كيف يساير الفقه الإسلامي تطور المسلمين
لحضرة صاحب الفضيلة الاستاذ الكبير الشيخ عبد الوهابخلاف بك
الفقه الإسلامي هو مجموعة الأحكام العملية التي شرعت لأفعال المكلفين من المسلمين تنظيماً لعلاقة المسلم بربه. ولعلاقة المسلمين بعضهم ببعض. ولعلاقةالمسلمين بغيرهم من الأفراد والجماعات في حال المسلم وفي حال الحرب. وبعبارة أوجز هو مجموعة القوانين الشرعية التي يقضي بها في خصومات المسلمين وتطبق على أفعالهموأقوالهم وتصرفاتهم في السلم وفي الحرب.
وفي عهد رسول الله
(صلى الله عليه وسلم)تكونت المجموعة الفقهية من الأحكام التي أفتى بها رسول الله فيما استفتي فيه. والتيأجاب بها عما سئل عنه. والتي قضى بها في الخصومات التي عرضت عليه، وكانت هذه الأحكام تارة يتلقاها الرسول عن الله بالوحي الظاهر في آية أو آيات من القرآن الكريم. وتارةيتوصل إليها باجتهاده فيما لم يتلق فيه وحيا ظاهراً من ربه. وكان في اجتهاده ملحوظاً بالرعاية الالهية، إما بلهامة بالحق والصواب إذا أخذ في اجتهاده، وإما برده إلى الحقإذا اجتهد ولم يصل باجتهاده إلى الصواب. ولله حكمة بالغة في أنه شرع احكامه بالوحي القرآني الظاهر تارة. وبالوحي الباطني وهو إلهام رسوله تارة وبالإرشاد إلى الصواب بعدالخطأ في الاجتهاد تارة.
وهذه المجموعة الفقهية الاولى تجلت فيها عدة ظواهر:
الظاهرة الاولى: أنها كانت قليلة في عدد أحكامها، لأنها شرعت الأحكام لما قوع فعلا منالحوادث، ولما واجه المسلمين فعلاً في حربهم وسلمهم من / صفحه 145/الطوارئ. وما شرعت أحكاما لوقائع فرضية، ولا لطوارئ احتمالية، وحاجات المسلمين في ذلك العهدكانت محدودة ومعاملاتهم كانت سهلة يسيرة، لم تعقدها مشاكل الحضارة ولا السعة في مبادلات التجارة، وخصوماتهم كانت قليلة، ولهذا نرى أن آيات الأحكام في القرآن نحوخمسمائة آية، أكثرها في العبادات، وما يلحق بها من الأحوال الشخصية، مع أن عدد آيات القرآن كله نحو ستة آلاف، وأحاديث الأحكام اكثرها بيان لأحكام القرآن، أو توكيدوتقرير لها. والأحاديث التي شرعت أحكاما سكت عنها القرآن، تقرب من آيات الأحكام في عددها.
الظاهرة الثانية: أن أحكام هذه المجموعة مستقاة من المنبع التشريعي الأوللأنها إما من كتاب الله. وإما من سنة المعصوم، ولهذا كانت لها قدسيتها، ولم تكن في حاجة إلى قوة مادية لحمل المسلم على اتباعها، وكان قضاء الرسول اشبه بإفتائه، في أن كلامنهما تبيين للحق ولحكم الله، والمسلم مدفوع بدينه إلى اتباعه.
الظاهرة الثالثة: أنها ما كان فيها اختلاف ولا اشتباه. فما نص على حكمين مختلفين لواقعة واحدة وما اشتبهعلى مسلم فهم حكم، لأن مصدر الأحكام الله ورسوله، والمرجع هو رسول الله وحده. وكانت هذه الأحكام مصوغة في قالب قانوني روحي أخلاقي وفي أكثر موادها يتبين الحكم، وتتبينالمصلحة التي شرع لها، وما يترتب عليه من تحصيل نفع أو دفع ضرر، وبهذا كان المسلم يفهم الحكم حق فهمه، لأنه يعرفه ويعرف ما قصده الشارع به، وينفذه بدافع من ضميره ووجدانه،لأنه يتقي بتنفيذه الضرر، أو يحصل به النفع وأكثر أحكامها كانت مبادئ عامة وقواعد كلية مجملة حيث المصلحة في اجمالها، ومفصلة حيث المصلحة في تفصيلها. وكانت هذه المجموعةكاملة وافية بحاجات المسلمين. وخصوماتهم، ومعاملاتهم، ملائمة أحوالهم، ولقد عدلت بعض أحكامها لتطور حال المسلمين في ذلك العهد، فنسخ حكم، وشرع بدله ما هو مثله أو خيرمنه في تحقيق مصالح الافراد والجماعات من المسلمين. ولما انتهى عهد الرسول وابتدأ عهد أصحابه، واجهت الصحابة طوارئ
