فضل المسجد على الثقافة الإسلامية
لحضرة الأستاذ عبد الوهاب حمودة
أستاذ الأدب الحديث بكلية الآداببجامعة فؤاد الأول
إن للمسجد على الثقافة الإسلامية فضلا واسع المدى، فسيح الأرجاء، متعدد الجوانب، مختلف النواحي، فقد كان ميدانا للتعاليم الثقافيةوالتداريب الحرببية، وكان معرضاً للفنون الاسلامية، ومجالا للمباريات الأدبية، فلا غرابة إذا فصلنا الحديث عنه، وأسهبنا القول فيه وقاولناه بالبحث والدرس، وبينناماله من الأثر العظيم في الحضارة الإسلامية ومقومات الأخلاق الدينية.
لفظة (المسجد) مأخوذة من الفعل (سجد).
وللفعل (سجد) في اللغة العربية معان متعددة جاءت بهااللغة قيل الإسلام ثم تطورت في عهده وأخذت معنى إسلامياً جديداً.
جاء في لسان العرب أن مادة (سجد) تدل على الانحناء والتطامن إلى الأرض يقال: سجد الرجل إذا طأطأ رأسهوانحنى.
وفي الحديث: كان كسرى يسجد للطالع، أي يتطامن وينحني (والطالع هو السهم الذي يجاوز الهدف من أعلاه) والمعنى أنه كان يسلم لراميه ويستسلم هذا هو المعنى الحسيللمادة في أول استعمالها.
ثم انتقلت اللفظة الى المعنى المعنوي، فأصبحت تدل على الخضوع والتذلل فكل من ذل وخضع لما أمر به فقد سجد، ومنه قوله تعالى: (يتفيأ ظلاله عناليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون) أي خضعا متسخرة لما سخرت له.
ويستعمل أيضا السجود بمعنى التحية، ومنه قوله تعالى في سورة يوسف: (وخروا له سجدا) أي سجود تحية لاعبادة.
/ صفحه 409/
والسجود بمعنى التطامن والتذلل عام في الإنسان والحيوان والجمادات، قال الراغب في مفرداته:
السجود أصله التطامن والتذلل وهو ضربان:سجود اختيار وليس ذلك إلا للإنسان وبه يستحق الثواب نحو قوله تعالى (فاسجدوا لله واعبدوا) أي تدللوا له وسجود تسخير وهو للإنسان والحيوان والنبات، وعلى ذلك قوله تعالى(ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها) وقوله: (يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله، فهذا سجود تسخير وهو الدلالة الصامتة الناطقة المنبهة على كونها مخلوقة،وأنها خلق فاعل حكيم.
ثم أخذ (السجود) معنى شرعياً جديداً، وهو مخصوص في الشريعة بالركن المعروف من الصلاة الذي لا يتم إلا بوضع الجبهة والأنف واليدين والركبتينوالرجلين على الأرض.
ومن هذا صح التعبير بالسجود عن الصلاة كما في قوله تعالى: (فسبحه وأدبار السجود) أي أدبار الصلاة، ويسمون صلاة الضحى سجود الضحى.
فالمسجد موضعالسجود سواء أكان سجوداً شرعياً بوضع الجبهة على الأرض، أم سجوداً لغوياً بمعنى التذلل والتقديس، وخضوع العبادة على أي صورة كانت تلك العبادة والتقديس.
وقد جاءتلفظة (المسجد) مستعملة في القرآن والحديث في شأن من كانوا قبل الإسلام، للدلالة على موضع العبادة، على أية صورة كانت تلك العبادة، قال تعالى في سورة الكهف: (قال الذينغلبوا على أمرهم لتخذن عليهم مسجدا).
وفي الحديث الذي رواه البخاري في كتاب الصلاة، وفيما رواه مسلم في كتاب المساجد، قد استعمل (المسجد) الدلالة على كنيسة بيزنطية.ففيما رواه البخاري (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وفيه أيضاً عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) كنيسة رأتها بأرض الحبشة، فذكرت لهما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
/ صفحه 410/
(أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيهتلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله).
أما ما رواه مسلم فهو أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد،ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك).
ثم أصبحت كلمة (الجامع) نعتاً للمسجد، وإنما نعت بذلك لأنه علامة الاجتماع، وما كانوا في الصدر الأول يفردون كلمة(الجامع) وإنما كانوا تارة يقتصرون على كلمة (المسجد) وطوراً يصفونها فيقولون المسجد الجامع، وآونة يصفونها إلى الصفة فيقولون: (مسجد الجامع) ثم تجوّز الناس بعد واقتصرواعلى الصفة، فقالوا للمسجد الكبير وللذي تصلي فيه الجمعة وإن كان صغيراً الجامع لأنه يجمع الناس لوقت معلوم.
وأول مسجد بنى في الإسلام هو مسجد قباء، الذي يقال له مسجدالتقوى، لقوله تعالى: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه).
