ماهیة العمل التفسیری للقرآن الکریم (2) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

ماهیة العمل التفسیری للقرآن الکریم (2) - نسخه متنی

محسن العراقی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

ماهية العمل التفسيري (1) - تحديد العمل التفسيري

الشيخ محسن العراقي

منالضروري لنا ومنذ البدء في أيّ عمل تفسيري أن نحدّد الطريقة التي نريد اتّباعها في الفهم التّفسيري لكتاب اللّه العزيز.

وتحديد المنهج والطريقة المتّبعة فيالتفسير تتطلّب تحديد العمل التفسيري قبل كلّ شيء ليتسنّى لنا آنذاك أن نحدّد المنهج والطريقة الصحيحة في التفسير.

تحديد ماهيّة العمل التفسيري

هناكفروض واحتمالات عديدة في تحديد العمل التفسيري:

الافتراض الأول: أن يُفترض القرآن كلاماً ملغّزاً رمزيّاً، أو ما يُعبّر عنه في لغة الأصوليين بالمُجمل.والتفسير عبارة عن محاولة كشف هذه الرّموز وفتح مغاليقها وبيان الأسرار الكامنة فيها. وهذا يعني أن اللّه سبحانه وتعالى لم يتّبع في كلامه القرآني الأساليب المتّبعة بينالناس في التّفهيم والتّفاهم. بل اتّبع طريقة خاصّة لا يعرفها إلاّ النبي صلّى اللّه عليه وآله والمخصوصون من أوليائه وأهل بيته الذين وقفوا على مفتاح هذا الرّمزواطّلعوا على خفايا هذا السرّ.

وهذا يعني في عبارة أخرى خروج القرآن عن طور الكلام، ودخوله في مقولة الإشارات والرّموز، فإنّه لا يطلق الكلام على مجرّد الأصواتالمؤتلفة في تنسيق خاصّ، بل المراد بالكلام التراكيب اللفظيّة المعيّنة بما هي موضوعة لمعان خاصّة، فإذا انتزعت منها هذه المعاني خرجت عن مقولة الكلام وانخرطت في سلكالإشارات والرّموز(1).

وهذا الفرض باطل بما سوف نذكره من دليل، وبطلان هذا الفرض يعني صحّة التقدير الآخر وهو أنّ القرآن الكريم كلامٌ عربي مبين اتّبع نفسالطريقة المألوفة في التّفهيم والتّفاهم عند الناس، وجرى بنفس الأسلوب المتّبع في الكلام لدى العرب وهم الذّين نزل القرآن فيهم وبُعث الرّسول الأكرم صلّى اللّه عليهوآله بينهم.

أمّا دليل بطلان الفرض فهو من العقل ومن النقل:

ودليل العقل وجوه:

الأول: لا ريب أنّ الرّسول الأكرم صلّى اللّه عليه وآله ألقى هذاالكتاب إلى الناس ولم يحتفظ به لنفسه أو لخاصّته، ولو كانت المعاني المقصودة بهذا الكلام معاني خاصّة غير المعاني التي ألف الناس فهمها من كلام من هذا القبيل، لكان ذلكإغراءً لهم بالجهل، وإبعاداً لهم عن واقع الشريعة، وتمهيداً لوقوعهم في متاهات الضلال، وانزلاقهم في مهاوي الانحراف. وذلك مستحيل على من بعثه اللّه هادياً للبشريّة إلىالصراط المستقيم وجعله سبباً لاقترابهم منه، وابتعادهم عن الضلال والانحراف.

ولانّ القرآن الكريم كلامٌ عربيّ من سنخ الكلام المتعارف لدى الناس الذين انتشرالقرآن بين أظهرهم، فمن الطبيعي أن يترك هذا الكلام أثراً معيّناً على المؤمنين به والمنقادين له، ومن الطبيعي أن يكون هذا التأثّر والتّأثير وفقاً للأساليب المتعارفةفي فهم المعاني والمفاهيم من الكلمات والألفاظ. فإذا كانت المعاني المألوفة غير مرادة ولا مقصودة ـ والمفروض أنّ الناس انساقوا وآراء هذه المعاني والمفاهيم جرياً علىطبيعتهم ومرتكزاتهم ـ كانت النتيجة الحتميّة لهذا الانسياق الوقوع في ما يخالف مقاصد الشّريعة ويناقض أهدافها وطريقتها، ويكون ذلك إغراءً بالجهل وتقريباً إلى الضلال.

