الإمَامية
بينَ الأشَاعرة والمعتزلة
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد جواد مغنية
رئيس المحكمة الشرعيةالجعفرية العليا ببيروت
رغبت إليّ الجامعة اللبنانية في أن أعطي درساً في الفلسفة الاسلامية لطلاب السنة الرابعة ((فرع الفلسفة)) فلبيت، واضطرني هذا الدرس إلى البحثوالتنقيب في كتب الفلسفة وعلم الكلام للسنة والشيعة، وقد لاحظت أمراً غريبا ـ وأنا أنتبع المصادر ـ دفعني من حيث أريد أولاً أريد إلى كتابة هذا القصل في كتابي ((فصول فيالفلسفة الإسلامية(1)، لاحظت أن كثيراً من الذين كتبوا ـ من غير الإمامية ـ في الفرق ومذاهبها يتعبرون الإمامية أتباعاً للمعتزلة في تفكيرهم، فمن هؤلاء من يقول ـ إذا حررمسألة خلاقيه ـ: قال الأشاعره: كذا. وقال المعتزلة وأتباعهم الإمامية: كذا. وبعضهم يقتصر على رأي الأشاعرة والمعتزلة، ويهمل الإمامية. وكأنه يدرج الإمامية في عدادالمعتزلة، كما تدرج الماتريدية في عداد الاشاعرة(2).
وقد اطلع على هذا القول بعض الغربيين فآمن به جهلاً وتقليداً، ورد أصول التفكير الإمامي إلى المعتزلة، قال آدممتزفي كتاب الحضارة الاسلامية: ((إن الشيعة ورثة المعتزلة)). ورأى بعض الشباب المثقف كلام المستشرقين فأخذه على علانه، كما هو المألوف والمعروف من ثقافة هذا الجيلالصاعد.،. قال الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي في مجلة الغد عدد 2 سنة 1953: ((إن الشيعة التقطوا كثيراً من أفكار المعتزلة)). هكذا أخذ المستشرقون عن بعض القدامى دون
/ صفحه140/
تتبع وتمحيص، وأخذ شبابنا عن المستشرقين حتى كأنهم المصدر الذي لا يتبقى معه الشك، ولا يقبل التشكيك، وماذا يكون الشأن في من قلد المقلدين؟!...
والحقيقة أنالشيعة أسبق ن الأشاعرة والمعتزلة، بل أسبق المذاهب الإسلامية على الإطلاق، كما يأتي عن الشيخ أبي زهرة، فإن لهم آراء مستقلة استقوها من الكتاب والسنة، وقد يلتقون فيبعضها مع الأشاعرة، وفي البعض الآخر مع المعتزلة، ويستقلون بأشياء كثيرة عن كل من الفريقين.
فلقد سبق الإمام على وأولاده الناس إلى الكلام عن الإيمان وعقيدةالإسلام، واهتموا بتفلسفها، والذود عنها بمنطق العقل قبل أن يخلق واصل ابن عطاء، فهذه
ــــــــــ
(1) قريبا يقدم إلى المطبعة إن شاء الله.
(2) شرح المواقفج 4 ص 123 طبقة 1907
تعاليم أهل البيت مشحونة بالمبادىء العقلية والنقاش المنطقي للدفاع عن العقيدة الإسلامية، ورد الشبهات عن نصوص الكتاب والسنة، وقد صيغت تعاليمهمهذه في قضايا فلسفية طغت على عقول الكثيرين من علماء الكلام وفلاسفة المسلمين، فرددوها على ألسنتهم، ودونوها في أسفارهم، واتخذوها أساسا لفلسفتهم من حيث يقصدون أولاًيقصدون.
إن أئمة الفرق والمذاهب ابتدءوا بعلم الكلام حيث انتهى منه أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 2 ص 128: ((إن أصحابناالمعتزلة ينتمون إلى واصل بن عطاء، وواصل تلميذ أبي هاشم بن محمد ابن الحنيفة، وأبو هاشم تلميذ أبيه محمد، ومحمد تلميذ أبيه علي(عليه السلام))). وذكر هذه الحقيقةالتاريخية السيد المرتضى في أماليه ج 1 ص 165، والشهرستاني في الملل والنحل ص 26. وتتلمذ النظام أحد شيوخ المعتزلة على هشام بن الحكم تلميذ الإمام جعفر الصادق(عليهالسلام) (1). وقال الشيخ محمد ابو زهرة في كتابه ((المذاهب الإسلامية)) ص 51: ((الشيعة أقدم المذاهب السياسية الإسلامية، وقد ظهروا بمذهبهم في عصر عثمان، ونما وترعرع في عهدعلي، إذ كلما اختلط بالناس ازدادوا إعجاباً بمواهبه وقوة دينه وعلمه)) وعلى هذا يصح القول بأن المعتزلة هم أتباع الإمامية، وليس الإمامية أبتاعاً للمعتزلة...
