منهج الإسلام
في إصلاح عقائد الألوهية والربوبية
لصاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ يس سويلم طهمن كبار علماءالأزهر (النوع السادس) من أنواع الأساليب التي قرر بها القرآن عقائد التوحيد والتنزيه، الأساليب التي تقرر أن الله تعالى حي قيوم، لا تأخذه غفلة عن تدبيرأمور الكائنات وتصريف شئونها، كما في قوله تعالى في سورة البقرة: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السموات وما في الأرض، من ذا الذي يشفععنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم) إلى غير ذلك من الآياتالقرآنية التي تقرر أن الله جل جلاله هو الحي الدائم الحياة، الذي لا يلحقه فناء ولا عدم، القيوم الدائم القيام بتدبير أمور الكائنات وحفظها، وإمدادها بما به قوامهاوحياتها، فلا حياة لحي إلا وهي مستمدة منه تعالى، ولا قوام لشيء في الوجود إلا به عز شأنه، ولا تأخذه غفلة عن تدبير شئون خلقه، ومراقبته لكل ما يجري في الكائنات، ولايعتريه سبحانه عجز ولا قصور، ولا يعظم عليه أمر السموات والأرض، ولا يشق عليه حفظهما على عظمهما وتعدد عوالمهما، فهو قيوم السموات والأرض الذي لا قوام لهما إلا به، وهوالعلي العظيم الذي يضاءل كل عظيم بجانب عظمته، بل لا عظيم غيره ولا كبير سواه.
(النوع السابع) الأساليب التي تقرر أن الله تعالي هو القادر المقتدر، المتفرد بالخلقوالإيجاد، والإبداع والتقدير، كقوله تعالى في سورة المائدة: (ولله ملك
/ صفحة 193 /السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء، والله على كل شيء قدير) وفي سورةالكهف: (وكان الله على كل شيء مقتدراً) وفي سورة لقمان: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) وفي سورة فاطر: (وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض، إنه كانعليماً قديراً) وفي سورة الأنعام: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء) وفي سورة الفرقان: (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) وفي سورة القمر: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) إلى غيرذلك من الآيات القرآنية الكثيرة، التي تقرر أن الله جل جلاله قادر مقتدر، لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، وأنه تعالى متفرد بالخلق والإيجاد والتقدير، خلق هذهالعوالم التي لا تحيط بها العقول والأفهام، وقدر كل شي خلقه تقديراً معلوماً، ودبر أمره تدبيراً محكماً، وكون عناصر الكائنات من مقادير مقدرة بموازين دقيقة محكمة، كمايشير إلى ذلك قوله تعالى في سورة الرعد: (وكل شيء عنده بمقدار) وفي سورة الحجر: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون).
وجعل لكل عالم منالعوالم الكونية ناموساً لا يتعداه، ووضع له من السنن الكونية ما يحفظ عليه بقاء نوعه إلى الأجل المكتوب له، ومكن للضعيف منها أن يعيش بجانب القوي، بما هيأ له من وسائلالحياة والبقاء، وجعل للجميع نظاماً عاماً يربط بينها برباط وثيق، وينظم روابط التعاون بين العوالم العلوية والعوالم السفلية، فجميع العوالم الكونية قائمة على سننمعينة وأنظمة محكمة، وجارية على أحسن الوجوه وأكملها، وأبدع النظم وأعدلها، ومشمولة بالعناية الإليهة والرعاية الربانية، لا فرق في ذلك بين العوالم العلوية والعوالمالسفلية، ولا بين الصغير منها والكبير، ولا بين العاقل منها وغير العاقل، كما يشير إلى ذلك قول الله عز وجل في سورة الأنعام: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيهإلا أمم أمثالكم، ما فرطنا في الكتاب من شيء، ثم إلى ربهم يحشرون) وإن نظرة واحدة في أنظمة حياة الحيوانات في البر والبحر، لتدل دلالة قاطعة على أن عين العناية الربانيةتلحظ برعايتها كل شيء في هذا الوجود، فتبارك الله رب العالمين.
