حول تفسير مجمع البيان:
من السبل العملية للتقريبلفضيلة الدكتور محمد يوسف موسىالأستاذ بكلية أصولالدين 1ـ لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، ولجعل الأمة الواحدة لا تختلف فيما بينها من مذهب أو رأي، ولكنهم ـ كما أراد الله جلت حكمته ـ يتفقون حيناً، ويختلفون حيناًآخر، أو يتفقون في هذا ويختلفون في ذاك، ولعل هذا خير الناس جميعا، ذلك بأن الاختلاف في الرأي من طبائع الأمور، بل لعل العالم لا يمكن أن يستقيم دون هذا الاختلاف في الرأيالذي يتناسب واختلاف عقليات الناس وطبائعهم، وطرق تفكيرهم، ووسائلهم إلى الغرض الواحد، وإن كان هذا الغرض موضع الاتفاق من الجميع.
وإذا كان الخلاف في الرأي من طبائعالأمور كما نقول، فإنه ليس من هذه الطبائع أن يتجاوز الخلاف حدّ الخصومة العاقلة في العلم، فينتهي بنا الأمر إلى إن يتباغض رجال المذاهب المختلفة في الدين أو السياسة، أوغير الدين والسياسة، مما هو عادة مثار الخلاف والنزاع.
وقد يتساءل كثير من الناس عن علة تباغض رجال المذاهب وأرباب المقالات في الدين أو الوطنية مثلا، مع أن ما يتصدونله من خدمة الوطن أو الدين كان جديراً بالتوفيق بينهم وجمع الكلمة على ما فيه خير الوطن ومجد الدين.
ونعتقد أن مرجع هذا الداء الوبيل، الذي مًني به الشرق المنكوببكثير من
/ صفحة 64 /رجاله، هو أننا لا نصدر في خصوماتنا عن بينة أو قاعدة صحيحة، إننا نرى رجال هذا المذهب أو تلك المقالة مثلا يعتقدون أن الحق كل الحق فيما همعليه وحده. وأن معتقد الآخرين كله باطل، ولا يكلفون أنفسهم بحث ما عليه هؤلاء الأغيار ليتعرفوا صحيحه من فاسده، وحقه من باطله، بل يحرمون ذلك تحريماً باتاً. ولو فعلوالتبينوا أن كثيراً من المسائل يجب أن تكون موضع اتفاق فيما بينهم، لأن الحق جذاب لا تعمى عنه الأفئدة، وإن تعامت عنه الأبصار، ولو فعلوا، لعلموا أنهم كانوا من المسرفينفي عداوتهم، المتجنين على الحق في خصوماتهم، ولأمكنهم أن يضيقوا شقة الخلاف يوما بعد يوم، وفي ذلك الخير الكثير.
هذا، وإن بعض من اتصلوا بالدين ودراساته، ولا نقول منسواد الشعب أو عامة المتعلمين، يعادون هذا المذهب أو ذاك من مذاهب الفقه أو علم الكلام استجابة لعقيدة جاءتهم بالبيئة والوراثة، لا لرأي نتيجة التفكير المتزن السليم،ولو أردتَ الواحد من هؤلاء من أنصار هذا المذهب الذي يتعصب له كل التعصب على أن يذكر أسباب ما يرى، لعجز أيما عجز، أو لرأيته جاهلا بمذهب مخالفه وبأسانيده جهلا غير معذور!
