، وأن صورة الاستعارة المذهبية البسيطة التي تراها في القرية يمكن أن تستغل في حيز أوسع. ولقد تم هذا بالفعل في حياتنا العملية، فلقد ظللنا هنا في مصر ألفسنة نقرر في الأزهر وغير الأزهر أن قوله سبحانه وتعالى في الوصية المفروضة: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت أن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا علىالمتقين فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم. فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا اثم عليه إن الله غفور رحيم نسخته آياتالميراث فلا وصية مفروضة بعد على ما ترى من سمات التوكيد والتشديد والتهديد والوعيد لمن خالف عن أمر الله هذا الذي فرضه، أو كما قال كتبه حقا على المتقين يأثمون إن بدلوه،بل إن على الوالي إذا هم أهملوه أو مالوا فيه بعض الميل أن يقيمه أو يعدله نيابة عن الموصى فهي وصية مفروضة. قلنا نسخت الوصية المفروضة، أي ألغيت، وأخذنا نبدي ونعيد فيمقولتنا هذه حتى تبين للشارع الوضعي أن الضرورة الاجتماعية تقتضي الوصية المفروضة فأخذها من فقه الشيعة الامامية.
وكان الذين صاغوها قانوناً وضعياً من علماء السنة،لا امامية ولا زيدية، وكان عملا مشكوراً، وتلك ثمرة اختلاف المذاهب.
إن مما اختصت به الشريعة الإسلامية أن أحكامها لا تسقط بعدم الاستعمال، كما هي الحال في القوانينالوضعية، فإن القاضي قد يمتنع عن تطبيق النص الذي لم يلغ إلا عن طريق عدم الاستعمال، إنها مسألة صالحة للأخذ والرد بين أصحاب القانون، فأما في الشريعة الإسلامية فإن النصيبقى في حال ثبوت، أعنى يبقى نائماً ألف سنة فإذا اقتضاه مقتض قام حديداً إنه لا الغاء في أحكام الملة السمحة، ولكنه
/ صفحه 29/ثبوت و حركة ما يزالانيتناوبان الأحكام حسب مقتضى الحال، أن السماحة وصف لزم ـ بحق ـ هذه الملة الإسلامية، ومن فقهها حق فقهها كانت السماحة جبلة فيه، يحكى عن أحد الصالحين من سلفنا أنه أقاممنسكا دينيا على خلاف الصورة التي يعرفها من اجتهاده، لأن مجتهداً آخر يرى غير رأيه كان ضيف البلد فرأى من باب التكريم والمجاملة للشيخ الضيف أن يتعبدوا على طريقته. إن الأصول الإسلامية ـ يعني أصول العقيدة لا أصول الفقه الاصطلاحية ـ واحدة لا يختلف فيها اثنان، والخلاف في الفروع هين أمره ومظهره، فإن غير المسلم إذا وجد مع جماعة منالمسلمين لكل منهم مذهبه فإنه لا يدرك هذه التفرقة المذهبية حين يراهم يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قلت: لقد قال لي عالم كبيرـ من هيئة كبار العلماء ـ أن التقريب بين المذاهب الإسلامية مستحيل عقلا. فإن المذهبين في المسألة أو المسائل يعني خلافاً في النظر، فأنت ترى الشيء أبيض، وأنا أراه أسودفكيف يقرب بيننا؟ هل نصطلح على أنه أزرق؟ إذا فعلنا أفلا ترانا نعبث؟
ضحك الشيخ مغرقا وقال: والتبعيد أيراه العالم الكبير مستحيلا أم ممكنا؟
لابد يراهممكنا، فكلامه هذا نفسه تبعيد، فلو أنت قلت: كل ما يمكن تبعيده يمكن تقريبه لاستقام لك ان النسبة بين المذاهب الإسلامية لأمر مشهور من حيث المصدر، ومن حيث الغاية، ومن حيثما شاء الله أن تنظر، إنك لو نظرت في المذهب الواحد ـ أي مذهب ـ مجرداً محللا لوجدته جملة مذاهب لقد اختلف المالكية في حال من لم يجد ماء ولا متيمما، وتمخض الخلاف عنأربعة مذاهب نظمها بعضهم:
ومن لم يجد ماء ولا متيمما فأربعة الأقوال يحكين مذهبا
يصلي ويقضي عكس ما قال مالك وأصبغ يقضي والأداء لأشهبا
أفترى التقريب بينأصحاب مالك ثم بينهم وبين مالك مستحيلا؟.
/ صفحه 30 /قلت: أيسر الأقوال في هذه المسألة قول مالك، فعنده أن من لم يجد ماء ولا متيمما لا يؤدي ولا يقضي ـ عكس يصليويقضي ـ وبعده يسرا قول أشهب يؤدي ولا يقضي.
