كيف يستعيد المسلمون وحدتهم وتناصرهم
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد عرفهعضوجماعة كبار العلماء ذكرنا في العدد الماضي أن الأخوة الإسلامية لعبت دوراً عظيما في تاريخ المسلمين، وقد لعبت هذا الدور وجوداً وعدما، فحين كانت قويةونامية أثرت اتحاد المسلمين وتناصرهم، فكانوا كتلة واحدة يردون عدوان أعدائهم، ويحتفظون ببلادهم وكيانهم، وحين كانت ضعيفة هزيلة أثرت تفكك المسلمين وتخاذلهم، فأخذهمأعداؤهم أفراداً، وتغلبوا عليهم أشلاء، واقتطعوا بلادهم قطعة قطعة.
وقد جعلنا الأندلس مثلا للحالتين، ولكننا أجملنا القول إجمالا، ولم نذكر الأشخاص والوقائع، وقدرأينا أننا لو فصلنا القول بعض التفصيل، وذكرنا الوقائع وأسماء الأشخاص كان ذلك أبلغ في القول، وأجدى في العظة، وأعون على أن يفهم المسلمون موقفهم، وأن يكونوا بصراءبأمسهم ويومهم وغدهم.
افتتح المسلمون الأندلس فبدءوا أقوياء، وقامت لهم بها دولة ذات حضارة ومنعة ظلت بضعة قرون.
ولما سقطت هذه الدولة القوية انقسمت الأندلس إلىدويلات صغيرة حتى كان لكل بلدة أو عدة بلاد أميرها المستقل، متخذا لقب الملك أو الأمير، فكان بنو عباد أمراء إشبيلية وما جاورها، وكان الأدارسة أو بنو حمود في جنوب / صفحه 254/أسبانيا وحالفهم أمير غرناطة، وكان بنو ذي النون في طليطلة وما جاورها وأواسط أسبانيا، وكان بنو عامر في بلنسيه ومرسيه، وكان بنو هود سادة سرقسطة.
وقد قال شاعرهم يصف هذا التفرق وهذا الانقسام:
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صورةالأسد
أسماء معتضد فيها ومعتمد
كالهر يحكي انتفاخا صورةالأسد
كالهر يحكي انتفاخا صورةالأسد
خالفوا نظام الأخوة الإسلامية وما يجب لها، وانتهكوا دستورها، كان من دستورها أن كلالمسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، وإذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، وكان المقتول في النار لأنه كان حريصا على قتل أخيه.
وكان من دستورالأخوة الإسلامية أن المسلمين تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، فخالفوا هذا الدستور وكانوا مع من سواهم يداً عليهم، فقد كانوا يتحالفون مع ملوكالنصارى على جيرانهم من المسلمين، وإن سقوط طليطلة ليبين لنا كثيراً من المخازي التي ارتكبها أمراء المسلمين، وكيف أنهم عاونوا على ضياع ملكهم وثل عرشهم، وكانوا أعظمأثراً في جلب الخراب على أنفسهم من أعدائهم النصارى.
إن الذي افتتح طليطلة هو الفونسو ملك قشتالة، وكانت تجمعه ببني ذي النون أصحاب طليطلة روابط متينة من الصداقة،وكان سببها أن أخاه ساتشو طارده وتعقبه، فلجأ إلى بني ذي النون في طليطلة فوجد عندهم ملجأ حصينا، وأضفوا عليه حمايتهم حتى نجا من أخيه، ولما آل إليه الملك عقد مع ملكطليطلة معاهدة
/ صفحه 255/وقد أقسم أن يعاون أبناء ذي النون على الاحتفاظ بملكهم، وقد غدر بالعهود المعقودة، والمواثيق المكتوبة، وحاصر أصدقاءه الذين حموهمن أخيه في طليطلة عندما واتته الفرصة، وكان لجوءه إلى طليطلة معينا له على فتحها لأنه أصبح عارفا بها وبمسالكها وبالأماكن الضعيفة التي تؤتى منها، فكان ملوك طليطلةبحمايتهم الفونسو يشحذون المدى التي سيذبحون بها، ويصنعون القيود التي سيكبلون فيها.