الثاني: أنّ الرّسول الكريم ادّعى كون القرآن معجزاً وبرهاناً على رسالته وكونه مبعوثاً من قبل اللّه تعالى. ومن الواضح أنـّه لا بدّ في المعجز من أن يكون واضحاًفي دلالته على صدق النبي ليصحّ اتّخاذه برهاناً على النبوّة.

ودلالة المعجز على صدق الرّسالة قائمة على أساسين:

الأساس الأول: خروج العمل الإعجازي عنحدود الطّاقة البشريّة. وهذا يحقّق التّلازم الواقعي بين العمل الإعجازي وصدق الرّسالة.

الأساس الثاني: وضوح عنصر الأعجاز في العمل الإعجازي، بمعنى أنّ مجرّدالتّلازم الواقعي بين الأعجاز والصّدق غير كاف في دلالة المعجز على صدق الرّسالة، بل لا بدّ من وضوح الملزوم أيضاً ليتسنّى لعامّة الناس أن يصدّقوا بالرّسالة من خلالاطّلاعهم على العمل الإعجازي. والقرآن إعجاز قولي وليس إعجازاً فعليّاً بحتاً، والأعجاز إنّما يُعرف فيما إذا كان العمل الإعجازي مسانخاً للأعمال البشريّة متفوّقاًعليها، وإلاّ فلو لم يكن هناك تسانخ بين العمل الإعجازي والأعمال البشريّة لم يُعرف عجز البشر بالنسبة إليه. وحينئذ فلا بدّ أن يكون الأعجاز القولي مسانخاً للأقوالالمتداولة عند البشر حتّى تصحّ نسبة العجز عن هذا النّوع من الكلام إليهم، لانـّه مسانخ لسائر كلامهم، ولكّنه فوق كلامهم وخارج عن حدود قدراتهم التعبيريّة والقوليّة.فالعجز البشري عن القيام بالعمل الإعجازي إنّما يصحّ تصوّره في الأعجاز القولي إن كان من سنخ سائر الممارسات القوليّة المألوفة بين الناس. فلو قام النبيّ بأعمالإعجازيّة كثيرة في خلوة عن الناس، أو أنـّها كانت بمرآى منهم ومسمع لكنّها لغموضها وإبهامها لم تتّضح للناس جهة إعجازها وكونها خارجة عن حدود الطّاقة البشريّة. فكيف تتمدلالتها على صدق دعوى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ما دام لم يتّضح للناس كونها أمراً معجزاً وخارجاً عن حدود الطّاقة البشريّة؟ وحينئذ فبما أنّ القرآن من جنس الكلام،فلا بدّ أن يكون من جنس الكلام المتعارف والمألوف لدى الناس، ليتمكّنوا حينئذ من معرفة جهة إعجازه، وليتّضح لهم كونه خارجاً عن حدود الطّاقة البشريّة، إذ كيف يمكنلعامّة الناس معرفة جهة الأعجاز في الألفاظ الملغزة وغير المفهومة؟

الثالث: إنّ النصّ القرآني جاء على شكل كلام منتظم مفهوم رصين، ولو قصد به الرّمز والإشارة لميكن من الضروري أن يأتي على هذا النمط المتّسق المتين.

إذاً فهنا احتمالان:

1 ـ أن لا يقصد بهذا الكلام المنتظم المنسّق هذه المعاني المفهومة منها، بليقصد به معاني اُخرى لا علاقة لها بخصوص هذا النوع من الكلام، بل كان يمكن أداؤها باستعمال رموز وإشارات اُخرى.

2 ـ أن يقصد بهذا الكلام هذه المعاني المفهومةمنها.

ولا شكّ أن كلّ ظاهرة من ظواهر الانسجام والتّنسيق بين كلمات القرآن على أساس من معانيها المتعارفة قرينة قويّة على كون هذه المعاني هي المرادة من هذهالألفاظ، ولا ريب أنّ اجتماع كلّ هذه القرائن المتظافرة لا يترك مجالاً لاحتمال إرادة معان خفيّة ومفاهيم اُخرى غير المفاهيم والمعاني المتعارفة.

كلّ هذا منالدليل العقلي على كون الكلام القرآني كلاماً مبيّناً غير مجمل.