/ صفحه 146/لم تواجههم في عهد الرسول، وحدثتلهم وقائع، ظهرت فيهم خصومات، وجدَّت لهم حاجات فنظر خاصتهم وأهل العلم والفتيا منهم في تعرف أحكامها الشرعية، وكان أساس نظرهم واجتهادهم المجموعة الفقهية الأولى بماسنته من احكام وما قررته من مبادئ، وما أرشدت إليه من مصالح، فتوصلوا بالنظر فيها وبالاجتهاد على ضوئها إلى جملة من الأحكام الشرعية العملية، استمدوا بعضها من النصوص منطريق عبارتها أو إشارتها أو دلالتها، واستمدوا بعضها من طريق القياس على ما ورد في النصوص أو رعاية للمصالح المرسلة أو غير هذين من طرق استمداد الأحكام التي أرشدهم إليهاالله ورسوله، ومن فتاوى الصحابة واجتهادهم في النصوص وفيما لا نص فيه تكونت المجموعة الفقهية الثانية مبنية على أساس المجموعة الفقهية الاولى، ومبينة وموضحة لنصوصهاومسايرة مصالح المسلمين وحاجاتهم. فكما ساير الفقه مصالح المسلمين في عهد الرسول سايرها في عهد اصحابه وكما نما واتسع في عهد الرسول تبعاً لنمو معاملات المسلمين واتساعدائرة حاجاتهم نما واتسع في عهد أصحابه. وكانت هذه المجموعة الثانية على سنن المجموعة الاولى تشريعاً لحوادث واقعة، في قضاء خصومات عارضة، وليس فيها تشريع لفروضاحتمالية، ولا إجابة عن (أرأيت)، وإنما افترقت هذه المجموعة الثانية عن المجموعة الاولى في أنه وجد فيها اختلاف في أحكام بعض الوقائع تبعا لاختلاف الفتاوى التي صدرت منالصحابة فيها. وهذا الاختلاف ضروري الوقوع إما من اختلاف المفتين في فهم النص، أو من وقوف احدهم على سنة لم يقف عليها الاخر، أو من تقديره لمصلحة لم يقدرها الاخر تقديره.
ولمّا انتهى عهد الصحابة وابتدأ عهد التابعين وتابعيهم والائمة المجتهدين في اوائل القرن الهجري الثاني كانت الدولة الإسلامية قد اتسعت رقعتها، وانتظمت بلاداًمتنائية، وشعوبا مختلفة النظم والعادات والمعاملات بما فتح الله للأمويين في الشرق وفي الغرب، ودخل في دين الإسلام أفواج من غير العرب من الفرس والروم وغيرهم، ولكل هذهالبلاد المتنائية والشعوب المختلفة نظم ومعاملات ومصالح، ما كان للمسلمين عهد من قبل بأكثرها، والحاجة ماسة إلى التقنين لها،
/ صفحه 147/وسن الأحكام التي يقضيبها في خصوماتها وتطبق على معاملاتها، لهذا أخذ فقهاء التابعين وتابعيهم وعلى رأسهم فقهاء المدينة السبعة، وفقهاء الكوفة ومكة ومصر، وسائر الامصار الإسلامية في استنباطالأحكام وسن القوانين التي تقتضيها حاجات المسلمين ومصالحهم، وكان أساس اجتهادهم المجموعة الفقهية الأولى، والمجموعة الفقهية الثانية، وكان ميدان اجتهادهم التشريعيفسيحاً، وحاجات المسلمين تتطلب منهم قوانين كثيرة، وقد وفوا بحاجات المسلمين، واستنبطوا الأحكام التي اقتضتها وفي هذه البيئة التشريعية الخصبة، والحركة الاجتهاديةالمباركة ظهر الائمة المجتهدون أبو حنيفة ومالك والشافعي وداود والاوزاعي وأحمد وكثير غيرهم، فاجتهدوا واستنبطوا واستضاءوا بنور المجموعات الفقهية التي تكونت منقبلهم، وسايروا مصالح المسلمين، وما ضاق الفقه بحاجة ولا قصر عن مصلحة بل استنبطوا الوقائع فرضية، والخصومات احتمالية، وما شعرت حكومة اسلامية ولا فرد أو جماعة منالمسلمين بقصور الفقه عن مصالحه أو بالحاجة الي غير الفقه الإسلامي لتدبير شأن من الشئون المدنية أو الجنائية أو التجارية في السلم أو في الحرب، وهذه الموسوعات الفقهيةفي مختلف المذاهب تشهد بأن أولئك الائمة المجتهدين ما جمدوا ولا وقفوا أمام حادث أو طارئ، وكل عقد أو تصرف أو نوع من المعاملات جد في عهدهم شرعوا له الأحكام التي تتفقوالمصلحة، وتكفل للمسلمين ضرورياتهم وحاجياتهم وتحسينياتهم.