ولما افتتح عمر بن الخطاب البلدان كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذمسجدا للجماعة، ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة.
وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك، وكتب إلى عمرو بن العاس وهو علىمصر بمثل ذلك أيضا، وكتب إلى أمراء أجناد الشام ألا يتبددوا إلى القرى، وأن ينزلوا المدائن، وأن يتخذوا في كل مدينة مسجدا واحداً، ولا تتخذ القبائل مساجد، فكان الناسمتمسكين بأمر عمر وعهده، وكانت صلاة الجمعة تؤدي في المسجد الجامع.
بعد هذه المقدمة اللغوية التاريخية نأخذ في بيان فضل المسجد على الثقافة الاسلامية، مقتصرين فيمقالنا هذا على عصر النبوة، ثم نتلوه إن شاء الله بالعصور الأخرى، فنقول:
/ صفحه 411/
إن الغرض الأول الذي من أجله أنشئ المسجد هو بلا ريب عبادة الله كما قالتعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تليهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله).
ثم استخدم ليكون منتدى لجماعة المسلمينتقوى به رابطتهم، وتتوثق فيه صلاتهم، فيتشاورون فيما يهمهم من أمور دينهم، ويتباحثون فيما يعود بالخير على جماعتهم.
فكانت تقام فيه صلاة الجماعة خمس مرات في اليوم،وكان (صلى الله عليه وسلم) يباشرها بنفسه، حتى إنه هم أن يحرّق الدور على الذين لم يشهدوا معه الجماعات كما في الصحيحين.
ثم تقام فيه ايضا صلاة الجماعة كل أسبوع، ثمصلاة العيد مرتين في العام، وهذه الاجتماعات إنما كانت تقام في أول عهدها في مسجد رئيسي هو المسجد الجامع الذي يجتمع فيه أهل كل بلد.
فلما اتسعت الأمصار وازدحم الناسجاز عند بعض الأئمة أن تتعدد الجمعة.
وفي صلاة الجماعة تدريب على النظام، وتعويد على القتال صفوفا، قال الإمام أحمد: إن بلالا كان يسوّي الصفوف، ويضرب عراقبهمبالدرة، على أن ذكر الله في المساجد لم يكن قصرا على وقت أداء الصلاة، بل كان المسجد موطنا للذكر في كل الأوقات.
ولما للمسجد من هذا الأثر العظيم في توثيق عرى الأخوةبين جماعة المسلمين والتوحيد في ميولهم، والتقريب بين غنيهم وفقيرهم، وإيلاف قويهم وضعيفهم حدثت حادثة مسجد الضرار.
ذلك أن اثنى عشر رجلا من المنافقين اتخذوا لهممسجداً، حسداً وضراراً بالمسلمين، وتفريقاً لكلمتهم، واتخاذه منتدى الطعن على رسول الله فيه لتختلف الكلمة، وتنشقق عصا الجماعة، فهو أشبه شئ بناد للتآمر والإضرار. طلبوا من رسول الله صلوات الله عليه أن يفتتحه بالصلاة فيه، فهمّ (صلى الله عليه وسلم) أن يجيبهم إلى طلبهم، فأنزل الله تعالى:
/ صفحه 412/
(والذين اتخذوامسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل) إلى قوله تعالى: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم واللهعليم حكيم). الآيات من 107 ـ 110 من سورة التوبة فأمر (عليه السلام) بتحريقه وهدمه، وأن يتخذ محلا تلقي فيه الكناسة والجيف ولذلك قال أصحاب مالك: لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنبمسجد لئلا يضر بأهل المسجد الأول، ويجب هدمه، والمنع من بنائه إلا أن تكون المحلة كبيرة، ولا يكتفي أملها بمسجد واحد فيبني الثاني.
ومن فضل المسجد أنه كان يتخذمركزاً للثقافة الإسلامية في أوسع معانيها، واختلاف ضروبها، وذلك أمر طبيعي، لان القراءة ولو أنها عرفت في الجزيرة العربية قبل الإسلام، فقد ذكر البلاذري في فصلهالمسمى (أمر الخطر): (دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب) غير أن هذا لم يكن عاما حتى ظهور القرآن، فليست علاقة القرآن بالقراءة علاقة اشتقاق فقط، بل هي علامةتاريخية، لأن تطور القراءة والتعليم والتربية راجع إلى القرآن، فهناك تسلسل وارتباط لا يستهان بهما.
فالباعث الأكبر إذن على نشر العلم كان دينياً، ولهذا كانطبيعياً أن تكون أماكن العبادة مدارسه، وبيوت الله معاهده، وأن يقوم رجال الدين بمهمة التعليم في حلفات ومجالس، فإن المدارس بمعناها الفني، لم تعرف إلا في القرن الرابعالهجري.
ذكر الحافظ الهيثمي في (مجمع الزوائد) عن قرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان إذا جلس جلس إليه أصحابه حلقا حلقا.
