مستقبل البشر
بعد انقسام نواة الذرة
للدكتور محمد محمود غالي دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ومراقب مصلحة النقل
الدكتور محمد محمود غالي عالم مصري كبير، تعرف الدوائر العلمية في أوروبا وفي الشرق قدره، وهو من أ وائل العلماء المصريين الذين تتبعوا بحرحوث الذرة، واشتركوا في بعض تجاربها في السوربون بباريس، وكانت رسالته العلمية الثانية عن (الأشعة الكونية) ذات صلة وثيقة بهذه البحوث، وهو يقتني مكتبة قيمة عن الذرةتحوي الكثير مما كتب عنها قبل الحرب وبعدها، وقد فرغ منذ قريب من إعداد كتاب عنها باللغة العربية. وما هو ذا يحدثنا في هذه الصفحات فيما يشغل بال العالم أجمع في هذه الآونةالدقيقة من تاريخ البشر.
وسيرى قراؤنا ـ ان شاء الله ـ كثيراً من بحوثه العلمية على صفحات هذه المجلة.
في سبتمبر سنة 1945 وبعد إشعاع القنبلتين الذريتين كما سماهاالناس في هيروشما وناكازاكي، طلب إلىّ الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين بك عميد الأدب العربي، أن أكتب في أول عدد لمجلة الكاتب المصري التي كان برأس تحريرها مقالاً عنالذّرة والقنبلة الذرّية ولم تكنقد صدرت في ذلك الوقت هذه المجموعة الكبيرة من الكتب والبحوث التي غمرت العالم منذ ذلك الحين عن الذرة، والتي طالعنا ما يزيد عن مائة كتابوبحث فيها.
وفي ذلك المقال الذي نشرته في أول أكتوبر سنة 1945 حاولت أن يفهم القارئ كيف يمكن أن يحصل الإنسان على طاقة فوق الوصف من جزء يسير
/ صفحه 61 /منالمادة، وقد اعتقدت في مقالي أنه عند تحقيق القنبلة الذرية لابد أن يكون هناك تسلل من جسيم صغير أسماه العلماء (النترون) إلى النواة، فتسبب عن دخوله خروج طاقة عظيمة منالمادة على نحو لم يعهده البشر.
والحق أني عند ما أعيد مطالعة مقالي المتقدم أشعر بما للمعرفة الصحيحة، وطول المطالعة من أثر في التعرف ما أمكن على ما نجهله، ففي سنة1945 م لم أكن قد طالعت بعد نشرة (أوتوهان) الألماني، صاحب انفلاق نواة الذرية، والتي نشرت في يناير سنة 1939، ولم أكن قد طالعت ما تبعها من بحوث قيّمة نشرت خلال الحرب، بل كانآخر ما طالعته في هذا الشأن كتباً علمية صدرت للعالم.
(لويس دي بروي) ولشقيقه (موريس دي بروي) العالم المعروف ولغيرهما، بمعنى أن معارفي وقفت عند سنة 1938.
وتطورتالدنيا في أوروبا ونحن في غفلة من الزمن، وجاءت الشهور التي سبقت الحرب شهوراً خصبة للعلم والمعرفة، خطرة على الإنسان والمستقبل، وإذا أعمال خالدة (لأوتوهان) عن انفلاقنواة الذرة، وإذا أخرى خالدة (لا يرين كوري كريمة مدام كوري) عن التعرف على متطوعة جدد من بين سجسميات المادة لإحداث عمليات انفلاق أخرى لا دخل لعمل الإنسان فيها تحدث منتلقاء ذاتها على أثر حدوث أول انفلاق وهو ما يسمونه اليوم بالسلسلة، وهو ما سأحاول أن أشرحه في هذا المقال.
واليوم ونحن في مستهل عام 1949. تطلب إليّ مجلة (رسالة الإسلام)أن أكتب مقالا عن مستقبل البشر بعد انفلاق نواة الذرة.
ولئن سعدت في الحالين فلأن رجال الأدب ورجال الإسلام قد شعروا معاً بتقدم العلوم، وما سيكون لهذا التقدم من أثرعلى حياتنا الحاضرة والمستقبلة، وأنهم يودون مخلصين أن يتعرفوا ويتعرف قراؤهم من سطور المشتغلين بالعلوم حقيقة هذا الكون، ويتبينوا علاقته بالإنسان.
