متى يجوز الاجتهاد ومتى لا يجوز
لحضرة صاحب الفضيلة الاستاذ الشيخ عيسى منوق {فضيلته من الأعضاء المؤسسينلجماعة التقريب}.عضو جماعة كبار العلماء نشر الشيخ عبد الحميد بخيت في رمضان كلمة عنوانها (اباحة الفطر في رمضان وشروطه)... ولوقوعه بابداء هذا الرأي في الخطأالفاحش والزلل الجسيم، بادرت مشيخة الأزهر بالانكار عليه، ونبهت المسلمين الى خطئه، وقررت التحقيق معه ثم احالته الى مجلس التأديب الأعلى، كما هو حقا شرعا وقانونا، وقدناصره فريق من الكتاب منهم الحقوقيون وحملة القانون ومدرسوه، وأنكروا على مشيخة الأزهر محاكمته، فمنهم من احتج على ذلك بأنه لا كهنوتية في الاسلام، ومنهم من احتج بأن فيمحاكمته حجراً على حرية الفكر، ومنهم من قال ان الدين صلة بين العبد وربه. ويعني أنه لا شأن لأحد فيمن يتدين ويتصل بربه كما يشاء، ويقول في الدين ما يشاء.
ولما كانتحملة هولاء الكتاب لا تخص مسألة الشيخ بخيت، بل يمكن أن تظهر في الدفاع عن كل من يتهجم على الدين والوقوف فيوجه من تصدى للدفاع عنه والتهويش عليه، ولو أثمرت ونتصرت وتقررما يقولونه في نفوس العامة لا نحلت عرا الدين ولم يتمكن حراسه من الدفاع عنه... رأيت هن واجبي أن أبين للمسلمين حقيقة الواقع في مثل هذه المسائل كما اتق عليه سلف الأمةوخلفها، ليكونوا على بينة من أمر دينهم، ويميزوا الحق من الباطل فيما يقال ويكتب في شأنه:
/ صحفة 259 /بعث الله سبحانه وتعالى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلمرسولا الى الناس كافة في وقت انتشر فيه الفساد، وساد فيه القلق والفوضى والاضطراب، وزاد الهرج والمرج بين الناس يموج بعضهم في بعض على غير هدى، فكان ارساله رحمةللعالمين كما قال تعالى: (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين) وشرح سبحانه وتعالى على لسانه صلى الله عليه وسلم شريعة تكفلت بصوالح الخلق في الدنيا والآخرة، و بانتظام معاشهمومعادهم. و هذه الشريعة قسمان:
الأول: أحكام اعتقادية أصلية، المقصود منها اعتقادها والتصديق بها حسبما دل عليه البرهان العقلي القطعي وأيده ماجاء في كتاب اللهالكريم وسنة نبيه المطهرة.
والثاني: أحكام عملية المقصود منها العمل من المكلفين، وكل مكلف لا تخلو أفعاله التي تصدر عنه باختياره عن حكم لله تعالى من الوجوب أوالحرمة أو غيرهما من باقي الأحكام الشرعية، فالواجب الشرعي ما يثاب على فعله ويستحق العقاب على تركه، والمحرم شرعا ما يستحق العقاب على فعله ويثاب على تركه ان توجهت نفسهاليه ثم كفها عنه.
وقد شرع سبحانه وتعالى عقوبات في الدنيا للمخالفين للأحكام الشرعية الحتمية، شرع في بعضها وهو المهم منها حدوداً معينة يقيمها على المخالف وليالأمر من المسلمين، وشرع في الباقي تعازير كما يرى ولي الأمر، وأوعد سبحانه وتعالى المخالفين بالعذاب الشديد في الدار الآخرة.
وقد نصب الشارع على هذه الأحكام أدلة،منها الواضح الجلي، ومنها الدقيق الخفي، لذلك تنوعت هذه الأحكام الى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أحكام يقينية قطعية نقلت الينا بالتواتر القطعي بنقل الخلف عن السلف،جيلا بعد جيل، من عهد النبوة الى الآن. فلم يختص بعلمها الخاصة، بل اشترك في العلم بها العامة والخاصة، فكان العلم بأنها من الاسلام علما ضروريا لا يختلف فيه اثنان، وذلككفرض الصلوات الخمس، وصوم رمضان، والزكاة،
/ صحفة 260 /وحج بيت الله الحرام، وحرمة الزنا وقتل النفس بغير حق وشرب الخمر والربا، وغير ذلك مما هو معلوم.