/ صفحة 194 /(النوع الثامن) الأساليب التي تقرر تفرده تعالى بالملك والملكوت، والتدبير والتصريف،والعزة والجبروت، كقوله تعالى في سورة المائدة: (لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير) وفي سورة يس: (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون) وفي سورةالسجدة: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) إلى غير ذلك من الآيات التي تقرر أن الله تعالى هو مالك الملك وحده، وبيدهمقاليد السموات والأرض، وله الخلق والأمر، وإليه المرجع والمآب، كما قال سبحانه في سورة الأعراف: (ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين).
وفي سورة آل عمران:(ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور) وفي سورة النور: (ولله ملك السموات والأرض وإلى الله المصير).
فكل الكائنات في قبضة قدرته، وحادثة بخلقهوتقديره، وسائرة بتدبيره وتصريفه، وخاضعة لسلطانه وقهره، كما قال جل جلاله في سورة الأنعام: (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير) وفي سورة الزمر: (سبحانه هو اللهالواحد القهار) قهر الحياة بالموت، والصحة بالمرض، والعز بالذل، والغنى بالفقر، والشباب بالشيخوخة، والفرح بالحزن، والرخاء بالشده، والبغي والطغيان بالبطش والإنتقام،والغفلة والبطر بالشدائد والنذر، وهكذا قهر كل شيء في هذا الوجود بضده، إظهاراً لقدرته وحكمته، وتعريفاً بجلاله وعظمته، وإعلاماً بسلطانه وهيمنته، فسبحانه هو اللهالواحد القهار.
(النوع التاسع) الأساليب التي تقرر أن الله تعالى عليم خبير، كقوله تعالى في سورة الإنعام: (وهو الله في السموات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم ويعلم ماتكسبون) وفيها أيضاً: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتابمبين) وفي سورة يونس: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين).
/ صفحة 195 /وفي سورة لقمان: (إن الله عليمخبير) إلى غير ذلك من الآيات التي تقرر أن الله تعالى عالم بجميع المعلومات، محيط بكل ما يجري في الكائنات، مطلع على هواجس الخواطر وخفايا السرائر، خبير بمطويات النفوسومكنونات القلوب، فلا تخفى على الله خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، بل أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، كما قال عز وجل في سورة الطلاق: (وأنالله قد أحاط بكل شيء علماً) وفي سورة الجن: (وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً).
(النوع العاشر) الأساليب التي تقرر أن الله تعالى سميع بصير، كقوله تعالى في سورةالإسراء: (إنه هو السميع البصير) وفي سورة لقمان: (إن الله سميع بصير) وقوله تعالى في سورة طه خطاباً لموسى وأخيه هارون عليهما السلام: (قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى)وفي سورة المجادلة خطاباً لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (قد سمع الله قول التي تادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما، إن الله سميع بصير) إلى غير ذلكمن الآيات التي تقرر أن الله تعالى سميع بصير، لا يعزب عن سمعه مسموع، ولا يغيب عن بصره مرئي، ولا يمنع سمعه بعد، ولا يحجب رؤيته ظلام، بل يسمع دبيب النملة على الصخرةالصماء، ويرى كل ذرة في الأرض والسماء.
(النوع الحادي عشر) الأساليب التي تقرر عموم إرادته تعالى ومشيئته، كقوله تعالى في سورة يس: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول لهكن فيكون) وفي سورة التكوير: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) وفي سورة آل عمران: (قل اللهم مالك الملك، توتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء،وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) وفي سورة هود: (إن ربك فعال لما يريد).
فالله جل جلاله مريد لكل حادث، مدبر لكل كائن، له الإرادة العامة والمشيئة النافذة،وهو الفعال لما يريد، فلا يخرج عن إرادته لفتة ناظر، ولا يند عن مشيئته لمحة خاطر، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، أراد سبحانه
/ صفحة 196 /وجود هذهالمخلوقات، وقدر لوجودها الحدود والأوقات، فوجدت في أوقاتها كما أراد في أزله، وجاءت في حدودها كما سبق في علمه، فكل الكائنات حادثة بقدرته، وواقعة بإرادته ومشيئته،ومحكومة بتدبيره وهيمنته، يقدر الأمور بعلمه وحكمته، ويصدرها بإرادته وقدرته، ويصرفها بتدبيره ومشيئته، لا معارض لإرادته، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا رادلقضائه، ولا معقب لحكمه، كما قال جل جلاله في سورة فاطر: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده، وهو العزيز الحكيم) وفي سورة الرعد: (وإذاأراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له) وفيها أيضاً: (والله يحكم لا معقب لحكمه).