هذه واحدة، والثانية أن المعتمد بن عباد ملك إشبيلية كان شديد الطمع في أن تخضعله الأندلس المسلمة كلها، وكان في ذلك الوقت يريد أن يملك غرناطة وسرقسطة وبطليوس، ولن يستطيع ذلك وهو يخاف الفونسو ملك قشتالة، فسعى لعقد معاهدة معه فأرسل مفاوضهالوزير ابن عمار ففاز بعقد هذه المعاهدة، وقد تعهد فيها الفونسو أن يعاون أمير إشبيلية بالجند المرتزقة في حرب جميع أعدائه من المسلمين، وتعهد المعتمد في مقابل ذلك أنيدفع إلى ملك قشتالة مقادير كبيرة من المال، وألا يعترض مشروع الفونسو في افتتحاح طليطلة، وهكذا ضحى المعتمد ابن عباد بمعقل الأندلس في نظير أن يفوز ببضع إمارات. ولقد اقتنع المعتمد بعد، أنه بمعاهدته تلك كان يعين ملك النصارى على نفسه وعلى جميع المسلمين في الأندلس، فإنه رأى الفونسو ما كاد يفتح عاصمة القوط القديمة طليطلة فيالسابع والعشرين من المحرم سنة 478 هـ، وعادت إلى حظيرة النصرانية بعد أن مكثت في حكم الإسلام ثلاثمائة واثنتين وسبعين سنة، حتى اتخذها عاصمة ملكه وتطلعت نفسه إلى امتلاكغيرها حتى ما كان تحت يد ابن عباد فجزع المعتمد وساوره الندم على تحالفه مع ملك النصارى، وعاد باللوم والتعنيف على وزيره ابن عمار الذي عقد هذا الحلف، وقبض عليه والقاه فيالسجن ثم قتله بيده، ولكن هذا الجزع لم يرد فائتا، فقد نفذ القضاء، وأعانوا عدوهم على أنفسهم، وجدعوا أنوفهم بأيديهم وخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم المتحفزين. أخذ الفونسو بعد ذلك يوغل فتحاً في بلاد المسلمين، وهنا رأى أمراء المسلمين الخطر المحدق بهم، ورأوا شبح السقوط ماثلا بين أعينهم فاتحدوا لأول مرة في
/ صفحه256/تاريخهم الطويل، ولما كانت قواهم مجتمعة لا تكفي لرد النصارى فقد اتفقت كلمتهم على أن يستعينوا بالمرابطين ملوك إفريقية، وأن يستنجدوا بإخوانهم المسلمينفكتبوا كتاباً ووقعوه إلى ملك المرابطين يوسف بن تاشفين، وقد ذكروا فيه أن انهيار سلطان المسلمين في الأندلس لا يرجع إلا إلى تفرقهم وتخاذلهم، وأنه بينا يقوى النصارىبالاتحاد وينتزعون أراضي المسلمين ومعاقلهم بالعنف والخديعة، وبالوعيد والوعد، وبالسيف والإقناع، إذ بقوى المسلمين تنضب يوما بعد يوم وقد غصت المساجد بالقساوسة منأعداء الدين، ونشرت الطلبان فوق المنائر التي كان يؤذن فيها من قبل، وأخذت النواقيس تقرع بالقداس بعد أن كان يدعى للصلاة ويختتمون كتابهم بقولهم: إن يوسف قد غدا، معقدالآمال، وإنهم يعتقدون أن الله قد اصطفاه لإنقاذ الإسلام.
