لابد من دين الله لدنيا الناس
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ يس سويلم طه من كبار علماء الأزهر
إن حاجة الناس في حياتهم الفردية والجماعية إلى هداية الدين السماوي، حاجة قضت بها الحكمة التي خلقوا لها، والفطرة التي فطروا عليها، وترجع هذه الحاجة في تفصيلها إلىالأصول الآتية:
الأصل الأول: أن الإنسان لم يخلق في هذه الحياة عبثا، ولا جاءت به العناية الإلهية إلى العالم الارضي ليترك فيه سدى، تتحكم فيه غرائزه وأهواؤه،وتستعبده شهواته وأطماعه، وإنما خلقه الله تعالى ليكون خليفة في الأرض، يعمرها ويمش في مناكبها إلى اجل مسمى، ويحمل فيها أمانة الشرائع السماوية قياماً بحقوق الألوهيةوالربوبية، وتجري عليه قوانين المسئولية والجزاء، تحقيقاً لما تقضي به قواعد العدالة الإلهية.
وهذه الحكمة التي خلق لها، تقتضي أن يكون عالماً بما يجب أن يعلم منصفات الله تعالى وشئونه في أفعاله، عارفا بالغاية التي خلق لأجلها، والحقوق والواجبات المترتبة على هذه الغاية، ملماً بأحوال الدار الآخرة التي إليها مرده، وفيها حسابهوجزاؤه، غير أن الإنسان مهما سما عقله وفكره، واتسعت دائرة إدراكه وتفكيره، لا يستطيع أن يحقق هذه المطالب بنفسه، ولا أن يصل فيها إلى الحق واليقين بمجرد عقله وفكره. أما بالنظر لشئون الألوهية والربوبية، فلأن العقل لا يستطيع أن يستقل بمعرفة ما يجب أن يعرف من صفات الله تعالى وشئونه في أفعاله، لضعفه عن مقاومة سلطان الوهم والخيالعند ما يفتقد الرائد والمرشد، ووقوف إدراكه بسبب أوهام
/ صفحه 298/الخيال عند حدود العوالم المادية والمشاهد الحسية، فكيف يتسنى له مع هذا الضعف والوقوف عندمدارك الحواس، أن يصل بإدراكه الذاتي إلى معرفة شئون الإلة الحق، الذي احتجب عن الحواس بحجاب العظمة والجلال، وتعالت ذاته العلية عن الإحاطة والادراك، وتنزهت صفاتهالقدسية عن المشابهة والمماثلة.
ومما يؤيد هذا الذي قررناه تأييداً واضحاً، أن المتقدمين من كبار الفلاسفة وشيوخهم، وهم من صفوة أرباب العقول المفكرة، والبصائرالنيرة، والأحاسيس المرهفة، وقفوا في مباحث الالهيات حياري في منتصف الطريق، وتشعبت عليهم مسالك البحث والنظر، وتخبطوا في هذه المباحث التي أفنوا فيها أعمارهم، ولميستطيعوا بكل ما وضعوا من قوانين النظر والاستدلال، أن يصلوا إلى الحقائق الخالصة من شوائب التضليل والتلبيس، وجاءوا بعد طول المطاف بخليط من الوثنية والتوحيد، ومزيجمن المذاهب الفلسفية التي لا تغني من الحق شيئا، وكان أوضحهم في ذلك محجة، وأصحهم رأيا، واصدقهم حديثا، من كان منهم على صلة بشرائع الانبياء والرسل، فقد كانت صلتهمبالشرائع السماوية تضفي على عقولهم قبساً من صحة النظر، واستقامة التفكير.