/ صفحه 62/وإني ألبي مخلصاً هذه الدعوة الكريمة لكتابة هذا المقال، وهأنذا أقدم هذه الصفحات لأبين للقارئ ما أعتقد أن ستحدثه نواة الذرة في مستقبلنا القريب أو البعيد، ولابد ليللوصول إلى هذه الغاية أن أشرح للقارئ بشئ من الايجاز: ما الذرة ؟ وما قدرها ؟ وما نواتها ؟ وما خطرها ؟ ولماذا انفلفت هذه النواة ؟ وما السر في خروج طاقة خطيرة منها ؟ ولئن ظفرت بعدد من القراء يرتاحون لقراءة مثل هذا المقال، الذي أحاول جاهداً أن أجعله مبسطاً، من بين المتشوقين لمطالعة هذه المجلة الرفيعة التي تعني في الدرجة ا لأولىبالناحية الإسلامية، وتعني قبل الذرة ونواتها بعلاقة المسلمين بعضهم ببعض، وتعني بما هو محبب إلى النفس من تاريخ الإسلام ومستقبل المسلمين، إني أكون قد سعدت بالشئالكثير مما أرجو، ولعل مقالي هذا يصادف هوى من هؤلاء الذين وهم يتطلعون للدين يؤملون في فكرة سامية هي من وحي الأديان ـ فكرة السلام والأخاء بين البشر.
ولعل من ينعمالنظر فيما أكتبه اليوم ويحاول تفهمه يشعر بالعبء الفادح علينا كآدميين بات من واجبهم المحافظة على كيانهم كجنس عاش إلى الان أحقاباً طويلة، وذلك بالتوجه إلى المئلالعليا ومحاولة معرفة ما يحيط بجنسنا البشري من أخطار أو ما ينتظره من سعادة.
إن فهم ما يحيط بنا من مادة وإمكانيات أثرها علينا أو أثرنا عليها من الموضوعات التيأعتقد ضرورة معرفتها لكل إنسان كائن على وجه الارض.
فليكن مقالي إذن رسالة للمعرفة وللسلام يصدر في أول عدد لرسالة الإسلام.
وأنه ليسرني أن يطالع سطوري عدد كبيرمن طلاب المعرفة ومن الطلبة والأصدقاء الذين صادفتهم في البلاد الإسلامية، ومنهم من يتم تقافته في الوقت الحاضر في أمريكا أو أوربا، ومنهم من لا يزال على ضفاف النيل أوالدجلة في الجامعة المصرية أو في دار المعلمين العالية ببغداد، ومنهم من تخرج ويقوم بالتدريس في الجامعة أو في مدارسنا هنا وهناك، ومنهم من طالعت له
/ صفحه 63 /مقالات قيمة عن الذرة، كذلك المقال الذي نشره الاستاذ محمد كاشف الغطاء في مجلة المعلم الجديد التي تصدر في بغداد، لهؤلاء جميعاً أبعث بخالص تحياتي واشكر مجلة (رسالةالإسلام) التي أتاحت لي هذه الفرصة في الاتصال بأبناء العروبة والاسلام.
ستحدث القوى النووية ـ لا الذرية كما أفضل تسميتها ـ انقلابا عظيماً وسريعاً في حياة البشر،انقلاباً لم يتوقعه العلماء بهذه العظمة وهذه السرعة، ولا يمكن للفرد العادي أن يتصوره في سهولة.
ولفهم مصدر هذه القوى فهماً مبسطاً يجب أن نعرف أن الذرة وهي أصغر جزءفي المادة يمكن فصله بالوسائل الكيميائية، مكونة من نواة وسطى شمس ومن سيارات تدور حول نفسها وحول النواة، كما تدور الأرض حول محورها وحول الشمس، فالذرة إذن عالم شمسيصغير، وهذا ا لعالم من الصغر بحيث لو أمكننا أن نضع عشرة مليون ذرة الواحدة جوار الأخرى لبلغ طول المجموعة مليمتراً واحداً في الطول، أما نواتها وهي شمسها الوسطى فهي منالضآلة بحيث لو أمكننا أن نضع مائة ألف نواة الواحدة منها بجوار الأخرى، لبلغ طول مجموعها ذرة واحدة، ومعنى ذلك وفي بعض الحالات أننا إذا استطعنا أن نحدد أو نرى بوسيلة ماطول جزء من الحيز مقداره واحد من المليون من المليمتر، فإنه يلزمنا أن نضع مليون نواة الواحدة جوار الأخرى لكي نملأ هذا الطول المتناهي في الصغر.