ولما انتهى عهد الائمة المجتهدين ونبتت في القرن الهجري الرابع فكرة سد باب الاجتهاد والوقوف عنداجتهادات السابقين، والتزام متابعتهم ظهر نوع من الحرج، لأن الائمة السابقين رضوان الله عليهم ما استنبطوا أحكاماً لكل ما وقع وكل ما يقع، ولأن كل عصر تولد فيه حاجاتوتحدث فيه أقضية ومعاملات، وتتجد له مصالح وحاجات، فإذا لم يقنن الفقه الإسلامي لكل ما يجد قانونه، قصر عن مسايرة الناس وتحقيق مصالحهم، وقد وجد اتباع الائمة المجتهدينطريقاً لرفع هذا الحرج، والعمل على أن يظل الفقه نامياً مسايراً تطور المسلمين فاخذوا أنفسهم بأنواع من الاجتهاد، ولكنهم لم يسموها اجتهاداً، فمنهم من أخذوا في استنباط
/ صفحه 148 /الأحكام لما يجدّ من الحوادث والوقائع، ولكن على أساس القواعد التي قررها أئمتهم للإستنباط، وهؤلاء يسمون مجتهدي المذهب أو أهل الاجتهاد المقيد،ومنهم من أخذوا في توسعة أقوال الائمة وتفصيل مجملها وتبيين مآخذها لتنتظم وقائع جديدة وهؤلاء يسمون أهل التخريج، ومنهم من أخذوا في الموازنة بين أقوال أئمتهم وترجيحأحدها بناء على أنه أرفق بالناس وأولى بالقياس.
وهذه الجهود وإن كانت جهوداً محدودة، كان فيها رفع لحرج الجمود والوقوف وأخذٌ من الفقه الإسلامي ليسير مع الحاجاتوالمصالح.
ولكن الضعف الذي انتاب المسلمين سياسياً وخلقياً وعلمياً قضى على هذه الجهود الجزئية ايضاً وسد باب الاجتهاد المقيد كما سد باب الاجتهاد المطلق، وأصبحالمسلمون وليس لهم أن يستنبطوا من الكتاب والسنة، وليس لهم أن يخالفوا السابقين من الائمة، وكل معاملة تجد لهم أو حادث يطرأ لهم، عليهم أن يرجعوا فيه إلى اجتهادات الائمةالسابقين ليعرفوا منهم حكم مالم يكن في عصرهم، وليطبقوا ما استنبطه السابقون لبيئتهم ولمصالحهم، حتى شرط الواقف الذي يجب ان يفهم حسب عرفه يجب أن نطبق فيه ما قالهالسابقون في عرف سابق.
من هذا الايجاز تبين أن الفقه الإسلامي لما كان نامياً متجدداً في عهد الصحابة وفي عهد التابعين والائمة المجتهدين ساير مصالح الناس ووفىبحاجاتهم، ولما كان مرعياً بالتعهد والتجديد بعض الرعاية في أول عهد التقليد للأئمة المجتهدين، ظل كذلك يساير التطورات ويحقق المصالح، ولما وقف وجمد بسد باب الاجتهادالمطلق وسد أبواب الاجتهاد المقيد وقف عن مسايرة التطور والمصالح، وبهذا تمكن بعض ولاة الأمور من التشريع بالاهواء، والتقنين بما يحقق أغراضهم، سواء أخالف المجموعاتالفقهية أم وافقها، وأدى ذلك الجمود وهذه القوضي إلى ان سنت للمسلمين قوانين من غير فقههم وأصبحوا عالة على غيرهم في التشريع كما أصبحوا عالة على غيرهم في الحربوالإقتصاد والتجارة وسائر مرافق الحياة وليس العيب عيب الفقه الاسلامي، وإنما العيب عيب المسلمين وجمودهم واستكانتهم للضعف
/ صفحه 149/وسوء الظن بأنفسهم،ولن يصلح الفقه الإسلامي لمسايرة تطور المسلمين الا بالرجوع به إلى حالته الاولى، ولا يتم ذلك إلا بأمرين:
أولهما خدمة التراث الفقهي القديم واظهار موسوعاتهللمسلمين إظهاراً يمكنهم من الموقوف على كنوزه واستثمار جهوده بحيث يتسنى لرجل الفقه والقانون أن يرجع إلى المبسوط والمدونة والام كما يرجع إلى كتاب قانوني مرتب مفهرسمبوب.
وثانيهما: تكوين جماعة من رجال الفقه والقانون للعمل بأنواع الاجتهاد المقيد فيجتهدون في الوقائع التي لم يجتهد فيها المجتهدون المطلقون، ويخرجون اجتهاداتالمجتهدين، ويوازنون بين أقوالهم ويرجحون أنسبها بحال الأمة ومصالحها.
فأما إذا ظللنا على هذه الحال: تراثنا القديم مغبر معقد لا سبيل إلى فهمه الا لأفراد قلائل.والجديد من الوقائع ليس فينا من ينظر فيه نظرة اجتهادية مصلحية، فسيذهب هباء كل نداء بأن يكون الفقه الإسلامي مصدر التقنين.