وأما بالنظر إلى معرفة الغاية التي خلق لها، والحقوق والواجبات المترتبة عليها، والإلمامبأحوال الآخرة التي يرجع إليها، فلأن العقل لا يستطيع أن يستقل بفهم ما يجب أن يفهم من شئون الدار الآخرة وأحوالها، وما يتصل بها من الأقوال والأعمال التي ربط الله بهاالسعادة أو الشقاوة فيها، لأن ذلك فوق مستوى إدراكه الذاتي، وتفكيره الاستقلالي، وإنما يعرف ذلك كله عن طريق الوحي الالهي، وإرسال الرسل، وتشريع الشرائع، ولهذا ربطالله مسئولية التكليف والمؤاخذة بإرسال الرسل وتبليغ الشرائع، لا بمجرد بلوغ الرشد واكتمال العقل، كما قال تعالى في سورة الإسراء: '''' وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ''''. فهذا الأصل كما ترى، يقضي بحاجة الإنسان في كل زمان ومكان، إلى هداية سماوية ترفع عن عقله غواشي الوهم والخيال، وتكشف له عن الحقائق المتعلقة
/ صفحه 299/بشئونالألوهية والربوبية، وشئون الدار الآخرة وأحوالها، وتبين له مناهج السلوك التي تحقق الحكمة التي خلق لها.
الأصل الثاني: تفاوت الناس في نظرهم إلى أوضاع الحياةوصورها، وتحديد مطالبها وغاياتها، وتعيين ا لوسائل الموصلة إلى هذه المطالب والغايات، فإن الإنسان في حياته الفردية والجماعية له غاية يسعى ليدركها، وهذه الغاية التييسعى وراءها، ويكافح من أجل الحصول عليها، هي السعادة التي يهتف بها حسه ووجدانه، وتتراءى له في أحلامه وآماله، غير أن هذه السعادة التي هي الأمل المرجي والمطلبالمرتقب، قد اختلفت أنظار الناس في فهم حقيقتها، وتقدير مظاهرها، وتعيين مواطنها، وتحديد وسائلها، وذهبوا في ذلك وراء اختلاف الأهواء والنزعات مذاهب شتى، فمنهم منيراها في أن يعيش على هامش الحياة هملا، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام السائمة، ومنهم من يراها في الإغراق والإسراف في متع الحياة ولهوها، ومنهم من يراها في الاباحيةوالالحاد، والتحلل من قوانين الأخلاق وقواعد السلوك، ومنهم من يراها في جمع المال واستعباد الرقاب، وقليل منهم من يراها في استقامة السلوك وإن اختلفوا في صوره ومناهجه،كما يشير إلى ذلك كله قول الله تعالى في سورة المؤمنون: '''' كل حزب بما لديهم فرحون، فذرهم في غمرتهم حتى حين '''' وفي الاسراء: '''' قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدىسبيلا'''' وهكذا تفاوتت الأنظار والأفهام، وتباعدت الميول والمشارب، وغابت الحقائق عن العقول في غمرة الأهواء والشهوات.
فهذا الأصل كما ترى، يقضي بحاجة الناس في كلزمان ومكان، إلى هداية أعلى من هداية العقل والحواس، تكون القول الفصل فيما فيه يختلفون، والمرجع الأعلى في تكييف أوضاع الحياة وصورها، وتحديد مطالبها وغاياتها، وتعيينالوسائل الموصلة إلى هذه المطالب والغايات، وتوضيح حقيقة السعادة التي ضلت طريقها الأنظار والأفهام، وهي هداية التشريع السماوي، الذي لا تقترب منه عوامل الزيغوالانحراف، ولا تشوبه شوائب التضليل والتلبيس، ولا تتحكم في
/ صفحه 300/مناهجه الأهواء والنزعات، ولا تلتوي بمقاصده الأغراض والأفهام، لأنه وضع إلهي نزلبالحق من عالم الحق، لا وضع بشري جاء من تفكير العقل أو من وحي الهوى.