فإذا علمت بعد هذا أنلهذه النواة على ضآلتها تركيباً معقداً، فهي مكونة في كل العناصر الثقيلة من نوعين اثنين من الجسيمات ومن عدد عديد منها، يبلغ 238 جسيما في مادة اليورانيوم مثلا، فلك انتصدق وأنت تتأمل هذه الجسيمات داخل النواة الصغيرة أن لها قوانين تختلف جد الاختلاف عما اعتدناه من قوانين.
مثال لك: يختلف مجموع كتل هذه الجسيمات داخل النواة عنمجموع كتلها
/ صفحه 64/إذا تفرقت بمعنى أن هذه الجسيمات إذا خرجت من النواة نقص وزن مجموعها على حساب طاقة كبيرة تخرج للخارج.
إنما أود أن أصل مع القارئ إلىنتيجة صعبة: ذلك أن أشرح له إحدى الحالات التي تتحول المادة فيها إلى طاقة، وأعود فأقول أننا إذا وضعنا عشرة قروش على كفة الميزان فإن مجموع وزنها يساوي مجموع وزن كل منهذه القروش مأخوذة على حدة، ولكن إذا اعتبرنا الجسيمات المكونة للنواة فإن أمرها يختلف عن ذلك، فمجموع كتلة هذه الجسيمات مجتمعة يختلف عن مجموع كتلتها متفرقة، ذلك أنهمن الميسور لنا وضع العشرة قروش فرادى أو مجتمعة في مكان ما، بينما لا نستطيع أن نجمع في سهولة مجموعة من جسيمات النواة على الشكل المجتمعة فيه بالنواة، ويبدو أنه قد صرفتطاقة كبيرة لجمعها على هذه الصورة، طاقة أدخرتها لنفسها لبقائها مجتمعة، وهي الطاقة التي تخرج إذا استطعنا تفريقها، وهذه الطاقة تعادل النقص المادي في كتلة المجموعة بعدتشتيتها.
ويعتبر هذا في نظر العلماء المحدثين انعدام جزء من المادة تحول إلى طاقة. من هنا نرى أن ما يقال عن عالمنا الكبير الذي نعيش فيه لا يقال عن هذا العالم الصغيرعالم النواة وسكانها وكأني بالدنيا طاقة ومادة موجودتان في الحيز والزمان، وكأني بالمادة صورة متبلورة من صور الطاقة يمكن بعملية معنية أن تعود سيرتها الأولى.
علىأن أول من دل على طاقة تخرج من المادة على شكل جسميات هاربة أو على شكل إشعاع هو (بكارل) ومدام (كوري)، وتم ذلك في معامل السوربون بباريس منذ نصف قرن، فقد كشف بكارل الخواصالمشعة لمادة اليورانيوم وكشفت كورى مادتي البولونيوم والراديوم.
ولم تمض بضع سنوات حتى بات معروفاً كنتيجة لنظرية النسبية لصاحبها (اينشتاين) العالم الألمانيالمعروف الذي هاجر إلى جامعة برنستون بأمريكا،
/ صفحه 65 /
أن المادة إذا تحولت إلى طاقة التي نحصل عليها عظيمة جداً.
