سورة الحمد أهدافها، معطياتها
السيد محمد باقر الحكيم بسم الله الرحمن الرحيم
بالإمكان تقسيمهذه السورة المباركة بعد البسملة إلى مقاطع ثلاثة.
المقطع الأول
ويتضمّن قوله تعالى (الحمدُ لله ربّ العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين)(1)، وهومقطع الثناء والحمد والتمجيد لله تبارك وتعالى. وهناك مجموعة من النكات المهمّة يمكن ملاحظتها عند دراسة المضمون العام والكلّي لهذا المقطع الشريف يمكن جمعهافي الأمرين الرئيسين الآتيين :
أولاً: معالم العلاقة الإلهية بالعبد
إذا أردنا أن نكوّن الصورة الكاملة لطبيعة العلاقة بين طرفين فلا بد أن ننظر إليهامن خلال زاويتين وبعدين رئيسين هما بُعد علاقة كل من الطرفين في علاقته مع الآخر، أي بعد علاقة (أ) مع (ب) وبعد علاقة (ب) مع (أ)، لأنّ نسبة أحدهما إلى الآخر قد تكون متكافئةكما في علاقة (الاخوة) بين شخصين، وقد تكون مختلفة كما في علاقة (الأبوة) و (البنوة) بين شخصين آخرين، حيث تكون الاُولى مجسّدة لبعد من العلاقة والاُخرى مجسّدة لبعد آخر منتلك العلاقة نفسها. والعلاقة بين الله تعالى والعبد من النوع الثاني، حيث يمثّل البعد الأول فيها علاقة (الألوهية)، والبعد الثاني علاقة (العبودية) وذلك لاختلافحقيقة كل منهما عن الآخر.
وقد تعرّض المقطع الأول لهذه السورة المباركة إلى تشخيص طبيعة علاقة الله بالعبد من بُعدها
الأول (الإلهي) وحدّد لها مجموعة منالخصوصيات هي :
الخصوصية الاُولى - الحسن الاختياري في خلق الإنسان :
وفي كل فعل يصدر منه تعالى تجاه العبد أو تجاه غيره من الموجودات ويتضمّنها قولهتعالى : (الحمد لله) في مقام مدحه والثناء عليه عزّ وجلّ و(الحمد) يكون مدحاً لأمر إذا كان (حسناً) وصادراً عن (إرادة واختيار). وهذا الأمر ثابت في حقّه تبارك وتعالى، إذ خلقكلّ شيء وأحسن خلقه وجعله متناسباً ومتناسقاً ومنظماً، وقد أكّد القرآن الكريم هذا المعنى تجاه الخلق بشكل عام وتجاه الإنسان بشكل خاص. قال تعالى : (الذي أحسنكلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين)(2).
(هو الله الخالق البارئ المصوّر لهُ الأسماء الحسنى...)(1).
(صبغة الله ومَن أحسنُ مِنَ الله صبغة...)(2).
(...ثُمّ أنشأناهُ خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين)(3).
(الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني...)(4).
(ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحقَ وأحسنتفسيرا)(5).
(لَقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ في أحسنِ تقويم)(6).
وقد كان هذا الخلق الحسن عن إرادة واختيار وقدرة.
قال تعالى:
(...قل فمن يملك منالله شيئاً إنْ أرادَ أنْ يهلك المسيح ابن مريم واُمّه ومن في الارض جميعاً...)(7)، فله القدرة والإرادة المطلقة التي لا يستطيع أن يسلبها إيّاه أحد.
(قل من ذا الذييعصمكم من الله إنْ أرادَ بِكُم سوءاً أو أرادَ بِكُمْ رَحمة...)(8).
(إنّما أمره إذا أرادَ شَيئاً أنْ يقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكون)(9).
كما انّ هذا الحمد في(الحمد لله) حمد مطلق دلّ على انحصاره به عزّ وجلّ تقديم كلمة (الحمد) على لفظ الجلالة (الله).
الخصوصية الثانية: التطوّر والتكامل في هذا الحسن
ويتضمّنهاقوله تعالى (ربّ العالمين) فلهذه الجملة الناقصة في مصطلح النحويين دلالة كبيرة مهمة، تمثّل خصوصية اُخرى في تصوّر علاقة الله عزّ وجلّ بالعبد. فقد خلق الله عزّوجلّ كلّ شيء عن إرادة واختيار، وأحسن خلقه، وجعله متناسقاً ومنَظّماً ثم جعله يسير في طريق التطوّر والتكامل، وهذا المعنى هو المستفاد من معنى ربوبيته عزّ وجلّللعالمين، إذ الربوبية سنخ علاقة تتضمّن التطوير والتكامل للمربوب، ويفهم ذلك من كلمة (الرب).
وهذا المعنى يمكن أن نفهمه من الآية الكريمة سواء فسّرنا (العالمين)بالمعنى العام الشامل الذي يعم كل العوالم من قبيل (الجماد والنبات والإنسان والحيوان)، أو فسّرنا (العالمين) بخصوص عالم الإنس والجن والملائكة، فإنّ كل ذلك قابل للتطوّروالنمو والتكامل.
1ـ الحشر : 24.
ـ البقرة : 138.
ـ المؤمنون : 14.
ـ الزمر ة 23.
ـ الفرقان : 33.
ـ التين : 4.
ـالمائدة : 17.
ـ الأحزاب : 17.
9ـ يس : 82.