وأمّا الدليل النقلي: فمن الكتاب طوائف عديدة من الآيات:

الطائفة الأولى: آيات التحدّي،فلولا أنّ القرآن من سنخ الكلام المألوف عند الناس لم يصحّ تحدّيهم بأن يأتوا بسورة من مثله، أو بعشر سور من مثله، أو بمثله كلّه(2).

الطائفة الثانية: الآياتالمتضمّنة كون القرآن بياناً للناس، وهدىً وتبياناً، ونوراً وذكراً وموعظةً(3).

الطائفة الثالثة: آيات الخطاب، أي الآيات المتضمّنة لخطاب الناس، مثل (يا أيّهاالناس) أو لخطاب المؤمنين مثل (يا أيها الذين آمنوا) وأمثال ذلك، فمخاطبة الناس والمؤمنين لا تصحّ إلاّ باللّغة التي يفهمونها، وإلاّ لكان الخطاب لغواً.

الطائفةالرابعة: آيات الترغيب والتشويق، والترهيب والتخويف، فلو لم يكن الظّاهر القرآني حجّةً لم يتحقق الغرض من الترغيب والتشويق أو الترهيب والتخويف، ولكانت كلّ هذهالأساليب والكلمات الترغيبيّة أو التخويفيّة فاقدة لكلّ أثر وعديمة لكلّ جدوى. فمثل (يا أيّها النّاسُ اتّقوا رَبَّكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيءٌ عَظيم)(4)، أو(وَاخْشَوا يَوْماً لا يَجْزي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلودٌ هُوَ جاز عَنْ والِدِهِ شَيْئاً)(5) أو (وَسارِعُوا إلى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكِمْ وَجَنّة عَرْضُهاالسّموات وَالارْض)(6) ونظائرها، تفقد أثرها التّرغيبي أو التّخويفي:

ومن الروايات طوائف كثيرة جداً نشير إلى أهم عناوينها:

الطائفة الاُولى: الرواياتالامرة بالتدبّر في القرآن والإمعان فيه (7).

الطائفة الثانية: الروايات الامرة بالعمل بالقرآن والتمسّك به، وعدم الانحراف عن سبيله (8).

الطائفة الثالثة:الروايات الامرة بعرض الأخبار على القرآن والأخذ بما وافقه وترك ما خالفه(9).

الطائفة الرابعة: الروايات المتضمّنة للاستشهاد بالآيات القرآنيّة وإرجاع السّائلإلى النصّ القرآني(10).

فقد اتّضح بما ذكرناه من الأدلّة القطعيّة نقليّها وعقليّها، بطلان الزعم القائل بخروج الكلام القرآني عن طور الكلام العرفي المتداول بينالنّاس، فالقرآن إذاً كلام من سنخ سائر الكلام غير أنـّه يفوقه بما يعجز البشر عن الآتيان بما يشبهه أو يماثله.

ويترتب على هذا أنّ ماهيّة العمل التفسيري ليستعبارة عن كشف الألغاز والرّموز وحلّ مغاليق الأسرار والمعاني لتنحصر الاستفادة من الكلام القرآني بفئة خاصّة من البشر ـ وهم المعصومون ـ وليختصّ العمل التّفسيريبمراجعة الرّوايات المنقولة عن المعصومين في الكشف عن هذه الألغاز والرّموز.

وبعد بطلان الفرض الأوّل في تحديد ماهيّة العمل التفسيري ننتقل إلى الفرض الثاني:

الافتراض الثّاني: أن يكون العمل التفسيري عبارة عن تحديد ظواهر الألفاظ وتعيين حدود معانيها وفق الأساليب المتعارفة والمتداولة لاقتناص المعاني من قوالبهااللفظيّة.

وهذا الفرض يخالف الفرض الأوّل، ليس في تحديد ماهيّة العمل التفسيري فحسب بل في الأساس الذي يبتني عليه كل من الفرضين أيضاً. فانّ أساس الفرض السابقعدم مراديّة الظواهر اللفظيّة من النصوص القرآنيّة، وإنّها ألفاظ استعملت كرموز لمعان خفيّة لا ككلام متعارف يقصد به المعاني المألوفة من ألفاظها.

وأساس هذاالفرض أنّ القرآن نزل بلغة النّاس، وقصد به إلقاء معانيه من خلال ألفاظه وفق الاسلوب السائد في التفهيم والتفاهم بين عامّة النّاس.