(النوع الثاني عشر) الأساليب التي تقرر عقيدة القضاء والقدر، كقوله تعالى في سورة الحديد: (ماأصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير) وفي سورة التوبة: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) وفي سورة آل عمران: (وما كانلنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً) وفيها أيضاً: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم)، وفي سورة النمل: (وما من غائبة في السماء والأرض إلافي كتاب مبين) إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن جميع الكائنات جارية بقضاء الله وقدرته، وأن كل ما يجري في الكون من حركة وسكون، ووجود وعدم، وخير وشرب، فإنما هو جارعلى قدر سابق قضاء الله وقدره، وأن ما قدره الله لابد أن يقع كما قدره، فالله جل جلاله قدر جميع الكائنات قبل وقوعها، وحدد الأزمنة والأمكنة التي ستقع فيها، والأحوالوالكيفيات التي ستوجد عليها، والأسباب الظاهرة والخفية التي يرتبط بها وقوعها، وقدر ذلك كله على وفق علمه تعالى وإرادته، فكل الكائنات معلومة لله قبل وقوعها، ومقدرةمنه تعالى على وفق علمه وإرادته، وقد جاءت السنة النبوية أيضاً بعقيدة القدر ووجوب الإيمان به، كما جاء فيما رواه مسلم وغيره، من قوله صلى الله عليه وسلم في بيان حقيقةالإيمان:
(أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره).
وفيما رواه الترمذي: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم / صفحة 197 /أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه) وفيما رواه الترمذي وغيره (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبهالله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وطويت الصحف).
فالقدر ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقدمن السلف والخلف، والإيمان به واجب، كما قال النووي في شرح صحيح مسلم:
هذا وللعلماء في تفسير القضاء والقدر أقوال كثيرة، أظهرها فيما نرى أنهما بمعنى واحد، وهو تحديدالأشياء بحدودها التي ستوجد عليها، وهذا هو الذي يرشد إليه الإقتصار على لفظ القدر، في حديثي مسلم والترمذي وغيرهما، كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمدومسلم وابن ماجه: (وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل، فان لو تفتح عمل الشيطان).
فإن قال قائل: كيف نوفق بين ماتضمنته عقيدة القدر، من أن أفعال العباد مقدرة ومكتوبة عليهم، وأن ما قدره الله لابد أن يقع كما قدره، وبين مسئوليتهم عن هذه الأفعال واستحقاقهم للمجازاة عليها، مع أنهلا مفر من القضاء المحتوم، ولا مهرب من القدر المكتوب، ولا تكليف ولا مسئولية إلا مع الإرادة والإختيار، قلنا يجاب عن ذلك من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن القدر الخاصبأفعال العباد وسلوكهم، ليس مبنياً ابتداء على إجبار الله للإنسان على فعل ما كتبه عليه وقدره، حتى يكون منافياً لمسئوليته عن أعماله ومجازاته عليها، وإنما هو مبني علىسابق علم الله بما سيكون من سلوك الإنسان وعمله بإرادته واختياره، فالقدر تابع في التعقل لعلم الله بما سيكون عليه الإنسان في سلوكه الإختياري، فأفعال العباد صادرة عنهمبإرادتهم وإختيارهم وإن كانت مكتوبة ومقدرة عليهم، فلا منافاة بين عقيدة القدر ومسئوليتهم عنها، ومجازاتهم عليها.
الوجه الثاني: أن كل إنسان يعلم البداهة أن أفعالهلا تصدر عنه بطريق الجبر والإكراه، ولا بقصد تنفيذ ما قدره الله عليه لأنه لا يعلمه قبل أن يفعله، وإنما
/ صفحة 198 /تصدر عنه بإرادته وإختياره، وبدافع البواعثالتي تبعثه فعلها، والنيات التي تصاحبها وتحدد مقاصدها، فالذي يفعل الخير يفعله باختياره طاعة لله لا تنفيذاً لما قدره الله عليه، وكان في استطاعته بحسب ما يعرف من نفسهأن يترك هذا الخير الذي فعله، ولكنه آثر طاعة الله تعالى على طاعة الهوى والشيطان، والذي يفعل الشر يفعله باختياره طاعة للهوى والشيطان لا تفيذاً لما قدره الله عليه،وكان يستطيع يحسب ما يعرف من نفسه أن يجتنب الشر الذي فعله، ولكنه آثر طاعة الهوى والشيطان على طاعة الله تعالى، فهذا الإختيار الذي يعرفه كل إنسان من نفسه في أفعاله،وهذه البواعث النفسية التي تبعثه عليها، وهذه النيات القلبية التي تصاحبها وتحدد مقاصدها، هي مناط التكليف والمسئولية والجزاء، وهي التي تجعل أفعال العباد كسباًاختيارياً لهم، فلا منافاة إذاً بين عقيدة القدر ومبدأ المسئولية والجزاء.
الوجه الثالث: أن نسلك في ذلك مسلك الأخذ بما نعلم، ونفوض الأمر إلى الله تعالى فيما لانعلم، فنؤمن بعقيدة القضاء والقدر، ونؤمن كذلك بمبدأ المسئولية والجزاء، لأننا نعلم ثبوتهما بالكتاب والسنة وإجماع السلف والخلف، ونفوض الأمر فيما لا نعلمه من التوفيقبينهما إلى علم الله بذلك، وإيماننا بحكمته تعالى في أفعاله وعدله في قضائه، ولا يخفى ما في هذا الوجه من الاحتياط في الاعتقاد والسلامة من الزلل، ومناسبته للعامة وقربهمن أفهامهم.
ومما تقدم تتضح لنا الحقائق الآتية:
الحقيقة الأولى: أنه لا يصح لأحد أن يحتج بالقدر على عصيانه وسوء سلوكه، لأنه يعلم أن القدر محجوب عنه لا علم له به،ويعلم أن الله تعالى بين له طريق الخير وأمره باتباعه، وبين له طريق الشر ونهاه عن سلوكه، ويعرف من نفسه أنه كان يستطيع أن يسلك طريق الخير ويتجنب طريق الشر، وأن عدوله عنطريق الخير إلى طريق الشر كان بإرادته واختياره، فاحتجاجه مع ذلك القضاء والقدر، إنما هو احتجاج باطل لا يخليه من المسئولية عن أعماله واستحقاقه للجزاء عليها. الحقيقة الثانية: أنه لا يجوز لنا أن نتعلق بالقدر ابتداء في الشئون التي تدخل تحت علمنا وقدرتنا، فلا يجوز لنا أن نحيل الأمر على القدر في القعود عن السعي والعمل،والتواكل في تحصيل مطالبنا وحاجاتنا، ولا أن نتعلل به في إهمالنا / صفحة 199 /وتقصيرنا في تدبير أمورنا وتصريف شئوننا، وتفريطنا في دفع أسباب الشر عن أنفسناوأوطاننا، بل يجب علينا أن نبذل كل ما نستطيع من سعي وعمل، وجهاد وكفاح، وما نملك من علم وفكر، وقدرة وتدبير، وأن نستمد من الله العون والتأييد في سعينا وكفاحنا،والهداية والتوفيق لأرشد الأمور في تفكيرنا وتدبيرنا، ونفوض الأمر فيما وراء ذلك إلى سنن الله تعالى في ترتيب المسببات على أسبابها، وصيرورة الأمور ورجوعها في النهايةإلى قضاء الله تعالى وقدره، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في سورة الشورى: (ألا إلى الله تصير الأمور).
الحقيقة الثالثة: أن الذي يحال على تصاريف القدر ابتداء، هو ما لايدخل تحت علمنا وقدرتنا من الأسباب والسنن الإلهية المحجوبة عنا، فهذه الأسباب والسنن هي التي تعتصم في تدبيرها بالقدر ابتداء وانتهاء، وندع أمورها تجري في مجاريهاالتي رسمها لها القدر، ونفوض الأمر فيها إلى الله يدبرها بحكمته ويصرفها بمشيئته، والخلاصة أن ما يدخل في دائرة علمنا وقدرتنا وتدبيرنا، فان الأمر في تدبيره وتصريفهيرجع الينا ابتداء ،والى تصاريف القدر انتهاء، وأن ما لا يدخل في دائرة علمنا وقدرتنا وتدبيرنا، فإن الأمر فيه يرجع إلى تصاريف القدر ابتداء وانتهاء.
(النوع الثالثعشر) الأساليب التي تعرف الناس بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وتوجه عقولهم وأفهامهم إلى مدلولاتها التي تصعد بالأوراح إلى مشاهدة جمال الله وكمال ذاته وصفاته،ومطالعة هيمنته تعالى وعظمته وجلاله، وتملأ القلوب بالرجاء في فضله ورحمته، والخوف من عقابه وبطشه، وتصل بروعة معانيها إلى أعماق النفوس، وتثير فيها كوامن الشوقوالحنين إلى التعرف إلى الله في الرخاء والشدة، وتبعثها على الإقبال على طاعة الله والفرار من عصيانه، كقوله تعالى في سورة الحشر: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيبوالشهادة هو الرحمن الرحيم، هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون، هو الله الخالق البارئ المصورله الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) إلى غير ذلك مما جاء في كثير من فواتح السور وفواصل الآيات.
/ صفحة 200 /فذكر أسماء اللهالحسنى بألسنة صادقة وقلوب مخلصة، يذهب الغفلة عن القلوب ويملؤها بالسكينة والطمأنينة، كما قال تعالى في سورة الرعد: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). وهو يشفي أمراضالنفوس، كما قيل:
وننسى الذكر أحياناً فننتكس إذا مرضنا تداوينا بذكركمو
ويقوي صلتها بالله عز وجل، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في سورة البقرة: (فاذكروني أذكركموأشكروا لي ولا تكفرون) وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبد بي، وأنا معه حيث ذكرني). ودعاء الله بها في مواقف الجهادوالكفاح، ومواقع الشدائد والمحن، ومواطن الندم والتوبة، ومشاهد العظة والعبرة، يقوي العزائم، ويثبت القلوب، ويستنزل السكينة على النفوس، ويقيها شرور القلق والاضطراب،ويدفع عنها اليأس والقنوط، ويهون عليها وقع الشدائد والمحن، ويفتح لها أبواب الرجاء في تحقيق الآمال وتفريج الكرب، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: (وللهالأسماء الحسنى فادعوه بها).
فالذي يسعى ويعمل، ويكد ويكافح، إذا ذكر الله تعالى في سعيه وكفاحه، واستحضر في نفسه أنه القادر المقتدر، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولافي السماء، فإن ذلك يبعث في نفسه القوة والعزم، والصبر والجلد، ويملأ قلبه بالرجاء في مدد الله وعونه وتوفيقه، وتيسير أسباب النجاح في سعيه وعمله، ووسائل التأييد والنصرفي جهاده وكفاحه.
والذي نزلت به شدة ومحنة، إذا ذكر الله في شدته ومحنته، واستحضر في نفسه أنه الكريم المنان، القادر على تفريج الشدائد والكرب، وتذكر ألطافه الخفية فيقضائه وقدره، فإن ذلك ينفي عنه الضيق والإضطراب مما قضاه الله وقدره، ويعصمه من الهلع والجزع، ويحمله على جميل الصبر والرضا، ويهون عليه وقع الشدة وأثر المحنة، ويدفع عنهاليأس والقنوط، ويملأ نفسه بالرجاء في كشف الغمة وتفريج الكربة.
/ صفحة 201 /والذي غلبه الهوى وزلت به القدم، إذا تذكر أن الله عفو غفور، تواب رحيم، يقبل توبةالتائبين، ويغفر ذنوب المستغفرين، فإن ذلك يفتح له باب التوبة والرجوع إلى ربه، ويملأ قلبه بالأمل في فضل الله وكرمه، والرجاء في عفوه ورحمته، وقبول توبته وغفران ذنبه.
والذي حدثته نفسه بالإقدام على فعل المعصية، فتذكر أن الله رقيب عليه في سره وجهره، وأنه المهيمن العزيز الجبار، قوي البطش شديد العقاب، فإن ذلك يحمله على كف نفسه عنفعل المعصية التي حدثته نفسه بالإقدام عليها، وهكذا الشأن في ذكر ما يناسب من أسماء الله الحسنى لكل موقف من مواقف الحياة وشئونها.
