قوانين الزواجَ والطَّلاَق
بين الشريَعةِ الإسلاميَّة والقوانين الوَضعِيّة
لحضرة صاحبالفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد عرفهعضو جماعة كبار العلماء لقد كتبنا في بحث الحضانة في الشريعة الإسلامية كلمة مجملة فلم نذكر من الأقوال إلا مذهب مالك ـوقد أعدنا كتابته في هذا العدد مفصلاً وبينا أقوال الفقهاء المختلفة وأحاديث الرسول في هذا الصدد وذكرنا الحكمة الخفية وما نختاره.
يحكى أن رجلاً طلق زوجته وكان لهمنها ولد فتنازعاه، فاختصما إلى القاضي فقال للرجل ما تقول؟ قال أنا أحق به منها، قال لماذا؟ قال حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، فقال للإمام ما تقولين؟ قالت أناأحق به منه، قال لماذا؟ قالت حمله خفاً وحملته ثقلاً، ووضعه شهوة ووضعته كرها، ثم كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، سقال القاضي اذهبي به فأنت أحق به وأولى.
هكذا كان النزاع في حضانة الأطفال من قديم، الاب يرى أنه أولى به لأنه الأصل فيه، والأم ترى أنها أحق به لأن تعبها فيه أكثر، ومشقتها فيه أعظم، والحق الذي لا ينكر أنعناء الأم فيه أعظم من عناء الأب، وأنها وجدت رهقاً وعسراً، يقول الله تعالى: ((ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهراً)). وقدترى المرأة لذلك أنها أحق بأن ينفعها، ويعمل لها عندما يستطيع ذلك،
/ صفحه 136/روي أن امرأة جاءت إلى رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)وقال: يارسولالله إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عتبة وقد نفعني، فقال رسول الله: استهما عليه، فقال زوجها من يحاقني في ولدي؟ ـ أي من يخاصمني ـ فقال النبي: هذا أبوكوهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه فانطلقت به.
والشريعة الإسلامية فيها أحاديث عن النبي; بعضها يدل على أنه إذا اختصم الأبوان في الولد أقرع بينهما أي ضربتبينهما القرعة فمن خرجت له فهو أحق به، وبعضها يدل على أنه يخير الطفل بين أبويه، فأيهما اختار فهو له، وذلك إذا بلغ سن التمييز، وبعضها يدل على أن الأم أحق به مالم تتزوج،والأئمة المجتهدون اختلفوا تبعاً لذلك; فمنهم من ذهب إلى الاقتراع، ومنهم من ذهب إلى تخيير الصبي بين أبويه، ومنهم من ذهب إلى أن الأم أحق به حتى يستغني، وحد الاستغناء أنيأكل ويشرب ويلبس ـ وحده بعضهم بالسبع من السنين.
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية المعمول به الآن في الإقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة بالقول الآخر فجعلحق الحضانة للأم في الصبي إلى تسع، وفي الأنثى إلى أكثر من ذلك.
وقد ظل معمولاً به إلى الآن، وقد أثار قوم هجوماً شديداً عليه، فمنهم من يرى أنه من الأسباب التي توجباللجوء إلى القانون الوضعي الرحيب ليمد في سن الحضانة لمصلحة الطفل، ومنهم من يرى أن يؤخذ بقول آخر من الشريعة ومما أثاره هذا القسم الأخير قوله: ((إنها متناقضات شاذةخارقة، قد بلغت من الشذوذ ما يجعلها فوق مستوى التصديق، هذه أم تفرغت بعد الطلاق لتربية أبنها، لم تتزوج، استقالت من وظيفتها لتعني بابنها، لها من علها وبيئتها وتربيتهاما يمكنها من تربية الطفل تربية مثالية، وفجأة بعد سن السابعة يأتي زوجها السابق أبو الطفل وقد تزوج أخرى وأنجب منها فرقة من البنين والبنات
/ صفحه 137/ثم تزوجثالثة عليها وهي على وشك أن تنجب طليعة الفرقة الثانية، وانحدر مستواه وانحدرت معه أخلاقه، فينزع الطفل من أمه في ظل القانون ليضاف إلى فرقة الزوجة الثانية لأنها لاتزالعلى ذمته، والثانية ساخطة على الزواج الثالث، والبيت شقاق ونفاق ومقالب، ويراد للأم أن ترى مصير طفلها هادئة راضية لأن هذا هو الشرع، كلا يالجنة تعديل القوانين!! ليس هذامن الشريعة في شىء، ونريد أن ننبه إلى أن صاحبة هذا القول لم ترد الخروج عن الشريعة كما يفعل غيرها، وإنما أرادت أن تبحث عن حكم آخر من الشريعة يكون أيسر وأسهل ويحقق مارأته من المصلحة.