الأصل الثالث: عوامل الزيغ والانحراف والإغراء، التي تحيط بالانسان وتسير معه في حياته جنبا الىجنب، والتي تتجلى أصولها في سيطرة الخيال وأوهامه، وطغيان الهوى وتحكمه، ووحي الشيطان ووسوسته، وشره الغرائز وجموحها، وطغيان النفس في مطالبها وشهواتها.
فإنالإنسان من حيث هو إنسان بعقله وحواسه فحسب، مستعد بفطرته لانطلاقه وراء الوهم والخيال في تضليل العقول وإفساد العقائد، وخضوعه لتحكم الهوى في تفكيره وسلوكه، وطاعتهللشيطان في وحيه وإغرائه، وانقياده لشره الغرائز وجموحها، وتسخير عقله وحواسه في سبيل إشباع غرائزه ونزواته، وتحقيق مطالبه وأطماعه، والمطالب والأطماع لا تقف عند حد،وكثيراًَ ما تمتد هذه المطالب والأطماع إلى ما في يد غيره، فيقع التنازع والتعادي بين الأفراد والجماعات، ويشهر القوى على الضعيف سلاح بغيه وعدوانه، وقد يصبح الضعيفقويا، فيرد لخصمه صاع البغي صاعين، والشر بالشر والبادي أظلم، وهذا هو شأن النفوس ما دامت منطوية على ميول جامحة، وشهوات مطاعة، وأهواء متبعة، وليس لها مع ذلك وازعيزعها، ولا مرشد يرشدها، وإذا وصل الإنسان في غيه وانحرافه إلى هذا الحد، واسترقت الأهواء عقله وفكره على هذا النحو، فكيف يتسنى له أن يعيش سعيداً كريما في مجتمع سعيدكريم.
فلكي يتأتي له أن يعيش سعيداً كريماً في مجتمع سعيد كريم، يجب أن يكون في سلوكه الفكري والخلقي والعملي، صحيح الإدراك، سليم التفكير، مالكا لزمام أهوائهوأطماعه، كابحاً لسورة غرائزه وشهواته، واقفا بمطالب النفس عند حدود التوسط والاعتدال، بيد أن هذا السلوك لا يمكن إن يتحقق له بمجرد تدبير العقل وإعمال الفكر، لان العقلمن حيث هو عقل بشري تحيط به عوامل الزيغ والانحراف، لا يستطيع أن يستقل بقيادة القوى الإنسانية والغرائز الفطرية قيادة حكيمة، تسير بها على النهج الذي يحقق للفردوللمجتمع سعادة المعاش والمعاد،
/ صفحه 301/بل يحتاج في قيادته لها على هذا النهج الصالح، إلى رائد من نور الوحي السماوي، يسترشد به في قيادته، ويسير علىتوجيهه وهديه، في تعرف مواطن الخير والشر، ومواقع الصواب والخطأ، ويستعين به على مقاومة عوامل الزيغ والانحراف، فمثل العقل في ذلك كمثل العين الباصرة، فإنها لا تستطيعأن ترى الأشياء رؤية صحيحة كاملة، إلا إذا سطع عليها ضوء خارجي، تستعين به على رؤية ما أمامها من المرئيات على حقيقتها، وأما ما دامت في جو مظلم، فإنها لا تستطيع أن تقومبوظيفتها، وإن كانت موجودة بجوهرها وطبيعتها.
وأما ما نراه اليوم من بلوغ العقل شأواً بعيداً في المجال الفكري والقيادي، فليس ذلك من قبيل الطفرة والابتكار المحض،وإنما هو راجع في أصله إلى هداية الدين السماوي، ومبني في تطوره على نتاج العقول السابقة، كما تقضي بذلك سنة التدرج والترقي، ولهذا يقولون: '''' نهاية المتقدم بداية المتأخر'''' فكل حلقة من حلقات الرقى العقلي، مبنية على الحلقة التي قبلها إلى منتهى الحلقة الأولى، وهي الحلقة التي استمدت علومها من الوحي السماوي الأول، الذي علم آدم وأولاده فيأول مرحلة من مراحل الوجود الانساني، ما يحتاجون إليه في حياتهم من مقومات الحياة ومناهج السلوك، ويستطيعون البناء عليه في تنظيم شئونهم وتدبير معاشهم، ويسترشدون به فيسيرهم وسلوكهم.