ومثال آخر: أن كثيراً من العامة وأشباه العامة في العلم يرون فر بعض فلاسفة الإسلام، مع أنهم لا يكادون يعرفون شيئا من آراء هؤلاء المفكرين ومذاهبهم الفلسفية! غايةالأمر أنهم لقنوا أنه كان لهؤلاء الفلاسفة آراء خارجة عن الدين، واستناموا لذلك واستمرأوا الراحة، ولم يعنوا ببحث هذه الآراء والكشف عما يكون فيها من حق وما يكون فيها منباطل لا يتفق وما جاء به الوحي! ولو أنصفوا الحق وكرامة العلماء لرجعوا إلى القاعدة التي فرضها على نفسه حجة الإسلام الإمام الغزالي، حين أقام نفسه حاميا للدين ومدافعا عنالإسلام ضد ما تسرب إليه من الفلسفة الإغريقية بصنيع فلاسفة الإسلام مما لا يتفق في رأيه والدين الحنيف، هذه القاعدة هي ما صدر بها كتابه (مقاصد الفلاسفة) إذ يقول:
/صفحة 65 /أما بعد: فإنك التمست كلاما شافيا في الكشف عن تهافت الفلاسفة وتناقض آرائهم، ومكان تلبيسهم وإغوائهم. ولا مطمع في إسعافك إلا بعد تعريفك مذهبهم؛ وإعلامكمعتقدهم؛ فإن الوقوف على فساد المذاهب قبل الاحاطة بمداركها محال، بل رميٌ في العماية الضلال، فرأيت أن أقدّم على بيان تهافتهم كلاما وجيزاً مشتملا على حكاية مقاصدهم منعلومهم المنطقية والطبيعية والإلهية من غير تمييز بين الحق منها والباطل؛ بل لا أقصد إلا تفهيم غاية كلامهم من غير تطويل.
ولقد أخذ حجة الإسلام نفسه بوعده، والتزمهالتزام الأمين لكلمته، فشرح مقاصد الفلاسفة بأمانة ودقة بالغتين، حتى نقده بعض المتدينين الوَجلين بأنه رضوان الله عليه قد مكّن لهذه الآراء بمالم تبلغه قدرة أصحابهاوالقائلين بها، ثم أخذ ينقض ما وجده مستحقا للنقض من هذه الآراء؛ ويهدم الجدير بالهدم منها، وذلك في كتابه (تهافت الفلاسفة).
أما نحن، فواحرّ قلباه! نحب ولا ندريأحياناً كثيراً لماذا نحب، ونبعض ولا ندري فيم البغض، وهذا مصدر البلاء، والله المستعان!
2 ـ ذلك. وكان من هذا أن دامت الفرقة، وظل الخلاف مستحكما بين رجال الفرقالإسلامية في أصول الإسلام وفروعه، مع توحيد الإسلام بينها، ومع أن جميع المتخالفين من المسلمين لدى الله وإن فرق بينهم إلى حد ما، ما هم عليه من مذاهب وآراء.
ونعتقدأن من الخطوات العملية اليت يجب أن تتخذها جماعة التقريب، بعد أن سلخت طوال عامين من عمرها المبارك إن شاء الله تعالى في التمهيد والاعداد للتقريب الحق المرجوّ بينالمذاهب الإسلامية، أن تعمل على إذاعة ما كان من هذه المذاهب غير معروف على وجهه في مصر، كمذهب الشيعة مثلا، حتى يعرف من يتعصب بحق أو بغير حق لمذهبه المخالف أن هذاالمذهب فيه من الحق شيء كثير يصلح أن يكون أساسا للتفاهم الصادق بين الشيعة وأهل السنة؛ وإذا فلا
/ صفحة 66 /يجمل بنا، باعتبارنا مسلمين وطلاب حق أينما كان، أننتعصب على مذهب من مذاهب المسلمين له من أصوله ومن أسانيده وما يجب أن يكون محل قبول واتفاق منا ومنهم على السواء.
وهناك حقيقية تاريخية يجب أن لا نغفل عنها. هي أنللتاريخ بأحداثه التي مرّت بنا أكبر الأثر في جعل بعضنا من أهل السنة، وبعضنا من الشيعة، بل ربما كان هذا التاريخ بأحداثه تلك هو العامل الوحيد الحاسم في جعلنا على ما نحنعليه الآن. ويكفى أن نشير إلى أنه لو لا تسلّط السلطان صلاح الدين الأيوبي على مصر فترة من الزمن، وإحلاله في الأزهر ـ منارة العرفان الوحيدة في ذلك الزمن ـ المذهب السني،محل المذهب الشيعي، لكان من المحتمل جداً أن نكون معشر المصريين الآن من الشيعة لا من السنة؛ فكيف يصح، مع هذا، أن يزعم كل منا أنه اختار لنفسه هذا المذهب على ذاك عن تفكيروتدليل وموازنة!