ويتلخّص تحديد العملالتفسيري في ضوء هذا الفرض، بتحديد المعاني التّي تسعها القوالب اللفظيّة، وفقاً للأساليب والقواعد الموضوعة والمتعارفة لدى أهل اللّغة.

والاُسلوب الّذي لابدّ أن يتّبع في العمل التفسيري ـ وفق هذا التّحديد ـ لا يختلف في الغالب عن الاُسلوب الذي ينبغي اتّباعه في تحديد المقاصد والمعاني من الألفاظ والنصوص الصادرة من أيمصدر عقلائي حكيم بهدف عن معقول.

ولعلّ الطريقة الّتي اقترحها المفسّر الكبير العلاّمة الطباطبائي رضوان اللّه تعالى عليه للعمل التفسيري، القائمة على أساس(تفسير القرآن بالقرآن) وفهم النصّ القرآني على ضوء المعنى الّذي يشعّ منه عند عرضه على سائر النصوص القرآنيّة، تنسجم مع هذا اللّون من تحديد العمل التفسيري. وذلك لانّالنصّ القرآني كلّه يعتبر في الواقع كالنصّ الواحد، فتحديد المعاني الظّاهرة للنّصوص القرآنيّة وبلورة المضمون القرآني المنبثق من خلال النصوص إنما يتسنّى لطالبالقرآن عن طريق المواجهة المجموعيّة مع الكلام القرآني، وبعد المتابعة الكاملة للّفظة الواحدة والعبارة الواحدة في مواطن استعمالها المختلفة في القرآن.

ولاريب في ضرورة العمل التفسيري بالمعنى المذكور، فإنّ الفهم المستوعب للظّاهر القرآني لا يتمّ إلاّ من خلال هذا النوع من التّفسير، وسوف نبيّن فيما يأتي العوامل الدخيلةفي تحديد الظّاهر القرآني، والّتي لا بدّ من الاستعانة بها في فهم المعني القرآني الظّاهر.

غير أنّ هنا نقطة تجعلنا لا نكتفي في العمل التفسيري بحدود الظّاهروهي التّأكيد البالغ في الأحاديث الشريفة على أنّ للقرآن ظهراً وبطناً، وأنّ الباطن القرآني يفوق ظاهره في أبعاد المعاني وشمولها وكثرتها.

وهنا نستعرض شيئاً منهذه النصوص:

روي عن ابن عباس: أن القرآن اُنزل على سبعة أحرف ما منها إلاّ وله ظهر وبطن وإن علي بن أبي طالب عليه السلام علم الظّاهر والباطن(11).

وروىالعيّاشي في تفسيره عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية: «ما في القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن، وما فيه حرف إلاّ وله حدّ، ولكل حدّ مطلع مايعني بقوله: لها ظهر وبطن؟ قال: ظهره وبطنه تأويله، منه ما مضى، ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما تجري الشمس والقمر، كلّما جاء منه شيء وقع، قال اللّه تعالى: (وما يعلم تأويلهإلاّ اللّه والرّاسخون في العلم) نحن نعلمه»(12).

وروى البرقي في المحاسن عن أبيه عن علي بن الحكم عن محمد بن الفضيل عن بشر الوابشي، عن جابر بن يزيد الجعفي قال:سألت أبا جعفر عليه السلام عن شيء من التفسير فاجابني ثم سألته عنه ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك، كنت أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم، فقال:«يا جابر، إنّ للقرآن بطناً وللبطن بطن، وله ظهر، وللظهر ظهر، يا جابر: ليس شيء أبعد من عقول الرّجال من تفسير القرآن، إنّ الآية يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء وهو كلاممتّصل متصرّف على وجوه»(13).

وروى الصفّار في بصائر الدّرجات عن محمد بن عبد الجبار، عن منصور بن يونس عن حمّاد اللّحام قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: نحنواللّه نعلم ما في السماوات وما في الأرض، وما في الجنّة وما في النّار، وما بين ذلك، فَبُهِتُّ أنظر إليه، قال: فقال: «يا حمّاد إنّ ذلك من كتاب اللّه، إنّ ذلك من كتاباللّه، إنّ ذلك من كتاب اللّه ثمّ تلا هذه الآية (وَيَوْمَ نَبْعَثُ في كُلِّ اُمّة شَهيداً عليهم مِنْ أنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهيداً على هؤلاءِ وَنَزّلْناعَلَيْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيء وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى للمُسْلِمينَ) إنّه من كتاب اللّه، فيه تبيان كل شيء، فيه تبيان كل شيء»(14).