هذه الطاقة حصل عليها العلماء بانفلاقحدث في نواة الذرة، ولعل أعظم ما حدث في العلوم بعد حادث بكارل وكوري هو ما حدث (لأوتوهان) الألماني في يناير سنة 1939 في معهد برلين أي قبل الحرب العالمية الثانية ببضعهشهور عند ما انقسمت نواة الذرة في تجاربه إلى قسمين كبيرين وأقسام أصغر منهما: وقد حدث ذلك بضرب نواة اليورانيوم العالي بإحدى جسيمات النواة (وهو نيترون بطئ) فقد حدث مندخول هذا الجسيم أو هذا الجاسوس في النواة قسمتها وخروج طاقة عظيمة منها، بل حدث ما هو أعظم من ذلك، فقد دلت (مدام جوليو كوري) وهي كريمة مدام كوري وبعد تجربة (أوتوهان)بأيام قليلة على خروج ثلاثة جواسيس متطوعين من النواة المصابة، وضربهم من تلقاء ذاتهم لثلاث نويات أ خرى مجاورة تصاب في الحال وتخرج كل واحدة منها ثلاثة جواسيس جديدة،وهكذا دواليك، بحيث يصبح العمال المتطوعون لقسمة غيرها من النوى ثلاثة ثم تسعة ثم 27 ثم 81 وهكذا بضرب كل عدد من المتطوعين الجدد في ثلاثة يزداد عدد المتطوعين وفقالمتوالية الهندسية التي يدرسها الطلاب في صفوف الدراسة التي تصل في هذه الحالة التي نحن بصددها في كسر ضئيل من الثانية إلى بلايين البلايين من الضاربين المتطوعين ومثلهذا العدد من النوى المصاب، وإذا لاحظنا أن الطاقة الكلية هي مجموع الطاقة التي تخرج من كل نواة فإن الطاقة النهائية من قطعة صغيرة من المادة عظيمة فوق الوصف. ولقدكان التحول في القنابل النووية فجائياً وسريعاً، فلم يحاولوا السيطرة عليه لاستخدامه في غير التدمير، ومهمة العلماء الآن التحكم في هذه الطاقة وتحويلها لصالح الإنسان،ولو أننا حاولنا أن نحسب ما نحصل عليه من تحول جرام واحد من الماء أو من أية مادة إلى طاقة بتطبيق معادلة التحول لاينشتاين لوجدنا أننا نحصل من هذا الجرام في حالة انعدامهانعداماً كلياً وتحوله إلى طاقة على أكثر من 33 مليون حصان، وبالتالي نحصل من لتر واحد من الماء على ألف مرة مثل المقدار المتقدم.
/ صفحه 66/أي على طاقة تفوق كلاحتياجاتنا الصناعية والزراعية في مصر لمدة طويلة.
هذا سر الخليقة، هذا سر أية مادة تصادفها، وتلك مقدرة الإنسان المفكر في إعادة المادة إلى طاقتها الأولى في الكونبمعرفتة لنواتها واقتحامه هذه النواة، هذه هي المادة وصفتها لك كما أراها، وكما يراها العلماء المحدثون، كنزا من الأزل وهدية من العصور الغابرة لا يعادلها أي كنز فيقيمته، أو في خطورته، وعلى الإنسان أن يختار طريق استخدامها، إما لحياة سعيدة على الارض، وإما لفنائه وفناء الارض، وهكذا ينحدر مستقبلنا لأحد السبيلين، حتى انني كتبت عنعقيدة راسخة على غلاف كتابي الذي سيصدر قريبا العبارة الاتية:
(لقد خطت البشرية مع (بكارل) الفرنسي منذ نصف قرن، ومع (أوتوهان) الألماني حديثا خطوتين حاسمتين، فإمامدنية فوق التصور نصبح فيها كملائكة نستطيع ما لا نستطيعه اليوم، وإما مفاجأة محزنة قد يمحي معها الكوكب الوديع الذي نعيش عليه).
ويكفي أن نتصور أنه قد يمكن ببضعجرامات من مادة تقبل نواتها الانفلاق أن نسيّر باخرة كبيرة عدة رحلات بين مصر وأوروبا بدلا من آلاف الأطنان من الفحم أو البترول.
بل إن علماء أفاضل يكتبون اليوم أشياءأشبه بالخرافات منها بالحقائق، أذكر القارئ على سبيل المثال ما يفكر فيه الدكتور (أرفنج لانجماير) من استبدال قطارات السكك الحديدية بمركبات تقذف داخل نفق كبير، فتسيرالمركبات وسط مجال مغناطيسي قوي، فلا المركبة تصطدم في طيرانها بسقيفة النفق، ولا هي تلمس في سيرها أرضه، بل هي تسبح بسرعة فائقة في هذا النفق المفرغ من الهواء، بحيث يصلالمسافر من نيويورك إلى سان فرانسسكو في نصف الساعة، ومعنى ذلك أنك تسافر من مصر للأسندرية في حوالي دقيقة واحدة، ومن مصر لأسوان في حوالي خمس دقائق، ومهما يكن من أمرتفكيري في الصعوبات الفسيولوجية أو البيولوجية التي تواجه العلماء في العصر النووي لحماية الإنسان، والعمل على استمرار حياته عند هذه السرعة، وهي الصعوبات التي يذكرونألا
/ صفحه 67./وجود لها، فلا أقل من أن نفكر أن مثل هذه المركبة إن لم تصلح للإنسان فستصلح لإرسال البريد ونقل البضائع.
إنما الذي يفكر في أمر هذه المركبةالجبارة هو لانجماير، ليس عالماً فحسب بل هو من حملة جائزة (نوبل) المعروفة، فلك إذن أن تأخذ كلامه في محل الاعتبار، بالطريقة التي نظرت بها إليه.
