الاقتصاد الاسلامى مقا مه بين الاقتصادين الرأسمالى و الشيوعى الاشتراكى
الاقتصاد الاسلامى
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد أبوزهرة أستاذ الشريعة الإسلامية في كليةالحقوق بجامعة القاهرة
الزراعـة
29 ـ كانت الزراعة في الماضي مصدر ثروة لمن يفلح الأرض، وكانت أعظم الموارد الطبيعية للإنسان منذ الخليقة، فإن منهاغذاء الإنسان والحيوان، وإذا كان الحيوان يتخذ غذاء للإنسان، فإنه يستمد غذاءه من النبات، وإنه في كثير من الأحيان تخلط الثروة الحيوانية بالثروة النباتية، لأن الذييبذر البذر ويرجو الثمار من الرب، يكون بجوار زرعه حيوان يحرث الأرض، ويتغذى من كلئها، ويكمل غذاء الزارع، ولذلك كان الزرع يذكر دائماً مع الضرع، لأنهما كانا في الماضيمقترنين لا ينفصلان، وإذا كان العصر الحديث قد أخذ بالانتفاع بالأرض من غير طريق الحيوان، بل بطريق الآلات، فإنه لا يزال الحيوان يعيش بجوار المراعى، ويتغذى منها،ومنتجات الحيوان قائمة بجواز المزارع، والأغراس، وإن الكثيرين ليعتبر هما نتاجاً واحدا، فكأن الأرض إذا استغلت على الوجه الأكمل أنتجت ثلاثة أنواع من الإنتاج، غرس طيبيؤتى أكله كل حين بأذن ربه، وغلات للزرع تخرج من حقول الأرض، وحيوان يدر الدر الوفير، ويؤكل لحمه، ويتخذ من أصوافه وأوباره كساء وغطاء وزينة. وقد اعتبر الإسلامالزراعة أبرك أنواع الرزق وأطيبه، وقرر أن زرع الأرض والعمل على تنمية إنتاجها من الصدقات، ولذلك قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): ((ما من مسلم يزرع زرعاً، أو يغرسغرساً فيأكل منه إنسان أو دابة إلا كتب له به صدقة)).
/ صفحه 17/
فالزراعة هي التي تمد الأحياء بالغذاء والكساء، وما من نفع مادي للإنسان إلا كان للزراعة دخل فيه،حتى أن بعض الاقتصاديين، كان يعتبر الزراعة الوسيلة الوحيدة للإنتاج، لأنها المرجع لكل ما يمد الإنسان بالبقاء ويسمى هؤلاء الطبعيين.
والزراعة تشترك فيها عدة قوى،فمخترع آلات الحرث والسقى، ومن يعمل على انتقاء أطيب الأنواع وأكثرها ثمراً، ومن يدير الآلات، ومن يقوم بالسقى والزرع، كل أولئك يعملون في الزراعة.
ولقد أبقى النبيوالراشدون من الحكام الأراضى المفتوحة تحت أيدي أهلها، ولم يتول زرعها بيت المال أو تقسيمها بين القائمين، لكى يتفرغ أهلها لزراعتها، ويعملوا على تنمية أسباب الإنتاجفيها بكل الطرق، لأنهم يعلمون أن جزءاً كبيراً من غلتها ستعود إليهم، ولذلك كان خراج الأرض جزءاً من غلاتها لهذا المعنى ويسمى خراج مقاسمة كما أشرنا، وما كان النبي(صلىالله عليه وآله وسلم) وأصحابه يفرضون نقوداً من الدراهم والدنانير على الأرض، بل يؤخذ بعض نتاجها، ليبلغ النّاس بجهودهم أقصاها، وكل سنبلة حب تزيد هي لجماعة النّاس،وتدخل في قوتهم.
30 ـ وإن من أنواع الزرع ما هو مباح في الإسلام بأصله، وهو الكلأ الذي ينبت بغير بذر، ولذلك قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): ((النّاس شركاء فيثلاثة الماء والكلأ والنار)) فمن نبت في أرضه كلأ من غير بذر يبذر فإن لكل إنسان أن يرعى بما ثبته فيه، وليس لمالك الأرض أن يمنعه، ولكن لا يدخل بالماشية إلا بإذنه، لأنهمالك، ومع ذلك عليه أن يأذن إذا لم يكن في الإذن مضرة له، فإذا كان قد زرع زرعاً تتلفه الماشية إن وطئته فله منعه، وإذا لم تكن مضرة وجب الإذن، وإذا لم يأذن كان لصاحبالماشية أن يطلب من الحاكم إجباره، وإذا كان يدفع الضرر بحصْدِه وتقديمه للماشية من غير دخولها الأرض، فإن ذلك يتبع، وإنما جاز الإجبار عند عدم الضرر، لأن الامتناع عنالإذن منع صاحب حقّ من حقه. إذ صاحب الدواب له في الكلأ حق ثابت مستقر بمقتضى الشركة الطبيعية التي قررها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي الحقيقة إن الكلأ في أرضمملوكة ملكا خاصاً يتنازعه حقان:
/ صفحه 18/
أحدهما ـ حق المالك للأرض في ألا يدخل أحد أرضه إلا بإذنه.