وهذاالنوع من الأحكام يختص بأمرين، أولهما: أن من أنكر وجحد من المسلمين حكما من هذه الأحكام المعلومة من دين الاسلام بالضرورة يكفر ويرتد عن دين الاسلام، لأنه يجحده هذاالحكم المعلوم قطعاً انه جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كذب الرسول عليه الصلاة والسلام... ومن كذب الرسول كفر، لأن الايمان هو التصديق بما علم ضرورة انه من دين محمدصلى الله عليه وسلم.
وأحكام المرتد عن الاسلام في الشريعة الاسلامية معلومة، منها القتل ان أصر على ردته، يتولاه ولي الامر من المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: لايحل قتل امرئ مسلم الا باحدى ثلاث: كفر بعد ايمان، وزنا بعد احصان، وقتل نفس بغير حق. وقا ل صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه. ومنها التفريق بينه وبين زوجته، وغيرذلك مما هو مقرر في الفقه.
الأمر الثاني: أن هذا النوع من الأحكام لا مجال للاجتهاد فيه ولا يتصور، لأن الاجتهاد استفراغ الوسع في استنباط حكم شرعي غير معلوم. النوع الثاني: أحكام شرعية أجمع عليها أئمة المسلمين، لم يخالف فيها أحد، لكن اختص بالعلم بها الخاصة دون العامة، ومن أمثلها استحقاق بنت الابن السدس مع البنت. وهذاالنوع من الأحكام لا يجوز لمجتهد يأتي بعد الاجماع مخالته، لأن خرق الاجماع حرام، الا أنهم لم يتفقوا على تكفير المنكر لحكم من هذا النوع، والصحيح أنه لا يكفر، وانمايؤثم ويفسق ان علم به... ولا يجوز العمل بخلافه.
النوع الثالث: أحكام شرعية دقت أدلتها وخفيت، ولذلك أختلفت أنظار الأئمة المجتهدين في استنباطها وتنوعت المذاهب... وليسفي الاختلاف في هذا النوع من الأحكام من حرج، كما أنه ليس من الاختلاف المذموم المنهي عنه،
/ صحفة 261 /(أولا) لأنه وقع في زمن الرسول بين الصحابة وأقرهم عليه،و(ثانيا) لأنه ضروري لا يمكن التغاضي عنه، لأن المجتهد اذا أفرغ وسعه واستنبط الحكم من الأدلة، واطمأنت نفسه اليه لا يجوز له مخالفته اتباعا لغيره، و(ثالثاً) لأنه لا ضررفيه، وانما فيه فسحة وتيسير على العباد.
وقد اتفق الأئمة المعتبرون على أن كل مكلف غير مجتهد عمل بما تحقق أنه استنبطه أحد الأئمة المجتهدين يخرج عن عهدة التكليف سوائقلنا ان كل مجتهد مصيب، وحكم الله في الحادثة الواحدة يتعدد، أو ان المصيب فيها واحد والباقي مخطئ، وحكم الله لا يتعدد، له في كل حادثة حكم واحد، لأنه لا يترتب على هذاالخلاف الا أنه على الرأي الثاني يكون للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد: والله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم المصيب في الواقع من المخطئ، وهو الذي يمنح بفضله الأجرين للمصيبوالأجر للمخطئ.
ومن عرف دقة الأدلة التي ذكرتها ظهر لـه بوضوح تام انه لا يستطيع استنباط هذه الأحكام أي واحد، وانما الذي يستطيعه هو المجتهد، وله شروط ضرورية مبنيةفي أصول الفقه، منها أن يكون فقيه النفس عالماً بعلوم اللغة العربية وأصول الفقه وبمتعلق الأحكام من الكتاب والسنة محيطاً بمعظم قواعد الشرع، ممارساً لها حتى يكتسب قوةيفهم بها مقصود الشارع خبيراً بمواقع الاجماع كي لا يخرقه واقفا على الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، وغير ذلك مما تنوء بحمله الجبال، وهل يمكن وجوده الآن أو لا يمكن،وعندي أنه لو وجد لا تظهر لـه فائدة في الأحكام التي استنبطها فعلا الأئمة المجتهدون الا ترجيح بعض المذاهب، لأنه لابد أن يوافق أحد المجتهدين ولا يجوز له مخالفة الجميعفيما اتفقوا عليه، والا عد خارقا للاجماع وهو لا يجوز، نعم تظهر له فائدة في استنباط الأحكام في الأمور المستحدثة التي لم ينظرها المجتهدون السابقون ولا اتباعهم لأنهالم تكن في زمانهم، وهذا من ضروريات الشريعة، وفي ظنى ان هذا ليس بعسير، لأن ما مهده السالمون من الضوابط والقواعد يمكن العالم باللغة العربية المتبحر في علم الفقه
/صحفة 262 /وأصوله، المطلع على كيفية استنباط الأئمة السابقين أن يدرج هذه الأمور المستحدثة تحت ضابط أو قاعدة شرعية تشملها، أو الحاقها بنظائرها، والشريعة لا تخلوعن ذلك.