فإن هذهالنصوص وعشرات أمثالها تؤكّد على أنّ مضموناً قرآنيّاً واسعاً وبعيداً في آفاقه وحدوده يقف وراء هذا المضمون القرآني الظّاهر من خلال الألفاظ. وهذا المضمون الورائي هوالّذي يعبّر عنه في لسان الروايات بالباطن تارة، وبالتأويل اُخرى، في مقابل المضمون الظّاهر المعبَّر عنه بالتنزيل تارة، وبالظّاهر اُخرى.

وليس من شكّ أنّالمضمون الورائي ليس مضموناً مثاليّاً منفصلاً عن حياة النّاس ومنعزلاً عن الرسالة الّتي يحملها القرآن إلى البشريّة .. بل هو جزء لا يتجزّأ من مجموع المضمون القرآني،فإنّ القرآن وحدة واحدة لا تقبل التبعيض والتفريق، والإيمان به لا ينفكّ عن الإيمان بمجموع ما يحتويه، سواء في بُعده الظّاهر أو الباطن، فكما أنّ الظّاهر القرآني منزّلمن عند اللّه ولا يسع المؤمن أن يتجاوزه أو يتعدّاه، كذلك الباطن القرآني فإنّه منزّل من عند اللّه ولا يسوغ للمؤمن إنكاره أو تجاوزه، فلا بدّ إذاً من التعرّف على الباطنالقرآني ليتاح لنا العمل به والالتزام به وتطبيقه. ولكن ما هي حقيقة هذا المضمون الورائي الباطن، وكيف يتاح لطالب القرآن أن يقف عليه؟ هذا ما سنجيب عنه في الافتراضالثالث لتحديد العمل التفسيري:

الافتراض الثالث: في تحديد العمل التفسيري: هو أنّ العمل التفسيري عبارة عن محاولة استكشاف المضمون الباطني للقرآن الكامن وراءمضمونه الظّاهري، والمراد بالمضمون الباطني ليس أمراً ذهنيّاً منفصلاً عن الواقع اللّفظي للقرآن، ولا منعزلاً عن عالم البيان والتفاهم، ولا منفصلاً عن حياة النّاسوممارساتهم المألوفة في الحياة، بل المراد بالمضمون الباطني أن لكلّ كلام يصدر عن متكلّم ما بُعداً ظاهريّاً وهو هذا البعد الّذي يتجلّى خلال الألفاظ والدّلالاتالعرفيّة المستعملة أثناء الكلام، وهناك بُعد آخر يقف وراء هذا المضمون الظّاهر وهو ما يمكن تصنيفه إلى أمور:

أوّلاً: الدّواعي والبواعث والأغراض الاُولى الّتيدعت المتكلّم إلى أن ينشئ هذا الكلام المتضمّن لهذا المعنى الظّاهر. صحيح أنّ الكلام يحمل في طيّاته أغراض المتكلّم عادة، غير أنّ الأغراض القصوى ليست مما يظهر على السطحأثناء التفاهم الكلامي، وليست مما يتجلّى من خلال القوالب اللفظيّة والدّلالات المتعارفة الّتي يتمّ من خلالها التّفاهم والتّفهيم.

ولذلك كثيراً ما تجد أنّمتكلّماً ما ينشئ كلاماً مفهوماً لدى العامّة من النّاس، ولكن القريب العارف بأحوال المتكلّم وخصوصيّاته وأوضاعه الشخصيّة معرفة كاملة يستطيع أن يستنبط من هذا الكلامبعض المداليل الّتي لا يفهمها الآخرون ممّا يرتبط بالدّواعي والأسباب الّتي جعلت المتكلّم يتكلّم بهذا الكلام الخاصّ.

ثانياً: النتائج والعواقب الّتي تترتّبعلى معنىً معيّن يحمله اللّفظ .. فاللّفظ لا يؤدّي أكثر من معناه المتعارف، ولا يفهم النّاس من هذا اللفظ ـ في العادة ـ غير ما يشتمل عليه من المعاني المتعارفة، ولكن هناكالقليل ممّن له المعرفة الكاملة بظروف المعنى، وملابساته، يستطيع أن يتفهّم من خلال المعنى الظّاهري الّذي تدلّ عليه الألفاظ، النتائج والآثار الّتي سوف تلحق هذاالمعنى وتترتب عليه.

