الأضحية والقرابين
للأستاذ الدكتور على عبد الواحد وافى
يدلنا البحث فى نشأة الأديان وتاريخها على أن فكرة التقربللمعبودات بتقديم الأضاحى والقرابين، واتخاذها سلّما تصعد عليه رغبات عالم الأرض ومخاوفه إلى عالم السماء، والتوسل بها لجرّ ما يبتغيه الأفراد والجماعات من منافع ودفعما يتهددهما من أضرار، كل ذلك قد نشأ مع الإنسانية، وظل ملازما للتفكير الدينى فى مختلف مراحله، ويسظل باقيا مادامت العقائد والعبادات. فلم يخل من هذه الشعيرة دين منالأديان، ولم تعر منها حياة شعب من الشعوب: جاءت بعبادات الطوطميين والمجوس والوثنيين والصائبة والمائوية وعبدة الكواكب والحيوان; كما جاءت فى شرائع اليهود والمسيحيينوالمسلمين. نعثر عليها فى أبسط مظاهر التدين وأكثرها اضطرابا; كما نجدها فى أرقى أشكاله وأشدها دقة وإحكاما. ولا أدل على قدمها وعموم انتشارها من الكلام عنها فى جميعأسفار «العهد القديم» وم أن القرآن الكريم يحدثنا عن شكل من أشكالها جرى العمل به فى عهد آدم أبى البشر نفسه إذ يقوا. «وآتل عليهم نبأ ابنى آدم بالحق إذ قرّبا قربانا فتقبلمن أحدهما ولم يتقبل من الآخر...»(1).
وقد جرت هذه العبادة الدموية على بنى الإنسان كثيرا من المصائب والويلات. فكم أثكلت أمهات ويتمت أطفالا وأيّمت نساء، وكم ذهبت فىسبيلها أرواح برينة طمعة للنيران وغذاء للأسماك، وكم حملت الآباء على تقديم أبنائهم قرباناً للآلهة وإزهاق أرواحهم بأيديهم، وكم دعتهم إلى وأد بناتهم أو إغراقهن ابتغاءمرضاة المعبودات، وكم دمرت من مدن وقضت على شعوب.
وذلك أن الضحايا فى أقدم أشكالها وعند طائفة كبيرة من الشعوب البدائية
ـــــــــــــــــــــ
1-آية 27 من سورةالمائدة.
/صفحه 388/
والمتحضرة كانت تقدم من بنى الإنسان على اختلاف فى نوعها باختلاف الأمم والشرائع وتبعاً للأحوال الميحطة بالتقدمة والأسباب الداعيد إليها. فقدكانت أحياناً من الإناث، وتارة من الأطفال، وتارة من الشبان والشيوخ. غير أنه يظهر من استقراء هذه الحالات عند مختلف الأمم وفى شتى مراحل التاريخ أن معظم الضحاياالإنسانية كانت تقدم من طائفتين: من الأطفال ذكورهم وإناثهم ولا سيما أول من يولد منهم لأبويه; ومن البنات الأبكار. ويظهر كذلك أن معظم من كان يضحى به من غير هاتينالطائفتين كان يؤخذ من أسرى الحرب والرقيق والمذنبين. غير أنه فى أحوال غير قليلة كانت الضحايا تقدم من طبقات راقية من الشعب. فكثيرا ما قدمت أمم ملوكها أنفسهم قربانالمعبوداتها.
وإذا لا حظنا أن المناسبات التى كانت تقتضى التضحية كانت كثيرة الحدوث والتكرار، وأن الإحجام عن التضحية عند وجود ما يقتضيها كان فى نظر هذه الأديان شيئاإدّاً تنفطر منه السماوات ويثير غضب الآلهة ويصيب نكالة جميع أفراد المجتمع الذى حدث فيه التقصير، إذ لاحظنا هدا كله سهل علينا أن ندرك كيف كانت هذه العبادة فى أقدمأشكالها. عالم إجرام ودمار، ومصدر مصائب وويلات. وحسبنا دليلا على ذلك أن قبائل الأزتك Azteques وحدها (وهم السكان الأصليون لبلاد المسكسيك) كانت إلى عهد غير بعيد تقدم منالضحايا الإنسانية ما يبلغ عددها زهاء خمسين ألفا كل عام:
غير أن ارتقاء التفكير الدينى، وإصلاح ما علق به فى مراحله الأولى من خطأ فى فهم الآلهة وصفاتهم وما يتطلبهرضاهم، ونزعة المجتمعات إلى تنزيه معبوداتها عن القسوة والتشفى وعن الحاجة إلى ما يقدمه إليهم بنو الإنسان وجعلهم أغناىء عن العالمين، واتساع نطاق العلوم وانتشارالشوائع السماوية والكتب المقدسة، كل أولئك قد عمل على احترام الحياة الإنسانية، فقضى على هذا الشكل الوحشى من التضحية، واستبدل به أشكالا أخرى لا تنبو عن الخلق /صفحه 389/
الصحيح ولا تتنافر مع مقتضيات العمران.
