عناصرُ وُجُود الأمة الإسلامية
لحضرة صاحب الفضيلة الاستاذ الدكتور محمود فياضأستاذ التاريخالاسلامى بكلية أصول الدين بالأزهرـ2ـتحدثنا إلى القاريء الكريم، عن التوحيد و الوحدة فى العدد السالف، و خلصنا من ذلك الحديث إلى أن القرآن الكريمبدعوته إلى توحيد الله و عبادته وحده و تقريره الوحدة بين الموحدين، أبرز إلى الوجود لأول مرة فكرة الأمة المكلفة و الجماعة المسئولة، مسئولية حقيقية لا رمزية، تتناولالفرد بصفة فردا، ثم بصفته عضوا فى الأمة المسئولة، و هذه فكرة جديده لم يعرفها العقل البشرى ـ بهذا الشكل الاسلامى ـ إلا من القرآن، و لذلك كان القرآن ثورة على فكرة«الذاتية» أو «الفردية» التى أخذت بزمام الانسانية عصورا طويلة قبل الاسلام، ولا تزال حتى الآن تجد أنصارها من «الفلاسفة النفعيين». و عل أساس «التوحيد و الوحدة»قام الاجتماع الاسلام، و تقررت الحقوق و الواجبات للفرد و الجماعة، و وضعت أسس الحكم، و الضمانات الازمة لحفظ النظام و الرخاء و السلام فى المجتمع، و لقد تقرر ذلك كله علىأنه دين لازم، لا على أنه كمال يبتغى كما تبتغى الكماليات، و إلى القاريء بعض البيان.
2ـ الحرية و الأخوّة و المساواة:
إذا كان الخالق واحدا، ونسبة خلقه إليه واحدة،و هم عبيده لا سيادة لغير الله عليهم، فهم جميعا أحرار و درجاتهم فى الحرية واحدة، ليس إنسان عبدا لإنسان، ولا معبود لإنسان «و من يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيهجهنّم. كذلك نجزى الظالمين» و أذن فليس هناك إنسان فيه عنصر إلهى يجب على الناس تقديسه، و ليس لإنسان أن يفتات على حرية إنسان أو يقيد حريته، و إنما ذلك للخالقوحده، و لقد وضع حدودا لهذه الحرية. و قرر متى تعطل أو تقيد نفسها، و لم تكن تلك الحدود و القيود إلا لمصلحة الإنسان، و لضمان حريته و سعادة مجتمعه، و قد وكل الله إلى الأمةرعاية ذلك، ولم يجعله حقا لفرد يمتاز به على فرد آخر؛ فدفعُ العدوان، و الظلم عن الأموال و الأنفس و الأعراض له سبيله المقررة فى الحدود التى شرعها الله فى القرآن الكريم:(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله).
«و لكم فى القصاص حياة».
«الزانية و الزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة». «والذين يرمونالمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة». و كذلك بيْن القرآن و فصْلت السنة الدواعى التى توجب تعطيل الحريات أو تقييدها لمصلحة الفرد و المجتمع، و ليسوراء عدوان الإنسان على الأموال و الأنفس و الأعراض و خيانته أمنه سبيل إلى تعطيل حريته أو تقييدها. ولكى يركزِّ القرآن ذلك المبدأ السامي؛ نراه يحرص فى كل مناسبة علىتذكير الإنسان بأن خالقه و خالق الكون كله واحد. سبحانه و تعالى عما يشركون؛ و عما يصفون؛ ليشعره دائما بحريته، ثم يعرض على الإنسان وحدة خالقه مشفوعة بوحدة الأصل الذىخلقه من فيقول: «يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة، و خلق منها زوجها، و بث منهما رجلا كثيرا و نساءً. واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام. إن الله كانعليكم رقيبا» ليشعره بوحدة أصله بعد أستيقانه بوحدانية خلقه، و لا ريب فى أن شعور العاقل بأن الخالق واحد، و الأب واحد، و الأم واحدة، يحمله على أن يعرف أنّ لأخيه مثلالذى عرفه لنفسه من حقوق و واجبات، و أن الإنسانية رحم بين أفرادها، و أن الأرحام يحب أن توصل، و أنّ قطعها لم يأذن به الله، و أن الله رقب على الناس فى تعاطيهم حرياتهموصلة أرحامهم.
و لما كانت المعرفة المجردة لا قيمة لها ما لم تظهر ثمرتها، فإن القرآن يعمد إلى توجيه الإنسان للعمل بمقتضيات تلك المعرفة بأسلوب رائع يأخذبمجامع الألباب، فيقول: « يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلنا كم شعوبا و قبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم» ليجعله دائما على ذكر من وحدانية الخالقو وحدة الأصل و الأخوّة الإنسانية (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) فأنتم أخوة، والإخوة سواسية فى كل حق و واجب، تحمل الإخوة ـ على الرغم من تعدد شعوبهم، و تباين قبائلهم ”على التعارف و المودة و المحبة و التعاطف و التراحم و التناصح و التآزر، و هذا أقصى آمال الإنسانية الرقية المهذبة.