قال: وقد يرى غيرك أن القضاء ولا أداء أيسر، وأن الأداء ثم القضاء أحوط، ولكن الجدير بالنظر حقا تسمية العمل نفسه التيمم أفلو قال سبحانه وتعالى: فاقصدوا بدل قوله: فتيمموا صعيداً طيباً كانوا يسمونه باب القصد والطيب مقابل الخيث من المعاني العامة التي يحدها المحل أو الموضوع فالأرض الطيبة من حيث الإنبات هي التي تنمو وتجود بنبتها على خلاف الخبيثة التي يخرج نباتها نكدا، فإذا كنت في باب الطهارة أو النظافة وعدمت الماء المطهرالأصلي، وأرادك سبحانه وتعالى على أن تستبدل به صعيداً طيباً أفليس واضحاً أن الصعيد الطيب بدل الماء لابد أن يكون له بعض خصائص المبدل منه من حيث المقصد ـ الطهارة أوالنظافة ـ أو تراك متطهرا إذا مسحت بالتراب وما أشبهه، إنك إذا مسحت وجهك ويديك بمنديل أو نحوه أزلت ذرات الغبار أو الهباء ولو كان الطهور ماء لكانت الطهارة أتم،ولكنك على كل حال تطهرت في حدود الامكان عكس ما تفعل لو مسحت بالتراب فإنك تضيف وضرا جديداً على آخر قديم، هذا على أننا خرجنا من موضوع حديثنا، فنحن في التقريب، وما كانالتيمم إلا شاهدا على تعدد المذاهب في المذهب الواحد، وعلى أنه لو صح أن المذهبية تجافي التقريب، وبالتالي تقتضي التبعيد إذن لوجب تبعيد أو إقصاء أصحاب مالك عن مالك،واصحاب أبي حنيفة عن أبي حنيفة، وأصحاب زيد ـ الزيدية من الشيعة ـ عن زيد، أذكر أول مرة رأيت فيها صاحب فكرة التقريب محمدا ـ يعني سماحة العلامة الاكبر القمي، ولم يكنيذكره إلا بإسمه المجرد وكان هذا في لغته يعني غاية التكريم، أخذ يتحدث إلى فأخذني العجب، إذ خيل لي أن نفسي تتحدث إلى نفسي، ان الفكر التي تختلج في ضميري هي هي التيأسمعها، ولو أني أفضيت بها إلى آخر ما عدوت أن أقول ما يقول
/ صفحه 31/قلت له: أين كنت يا أخي ومن أين جئت؟ إن هذا الذي تريد أن تطبقه في الحياة العاملة هوعين ما تنطوي عليه حياتي الباطنة، وما كنت بمستطيع أن أتجاوز به حيز الأماني القلبية.
إن تفرق كلمة المسلمين داء عياء كانت أسبابه القديمة وحدها كافية وفوق الكفايةكيما يكون المسلمون فتنة للذين كفروا، فكيف بهم وقد أضيف إلى القديم جديد أوجده وجد في دعمه ووصله بالقديم، ذلك الغرب الذي قضى الله ولا راد لقضائه أن يبتلى به هذا الشرق،على أن العلة ـ أصلا وحقيقة ـ شرقية داخلية إسلامية، فما كانت العوامل الخارجية لتجد سم الخياط أو ما دون سم الخياط تنفذ منه إلى جسم هذا الكائن الكبير الذي اسمه الأمةالإسلامية الواحدة لو تلاها المسلمون حق تلاوتها: إن هذه أمتكم أمة واحدة وانا ربكم فاعبدون ولكنك تقول أو قيل لك: إن التقريب بين المسلمين مستحيل عقلا وقضينا إلىبني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيراً. فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولى باس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا. ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً. إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجدكما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا .
قلت: أولئك بنو إسرائيل أفسدوا في الأرض مرتين فحقت عليهمكلمة العذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة.
قال: أفتراهم الآن حقت عليهم كلمة العذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة؟ إن البلاء أكبر البلاء لهو الذي يقع فيه الإنسان لا يراهواقعاً.
إن آيات الإسراء ليست في بني إسرائيل وحدهم، فليس القرآن كتاب تاريخ أو أخبار أو قصص لأنها قصص. إن الآيات في بني آدم، إنها تعبير عن قانون اجتماعي، إنهاالدورة المستمرة في كل مجتمع انساني من الفساد إلى الصلاح، أو من الصلاح إلى الفساد، فهي حلقة مفرغة لا يدرى أين طرفها بحكم أنه لا طرف لها.
/ صفحه 32/إنه لفسادفي جسم الأمة الإسلامية أن تتباعد خلاياه وتتنافر، في حين أن حقها وطبعها أن تتقارب وتتآزر، فهي إنما تعبر عن وحدة أو كل لا يصلح إلا ان تصلح أجزاؤه.
لقد حدثني أنت عنمؤلف أوروبي أو أمريكي تكلم عن دينين وأمتين هما المحمدية السنية من ناحية، والمحمدية الشيعية من الناحية الأخرى، والرجل معذور على كل حال، فأنت مهما تحاول اقناعه عنطريق النظرة الفاحصة الصادقة في أحكام الإسلام الذي لا يعرف المسلمين إلا امة واحدة تشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن نظرته هو في تاريخ المسلمين ماضيهموحاضرهم لحرية أن تريه الطائفية وفعلها فينا الأفاعيل، لقد قطعتنا أمما في الأرض هانت في أعين ذواتها قبل أن تهون في عيون الناس، والله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناسأنفسهم يظلمون.
إن وحدة الأمة الإسلامية لهي ما نستطيع أن نسميه بحق المسألة الإسلامية والوحدة لا تتحقق إلا أن يتقارب أولئك المتباعدون.
إن قطب الأمةالإسلامية لهو رجل ـ كل رجل ـ يفرع قبله ويخلص لشئون الوحدة ووسائلها وما يمكن أن يؤدي إليها: إنه قطب المسألة تدور فيه أو حواليه وحدها.
أكتب في رسالة الإسلام واسهمفي التقريب بين طوائف الأمة الإسلامية ـ ما استطعت إلى ذلك سبيلا ـ إنه العمل الصالح الذي تستطيع أن تنهض بعبئه على قدر طاقتك، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
إنهذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً .