فلسفة الخلق
لحضرة صاحب الفضيلة السيد حسن الحيدريمن علماء الكاظمية بالعراق إن من أهم المشاكل الفلسفية التي شغلتبال فلاسفة الأمم من قديم الزمان وحتى الآن: معرفة حكمة هذا الخلق، وما هي العلة الغائية لإيجاده، وقد اختلفت آراء الحكماء في هذه المسألة شأنهم في كل مسألة تكون مجالالتفكيرهم. فأما من مال إلى مذهب أهل التصوف من الفلاسفة، وسلك طريقتهم في تفكيره فإن هذه المشكلة عنده تنحل من أساسها بل لا يبقى لها معنى، وذلك بواسطة نظرية وحدة الوجود،لأنها تئول إلى نفي ما سوى الله، ويقولون ليس في الوجود إلا الله، ويزعمون أن هذا أعلى مراتب التوحيد.
فكما أنا معاشر المسلمين نوحد الله في الخلق والعبادة، ونقول: لاإله إلا الله (هل من خالق غير الله) فإنهم يوحدون الله حتى في الوجود، ويقولون: لا موجود إلا الله، فتراهم أفرطوا في التوحيد حتى أنكروا المخلوق، كما فرّط آخرون فأنكرواالخالق، وأما ما يتراءى من الأشياء والكائنات بأسرها فما هي في نظر هؤلاء المتصوفة إلا ظل للحقيقة الأزلية، وليس لها حقائق مستقلة بذواتها، وقائمة بنفسها، بل هي بمثابةصفات أو تجليات أو أجزاء للوجود الأزلي والكائن الأول.
ولعمري إن هذه العقيدة لا تقل خطراً على الأديان والأخلاق عن القول بإنكار الخالق، إذ على هذا تزول مسئوليةالانسان عن جرائمه، ولا يبقى معنى للدينوية والعقاب والنواب.
ومن الفلاسفة من قال: إن نسبة العالم إلى الله كنسبة النور إلى الكوكب، والعطر إلى الأزهار، وهؤلاء حلواالمشكلة من ناحيتين لأنهم:
/ صفحة 71 /أولا: جردوا عن القصد والإرادة، فكما لا إرادة ولا اختيار للكواكب في إرسال النور، لا للزهرة الفوّاحة في نشر عطرهاوأريجها، فكذلك لا إرادة لله سبحانه وتعالى عن ذلك في خلق هذا العالم، وإذا لم يكن للفاعل إرادة فيما صدر عنه، فلا معنى للبحث عن الغاية التي يستهدفها.
ثانياً: يلزمهمعلى هذا القول أن يكون العالم أزلياً فينتفي ايضاً موضوع هذا البحث، وهو علة الخلق العالم، لأن الأزلي غير مخلوق، ولكن يترتب على هذا الرأي من التوالي الفاسدة،والمحالات العقلية ما لا يحصى كثرة، ولسنا بصدد الخوض في غمرات هذه اللجج، فان لها مقاماً آخر.
ومنهم من قال: إن الله أفاض الوجود على هذه الممكنات لمحض الجود والكرم،لا لغاية أخرى، لأنه لا غاية لكرمه، ولا حد لجوده (وما كان عطاء ربك محظورا)، بل هو عطاء غير مجذوذ، لذلك أوجد هذه الكائنات التي لا حصر لها، ولا نهاية لعددها، وهذاالتعليل عليه شيء من نور الحقيقة، وله نصيب منها. ولكن الأحسن في هذا المقام أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى ما خلق السموات والأرض باطلا، وما كان في خلق هذا العالم لاعباًولا لاهياً، كما قال جل وعلا: (ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار). (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أننتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) ولم يخلق الانسان عبثا، ولم يتركه سدي (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) بل خلقه لغايات سامية.
فأول غايةاقتضتها الحكمة هي: معرفة جلال الله وكماله المطلق، وذلك أن الحقيقة الأزلية قبل وجود المخلوقات المتصفة بالإدراك والشعور كانت بما انطوت عليه من جلال لاحد له، وكمالمطلق، وجمال لا يوصف، كنزاً مخفياً محجوبا في ظلمات العدم، والشيء إذا لم يدرك كأنه معدوم، مع نالو فرضنا أن متحفا فيه من آيات الفن والتحف الثمينة الشيء الكثير، وقدحجبه أهله عن كل عين، ولا يصل إليه كل أحد إلا تسفه رأيهم؟ مع أنه فيء زائل، وظل حائل لا قيمة له إزاء الحقيقة الأزلية.
/ صفحة 72 /وإلى ذلك يشير قوله تعالى:(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتز يتبين لهم أنه الحق أوَ لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) فإن الآية الشريفة تدل لعي أن الغرض من خلق هذه الآيات المنبثة في آفاقالسماوات والأرض، والعجائب المودعة في خلق الإنسان هو معرفة الله المدبر لكل شيء والخالق لهذا الكون العظيم، حتى نعرف بواسطة عظمة هذا الكون أنّ خالقه أعظم، وأنه أكبرمن أن يوصف أو يحد بمكان أو زمان أو فكر، وحتى يتبين لنا أنه الحق، وأن ما يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء فاه وما هو يبالغه.
الغايةالثانية: تعظيم الله، وتقديسه، ويسبيحه، وتنزيهه عن كل نقص، وحمده وعبادته، لأنه أهل للعبادة. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (ما عبدتك خوفاً مننارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك). ويدل على أن ذلك من جملة غايات الخلق، قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
الغاية الثالثة: هيالرحمة من الله لخلقه، وإليها الاشارة بقوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) والمشار إليه هو الرحمة في الآية الشريفة.
وأنت ترى أن الغاياتالثلاث المذكورة مترتب بعضها لعي بعض، وذلك: أن الخلق إذا عرفوا خالقهم ومعبودهم معرفة تامة، عبدوه وقدسوه، فإذا عبدوه وأطاعوه وشكروه على نعمه التي لا تحصى، صاروا محلاقابلا، وموضعاً حسنا للرحمة، فتفضى بهم العبادة الخالدة، والكرامة الدائمة، والنعيم المقيم إلى لا زوال له ولا اضمحلال، بجوار الملك المتعال (في مقعد صدق عند مليكمقتدر) قد فازوا برضوانه، ورافقوا ملائكته، ونزع ما في قلوبهم من غل إخوانا على سرر متقابلين، في دار لا يمسهم فيها نصب، ولا يمسهم فيها لغوب.
فأي غاية أشرف ن هذهالغاية؟ وأي هدف أسمى من هذا الهدف؟.