ثالثاً: تفاصيل المعنى وجزئيّاته .. فإنّ اللّفظ الّذي يدلّ على معنى، ليس دائماً يحمل كل تفاصيل المعنى وجزئيّاته، بل المعاني لكثرتها وعدمتناهيها، والألفاظ لتناهيها وقلّتها.. أضف إلى ذلك ظروف التّفاهم والتفهّم وما يلابسها من القيود والحدود الزمانيّة والمكانيّة، كلّ ذلك يحول دون أن تظهر المعاني بكلّتفاصيلها وجزئيّاتها على منصّة الألفاظ والكلمات، فلا بدّ للألفاظ والكلمات أن تعبّر عن معانيها على نحو العموم والكليّة، وتبقى التفاصيل والجزئيّات لتتمّ الدلالةعليها بدوالّ اُخرى إمّا لفظيّة أيضاً ولكن أكثر توضيحاً وتفصيلاً وإمّا عمليّة وميدانيّة.

فالمعاني الكليّة العامّة ـ رغم وضوحها وظهورها ـ لم تكن الحدّ الّذيينتهي عندها المضمون، بل التفاصيل والجزئيّات وهي امتداد ذلك المضمون الظّاهر، تعتبر مضموناً باطناً وورائيّاً يقف خلف المعاني الكليّة الظاهرة من خلال الألفاظ.

رابعاً: أن وضوح المعنى أمر مرحلّي تشكيكي له مراتب ودرجات تختلف باختلاف ظروف السامع النفسيّة والعقليّة، فإنّ المعنى الواحد الّذي يحمله الكلام الواحد قد يختلف فيوضوحه وجلائه باختلاف أفراد النّاس حسب ظروفهم النفسيّة والعقليّة فمثلاً عندما يكون هنالك شخصان أحدهما يعرف عن مدينة اصفهان مثلاً شيئاً كثيراً لأنـّه سافر إليهاوشاهدها وعاش بين أهلها، والآخر لم يعرف منها إلاّ الشيء اليسير، لم يعرف منها إلاّ أنها مدينة كبيرة من مدن إيران وليس أكثر، فلو أنّ مخبراً أخبرهما عن سفرته إلى هذهالمدينة ومشاهداته فيها مثلاً، لا شكّ أن المعاني الّتي يتصوّرها الشخص الأول أشدّ وضوحاً وجلاءً من المعاني التي يتصوّرها الآخر، وهذا التفاوت في الوضوح يسبّب سرعةالفهم وجودته وسرعه اليقين ورسوخه بالنسبة إلى هذه الأخبار عند الشخص الأول، بخلاف الثاني .. وهذا يؤدّي إلى أنّ الأوّل يكون أقدر على ضبط تفاصيل الخبر ونقله إلى الآخرينبخلاف الثاني.

فالمعنى هنا معنىً واحد، ولكنّه على درجات في الوضوح والخفاء، وليس المراد بالوضوح والخفاء، هنا، وضوح اللفظ في أدائه للمعنى أو خفائه .. بل نعنيوضوح المعنى ذاته وخفاءه .. فهناك درجة من وضوح المعنى يصل إليها كلّ من يطرق سمعه الكلام الّذي يؤدّي ذلك المعنى .. وهناك درجات من الوضوح والصراحة لا يبلغها إلاّالقليلون ممن شاهد المعنى وعاشه ومارسه ممارسة ميدانيّة فاعلة .. وهذه الدرجات العليا من وضوح المعنى وصراحته تعتبر أيضاً نوعاً من المضمون الورائي للألفاظ .

والقرآن العظيم كلام اللّه تبارك وتعالى، وفيه تبيان كل شيء ـ حسب تعبير الرواية ـ ولكن لهذا الكلام العظيم ـ كما لسائر الكلام ـ مضمون ورائي باطن يقف وراء مضمونهالظّاهري، ويعتبر امتداداً له وتفسيراً وتأويلاً له .. لأنـّه نفوذ إلى باطن المعنى وغوره، ونفوذ إلى مباديه وخواتمه، وإحاطة بمراحله ودرجاته، ومعرفة بتفاصيلهوجزئيّاته .. وهذا النفوذ إلى عمق المعنى ليس من شأن كلّ أحد .. بل هو من مختصّات صاحب الكلام نفسه، أو من هو خبير بأغراض صاحب الكلام وشؤونه بالتفصيل، ومن هو خبير بمضامينالمعاني خبرة ميدانيّة فاعلة .. تجعله خبرته محيطاً بالمعنى ظهره وبطنه، تنزيله وتأويله، وتفصيله وتطبيقه، وجزئيّاته وخصوصيّاته .. وهذا من مختصّات الرّسول الأعظم صلّىاللّه عليه وآله وأهل بيته الأئمة المعصومين الّذين أذهب اللّه عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.

