و يجعل الإسلام الأمة حق اختيار حكامها، اختياراً يقوم على الرضى لا على الضغط و القهر، كما أن لها حق مراقبتهم، و محاسبتهم، و عزلهم إن لزم الأمر، وأعطاها من السلطان مالم يطعها أى دستور بشري، و قررفقهاء الإسلام أن الحاكم مجرد نائب عن الأمة،(1) و يقول عمر: إن منزلته من الأمة كمنزلة والى اليتيم منه و من ماله، ليس لهعليه سيادة، و ليس له معه إلا حسن التربية، و حسن الإشاد و الرعاية؛ و اعتبروا «الخليفة» واحداً من المسلمين تجرى عليه الأحكام فى كل ما يجترحه من إثم، فيؤخذ بالقصاص إذاقتل، و يلزم بما يتلفه من أموال غيره، و تقام عليه الحدود إن سرق أوزني، و يقول القفّال الشافعى صراحة: إن الأمة التى ولته هى التى تقيم عليه الحدود، و حمّل الأمة منمسئولية الحكم، مثل ما يحتمل الحاكم نفسه أو أكثر و توعد النبى الكريم المؤمنين إذاهم جدوا ظلماً فى أمته ـ و فيهم من يستطيعون أن يغيروا فلم يغيروا ـ بعذاب بعمهم منعندالله، كما قال تعال: «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار» «واتقوا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة».
و لقد طبقت هذه المباديء عمليا و نجحت أيما نجاح،فهذا رسول الله صل الله عليه و سلم، يسلم ظهره أو صدره لرجل ضرب ظهره أو دفع صدره ليقتص لنفسه منه وهذا أعرابي] يقول له أعطنى من مال الله الذى أعطاك لا من مال أبيك! و هذاآخر يقول له و هو يقسم مالا: اعدال يا محمد! فيجيبه فى بساطة المؤمن المعلم: «و يحك و من يعدل إذا لم أعدل؛» و قد اقتدى به أصحابه عليه الصلاة والسلام ممن حكمتهم الأمة فىأمورها، فأبو بكر يقول: (إنى و ليت عليكم ولست بخيركم) وعمر يقول : من رأى منكم فى أعوجاجاً فليقومه ، فيقال له لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا. فيحمد الله أن وجد فىأمة محمد من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه. ثم يعطى درته لرجل خفق رأسه بها بلا جريرة و يقول اخفقنى بها أو خذ عوضها أو تصدق فإن الله يجزى المتصدقين، و عثمان يعطى أذنه لعبد منعبيده عرك أذنه و يقول: أشدد فحبذا قصاص فى الدنيا لا قصاص فى الآخرة، و يعبر عمر عن حقيقة مركز الحاكم من الأمة بقوله للأشعري: «إنما أنت واحد من الناس، غير أن الله جعلكأثقلهم حملا»(2) و نظرة الاسلام هذه لا تدع مجالا للشك فى أن الأمة التى خوطبت بالتكاليف العامة هى مصدر جميع السلطات لكل من يتولى شيئا من أمورها باسمها، و فرق كبير بينالأسس التى بَنَى عليها الاسلام فكرته فى الحكم و سلطات الأمة، و بين الأسس الفرضية التى قامت عليها مثل هذه النظرية عند العلمانيين.
التنظيم الاقتصادي:
و ليستالفلسفة السياسية الحديثة هى التى ربطت السياسة بالاقتصاد، فتلك حقيقة إسلامية (1) راجع فى ذلك البدائع للكساني، ج 7، ص 16، مغنى المحتاج علىمنهاج النووى للشريينى الخطيب، ج 4، ص 140، و تحفة المحتاج للتهمثمى ج 9، ص 115، و شرح المقاصد ج 2، ص 272، و المواقف، ج 8، فصل الإمامة الكبري، و حاشية ابن عابدين، ج 3، كتابالحدود: و الحدود و الإمامة فى كتب الحديث، و فقه القرآن و السنة للشيخ شلتوت، ص 174.(2) لزيادة الفائدة راجع كتابنا عصر الراشدين، ص 47 ـ 26.