كيف يستعيد المسلمون وحدتهم و تناصرهم
محضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد عرفه عضو جماعة كبارالعلماء
لعل قائلا يقول إنك رأيت أن الخصومة و البغضاء بين المسلمين من أكبر أسبابها الاختلاف في الدين، فهؤلاء يرون رأياً في الدين و ينتحلونه مذهبا و يتعصبون له ويحامون عنه كما يحامي المرء عن حريمه، و هؤلاء يرون نقيضه و يحامون عنه كذلك، و من ذلك تنشأ العداوة و البغضاء. و الاختلاف في الدين و الاراء و المذاهب طبيعي لايمكن دفعهفهو واقع لامحالة مادام في الناس عقول تفكر و مادام في الوجود معلومات تبحث، فإذا كانت العداوة و البغضاء بين المسلمين منشؤها الاختلاف في الدين، و الاختلاف في الدينواقع لا محالة؛ فالعداوة واقعة لا محالة لا يمكن رفعها، فالجهاد في ملافاة ما وقع بين المسلمين من بغضاء و إحن، جهاد فيما لاينال إلا إذا سلبت من الناس عقولهم و حظرتعليهم أن يفكروا و أن يستعملوا عقولهم التي خلقها الله لهم و قد خلقت لتفكر و تبحث و تستنتج ، فهل تريد أن تسلب المسلمين عقولهم أو تحظر عليهم التفكير و أن يظلوا مقلدين لايبحثون فيما يقلدون، و البحث العقلي و الانتاج الفكري هما الميزتان اللتان تمتاز بهما الأمم العليا و بهما تقدم العلوم و المعارف، و الجهل و التقليد هما النقصيتاناللتان منيت بهما الأمم الدنيا، و بهما تظل الأمم راكدة لاتتقدم و لا تسير نحو الكمال و هذا سؤال صعب حله. يحتاج إلى مزيد صبر على البحث و الدرس و لعلنا بهذا البحث نعينجماعة التقريب بين المذاهب الاسلامية على ما يجب عليهم أن يسلكوه إلى ما يقصدون.
إنه يجب علينا أن ننظر إلى تاريخ الاختلاف بين المسلمين، وإذا بحثنا في تاريخ الاختلاف وجدنا الاختلاف اختلافين، أحدهما اختلاف وقع و لم تتصدع به وحدة المسلمين و لم يورث عداوة و لا بغضاء، بل لم يؤثر على العلماء المختلفينأنفسهم، فهو يقع و الشمل مجتمع، و المحبة ثابتة، و الصفاء شامل. و اختلاف يورث العداوة و البغضاء و شق عصا المسلمين و يفرق جمعهم و يجعل بأسهم بينهم.
فالأول كالاختلافالذي وقع بين الصحابة و التابعين
رضوان الله عليهم
فقد اختلفوا بعد وفاة رسول الله من يوم السقيفة، و تناظروا في مانعي الزكاة و كان أبوبكر يرى قتالهمفاحتجوا عليه بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهمعلى الله) فقال أبوبكر من حقها الزكاة و الله لأقتلن من يفرق بين الصلاة و الزكاة و الله لو منعوني عناقا لقاتلتهم عليه. فبان لمن خالف أبابكر أن الحق معه فتابعوه.
وقال سليمان بن يسار في الحامل تلد ولدا و يبقى في بطنها ولد آخر: إن لزوجها عليها الرجعة و قال عكرمة : لا رجعة له عليها لأنها قد وضعت، فقال له سليمان أيحل لها أن تتزوج؟قال لا قال: خصم عكرمة.
و الثاني كالاختلاف الذي وقع بين الخوارج و جماعة المسلمين في زمن علي فقد نقموا عليه
رضى الله عنهأنه حكم في أمر الله الرجال والله يقول (إن الحكم إلا لله) و أنه قاتل و لم يسب و لم يغنم، فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم، و لئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم و سباؤهم، و انه محا نفسه من إمرة المؤمنينفإن لم يكن أميرالمؤمنين فهو أمير الكافرين.
و قد ناظرهم ابن عباس و قال أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله و سنة رسوله بما ينقض قولكم هذا، أترجعون؟ قالوا و ما لنالانرجع، قال أما قولكم حكم الرجال في أمر الله فإن الله قال في كتابه: (يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد و أنتم حرم، و من قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعميحكم به ذوا عدل منكم).
و قال في المرأة و زوجها (و إن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله و حكما من أهلها) فصير الله ذلك إلى حكم الرجال، فنشدتكم الله، أتعلمون حكمالرجال في دماء المسلمين و إصلاح ذات بينهم أفضل، أو في دم أرنب ثمنه ربع درهم و في بضع إمرأة؟ قالوا بلى هذا أفضل، قال أَخرَجت من هذه، قالوا نعم، قال فأما قولكم قتل فلميسب و لم يغنم افتسبون أمكم عائشة؟ فإن قلتم نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، و إن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم، فأنتم ترددون بين ضلالتين! أخرجت من هذه؟قالوا بلى، قال و أما قولكم محا نفسه من إمرة المؤمنين فأنا آتيكم بمن ترضون: إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أباسفيان و سهيل بن عمر و قال رسول الله اكتب يا علي: هذا ماصالح عليه محمد رسول الله فقال أبوسفيان و سهيل بن عمرو ما نعلم أنك رسول الله و لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك قال اللهم إنك تعلم أني رسول الله امسح يا علي و اكتب : هذاما صالح عليه محمد بن عبدالله و أبوسفيان و سهيل بن عمر، قال فرجع منهم ألفان و بقى بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعين.