و هكذا ترى القرآن يضع أمام الإنسان و حدة الخالق؛ ووحدة الأصل؛ و الأخوة الإنسانية فى إطار واحد، يزيده جمالا تحديده غاية الإنسانية «لتعارفوا» تحديداً اساسه التعارف المستلزم للألفة و الوئام، و التعاون و المحبة والسلام، و العدل بين أناس هم إخوة أحرار متساوون. و كما قلت فى مقال فئت: إن القرآن بهذاا بين أناس هم إخوة أحرار متساوون. و كما قلت فى مقال فائت: إن القرآن بهذا النهجالرائع كان أول مبتكر لفكرة الجامعة الإنسانية. أو فكرة العالمية التى تجعل الانسان أخا للإنسان و «مواطنا عالميا» يحنو على أخيه فى كل مكان، على بعد الدار و سعة الفواصلو طول الأسفار؛ و من هنا أخذ الغربيون عن الإسلام فكرته السامية و دعوا إليها باسم: «الزمالة العالمية» و تجددت الدعوة إليها اليوم باسم: «المواطن العالمي» و «الحكومةالعالمية» ولكن شتان بين الأسس التى تُقَوِّم الفكرة الإسلامية، و الأسس التى تقوم الفكرة المقدة لها!!.
خالق الإنسان عليم خبير بالنفوس البشرية، و قد علم سبحانه أنسلوك هؤلاء الإخوة فى حياتهم العملية لابد أن يتباين ـ نتيجة لمدى استخدام الطاقة العقلية، و شعورهم بالأخوة الإنسانية ـ تباينا يقضى بالتفاوت و التمايز بين الأفراد، وهذا أمريحتم و ضع مقياس صحيح لا عوج فيه، يقاس به هذا التمايز، و يُحكّم فى تحديد مدى صلاحية الأفراد عند الله و عند الناس.
و نظر الخطورة الأمر بين أعضاء الأسرةالإنسانية، لم يكل القرآن الكريم
أمر وضع هذا المقياس إلى العقل البشري، لأن الشواهد من يوم الخلقة تنطق فى صراحة بأن العقل البشرى لم تتفق أفراده على مقرراتثابتة صحيحة فى قياس التفاضل بين الناس، لعدم الاتفاق على كل ما هو حسن أو قبيح؛ فتولى القرآن وضع مقياس التكريم و التفضيل، و و الحكم بالصلاحية بين البشر عند الله و عندالناس بقوله: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» فأكرم الناس و أفضلهم: أتقاهم للشرك الدينى و الاجتماعي، و أبعدهم عن الشر بمختلف ألوانه، و بعبارة أوضح: أفضل الناس أصحهم عقيدةفى الله، و أنفعهم للناس. و مما تقدم نرى القرآن الكريم يشفع تقريره لوحدانية الخالق، بتقرير حرية خلق الله من بنى آدم أجمعين، و يربط بينهم بأخوة حقيقية نسبيةتجعلهم أرحاما يتراحمون بمقتضى أخوتهم، و يقرر المساواة التامة بينهم، فلا فروق ولا تمايز بين الأفراد أو القبائل أو الشعوب بمقتضى الخلقة و الأصل، بل بمدى ما يقدمهالفرد أو الشعب من خير و نفع للمجتمع الإنساني، حسبما يمليه عليه مدى إيمانه بالخالق و عقيدته فيه ، و على هذا فلاظلم و لا عدوان، و لكن عدل و رحمة وسلام.
يقرر الإسلامـ هكذا ـ الحرية و الأخوة و المساواة بين بنى الإنسان، تقريرا مستند إلى أهم مباديء الإسلام إطلاقا، و هو توحيد الخالق (1) منذ أربعة عشر قرنا، فى وقت كان فيه التحضر والتمدن يقومان على أساس من الظلم و العدوان بين الشعوب، و على شريعة الغاب بين أفراد الشعب الواحد، فنقل الاسلام بمقرراته هذه، البشرية من ذل العبودية لغير الله إلىالحرية المطلقة فى ضلال سيادة الله؛ و من طغيان الفرد و استبداده إلى المساواة المطلقة، و من الخصام إلى الأخوة والسلام، فردّ إلى الانسانية كرامتها، و أخرج الناس حقيقةمن الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذى له ما فى السموات و ما فى الأرض.
و لما كانت دعوة القرآن إلى الكرامة الإنسانية مهدِرة لمعظم الأوضاعالبشرية
(1) لم نشأ الاعتماد على غير النصوص القرآنية ـ مع كثرة نصوص السنة فى هذا المعنى ـ لنظهر مدى أهمية هذه المباديء فى كتاب الله.