فكلّ ما ورد بشأن اختصاص التأويل والتفسير بالمعصومين، وأنهمصلوات اللّه عليهم يعلمون جميع حقائق القرآن وعلومه وظاهره وباطنه إنّما يعني ما ذكرناه.

فقد تلخّص مما ذكر:

أن الافتراض الثالث لتحديد العمل التفسيري،هو أن التفسير كشف عما وراء الظّاهر من المعاني والأغراض، وهذا من مختصّات أئمتنا عليهم السلام وجدّهم الرّسول الأعظم صلّى اللّه عليه وآله .. ومن الممكن لنا أن نتعرّفعلى هذا التفسير من خلال النّصوص الواردة عنهم عليهم السلام بهذا الشأن.

والحقيقة: أنّه لا بدّ من القول بأنّ للتفسير مرحلتين:

الأولى: تحديد المضمونالأولي للنصّ القرآني واستجلاء المعاني الظّاهرة من العبارة القرآنيّة.

وهذا مما لا بدّ أن يقوم به المسلمون لانّ العمل بالقرآن واجب عليهم جميعاً، والقرآنمصدر لشريعتهم ودينهم وأساس حياتهم وقوام معادهم. وقد بذل المفسّرون الإسلاميّون محاولات مشكورة ومثرية في هذا السّبيل .. والعناصر الأساسيّة المكوّنة للمضمون الأوّليوالّتي يتقوّم بها الظّاهر القرآني والّتي يتمّ من خلالها تحديد المعاني الظّاهرة لنصوص القرآن .. يمكن تلخيصها في أمرين:

الأوّل: الأوضاع اللغويّة والقواعدالأدبية، سواء منها ما له دخل في أصل إفادة المعنى كقواعد النحو واللّغة والصرف، أو ما له دخل في كيفيّة إفادة المعنى كقواعد المعاني والبيان والبديع.

الثاني:القرائن الخارجيّة، سواء المكتنفة بالنص، كأسباب النزول، وملابسات النصّ وشروطه التاريخيّة والاجتماعيّة أو المنفصلة عن النصّ، كالنصوص القرآنيّة الاُخرى ونصوصالسنّة الشريفة.

والقرائن المكتنفة بالنصّ سواء منها ما يكون لفظيّاً، أو عقليّاً، كالأحكام العقليّة، والعقلائيّة المقترنة بالنّصوص.

الثانية: تحديدالمضمون الثانوي للنصّ القرآني ومعرفة المعاني اللامباشرة للعبارة القرآنية والّتي أشرنا إلى خطوطها العريضة فيما سبق.

وطالب القرآن لا يستغني في فهمه الكاملللقرآن عن أيٍّ من المرحلتين، والتعامل الاُصولي والسّليم مع القرآن لا يتمّ إلاّ على ضوء الفهم المستوعب للكتاب الكريم على كلا المستويين.

فقد أكدّنا ونؤكّدمن جديد أنّ النصّ القرآني مهما كان واضحاً في أداء المعاني وصريحاً في التعبير عن المفاهيم والأفكار فلا يمكن أن يؤدّي دوره الكامل في الهداية والتوجيه العملي، ما لميقترن بتفسير ميداني وتطبيق عملي يوضّح الأبعاد العمليّة للمفاهيم والمعاني المؤدّاة من خلال النصوص والتعابير. فإنّ العبارات والنّصوص مهما كانت واضحة، وصريحةالتعبير فلا يمكنها أنْ تبرز كلّ أبعاد المعنى وخصائصه التّطبيقيّة ومفرداته العمليّة، ولذلك تبقى الحاجة ماسّة إلى ما أسميناه بتجديد المضمون الثانوي للنصّ وإبرازالمعاني والمفاهيم اللامباشرة للعبارة القرآنيّة. ولعلّ هذه الحقيقة هي الّتي تشير إليها رواية الفضيل بن يسار عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: «ظهره وبطنه تأويله، منهما مضى، ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما تجري الشمس والقمر، كلّما جاء منه شيء وقع».