ليس العسر في أن نجد هذين القسمين من الاختلاف فهو أمرظاهر يعلمه كل من أطلع على تاريخ الاختلاف ، إنما الصعوبة في أن نميز بين هذين النوعين من الاختلاف، في أن نعلم خواص النوع الأول و خواص النوع الثاني لنتيح للمسلمين أنيختلفوا ماشاءوا إذا كان الاختلاف بردا و سلاما، و نحذر المسلمين من أن يختلفوا إذا كان الخلاف بغضاً و خصاما.
أول خاصية تميز بين هذين الخلافين هي نفسية المختلفين،فإذا كان المختلفان يؤمنان بأنهما متعاونان في الوصول إلى الحق، و أن كليهما سائر مجد إلى الحق، و أن من وصل إليه فقد وفق، و من تخلف عنه فالعذر له و الحق أراد، و إذا كانالمختلفان و اسعي الصدر، عادلين في المعاملة، يرى كلاهما أنه إذا كان له الحق في أن يرى الرأي و يعتقده و لو خالف صاحبه فلصاحبه مثل هذا الحق: له أن يرى الرأي و يعتقده و لوخالف الناس جميعاً، نقول إذا كان المختلفان كذلك كان الخلاف خيراً و بركة و هو مرانة للعقول على البحث و تقوية لها على الابتكار و الاستنتاج و إذا كان المختلفان جائرين فيالمعاملة يرى أحدهما أن له أن يجول بعقله في ميدان الفكر و أن يحكم على الأشياء بما أداه إليه عقله و أن ليس للاخر مثل هذا الحق. و إذا كانا ضيقي الصدر لايتحملان أن يريامخالفاً، فالخلاف نار محرقة تحرق الألفة و تؤجج العداوة و البغضاء.
و هذه العدالة النفسية التي ذكرناها لا يكسبها إلا من اتسع أفقه و عرف خواص النفس الإنسانية من حبالبحث و الاستقصاء و أن محالا أن تقهر الناس جميعاً على رأي واحد، لأن فيهم من الاراء و المذاهب بقدر ما في عقولهم من حركة نحو البحث و الاستنباط.
و الإسلام إذ يدعو إلىالمحبة و الألفة مع ما في طبيعة البشر من اختلاف، يدعو الناس إلى توسيع أفقهم و إلىالثقافة العالية التي تعرفهم طبائع النفوس في الاتفاق و الاختلاف، بل يوجب ذلك لأنالمحبة و الألفة بين المسلمين واجبة و هي لاتكون مع ما في الناس من اختلاف، إلا بالثقافة العالية و الأفق الواسع، و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
و مما يتصل بنفسيةالمختلفين أن يكون الخلاف لغرض الوصول إلى الحق لا للتوصل به إلى جاه أو منصب أو رياسة أو مال، فإنه إذا تمحض للحق عظم أثره و حسنت عاقبته، و إذا شابته الشوائب ساءت عاقبتهو ضل من اتبعه.
الخاصية الثانية هي اتفاق الثقافة أو اختلافها فكلما كان المختلفان متفقي الثقافة، كانا أقرب إلىالاجتماع و المودة، و كلما كانا مختلفي الثقافة كاناأقرب إلىالافتراق و البغضة، كأن يكون أحدهما ثقافته سمعية يميل إلىالأثر و النص، و الاخر ثقافته عقليه يميل إلى إعمال الرأى و القياس و يجد لذة عقلية في أن يبحث بعقله ويستنتج بفكره، فالأولون يحبون الاثار و النصوص و البحث فيها و الاستنتاج منها، و الاخرون يحبون المقاييس و البحوث العقلية و علوم اليونان من منطق و طبيعة و فلسفة إلهية.
و هذا يفسر لنا ما يروى عن عمرو بن عبيد الزاهد و كان معتزلياً أنه سمع واصل بن عطاء و كان رئيس فرقة من المعتزلة، فقال: ألا تسمعون! ما كلام الحسن و ابن سيرين عندماتسمعون إلا خرقة حيض ملقاة.
و كان بعض من يفضلون علم الكلام على الفقه يقولون إن علم الشافعي و أبي حنيفة جله يخرج من سراويل امرأة.
و منالقبيل الاخر تجد الشافعي يقول: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالحربة و يطاف بهم في القبائل هذا جزاء من ترك الكتاب و السنة و أخذ في الكلام و يقول أحمد بن حنبل: لا يفلحصاحب كلام أبداً و لا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا و في قلبه دغل، و يقول مالك: أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم لدين جديد، و يقول ابن عيينة: سمعت من جابرالجعفي كلا لا توجد فاصلة ما خشيت معه أن يقع علي و عليه البيت.