فظهرت حينئذ التضحية ببعض أنواع الحيوان كالبقر والغنم والمعز، وببعض أنواع الطيور كالدجاج والبط والإوز. وظهرت أناوع أخرى من القربان لا تقتضى إهراقا للدم، كالتقرب بما يستخرج من الحيوانات، والتقرب بالنبات كالحنطة وسنابل القمح والدقيق الممزوج بالزيت، والتقرب بما يصنعمن النبات كالخيز والفطير.
وقد كان لظهور الزراعة أثر كبير فى هذا التطور. فقد هذبت الزراعة كثيرا من أخلاق الإنسان وطباعة. فبفضلها كثرت كميات غذائه النباتى وقلمقدار استهلاكه من اللحوم، فزالت وحسشيته، واعتدل مزاجه، وهدأت طباعه، ورقث مشاعره. فاستبدل بكثير من تقاليده الدموية وعقائده الوحشية الأولى نظما أخرى أدنى إلىالإنسانية وأقرب إلى مقتضيات العمران. ولذلك أخذت القرابين الإنسانية والحيوانية تقل شيئا فشيئا بعد ظهوا الزراعة، وتحل محلها القرابين النباتية المؤلفة من سنابلالغلال والخبز والفطائر وما إلى ذلك. فأصاب غذاء الآلهة وطباعها من أسباب التهذيب والرقى ما أصاب الأناسى وطباعهم.
وظهر كذلك نوع غريب من التضحية وهو التضحية الصوريةأو التمثيلية، كالتضحية بالتماثيل والصور الإنسانية (وقد انتشرت هذه العبادة عند كثير من الأمم القديمة والحديثة)، وكإهراق الدم من عضو من أعضاء التضحية بدون القضاء علىحياتها (وقد اتبع هذا النظام فى كثير من معابد قدماء الإغريق وبخاصة الإلاهة أريتميس)، وكالاكتفاء بأعمال تمثيلية تشير إلى ما كان يعمل قديماً (فعند بعض قبائل الهنودمثلا كان يكتفى فى التضحية عقب وفاة الزوج بأن يؤتى بكومة حطب وتشعل النار فيها ويؤتى بزوجة المتوفى وتمد على هذه الكومة وتظل كذلك حتى يقرب اللهب منها). ومن أنواعالتضحية التمثيلية التضحية بخيال الإنسان. فقد جرت العادة عند بعض شعوب البلغار، عندما
/صفحه 390/
يشرع الواحد منهم فى بناء جديد أن يترقب أول مارّ بجوار البناءفيقيس ظله بخيط ويضع هذا الخيط تحت أول حجر يوضع فى العمارة، ويعتبر هذا تضحية. ويزيد لديه هذا الاعتبار قوة أنه يعتقد أن صاحب هذا الظل لا بد أن يموت عما قليل. وهذا هوأغرب أنواع التضحية. وهو لا يختلف فى دلالته عن النوع السابق: فكلاهما تمثيل لتضحية إنسانية كانت متبعة قديما.
* * *
وقد اختلفت الضحايا والقرابين فيما يتعلقبأساليب تقديمها، كما اختلفت فيما يتعلق بنوعها. غير أن أشهر هذه الأساليب وأكثرها انتشارا فى الأمم هو تقديم الأضحية إلى الآلهة بإلقائها جميعا أو بعض أجزائها فىالنار، وانتشار الدخان المنبعث من حرقها فى أرجاء المذابح والهياكل المقدسة، وتصاعد رائحتها «التى تعجب الآلهة» (كما تقول أسفار العهد القديم) فى طبقات الفضاء. وهذهالطريقة وحدها هى التى أقرها العهد القديم فى معظم أنواع القرابين، حتى فى قرابين النبات وما يصنع منه كالدقيق والفطائر كما تنص على ذلك الإصحاحات الأول والثانى والسادسوالسابع وغيرها من سفر اللاويين الذى جاء معظم فقراته وقفا على بيان أنواع الضحايا وأحكامها وطقوسها وأوقاتها وناهج تقديمها. ولا غربة فى ذلك، فإن هذا السفر قد جاء لبيانوضائف اللاويين (أفراد قبيلة من قبائل بنى إسرائيل، وتتألف من أوولاد لاوى وهو أحد أبناء يعقوب) وتفصيل حقوقهم وواجباتهم نحو بقية قبائل بنى إسرائيل. وأهم الوظائف التىنيطت بهم كانت تتصل بالإشراف على المذابح وأعمال التضحية وتقبل القربان وتقديمها.