وصل الكتاب إلى زعيم المرابطين، وكان مؤمنا قوي الايمان، وكان محنكا قد حنكته السنون، ووعظته التجارب فحفزهإيمانه، إلى نجدة إخوانه المؤمنين وحملته تجاربه إلى أن ينظر في العواقب، والى أن يأخذ بالثقة لجيشه الذي سيرمي به إلى جزيرة الأندلس، فطلب من أمير إشبيلية أن يعطيه حصنالجزيرة ليضع فيه حامية مخلصة لتكون ملجأ له إذا هزم، ويكون على اتصال دائم بملكه في إفريقية، فتردد في ذلك المعتمد بن عباد، ولكن حدث في أثناء ذلك أن الفونس أرسل إلىالمعتمد يطلب الجزية كعادته، وأرسل يهودياً ينقدها فيرد الزائف ويأخذ الصحيح، وقد اشتط اليهودي فرد على المعتمد بعض ما أداه بحجة أنه زائف فلجأ إلى السفير، فقال: أعطبدلها سفنا تجري في البحر، فاستشاط المعتمد غضبا وقتل اليهودي والسفير وثلاثمائة كانوا معه، ثم ندم على فعلته، ورأي أن الفونس لابد منتقم منه فعجل بتسليم الحصن إلى يوسفبن تاشفين، وكان ابنه يعارضه في الالتجاء إلى المرابطين ويخوفه العاقبة، فقال له يا بني: إني لاوثر أن أرعى الجمال عند يوسف بن تاشفين على أن أرعى الخنازير عند الفونسو،ثم أرسل إلى ابن تاشفين بالموافقة على تسليم حصن الجزيرة، وفي شهر ربيع الآخر سنة 479 من الهجرة
/ صفحه 257/عبر يوسف بن تاشفين بجيشه من سبتة، وما كادت السفنتنشر قلاعها حتى صعد يوسف إلى مقدم سفينته وبسط ذراعيه نحو السماء ودعا ربه قائلا: اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيراً وصلاحا للمسلمين فسهل على جواز هذا البحر، وإنكان غير ذلك فصعبه حتى لا أجوزه .
وتقول الروايات إن البحر ما لبث أن هدأ وسارت السفن في ريح طيبة حتى عبر يوسف إلى شاطئ الأندلس، وليس يعنينا إلا هذا الدعاء الذي دعابه يوسف والذي يدل على قوة الايمان، وعلى أنه كان خالص النية في نجدة المسلمين، وأنه كان لا يريد مالا ولا ملكا جديدا، وإنما حفزته هذه العقيدة الإسلامية الراسخة وإناستنصروكم في الدين فعليكم النصر .
بينما المسلمون في الأندلس قد ملأ قلوبهم الرعب من مهاجمة الفونسو لحصونهم وتوقعهم النكبة، وإذا بجيش المرابطين يهبط الأندلس كماتهبط العافية على جسد السقيم، ويأخذ يوسف في ترتيب الجيوش، ويأمر الجيوش الأندلسية بأن تأخذ مواقعها ويرحل هو بجيشه حتى ينزل بسهل يسمى الزلاقة على قيد بضعة أميال منبطليوس.
وكان الفونسو قد جمع جموعه واصطلح مع ملوك النصارى الآخرين وعاونته جنود من جنوب فرنسا، وتقابل الجيشان في هذا الموضع، وكان كلاهما يقدر بمائة وثمانين ألفمقاتل.