ومع ذلك فلندع(لانجماير) الذي نجح في تحريك اسطوانة معدنية في الفراغ دون أن تستند إلى شئ أو تعلق من اطرافها في شئ، وهي اسطوانة عرضها في أحد معارض أمريكا، لنقول أول نتائج الطاقةالنووية هي حصولنا على تيار كهربائي لكل حاجياتنا بأثمان زهيدة ودون عناء، وعند ظني سيتمكن الإنسان قريباً من إدراة موتورات كبيرة جداً في محطات رئيسية، وذلك بواسطةالطاقة الحرارية الناتجة من النواة، وهذه الطاقة الحركية للموتور تولد الكهرباء في دينامو كبير بالوسائل العادية، وهذا الدينامو يعطي بدوره التيار الكهربائي الذي ينعمبه الناس.
سيختلف إذن عهد النواة عن عهدنا الحالي، وعن جميع عهود الإنسان الغابرة وسيزداد استخدامنا للضوء الكهربائي وجميع مشتقاته، وعند ظني أن الأنوار المنعكسةعلى معبد الهند الصينية الذي أقيم في معرض باريس سنة 1931، والذي استمتعنا به واستمتع به ملايين البشر بصورة لا ينساها الذهن، ستحل أمثالها وأقوى منها على واجهات منازلناوبيوتاتنا التجارية.
ستتالق هذه الأنوار وغيرها للدرجة التي سوف يحن معها الإنسان مرة أخرى إلى الاستمتاع بالليل الدامس، فيهرب أحياناً إلى الريف البعيد، يسعى إلىالليل الذي لا يجد السبيل إليه في المدن التي يفوق الضوء فيها ليلا ضوء النهار.
كل هذا يجيزه العلم اليوم ولا يمكن أن تتصوره غالبية الناس، ولو أنك قلت لأحد سكانالجزيرة العربية أيام عمر بن الخطاب إن الإنسان سوف يستطيع
/ صفحه 68 /أن يخاطب أخاه البعيد عنه، وسمعه ويراه دون أن يكون بينهما أي واسطة، كما نفعل نحن الآنبواسطة التليفزيون، لما صدقك أحد.
ومع ذلك فثمة أمران اعتقد شخصياً أنهما وشيكا الوقوع خلال حياتنا إن قدر لنا فيها بقية من الأجل.
الامر الاول: يتلخّص في أن الناسسوف تستطيع السفر بطائرات لم نألفها تتسع الواحدة منها لآلاف الأشخاص حول الأرض عند خط الاستواء مثلاً، حيث يبلغ محيط الأرض أقصاه، بحيث تسافر الطائرة حول الارض لتصل إلىالنقطة التي بدات منها المسير في زمن مقداره 24 ساعة، وهو الزمن اللازم لدوران الأرض حول محورها دورة كاملة، وفي هذه الطائرة سوف لا يتغير الوقت على المسافرين، فإذا بدأوارحيلهم الساعة 12 ظهراً فستظل الساعة عندهم 12 دائماً وذلك لمواجهتهم الشمس بزاوية ثابتة لا تتغير، فلا عصر هناك لهؤلاء القوم، ولا مغرب ولا عشاء، إنما يساعد على تحقيق مثلهذه الطائرة الجبارة في حجمها وفي سرعتها عدم حاجتها لحمل هذا الوزن الثقيل من الوقود.
الامر الثاني: أنه قد يصبح الصعود إلى القمر أقرب الأجرام السماوية لنا فيمتناول العصر النووي، رغم علمنا ببعده عنا مسافة تبلغ حوالي أربعمائة ألف كيلومتر أي حوالي أربعين ضعفاً للمسافة بيننا وبين نيويورك بل ثمة اعتبارات علمية رغم عدم وجودالهواء في هذا السيار، تجعل احتمال العودة منه في العصر النووي أمراً غير مستحيل.
كل هذا قد يحدث، وقد يحدث بعضه سريعاً، ولكن الذي أرجو، أن تتطور الأخلاق نحو الفضائلويتطور الإنسان نحو الكمال، فيحب السلام ويعمل للسلام، ويحب الحياة ويعمل من أجلها، وهذا وذاك رهن بتصرفاتنا، وموقوف على درجة إدراكنا للأمور.
عند ذلك يأتي عصرالنواة مسرعاً الينا، ليكون عصر سعادة وهناء، لا عصر شقاء وفناء.