/ صفحه141/
نقول هذا ـ جدلاً ـ وإلزاماً لمن قال بأن الامامية هم أتباع المعتزلة أما الحقيقة التي نؤمن بها في أن كلا من الامامية والمعتزلة والأشاعرة فرقة من الفرقالاسلامية نستقل بمبادئها وتعاليمها، وقد تلتقي في شىء من هذه التعاليم مع أخواتها من الفرق، وتفترق عنها في شىء. وفيما يلي نذكر طرفاً من المسائل التي
ــــــــــ
(1) انظر كتاب ((هشام بن الحكم)) للشيخ عبد الله نعمة.
اختص بها الامامية دون الاشاعرة والمعتزلة، بعض المسائل التي اتفقوا عليها مع الاشاعرة ضد المعتزلة.
1 ـالشفاعة: أجمع المسلمون كافة على ثبوت أصل الشفاعة، وأنها تقبل من الرسول الاعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، واختلفوا في تعيين المشفوع فيه، فقال الامامية والاشاعرة:إن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يشفع لأهل الكبائر بإسقاط العقاب عنهم. وقال المعتزلة لا يشفع إلا للمطيعين المستحقين للثواب، ومعنى شفاعته للمؤمن المطيع أن يطلبله من الله زيادة الثواب وتضاعف الحسنات، وأبطل المحقق الطوسي (1) في كتاب التجريد هذا القول بأنه لو كانت الشفاعة في زيادة المنافع لجاز أن نشفع نحن في النبي، ونطلب لهعلو الدرجات، وهو باطل، لأن الشافع أعلى من المشفوع فيه وأما، الآيات الدالة على نفي الشفاعة، كفوله: فما تنفعهم شفاعة الشافعين، فمتأولة بالجاحدين، جمعاً بينها وبين مادل على قبول الشفاعة.
2 ـ الجنة والنار: قال الامامية والاشاعرة: إن الجنة والنار مخلوقتان الآن، بدلالة الشرع على ذلك. وقال أكثر المعتزلة: إنهما غير موجودتين الآن،وستخلقان غداً يوم الجزاء.
3 ـ مرتكب الكبيرة: قال الامامية والاشاعرة: إن مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق يجب إقامة الحد الشرعي عليه إذا سرق أو شرب أو زنى. وقال الخوارج: هوكافر، وقال المعتزلة: لا مؤمن ولا كافر، وأثبتوا المنزلة بين المنزلتين، وهذه المسألة هي السبب لافتراق واصل عن أستاذه الحسن البصري، وإنشاء فرقة الاعتزال.
/ صفحه142/
ــــــــــ
(1) هو محمد بن الحسن الفيلسوف الامامي، له مؤلفات كثيرة في علم الكلام والفلك والهندسة، وتحدث عنه علماء الغرب والشرق، وهو صاحب الرصد العظيمبمدينة مراغة، توفي سنة 622 هـ.
4 ـ الأمر بالمعروف: اتفق المسلمون كافة على وجوب الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واختلفوا: هل يجبان بالسمع أو بالعقل؟... فقالالامامية والإشاعرة: يجبان بالسمع، بنص الكتاب والسنة، ولولا وجود النص الشرعي لم يكن أي باعث على الوجوب، وقال المعتزلة: يجبان بالعقل، أما الشرع فيؤكد حكم العقلويقره، وعليه فإن الوجوب ثابت، حتى ولو لم يرد النص الشرعي.
5 ـ الإحباط: قال جخهور المعتزلة: إن المؤمن المطيع يسقط ثوابه المتقدم بكامله إذا صدرت منه معصية متأخرة،حتى أن من عبد الله طول عمره، ثم شرب جرعة من خمر فهو كمن لم يعبد الله أبداً، وكذا الطاعة المتأخرة تسقط الذنوب المتقدمة، وهذا هو معنى الإحباط. واتفق الامامية والاشاعرةعلى بطلان الإحباط، وقالوا: إن لكل عمل حسابه الخاص، ولا ترتبط الطاعات بالمعاصي، ولا المعاصي بالطاعات، والإحباط يختص بالجاحدين الذين لا يؤمنون بالله ولا بالرسولواليوم الآخر، كما دلت الآية الكريمة: ((لئن أشركت ليحبطن عملك، ولتكونن من الخاسرين)) لأن الجحود سيئة لا تقبل معه حسنة، وليس بعد الشرك إلا العذاب، أما من أساء وأذنب،وهو يؤمن بالله، فيوازن بين حسناته وسيئاته، فإن كانت الإساءة أكثر كان كمن لم يحسن، وإن كان الإحسان أكثر كان كمن لم يسىء، إذا الأكثر ينفي الأقل، وإن تساوياً كان كمن لميصدر عنه شىء، وقال صاحب المواقف: إن الذي تتساوي حسناته مع سيئاته يجوز أن يثاب، ترجيحاً لجانب الثواب على العقاب.
6 ـ ثبوت الحال: أثبت المعتزلة الواسطة بين الوجودوالعدم، وقالوا بثبوت الحال، وهو عندهم عبارة عن صفة لشىء، ولكنه لا يوصف بالوجود ولا بالعدم، ولا بالمعلوم ولا بالمجهول ولا بشىء أبداً. وأنكره الإمامية والأشاعرة،وقالوا: لا شىء سوى الوجود والعدم.