فهذا الأصل كما ترى: يقضي بحاجة الإنسان في كل زمان ومكان، إلى هداية روحية سماوية، تحرر عقله من سيطرة الأوهام والخرافات، وتضيء له طريق النظر الصحيحوالتفكير السليم، وتبين له معالم الحق ومسالك الرشاد، وتطلق فكره من رق الأهواء وطغيانها، وتكشف له عن خبايا مداخل الشيطان وحبائله، ويستعين بسلطانها الروحي على كبتسورة أطماعه وشهواته، وكبح جماح غرائزه ونزواته، ووزن مطالب الحياة بميزان القسط والاعتدال.
هذه هي الأصول التي قامت عليها حاجة الناس في كل زمان إلى هداية الدينالسماوي، إذ لو ترك الإنسان بدون هذه الهداية أمام هذه العوامل والنوازع، تسير به في سلوكه على النهج الذي تمليه عليه طبيعتها، لتشعبت عليه المسالك، وتفرقت
/ صفحه302/به السبل، وطاحت به الأهواء، واستحالت حياته إلى شقاء، بل لآل أمره إلى الزوال والفناء، ولكن الله الذي أحسن في كل مخلوق خلقه، وأبدع في كل مصنوع صنعه، ويسر لكلكائن وسائل الحياة والبقاء إلى الوقت المعلوم، قد أراد لهذا الإنسان أن يعمر الأرض إلى أجل مسمى، وأن يبلغ فيها الكمال الذي قدره له، فمنحه بفضله ورحمته هداية روحيةسماوية، تساير بتعاليمها مراحل السير وأطوار الحياة في كل زمان ومكان، وتضع للسائرين في ركب الحياة في قواعد السلوك ما يكفل لهم وسائل الحياة والبقاء، ويدفع عنهم عواملالشقاء وأسباب الفناء، ويحقق لهم سعادة الدنيا والآخرة، وتناجي الأحاسيس، وتوقظ العقول والضمائر، وتهيمن بسلطانها الروحي على القلوب والأرواح، وتراقب الإنسان في سرهوجهره، وتبعث فيه قوة اليقين وصحة النظر واستقامة التفكير، وترفع عن بصره وبصيرته غشاوة الأوهام والأهواء التي طالما عكست عليه حقائق الأمور، وقلبت له أوضاع الحياة،وهذه الهداية التي تحدثنا عنها، هي هداية الشرائع الإلهية التي نزلت من عالم الحق، والتي بشرت بها الانبياء والرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وأما ما يزعمهدعاة اللادينية والتحلل من تعاليم الدين ومبادئه، من أن ما وصل إليه الإنسان من الرقى العقلي والنضوج الفكري، واتساع آفاق حضارته ومدنيته، يقوم مقام الدين السماوي فيإصلاح حال البشر، وبناء المجتمعات التي تكفل لأهلها الأمن والاستقرار، وتوفر لهم أسباب السعادة والرفاهية، فإنه زعم كاذب يتخذونه ستاراً لإخفاء سوء نياتهم، وخبثطوياتهم، وتضليل الذين يقفون بأبصارهم عند ظواهر الأمور ورسومها، ولا ينفذون ببصائرهم إلى بواطنها وخوافيها، فإن الحضارة التي لا تؤمن إلا بالحياة المادية البحتة،التي تقوم على الاباحية والاغراق في متع الحياة ولهوها، والتحلل من قوانين الأخلاق والفضائل؛ والاستهانة بالمعاني الروحية والقيم الخلقية، لا يمكن إن تقيم مجتمعاًيسوده الأمن والاستقرار، والمحبة والاخاء، وتتمثل فيه حكمة الوجود الانساني بأعبائها ومسئولياتها، لأن هذه الحضارة المادية مهما بلغت من البراعة في العلوم والفنون مابلغت، لا يمكن أن تحمل أصحابها على احترام حقوق الإنسان، والتزام قواعد الحق والعدل، ولا