الخاصية الثالثة تتعلق بالموضوع المختلف فيه فكلما كان الموضوع مثلا متعلقا بذات الله أو صفة من صفاتهأو فعل من أفعاله كان مثاراً للفتنة و البغض، و كلما كان بعيداً من ذلك كان مرجو العاقبة و مظنة للسلامة.
اختلف المختلفون في هذه الملة في الله أيوصف بالصفات الثبوتيةأم لا يوصف إلا بالسلب، و اختلفوا هل الصفات عين الذات فيعلم بذاته و يقدر بذاته، أم الصفات غير الذات فيعلم بعلم هو غير الذات و يقدر بقدرة هى غير الذات؟
و اختلفوا هلهناك قدر سابق لا يفر منه المرء، أو الأمر أنف، فمن سعد فبنفسه سعد، و من شقي فبنفسه شقى؟
و في كل ذلك يرى المختلفون: أن المخالف نسب إلى الله ما لا يليق به فالمثبتونيرون أن المجردين يصفون عدما، و المجردون يرون أن المثبتين يذهبون إلى التركيب في ذاته و أنهم أثبتوا قدماء مع الله هى صفاته، و النصارى كفروا بإثبات قدماء ثلاثة فكيفبمن أثبت قدماء متعددين بتعدد الصفات؟ و النافون للقدر يرون أنهم أهل العدل إذ نسبوا إلى الله العدل و لم ينسبوا إليه الجور كخصومهم الذين أثبتوا أن الله قدّر على العبدالكفر و المعاصي و لم يكن للعبد أن يفلت مما قدر ثم هو يعذبه على ما كتبه عليه و قدره، و المثبتون للقدر يرون أنهم أثبتوا لله سعة العلم و الإحاطة.
و في كل ذلك يظن المرءأن مخالفه قد كفر لأنه نسب إلى الله ما لا يليق به أو أنه قد كفر لأنه نفى ما أثبته الله لنفسه في كتبه و على ألسنة رسله فيكون بين المختلفين ما بين المسلم و غير المسلم منالخلاف و الشر.
الخاصية الرابعة هي ما ينشر حول المخالفين من ظنون و تهم أو من حسن رأي و اعتقاد فإذا نشرت عنهم قالة السوء و ساء الاعتقاد فيهمزاد البغض لهم، و إذا كان الرأي فيهم حسنا و لم يوصفوا بالزيغ و الإلحاد و المروق من الدين عذروا و لم يعلق بهم شر لذلك.
و قد كنت أكره ابن تيمية و ابن القيم لأني كنتأقرأ في كتب فقه المالكية التي أدرسها ما نقلوه عن الشافعية من أن ابن تيمية ضال مضل، فلما قرأت كتبه و كتب تلميذه ابن القيم زال ذلك البغض و رأيتهما عالمين مصلحين لهما منالاراء الإصلاحية ما يحتاج إليه هذا العصر، و كنت أخاف المعتزلة و أراهم فتنة من الفتن لما كان ينشر حولهم من التهم و التضليل، فلما تأملت مذاهبهم و درستها درساً مستقصيزال ذلك الخوف و رأيتهم فرقاً من فرق المسلمين أعملوا عقولهم و معارفهم ليسموا بالدين عن الخرافات و الأوهام، و كذلك قل في الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، و السيد جمالالدين الأفغاني، و السيد رشيد رضا.
و بهذا البحث قد أصبحت الطريق واضحة أمام جماعة التقريب فليس من شأنهم أن يفعلوا المستحيل و يرفعوا الخلاف بين الشيعة و السنيين أوبين المعتزلة و الأشعرية مثلا.
و ليس من شأنهم أن يأخذوا من الاراء المختلفة رأيا يأخذ من هذا و من ذاك ، لأن ذلك مسخ و تشويه و إحداث لقول ثالث يزيد نار الخلافاشتعالا، و كان بعض مشايخنا الذين يدرسون لنا علم الكلام يحاول هذا في كل مسائله، فكنت أناقشه و أقول له: إن هذا الخلاف نشأ عن أصلين مختلفين التزم كل من المختلفين بأصل، وإن الرأي الذي جئت به و تراه رأيا لهما قد خرج عن الأصلين الذين يلتزمانهما، فكان لا يصيخ إلى ذلك لأنه كان يرى من رسالته رفع الخلاف.
و إنما من شأنهم أن يعملوا علىتحسين ظن المسلمين بعضهم ببعض، و على نشر روح التسامح و المحبة، وأ يحسنوا نفسية المختلفين فيكون غرضهم الوصول إلى الحق، و أن يعملوا على ما يعين على ذلك من نشر المعارفالصحيحة، و الثقافة العالية، و هذا عمل ليس بالقليل، و جهد ليس باليسير ، و الله يوفق من يريدون الخير و الإصلاح.