3 ـ بعد هذا الذي نقرره، ونعتقد أنه صحيح تاريخياً وموضوعيا، نذكر أنه لا أكثر إذاعة لمذهب ما، من نشر بعض المؤلفات الأصيلة لرجالات هذا المذهبوعلمائه، وبخاصة ما كان منها في علم التفسير أو علم التوحيد، وبخاصة ما كان منها لكتاب وعلماء عرفوا بالاتزان والدقة والعرض الصحيح للآراء التي يصدرون عنها.
وفيمقدمة هذه الكتب القيمة في ذاتها وفي ناحية الموضوع التي تعالجه، ومن ناحية الآراء التي تصدر عنها، كتاب (مجمع البيان في تفسير القرآن) للطبرسي هذا الكتاب الجليل التيتعني هذه الأيام جماعة الازهر للنشر والتأليف)، والتي أشرف برياستها، بالعمل على نشره نشراً عملياً محققا بكل معنى الكلمة، ونرى من الخير أن نأتي بكلمة موجزة عن المؤلف،ثم عن الكتاب ومنهجه في التفسير وقيمته بين المؤلفات الأخرى في هذا العلم، ليتبين أنه حقيق بالنشر، وأنه حين ينشر يكون خطوة عملية ناجحة بإذن الله في سبيل التقريب بينأهل السنة والشيعة.
أما المؤلف فهو الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، نسبة إلى طبرستان
/ صفحة 67 /بفتح الطاء والباء وكسر الراء كما في معجم البلدان،من أكابر علماء الشيعة الامامية ومن أعيان القرن السادس (1) وقد أجمع من كتب عنه من العلماء على أنه (ثقة فاضل ديّن عين ومن أجلاء هذه الطائفة). كما وصف بأنه (فخر العلماءالأعلام، وأمين الملة والاسلام، المفسر الفقيه الجليل الكامل النبيل)، ويذكر رئيس المحققين الشيخ أسد الله التستري، عند ذكر ألقاب العلماء، بأن من هذه الألقاب (أمينالإسلام، للشيخ الأجل الأوحد الأكمل، قدوة المفسرين، وعمدة الفضلاء المتبحرين، أمين الدين، أبي علي بن الحسن الطبرسي. ولعل من أدل الأدلة على جلالة الطبرسي فيالعلم وإمامته في التفسير، كتابه مجمع البيان الذي نحن الآن بصدده، فضلا عن مؤلفاته الجليلة الأخرى في التفسير وغير التفسير، ومن هذه المؤلفات في التفسير كتاب الوسيط،وكتاب الوجيز، وكتاب الوافي، وكلها كتب قيمة، مشهود لها بعلو المرتبة في العلم والتحقيق.
ونعتقد أننا لن نصف كتاب مجمع البيان، بصفة خاصة، ولن نبين الخطة التي رآهاالمؤلف في التفسير، والمنهج الذي سلكه في عمله، بأفضل من أن نأتي بما ذكره عن ذلك كله صاحبه نفسه، حين يقول في المقدمة التي وضعها للكتاب: (وابتدأت بتأليف كتاب في غايةالتلخيص والتهذيب، وحسن النظم والترتيب، يجمع أنواع هذا العلم وفنونه، ويحوي نصوصه وعيونه؛ من علم قراءته وإعرابه ولغاته، وغوامضه ومشكلاته، ومعانيه وجهاته، ونزولهوإخباره، وقصصه وآثاره، وحدوده وأحكامه، وحلاله وحرامه، والكلام على مطاعن المبطلين فيه، وذكر ما ينفرد به أصحابنا رضي الله عنهم من الاستدلالات بمواضع كثيرة منه علىصحة ما يعتقدونه من الاصول والفروع والمعقول والمسموع. [وذلك] على وجه الاعتدال والاختصار، فوق الإيجاز ودون الإكثار؛ فإن الخواطر في هذا الزمان لا تحتمل أعباء العلومالكثيرة، وتضعف عن الاجراء في الحلبات الخطيرة. وقدمت في مطلع كل سورة ذكر مكّيّها ومدنيّها، ثم ذكر الاختلافات
(1) توفى بسبزوار من بلاد خراسانبإيران سنة 548هـ.