والثاني ـ حقّ الشركة العامة في الكلأ وإذا تعارضالحقان قدم أقواهما، وأقواهما ما يترتب على تركه ضرر أشد، فإن من المقررات الشرعية أنه لا ضرر ولا ضرار، وكل من يتمسك بماله مع ترتب ضرر لغيره على تمسكه يعد غير مستعملحقاً، أو بلغة القانونين في العصر الحاضر يعد مسيئاً لاستعمال حقه.
31 ـ وطرق الانتفاع بالأراضى أربعة:
أولها ـ الانتفاع بالكلأ المباح في الأراضى غير المملوكة،والأراضى المملوكة، وكذلك غرس الأشجار في الأراضى التي لا يملكها أحد، فإن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حث على ذلك في الحديث السابق، فقد اعتبر غرس الأشجار التيينتفع منها الإنسان أو الحيوان بأي نوع من أنواع الانتفاع صدقة، وهو بذلك يحث على إنشاء الغابات، لأن توالى الغرس الذي يعتبر بذاته صدقة من نتيجته تكوين الغابات، ولو أنامعشر المسلمين استجبنا لذلك النداء النبوي الكريم لكانت لصحاري القريبة من الأنهر أو العيون حدائق غناء، أو غابات تدر على الدولة الدر الوفير، ولكانت مواردنا من الأخشابتفيض عن حاجاتنا وهذا الفيض كون تصديره ثروة تسد حاجات أخرى. وقد يقول قائل: لمن تكون ملكيتها، فنقول إنها إذا قام بها بعض الآحاد، لتكون غابة فإنها تكون ملكا خاصاًله، هي والأرض التي أقيمت عليها، ويكون ذلك إحياء لموات الأرض، ويجرى فيه ما قلناه من إحياء الموات. من أنه يكون بإذن الإمام على أرجح الأقوال.
وإذا كان العمل جزئياًبأن غرس غرساً فردياً فإنها تكون للعامة إلا إذا رعاها وقام على سقيها وتنميتها فإنها تكون له، ويكون له على الأرض حقّ بقائها واستقرارها، فإذا أحييت الأرض لا يكون لمالكالأرض حق نزعها، لأن حق الغارس سبق حق المحيي، فيده لا تستمد من يد من أحيا الأرض.
/ صفحه 19/
ذلك هو منطق الفقه الإسلامي بالنسبة للأرض وما عليها من حقّ قرارونبات.
32 ـ والقسم الثاني ـ من طرق الزراعة أن يزرع المالك أرضه، وهذا طريق استغلالها، وهو بدهى، لأن من ملك عيناً ملك الانتفاع بها بكل طرق الانتفاع، بيد أنه يتعلقبها حق الغير، وحق الغير يتجلى في أمور ثلاثة:
أولها ـ أن ما يكون فيها من كلأ يكون شركة بينه وبين غيره من النّاس، وقد بينا مدى حق الملكية، ومدى الشركة العامة فيالكلأ.
والحقّ الثاني ـ الذي يتعلق بها حقّ الجوار، وحقّ الطريق وحقّ الشرب، فإذا كانت أراض لا يصل إليها الماء إلا عن طريقه كان لها حق المجرى من غير أن تكون مضارةله، وكذلك يكون عليها حق الطريق. إذا كانت أرض لا يمكن الوصول إليها إلا بطريقه، فإنه يمكنه من المرور من غير ضرر أيضاً.
والحقّ الثالث: هو حقّ الكافة، وهو أن يزرعهالينتفع النّاس بها، فلا يتركها من غير زرع، وهو قادر على زرعها، وإن ذلك الحقّ ديني بمعنى أن الله تعالى يحاسب العبد عليه، حساباً عسيراً، وليس بحقّ قضائي. ولكن لولىالأمر أن يحث النّاس على زراعتها ويعاونهم عليها، وإن رأى إهمالا واضحاً ووجد المصلحة في دفع الارض لغيره ليزرعها على أن يكون له أجر مثلها، كان له أن يفعل ((لان كل مصلحةمطلوبة، وكل مضرة مدفوعة، ولا شك أن ترك الأرض من غير زراعة فيه مضرة عامة.
هذا وإن تدخل ولى الأمر في بيان الأنواع التي تزرع، والبذور التي تصلح، والحمل على تنقيةالآفات التي تعرض، كل هذا من قبيل جلب الصالح ودفع الضار، لأن ذلك هو السبيل لأن تخرج الأرض خير ما فيها وتأتى بأطيب أكلها، وكل مصلحة حقيقية هي من مقاصد الشارع الإسلامي.