/ صفحه 303/تستطيع أن ترد عقولهم إلى رشدها إذا جمحت بهم الأطماعوالأهواء، أو دفعتهم القوة الغاشمة إلى العدوان وسفك الدماء، وكيف تحملهم على احترام حقوق الإنسان والتزام قواعد العدل، وهي لا تؤمن بقدسية الحقوق الإنسانية ومبادئالحق والعدل، وكيف تستطيع رد عقولهم إلى رشدها إذا جمحت بهم الأطماع والأهواء، وهي التي يسرت لهم وسائل الطغيان والعدوان، وسهلت عليهم الاستخفاف بقدسية العهودوالمواثيق، وفتحت لهم مسالك الغدر والخديعة في سلمهم وحربهم، فهم إن سالموا فإنما يسالمون للخديعة والغدر والخيانة، وإن حاربوا فإنما يحاربون لاستعباد الشعوب واحتلالالأوطان.
ولسنا في حاجة إلى استخراج الأدلة على ذلك من الماضي، ففي الحاضر أصدق الدلائل وأبلغ العبر، فإن هذه الحضارة التي يقدسونها، ويتحدثون عن علومها وفنونها،ويريدون الاستغناء بها عن الدين ومبادئه، هي التي ابتدعت لأهلها أبشع أنواع الفسق وصور ا لفجور، وحببت إليهم الامعان في الاباحية والتحلل، وهي التي زينت لهم أن يستبيحوافي سبيل أطماعهم ومآربهم، كل وسيلة من وسائل الدس والوقيعة، والغدر والخديعة، وهي التي يسرت لهم أن يتخذوا من علومها وفنونها معاول للتخريب والتدمير، وأسلحة فتاكة للبغيوالعدوان وسفك الدماء، واستذلال الشعوب واستعباد الأمم، ولهذا تراهم يتظاهرون بأنهم حماة الحرية وحراس العدالة والمساواة، وأنهم هم الذين قرروا حقوق الإنسان، ووضعوامبادئ الإخاء الانساني والتعاون الاجتماعي، حتى إذا دفعتهم المطامع والقوة الغاشمة إلى ميدان الصراع والغلب، داسوا بأقدامهم أقدس حقوق الإنسان، واستهانوا بكل عرفوقانون، وصبوا الهلاك والدمار على البلاد والعباد، وقتلوا الشيوخ والنساء والأطفال، واستباحوا الأموال والاعراض، وملؤا الدنيا خوفا وفزعا، والأرض ظلما وجورا، ولايعرفون في حروبهم شفقة ولا رحمة، كأن قلوبهم قدت من الصخر، وأجسامهم تقمصت أرواح الشياطين، هذا هو حظ الإنسانية من هذه الحضارة التي أسرفت في سفك الدماء المعصومة،وإزهاق الأرواح البريئة، حتى سالت الأودية
/ صفحه 304/بالمهج، واخضلت الرُّبا بالدماء، وتجاوبت أمواج الأثير بأنين الضحايا والشهداء، وضجت جوانب الأرض منبشاعة ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
وهذه هي مقاصدهم التي سخروا لها علومهم وفنونهم، والتي قامت عليها سياستهم في الفتح والاستعمار، وهذا هو شأنهم في ماضيهم وفيحاضرهم، لأنهم لا يدينون في عقائدهم وسلوكهم بشرائع الانبياء، ولا يخافون في أعمالهم ومعاملاتهم يوم العبث والحساب والجزاء.