وقد أشرنا سابقاً إلى أن تحديد المضمون الثانوي أو المستوى الثاني في العملالتفسيري لا يتمّ إلاّ من خلال النصوص الواردة عن المعصومين أو التطبيقات العمليّة الّتي تجلّت في سلوكهم وتقريرهم. ولهذا فانّ المحاولة التفسيريّة على مستوى كشفالمضمون الثانوي سوف لن تكتسب الشرعيّة إلاّ إذا قامت على أساس السنّة الشريفة المرويّة عن المعصومين.

وقد خلص لنا ممّا أسلفناه أنّ العمل التفسيري يمكن أن يتمّعلى مستويين:

1 ـ مستوى تحديد المضمون الأوّلي للنصّ، ومصدر هذا النوع من العمل التفسيري مجموعة النّصوص القرآنيّة ونصوص السنّة الشريفة الواردة بصدد بيانالمضمون الأوّلي للنصّ القرآني وما ورد في تحديد ظروف النصّ وملابساته في المصادر التاريخية وغيرها. والطريقة الّتي يتمّ من خلالها تحديد المضمون الأوّلي للنصّ القرآنيهي الإفادة من القواعد الأدبية والقرائن العقليّة أو العقلائيّة الّتي تكتنف النصّ.

2 ـ مستوى تحديد المضمون الثانوي للنصّ، ومصدر هذا النوع من العمل التفسيريهو السنّة الشريفة من الروايات والفعل والتقرير المرويّة عن المعصومين عليهم السلام.

ولا بدّ هنا من ألفات النظر إلى أنّ التفاصيل التشريعية والفقهيّة تعتبر فيكثير من مواردها من مصاديق هذا المضمون الثانوي للنّصّ، فإنّ التّفاصيل المتعلّقة بالعبادات والمعاملات ممّا لم ينصّ عليها في الكتاب إلاّ بلغة عامّة في غالب الأحيان،وكذلك التفاصيل المتعلّقة بالنظُم الإسلاميّة في السياسة والاقتصاد، أو تفاصيل الرؤية الإسلاميّة عن الحياة والكون والمجتمع، تعتبر من أهمّ نماذج المضمون الثّانويللنصّ القرآني، والّتي لا بدّ أن يتّبع في استكشافها من العبارة القرآنيّة الطريقة الّتي أشرنا إليها، وهي الاستعانة بالسنّة الشريفة المنقولة عن المعصومين عليهمالسلام.

(1) اللّهم إلاّ إذا ادّعي أنـّها وضعت من جديد لمعان اُخرى غير المعاني المتعارفة في اللغة، وهذه الدعوى إضافة إلى كونهامسلّمة البطلان لم تصدر من النبي نفسه ولا من الأئمّة عليهم السلام، بل جاء في القرآن وعلى لسان النبي والأئمّة عليهم الصلاة والسلام ما يصرّح بكون القرآن نزل بلسان عربيوبلسان القوم الّذين بُعث النبي صلّى اللّه عليه وآله بينهم ونزل القرآن فيهم.

(2) كالآية 23 من سورة البقرة، والآية 13 من سورة هود.

(3) الآيات: البقرة: 138،إبراهيم: 44 ، الجاثية: 20.

(4) الحج: 1.

(5) لقمان: 33 .

(6) آل عمران: 133.

(7) وسائل الشيعة، أبواب قراءة القرآن، الباب 3 ، الأحاديث: 1، 2، 3 ، 6 ، 7 .

(8) بحار الأنوار، 92: 177.

(9) وسائل الشيعة، أبواب صفات القاضي، الباب 9 . واُصول الكافي باب الآخذ بالسنّة وشواهد الكتاب.

(10) وسائل الشيعة، أبوابالوضوء، الباب39، الحديث 5 ، وغير ذلك من الروايات الموجودة في أبواب متفرّقة.

(11) بحار الأنوار 92 : 93 . نقلاً عن مناقب ابن شهرآشوب.

(12) تفسير العياشي 1 : 11.

(13) المحاسن: 300 .

(14) بصائر الدرجات: 128 وبحار الأنوار 92 : 86 .




/ 2