ثم من مارس الفقه وأصوله اتضح له أن بيان الأحكام الشرعية التي رويت وافتاء الناس بها ليس من حق كل احد لأنه لا يستطيعه على وجهه الصحيح الا من تلقي علومالشريعة اصولا وفروعا ووسائلها باستيعاب، وراجعها المرة بعد المرة بتدريس أو نحوه حتى أحاط بدقائقها وألم بظاهرها وخفيها، ووقف على مداركها وأدلتها والا لم يأمن منالوقوع في الزلل والافتاء بالخطأ فيضل ويضل غيره، وقد قال الله تعالى: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدو مبين، انما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لاتعلمون) أي يأمركم الشيطان أن تقولوا هذا حلال وهذا حرام من غير علم، وذكر سبحانه وتعالى ان تقولوا على الله ما لا تعلمون بعد ذكر الفحشاء مع أنه من جملتها، لأنه أعظمأنواعها، فالتهجم على الفتوى أمر عظيم الخطورة، وكان الواجب أن يصون القانون العام للدولة الشريعة الاسلامية ويحميها من عبث العابثين، كما صان صناعة الطب، فان الخطرعلى الاديان كالخطر على الأبدان أو أشد.
اذا علمت ما بيناه من أنواع الأحكام الشرعية وخصائص كل نوع علمت أن كل من أبدى حكما خلاف ما علم أنه من النوعين الأولين وبخاصةالنوع الأول وبالأخص اذا نشره ودعا الناس اليه، وجب على المسلمين على الأقل زجره وردعه حتى يتوب الى الله ويرجع عن رأيه وتزول آثاره السيئة، ويحصل الاطمئنان بأن لا يعودهو أو أمثاله الى مثل هذا الرأي. ولا يجوز لمسلم أن يدافع عنه ويؤيده. أما النوع الثالث فقد وسع الله فيه على عباده، فكل مكلف لم يصل الى درجة الاجتهاد وجب عليه أن يتبع فيتلك الأحكام المختلف فيها من تطمئن اليه نفسه من الأئمة المجتهدين، وليس لأحد الانكار عليه في هذا الاتباع.
/ صحفة 263 /
هذا ويتعين علينا تفنيد حجج من ناصرالشيخ بخيتا في رأيه المعروف.
أما قولهم لا كهنوتية في الاسلام فان أرادوا بالكهنوتية وجود رؤساء دين يحللون ويحرمون ويؤثمون ويعاقبون أو يعفون ويغفرون بآرائهموأهوائهم من غير استناد الى الشريعة، فهولاء لا يوجدون في الاسلام قطعاً، وان أرادوا وجود علماء يعرفون الأحكام التي شرعها الله وهم مكلفون ببيانها للناس على الوجهالصحيح، ورؤساءهم أولياء أمور المسلمين يحرسون الاسلام من عبث العابثين، ويقيمون الحدود على المخالفين كما شرعه الله، ويؤدبون المعتدين على الاسلام وأحكامه، فهذاموجود ومشروع في الاسلام، وفقدهم وانقراضهم ايذان بقرب قيام الساعة. وأما حرية الرأي والحجر على الأفكار فليس مما نحن فيه، لأني لا أظن أحدا يعقل أن تعدي الحدودالمقررة شرعا أو قانونا يدخل في نطاق حرية الرأي، وأن زجر المعتدين وتبيين خطئهم داخل في نطاق الحجر على الأفكار والا لجاز أن يقول كل واحد ما شاء فيماشاء، ولا شك ان هذههي الفوضى بعينها.
وأما القول بأن الدين صلة بين العبد وربه، فهو كلمة حق، الا أن هذه الصلة يجب ان تكون كما حددها الرب سبحانه وتعالى، وبينها على لسان نبيه صلي اللهعليه وسلم، أما الصلة بغير ذلك فليست صلة، وانما هي انقطاع وبعد عن الله تعالى وتمرد عليه وعصيان، لأنه لم يمتثل أمره ونهيه في تحديد تلك الصلة، وذلك واضح والله سبحانهوتعالى عليم.