7 ـ الشرع والعقل: أسرف المعتزلة في تمسكهم بالعقل، وغالى أهل الظاهر في جمودهم على ظاهر النص، فوقف الامامية والاشاعرة موقفاًوسطاً بين الفريقين، والتزموا تأويل كل ظاهر للكتاب وللسنة مخالف لبديهة العقل،
/ صفحه 143/
وبهذه المحاولة جمعوا بين الشرع والعقل، وأعرض المعتزلة عن هذهالمحاولة. ومن الخير أن ننقل ماذكره الدكتور توفيق الطويل في كتابه ((أسس الفلسفة)): ص 289، قال:
((إن اصطناع العقل قد طوح بفوق المتكلمين حتى أدى ببعضها إلى الشطط، من ذلكأن بعض الخوارج، وهم يشبهون المعتزلة العقليين في بعض المسائل قد رفضوا أن تكون السنن المأثورة مرجعاً للأحكام...))
هذا طرف مما اتفق عليه الإمامية والإشاعرة ضدالمعتزلة، فيما يلي بعض ما انفرد به الإمامية دون الفريقين:
1 ـ الخلافة: قال الامامية: إن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل وفاته نص على خليفته بالذات. وقالتسائر الفرق الاسلامية: بل سكت، وترك الأمر شورى بين المسلمين.
2 ـ عصمة الإمام: قال الإمامية: إن الإمام يجب أن يكون معصوماً عن الخطاء والسهو في بيان الأحكام الشرعية،وقال غيرهم: لا تجب له العصمة في شىء. بل ذكر الشيخ محمد أبو زهرة في كتاب ((المذاهب الإسلامية)) ص 155: ((وجوب الصبر على ظلم الحاكم الجائر، وعدم جواز الخروج عليه)) ثم قال: هذاهو المشهور، والمنقول عن أئمة أهل السنة، ونقل عن ابن تيمية أن الخليفة إذا اختير على أنه عادل، ثم تبين أنه فاسق فالأرجح عند الجمهور وجوب الاستمرار في طاعته.
3 ـعصمة الأنبياء: قال الإمامية: الانبياء معصومون عن الذنوب كبيرها وصغيرها، قبل النبوة وبعدها. وقال المعتزلة: تجوز عليهم الصغائر والكبائر قبل الوحي، أي قبل أن يصبحواأنبياء، أما بعد الوحي فتجوز عليهم الصغائر من الذنوب دون الكبائر، وقال الأشاعرة: تجوز الكبائر والصغائر قبل النبوة، أما بعدها فلا يجوز عليهم الكفر ولا تعمد الكذب،وتجوز عليهم الصغائر عمداً وسهواً، والكبائر سهواً لا عمداً.
/ صفحه 144/
4 ـ الوعد والوعيد: اختلفت الأمة في مسألة الوعد بالثواب، والوعيد بالعقاب: هل يجب علىالله الوفاء بهما أولاً؟ قال الأشاعرة: لا يجب على الله شىء، وله أن يعاقب المطيع. ويثيب العاصي. هذا ما قاله الامام العزالي بالحرف: ((إن الله لا يبالي لو غفر لجميعالكافرين، وعاقب جميع المؤمنين، واستدلوا على ذلك بأن الله مالك كل شىء وللمالك أن يتصرف في ملكه كيف شاء، تماماً كما نتصرف نحن بالحمل. وقال المعتزلة: إن ثواب المطيع،وعقاب العاصي إن مات بلا توبة واجبان على الله، وإلا كان ما أخبر به كذبا، والكذب محال عليه سبحانه. واستدلوا بقوله تعالى: وما أنا بظلام للعبيد)).
وقال الإمامية: يجبعلى الله الوفاء بالوعد، وهو ثواب المطيع، لإنه مقتضى العدل والإنصاف، ولا يجب عليه الوفاء بالوعيد، أي عقاب العاصي، لأن العقاب حق لله، فيجوز له إسقاطه تماماً كما لوكان لإنسان دين في ذمتك فيجب عليك أن تؤديه غير منقوص، أما لو كان الذين لك فأنت بالخيار، إن شئت أن تسمح، وإن شئت استوفيته كاملا. وبهذا وقف الإمامية موقفاً وسطاً، حيثوافقوا المعتزلة في الوعد، وخالفوهم في الوعيد، ووافقوا الأشاعرة في الوعيد،وخالفوهم في الوعد، وبالتاي، فأين مايبرر القول بأن الإمامية هم أتباع المعتزلة؟! وكيف تنسبالإمامية إلى المعتزلة وقد رووا عن الإمام جعفر الصادق قوله: ((لعن الله المعتزلة أرادت أن توحد فألحدت، ورامت أن ترفع التشبيه فأثبتت))(1)هذا ما قالته الأشاعرة عنالمعتزلة بالحرف الواحد.