فوازنوا يا أرباب العقول المنصفة، بينهذه الحضارة المادية وحظ الإنسانية منها، وبين الحضارة التي تقوم على هدى الدين ومبادئه، والتي تستطيع بسلطانها الروحي أن تحمل أهلها في سلمهم وحربهم على احترام حقوقالإنسان والتزام قواعد الحق والعدل، فإذا سالموا فإنما يسالمون لنشر الأمن والاستقرار، وتقوية أواصر المحبة والإخاء، وتوثيق عرى التعاون الاجتماعي بين الأفرادوالجماعات، وإن حاربوا فانما يحاربون لمحق العدوان والطغيان وتحرير الشعوب، لأن سلطان الدين الذي ملأ فراغ قلوبهم، وملك عليهم حواسهم ومشاعرهم، وهيمن على تفكيرهم فيتصريف شئونهم، يعصمهم في سلمهم وحربهم من تغلب المطامع والأهواء على عقولهم وتفكيرهم، فلا تبلغ بهم الاهواء والأطماع إلى حد الطغيان العدوان، ولا يصل بهم حب الغلب فيميدان الصراع الحربي إلى حد الوحشية والقسوة، والاستهانة بقدسية العهود والمواثيق، والاستخفاف بمبادئ الحق والعدل، والتجرد من المعاني الإنسانية والخلق الكريم، ومماتقدم تتضح لنا الحقائق الآتية:
1 ـ أن الحضارة المادية بكل فلسفتها وعلومها ومكتشفاتها، لا تستطيع أن تستقل بإصلاح حال المجتمع إصلاحا يكفل له الأمن والاستقرار،وينشر في ربوعه الطمأنينة والسلام، وأن هذا الإصلاح لا يمكن أن يتحقق في أي زمن من الأزمان، إلا عن طريق الجمع والمؤاخاة بين الدين والعلم، وسيرهما معا في الإصلاح جنباإلى جنب، الدين للقيادة الروحية وإصلاح مناهج السلوك، والعلم للكشف
/ صفحه 305/والإنتاج وإصلاح أمور المعاش، ورجال كل لكل في البناء والإصلاح أعوان وأنصار. 2 ـ أن ارتقاء الأمم في العلوم الكونية والحضارة المادية، إذا لم يكن قائما على تعاليم الدين التي توجهه إلى خير الإنسانية وسعادتها، فانه يكون بلاء للشعوب، ومحنةللأمم، لأن هذه العلوم والفنون لابد لها من مجالات تظهر فيها ثمارها، فإذا لم توجهها تعاليم الدين إلى مجالات الخير والبناء والإصلاح، وجهتها الأطماع والأهواء إلى الشروالهدم والإفساد لا محالة، وهذا هو الواقع الذي نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا، فقد أصبحت هذه الحضارة مهددة في كل لحظة بالتدمير والفناء.
3 ـ أن بناة هذه الحضارةالمادية لو أنهم أقاموها على أساس روحي يكبح جماحها وطغيانها، وساروا بها على هدى الدين السماوي، لكانت من أنجع الوسائل في إصلاح حال البشر، وأقوى العوامل في دعم روابطالأمم وتعاونها.
فهلا آن لشعوب الحضارة المادية وقد أحدق بهم خطر الجبروت الحربي، واشتدت عليهم وطأة الحياة المادية وأوزارها وشرورها، أن يتجهوا بعلومهم وفنونهمإلى الخير والاصلاح، ويعودوا بمقاصدها إلى حظيرة الدين ومبادئها واستقرارها، شفاء لما في صدورهم من الأحقاد والأضغان، وسكنا لما في نفوسهم من القلق والاضطراب، وراحةلقلوبهم من مزعجات الشك والارتياب، ولعاشوا في مجتمعات يسودها التعاون والإخاء، ويجمع شتاتها الحب والوئام، وتملأ آفاقها عوامل الطمأنينة والاستقرار والسلام.