وقال أنس: كان الصحابة إذا صلواالغداة، قعدوا حلقا حلقا يقرءون القرآن ويتعلمون الفرائض والسنن.
وقد بوّب البخاري في صحيحه: (باب الحلق والجلوس في المسجد) أي جواز ذلك فيه، لتعلم العلم، وقراءةالقرآن والذكر ونحو ذلك، وأنا التحلق فيه، للتحدث في أمور الدنيا فغير جائز، وعليه يحمل حديث مسلم عن جابر (دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المسجد وهم حلق، فقال: ماليأراكم عزين).
/ صفحه 413/
قال ابن حجر، إنما أنكر تحلقهم على ما لا فائدة فيه ولا منفعة، بخلاف تحلقهم حوله، فإنما كان لسماع العلم.
من أبي معاوية الكنديقال:
قدمت على عمر بالشام، فسألني عن الناس فقال: لعل الرجل يدخل المسجد كالبعير النافر، فأن رأى مجلس قومه، ورأى من يعرفهم جلس إليهم، فقلت: لا، ولكنها مجالس شتى،يجلسون فيتعلمون الخير ويذكرونه، قال: لن تزالوا بخير ما دمتم كذلك.
أخرج ابن ماجة في سننه عن عبد الله بن عمرو، قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم من بعضحجره، فدخل المسجد فإذا هو بحلتين إحداهما يقرءون القرآن ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويعلمون، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): كل على خير، هؤلاء يقرءون القرآن ويدعونالله فإن شاء أعطاهم، وإن شاء معهم، وهؤلاء يتعلمون ويعلّمون، وإنما بعثت معلما فجلس معهم.
لما قدم وفد ثقيف على الرسول صلوات الله عليه بعد غزوة تبوك سنة تسع ضرب لهمقبة في ناحية المسجد ليسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، فيتأثروا بقراءتهم، ويحاكوهم في صلاتهم، وهذا خير أسلوب في التربية الخلقية، ونشر الثقافة الدينية.
ذكرأبو الفرج ابن الجوزي في كتابه (مشكل الصحيحين): أن عبادة ابن السامت كان يعلم أهل الصفة الكتابة والقرآن.
(وأهل الصفة هم فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزليسكنه، فكانوا بأوون إلى موضع مظلل من مسجد الرسول يسكنونه).
تقول دائرة المعارف الإسلامية (لعل هذا هو الأصل في اتخاذ مساكن الطلبة في المدارس، لأن المساجد القديمةكانت تحوي مساكن لهم، والمدرسة إنما كانت على صورة المسجد مع زيادة الأدوات اللازمة للتعليم والطلبة.
/ صفحه 414/
روى في الصحيحين عن أبي واقد اللبثي أن رسولالله (صلى الله عليه وسلم)، بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل نفر ثلاثة، فأقبل اثنان إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وذهب واحد، فأما أحدهما فرأي فرجة فيالحلقة فجلس، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله ـ أي مما كان مشتغلا به من تعليم العلم ـ قال ألا أخبركم عن الثلاثة، أما أحدهم فأوى إلىالله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا وترك المزاحمة، فاستحيا الله منه، (أي جازاه بمثل فعله بأن رحمه ولم يعاقبه) وأما الثالث، فأعرض، فأعرض الله عنه (أي جازاه بأن غضبعليه).
على أن المسجد لم يكن وقفاً على الثقافة الدينية، وقصراً على التعاليم الإسلامية بل كان ميدانا للثقافة الأدبية.
انشد كعب بن زهير رسول الله (صلى الله عليهوسلم) قصيدته (بانت سعاد) في مسجده بحضرته وحضرة أصحابه، وتوسل بها، فوصل إلى العفو عن عقابه، وحقن دمه بعد الإهدار، وأجازه (صلى الله عليه وسلم) بمائة من الإبل، وخلع عليهبردته
وكان حسان بن ثابت ينشد رسول الله الشعر في المسجد فيسمعه منه، ويثني عليه، فإن الأشعار إذا كانت مما تشتمل على الثناء على الله عزوجل، أو على رسوله (صلى اللهعليه وسلم) أو الذب عنهما كما كان شعر حسان، أو كانت تتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها، فانشادها في المساجد حسن.
روى البخاري: إن عمر رضيالله عنه مر في المسجد، وحسان ينشد، فزجره عمر، فقال حسان: كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله، هل سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم)يقول يا حسان، أجب عن رسول الله، اللهم أيده بروح القدس؟ قال أبو هريرة، نعم.
بقي أن نتكلم على أن المسجد كان ميداناً للتدريب العسكري والتمرين الحربي، وكان مركزاًللقضاء بين الناس، وموطناً للتأديب وتنفيذ العقوبات، بل كان يستخدم مستشفى للمرضى وغيرهم، وملجأ للمعوزين، ومأوى للبائسين، كل هذا سنفصله في المقال الآتي إن شاء الله.