أما غفلة الإنسان عن ذكر الله فيسلوكه وشئون حياته، فإنها تميت قلبه، وتدسي نفسه، وتوجب قطيعته عن الله عز وجل، وحرمانه من مدده الغيبي، وألطافه الخفية، وتنمي في نفسه نوازع الضلال والإنحراف، وإذانزلت به شدة ومحنة، استحوذت عليه هواجس الشر وخواطر السوء، واستبد به الضيق والإضطراب، وأوصد اليأس في وجهه أبواب الأمل والرجاء، وسد عليه منافذ التفكير السليموالتدبير السديد، وكان أمره إفراطاً في الغي والضلال، وسوء التفكير وفساد التدبير، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في سورة الكهف: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبعهواه وكان أمره فرطاً).
(وبعد) فهذه صورة إجمالية لمنهج القرآن في تقرير عقائد الإلوهية والربوبية، وهو المنهج الذي يجعل مجال الفكر والنظر في دلائل التوحيد والتنزيهسهلاً ميسراً، وطريق الوصول إلى معرفة الله قريباً معبداً، ويصل بالناظر فيه إلى مرتبة اليقين القلبي والذوق الوجداني، بخلاف منهج الفلسفة الجدلية المعقدة، فإنها لاتصل بالناظر فيها إلى مرتبة الطمأنينة واليقين، إذ قلما يعرف قضاياها ذوقاً واقتناعاً، وإن عرفها صناعة وجدلاً، بل كثيراً ما تحجب عنه نور الحقائق الفطرية، وتكدر عليهصفو المعارف الوجدانية، وتملأ نفسه بتأويلات وتشكيكات لا تغني من الحق شيئاً، فقد رأينا كيف قرر القرآن هذه العقائد تقريراً محكماً، وخلصها من شوائب الوثنية والشرك،ونفي عنها تحريف المضللين وتأويل الجاهلين، وكيف جلاها
/ صفحة 202 /للعقول والأفهام في روعة الحق وجلال الصدق، وجاء بها في أساليب قوية رائعة، تعطف بها القلوبالنافرة، وتلين لها العريكة المستعصية، وتنقاد إليها النفوس الشارده، وتكشف عن القلوب غمة الشك وظلمة الجهل، وتصعد بها في مراتب الإيمان إلى مرتبة الإذعان النفسيواليقين القلبي، وتصل بالعقول في درجات المعرفة إلى درجة الرسوخ العلمي والذوق الوجداني، وتكشف للتائهين عن المجاهل التي فيها يتيهون، وتبين لهم السنن(1) اللاحب الذي بهيهتدون، وتغمر بفيض قراها(2) كل سار يعشو(3)، إلى ضوء نورها، وتملأ قلبه بالتوحيد النقي الخالص، الذي يطهر قلبه ويزكي نفسه، ويرفع شأنه ويعلي مكانته، ويحرر عقله وفكره منرق الأوهام والخرافات، ويجعله إنساناً كاملاً في إنسانيته، وعزيزاً كريماً في نفسه، وعبداً خالص العبودية لربه، لا يتجه بدعائه وعبادته إلا لخالق الأرض والسموات، ولايرى العظمة والكبرياء إلا لله الواحد القهار.
فمن عرف للمحق قدره وقداسته، وحكم عقله وفكره وضميره في هذه الدلائل الصادعة بالحق، والآيات البينات الناطقة بالصدق،ووجد فيها إقناعاً لعقله وطمأنينة لقلبه، وفي قراها غذاء لروحه وسكناً لنفسه، فقد هدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ومن ركب رأسه واستبد به الهوى والغرور، واستحوذت عليهالعصبية الطاغية والتقليد الأعمى، واتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم، وضاقت عليه رحاب هذه الدلائل والآيات، فلم يجد فيها إقناعاً لعقله وسعة لفكره وانشراحاً لصدره،فلا وسعته أرض بأوديتها وآفاقها، ولا رحبته سماء بأجرامها وأفلاكها، فالله جل جلاله يقول في سورة الأنعام: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضلة يجعلصدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون، وهذا صراط ربك مستقيما، قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) وفي سورة الجاثية: (أفرأيت من اتخذإلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).
(1) الطريق البين الواضح المعالم.(2) القرى: ما يقدم للضيف. (3) محثا النار وإليها: رآها ليلاً فقصدها.