وقد أرسل يوسف إلى الفوسنو يخيره بين الإسلام أو الجزية أو القتال، فأرسل إليه يخبره أن اليوم الخميس وغداً الجمعة وهو عيدكم، وبعد غد السبت وهو عيد اليهود،وبعده الأحد وهو عيد النصارى، والموعد يوم الاثنين، ولكن المعتمد بن عباد كان يعلم غدر الفونسو فأخذ الحيطة ولم يستنم إلى هذا الوعد، وإذا بجيش الفونسو يهاجم في صبيحةيوم الجمعة، فلم يباغتهم ولم يأخذهم على غرة، والتحم الجيشان، وكان يوسف قد ألقى بعشرة آلاف فارس من جيشه
/ صفحه 258/في المعركة بقيادة قائده الشجاع داودبن عائشة، ورابط بسائر جيشه خلف ربوة فلم يعلم به الفونسو وظن أنه قد خاض المعركة مع قوى الأعداء جميعها، فبذل أقصى وسعه، وثبت له المعتمد بن عباد مع جيشه وأبلى بلاءحسنا، وقد راع الأمراء الأندلسيين منظر جيوش النصارى وهم في دروعهم الحديدية ينقضون بسيوفهم كالبرق الخاطف فلاذوا بالفرار، وثبت المعتمد وجيش المرابطين بقيادة ابنعائشة حتى حمى القتل وكثرت جيوش النصارى، فانهزم المعتمد بجيشه وتبعه الفونسو وأيقن بالنصر فبذل أقصى جهده.
وفي هذه الآونة الحاسمة ألقى يوسف ببقية جيش المرابطين فيالمعركة فانقضت على معسكر الفونس وأحدقت به وفتكت بجميع حراسه واستولت على جميع ما فيه من نفائس، وأحرقت الخيام والمتاع، وبينما الفونسو يطارد المنهزمين وإذا به يقع علىحرسه منهزما، فلما أخبروه الخبر ترك مطاردة الأندلسيين وارتد من فوره لينقذ عسكره، ولكن يوسف انقض في جيشه المظفر على النصارى، وكان يشجع المجاهدين بقوله وفعله، فكانيقول: يا معشر المسلمين اصبروا لقتال أعداء الله الكافرين، ومن رزق منكم الشهادة فله الجنة، ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة .
وقد كان في مقدمة الصفوف يخوضالمعركة بنفسه حتى نفق تحته ثلاث أفراس، وقاتل المرابطون في ذلك اليوم قتال من لا يخافون الموت ومن يريدون الاستشهاد كذلك قاتل النصارى قتال اليائس حتى سقطت عشراتالألوف قتلى، وغمر الدم ساحة الحرب، ثم بدت طلائع النصر عند دخول الليل فركن الفونسو مع خمسمائة فارس من جيشه إلى الفرار، أما باقي الجيش فقد حصده الموت حصدا، وتقدرهالروايات بمائة وثمانين ألفاً من القتلى.
هذه هي موقعة الزلاقة، وكانت في الثاني عشر من شهر رجب سنة 479 هـ، وقد أزاحت كابوس الموت عن المسلمين، وأخرت سقوط الأندلسأربعمائة سنة،
/ صفحه 259/ما هذه الجواري المنشآت في البحر كالأعلام؟
ما هذه السفن تقلع من بر العدوة وتمخر البحر حتى ترسى بالأندلس، عليها الرجالالمدججون بالسلاح وفيها الخيول العتاق وفيها الزاد والعتاد والشكة والرماح، ما مقصدها؟ ما غرضها؟ هل تريد فتحا وضم أملاك جديدة إلى ملك قديم؟.
إنها الأخوة الإسلاميةدعت هؤلاء القوم المسلمين إلى أن يتركوا أوطانهم وأن يخاطروا بأرواحهم وأموالهم لنجدة إخوان مسلمين لم يروهم من قبل، وليس بينهم وبينهم وشيجة من لحم ودم، وإنما بينهموبينهم هذه الوشيجة الروحية من عقيدة وإيمان.
استغاثوا بهم فأغاثوهم، واستنصروهم فنصروهم، لم يتوانوا ولم يبطئوا، وكيف يتوانون وكتابهم الكريم يقول: وإن استنصروكمفي الدين فعليكم النصر ورسولهم الكريم يقول: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يخذله ذهبوا فأزاحوا العدو الجاثم بكلكله على صدورهم، وطردوا الموت المحقق فولىوالموت خزيان ينظر هذه الأخوة الإسلامية التي ندعو اليها، هذه الأخوة الإسلامية التي نريد إحياءها وتعهدها حتى تكون فرجا إذا دجت الكروب وادلهمت الخطوب.