هذا وإن ولى الأمر إذ يتدخل لكى تنتج الأرض خيرها. إنما يتدخل لمصلحة الفقير، ذلك لأن الفقير له حقّ في الزرع وقد صرح القرآن الكريم به، فقد قال تعالى في الزرع: (وآتواحقه يوم حصاده) فبمقتضى هذه الشركة يكون لولى الأمر حقّ التدخل للمحافظة على من هم في ولايته.
/ صفحه 20/
والقسم الثالث المزارعة:
33 ـ والمزارعة هي دفعالأرض لمن يزرعها على أن يكون له بعض الخارج منها، وللمالك الباقي، أو هي عقد على الزرع ببعض الخارج منه. وهذا النوع من العقود قد خالف فيه بعض الفقهاء، فقد قالأبوحنيفة إن المزارعة عقد فاسد، وحجته في ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا كانت لأحدكم أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه)) وقد روى مثل هذا الحديث البخاري ومسلموالبيهقي وإن اختلفت الطرق والعبارات إختلافاً لا يغير المعنى، ولأبى حنيفة حجة أخرى من القياس، وهو أن الإجارة ببعض ما ينتج من العمل منهى عنه لأن النبي(صلى الله عليهوآله وسلم) نهى عن قفيز الطحان، وهو أن يطحن ويأخذ أجرته مما يطحن، والمزارعة كذلك فهي عمل من مستأجر الأرض، وأجرته هي بعض الناتج مما يعمل، وإن لذلك معنى اقتصاديا، وهوأن الأرض ربما لا تنتج، والزرع والضرع بيدالله، وهو عرضة للآفات والجوائح، فإذا لم تنتج الأرض يذهب عمل العامل هباء، وهو أجير في الأرض على هذا الاعتبار; وخصوصاً إذا كانالبذر من جانبه.
وقد قرر الجمهور من الفقهاء أن المزارعة جائزة، وأن أحاديث النهي قد نسخت، وقد جاء في كتاب المجموع المروي عن الإمام زيد(رضي الله عنه): ((حدثني زيد عنأبيه عن جده عن عليّ(عليهم السلام) أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن قبالة الأرض بالثلث أو الربع، وقال: إذا كان لأحدكم أرض فليزرعها، أو ليمنحهاأخاه، فيتعطل كثير من الأراضي، فسألوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرخص لهم ذلك، فرخص لهم، ودفع خيبر إلى أهلها على أن يقوموا على نخلها يسقونه ويلقحونهويحفظونه بالنصف، فكان إذا أينع وآن صرامه بعث عبدالله بن رواحه(رضي الله عنه)، فخرص عليهم، ورد إليهم بحصتهم من النصف(1))).
/ صفحه 21/
وبهذا ينعقد رأى الجمهورعلى أن أحاديث المنع كما روى في البخاري ومسلم والبيهقي ومجموع الإمام زيد قد نسخت، وكان الجواز بعد المنع، وأن الأرض التي ثبت فيها الجواز هي أرض خيبر، وعندي أن نص علىّبالترخيص هو الدلالة على ترخيص النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أما دفع أرض خيبر، بالنصف، فإنه لا يدل وحده، إذ يجوز أن يكون هذا خاصاً بالأراضي الموقوفة على مصالحالمسلمين، وهذا النوع من الأراضي لا يمكن أن يتولى ولى الأمر زراعته وفرض قدر من النقود يتعرض فيه العامل لخطر ضياع جهوده، وإلزامه بالأجرة، وذلك في حال ما إذا كانت آفةأو جائحة لم تبق من الثمر شيئاً.
وإن النسخ ثابت، ولذلك قال الإمام جعفر الصادق (رضي الله عنه): ((آل أبوبكر، وآل عمر، وآل علي يدفعون أرضهم بالثلث والربع)).
وإذاكانت أكثر الأراضي الإسلامية مفتوحة عنوة فإن أكثرها كان يستغل بطريق المزارعة، على اعتبار أن الأرض موقوفة في مصالح المسلمين، ووّلى الأمر يدفعها لمن يصلحها ويقوم علىزراعتها على أن يكون الناتج مقاسمة وكان أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) حريصاً على ألا يجهد الزراع، وألا يكلفهم ما لا تطيق أرضهم، ويروى أنه جاء إليه عاملاهعلى خراج العراق بمال كثير، فخشى أن يكونا قد حملا ما لا تطيق، فقال لهما: لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق، فقال
(1) المجموع ج 3 ص 350 مع روض النضير،والقبالة كالكفالة تقبل الأرض على أن يكون للعامل الثلث أو الربع أو نحوهما، ومعنى الصرام القطع، ومعنى اخرص التقدير التقريبي من غير وزن أو كيل:
أحدهما: ((حملتالأرض أمراً هي له مطيقة، ولو شئت لأضعفت)) وقد كتب علي بن أبي طالب لوالى خراجه ((انظر إذا قد مت عليهم، فلا تبيعن لهم كسوة شتاء ولا صيف، ولا رزقا ولا دابة يعملون عليها،ولا تضربن أحداً منهم سوطا في درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضا من الخراج فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو.
/ صفحه 22