ومن طرق التقيدم كذلك الاكتفاء بالذبح وإراقة الدماء. وهذه هى الطريقة التى أقرهاالإسلام فى أضحية العيد وفى هدى الحج وذبائح التكفير لإغفال نسك من مناسك الحج أو عدم التمكن من القيام به لغذر أو إحسار أو نحو ذلك.
/صفحه 391/
ومنها ظريقة الوأد،وهى دفن الضحية حية. وقد اتبعت هذه الطريقة عند شعوب كثيرد منها بعض قبائل العرب فى الجاهلية وخاصة كندة وطيء وتميم.
ومنها كذلك طريقة إغراق الضحية فى الأنهار المقدسة(كما جرت العادة عند فدماء المصريين) وطريقة خنقها، وطريقة سد فمها بالطين، وطرق تعذيبها بمختلف الوسائل، وطريقة إلقائها من شاهق، وطريقة انتحارها عن اختيار منهابترديتها من قمة عالية... وهلم جرا.
* * *
وأما المتقرب اليهم فيظهر من استقراء هذه العبادة عند مختلف الأمم وفى شتى الشرائع أنهم يرجعون إلى الطوائف الآتيه:
1ـ الآلهة على اختلاف أنواعها مع تفاوت بينها فى مبلغ الحرص على هذه العبادة. وأشدها رغبة فى القرابين النار عند المجوس والكواكب والأنهار عند عايديها.
2ـ القديسونوالأولياء. وقد انتشر التقرب إليهم بالقرابين عند أمم كثيرة. ولا تزال العامة ببلاد الصعيد وغيرها من بلاد مصر ينذرون الضحايا ويقدمون الذبائح للأولياء ولا سيما السيدأحمد البدوى الذى تنذر له بالقرى المصرية عجول تسمى عجول السيد تربى بعناية لاغة، وينزلها الفلاحون منزلة تقرب من منزلة التقديس. فلا يمسها أحد بأذى، حتى لو أكلت من غيرملك صاحبها أو تسببت فى الإضرار بآدمى، ويحجون بها إلى طنطا عند اقتراب مولد السيد البدوى ليذبحوها أمام ضريحه. وغنى عن البيان أن أعمالا كهذه لا تقرها شريعتنا الغراء. 3ـ أرواح الموتى. وقد انتشرت عادة التقرب الموتى بالضحايا ابتغاء مرضاتهم وخشية غضبهم على الأحياء عند طائفة كبيرة من الأمم الإنسانية قديمها وحيثها وبخاصة قدماءالمصريين وقد تركت هذه العبادة رواسب كثيرة فى
/صفحه 392/
تقاليد المصريين حيال موتاهم فى العصر الحاضر.
* * *
هذا، وقد كان يعتقد قديما أن المتقربإليهم يقيدون ماديا من الضحايا والقرابين: فقد ساد الاعتقاد عند بعض الأمم أن الآلهة تنتفع فى غذائها بلحوم الأضاحى أو بلحوم بعض أعضائها. ولذلك يحرم عند هذه الأمم أكلالناس منها جميعا أو بعضها. واعتقد بعض الشعوب التى كانت تقدم الضحايا الإنسانية قربانا الآلهة والموتى أن المتقرب إليهم يتخذون من هذه الضحايا عبيدا وخدما يسخرونهم فىقضاء حاجاتهم. ووصم بعض الأمم آلهتها بصفات القسوة وحب الدماء والتلذذ منظر إزهاق الروح. فكانوا يقدمون إليها الضحايا تهدئة لهذه الميول الدموية. اتقاء لشرها، وتأميناعلى حياة الجماعات.
وقد قضى الإسلام على جميع هذى الأساطير والخرافات، وجعل التضحية مجرد مظهر من مظاهر تقوى الله وشركه وامتثال امره، وفرصة للإحسان إلى الفقراءوالبرّ بالمساكين. وإلى هذا يشير القرآن الكريم إذ يقول: «فكلوا منها أطعموا البائس الفقير»(1)، وإذ يقول: «لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم»(2).
ـــــــــــــــــــــ
1-آية 28 من سورة الحج.
2-آية 27 من سورة الحج.