ونحن نقول أولاً: إن ما قالته فرض حال قليلة الوقوع، وهناك أحوال كثيرة تناقضها وتكون فيها المصلحة أن يجعل الطفل عند أبيه، ونقول ثانياً: إن فيالشريعة ما يمكن من رفع سن الحضاية; فهذا مذهب المالكية يرى أن الحضانة حق للأم، ومدتها أوسع من الأحكام المعمول بها الآن; فهي تمتد مع الصبي إلى البلوغ ومع الأنثى إلى أنتتزوج ويدخل بها الزوج وقد يمتد ذلك إلى العشرين والثلاثين من السنين.
فهل ترون أرحب صدراً، وأندى كفا من الشريعة.
إنكم كنتم تريدون رفع سن الحضانة سنة أو سنتينفقد جاءكم لم يخطر لكم ببال; رفعها إلى بلوغ الصبي وزواج الأنثى.
أرأيتم أنه يمكن إدراك المصلحة المرجوة من رفع سن الحضانة بالأخذ من الشريعة دون الخروج عليها والتماسالدواء من غيرها.
أرأيتم أنه يمكن تحصيل مصلحة أخرى وهي اطمئنان الناس على أنهم يحكمون بشريعتهم وعلى مقتضى دينهم.
وفي الشريعة أقوال أخرى، وأعدلها عندى ما رآهابن القيم وشيخه ابن تيمية فقد قال ابن القيم: ينبغي قبل التخيير والاستهمام ملاحظة مافيه مصلحة الصبي فإذا كان أحد الأبوين أصلح للصبي من الآخر قدم عليه من غير قرعة ولاتخيير، وحكى
/ صفحه 138/عن شيخه أنه قال: تنازع أبوان صبياً عند الحاكم فخير الولد بينهما، فاختار أباه فقالت أمه: سله لأى شىء يختاره؟ فسأله فقال: أمي تبعثني كليوم للكاتب والفقيه يضرباني، وأبي يتركني ألعب مع الصبيان، فقضي به للأم.
ومع احترامي لهذا القول أريد أن أنبه الى شىء أرى أنه كبير الأهمية لما عرفته من طبائع النفسالبشرية; وهو أنه يجب أن يراعي جانب الأم في الحضانة ما وجد إلى ذلك سبيل رحمة بها ولمصلحة الطفل والمجتمع.
أما أنه لمصلحة الأم فلأنها شديدة الشغف بابنها في سن الصغر،ولذلك نهى النبي أن يفرق بين الام وولدها حتى يثغر.
وأما أنه لمصلحة الطفل والمجتمع فلأن الطفل تتربى فيه عواطفه وأخلاقه وسلوكه، فإذا عومل بالرأفة والحنان خرج دمثالأخلاق صالحاً للاجتماع، واذا عومل بالشدة والغلظة والتجهم خرج منحرفاً ناشزاً على مجتمعه، والام أحنى الناس على طفلها وأرأفهم به.
والطفل إذا عقل بعض الشىء يبدأفي كبت غرائزه الجامحة بإدماج نفسه في رغبات والدته فتكبت، ويكون الضمير اللوام، ويبدأ الطفل حياة جديدة أساسها كبت الغرائز، ولذلك ورد أن النبي قال للأم: أنت أحق به مالم تتزوجي وينبغي أن يميز الطفل بعد ذلك بصحية أبيه; لأنه إذا لم يندمج في المحيط الاوسع تهيبه ولم يقدر على احتماله وظل يخشاه كربات الجمال.
وهذا هو السر ـ على ما أظنـ فيما رأته الشريعة من تداول الطفل بين أمه أولاً وأبيه ثانياً.
هذه هي الشريعة الاسلامية مخصبة غير مجدبة، فاختاروا منها ما شئتم واجعلوه قانوناً يحكم به القاضي،ولا ترموها بالجدب وتقولوا: من أجدب انتجع، بل نحن نقول لكم: اختاروا منها ما شئتم فمن أخصب تخير.