الوزير نظام الملك (1)
وَوحدة المُسْلِمِيْنلحضرة الكتاب الفاضل الدكتور يحيى الخشابالأستاذ بكلية الآداببجامعة فؤاد الأول كان يلقب بقوام الدين، كما كان يلقب بنظام الملك، و ذلك أنه لم يكن بارعا فى السياسة و الوزارة و النهوض بأعباء الملك فحسب، و إنما كان أيضاً عارفابالدينْ، مشاركا أهله فى مجالسهم و مناظراتهم، حريصاً على العلم و أهله، مولعاً بما يولع به الزعماء المصلحون من تقويم الأفكار، و غرس المباديء الصالحة فى الشعوب، ومحاربة عوامل الضعف و السقوط أينما ظهرت.
و بدأ نظام الملك حياته العملية مع الأمير «ألب أرسلان» و مضت الأيام مسرعة، ورقى «ألب أرسلان» عرش السلاجقة،و أصبح كاتبهوزيراً لأكبر دولة إسلامية فى القرن الخامس.
كان نظام الملك بعيد النظر، وسايع الأفق، شديد الإحساس بما يدورببلاده و من حول بلاده: رأى الأمة الإسلامية مقسمة إلىخلافات ثلاث: خلافة بغداد، و خلافة مصر، و خلافة الأندلس،
(1) هو الوزير الخطير ذو النظر الثاقب، و الرأى الصائب: أبو على الحسن بن اسحاق ابنالعباس الطوسي، نسبة إلى طوس بخراسان، إحدى مقاطعات إيران، و اتصل بداود ابن ميكائيل السلجوقي، فأخذه بيده و سلمه إلى ولده ألب أرسلان، و قال له يا محمد، هذا حسن الطوسىاتخذه والدا و لا تخالفه، فلما وصل الملك إلى ألب أرسلان استوزره فدبر ملكه عشر سنين، و ما ألب أرسلان فوزر من بعده لابنه ملكشاه نحو عشرين سنة، و توفى سنة 485 هـ، و عمره ستو سبعون سنة:(314)
و رأى العالم المسيحى يتآمر على هذه الأمة المسلمة، و تتربص بها الدوائر، و كان ذلك عصر التمهيد للحروب الصليبية.
و كانت البلادالإسلامية قد أصيبت يومئذ من التفرق و التعصب بداء عضال قد تغلغل فى صميمها، و أصبح العلماء فيها مولعين بالجدال و المناطرات، و إن يتحدي. بعضهم بعضا فى المجالس والمدارس، كانوا يختلفون فى الفقه و الكلام خلافات حادة، و يحتربون حرباً مضنية، و يجرُّون و راءهم العامة جرّآً، حتى كثرت الفرق و تباينت، و كل فرقة تبغى الغلب و الظ فربخصومها، و تحرض من تستطيع تحريضه من الأمراء و الوزراء على مخالفيها، و كان الوزراء و الأمراء من جانبهم يؤِّرثون هذه العداوات، و يشجعون تلك الخصومات، انتفاعا بمايجنون منها من شغل العامة، و التحكم فى الخاصة.
و أدرك نظام الملك ما فى ذلك من الخطر، و فهم من ينطوى عليه هذا التفرق و الاختلاف الحادّ من تصوير للإسلام فى نظر خوصمهو المتربصين به، بصورة تخالف حقيقته ، وتعين على هدمه ، إن دين الله واحد لا خلاف على أصوله ، وإن الفتن التى تفرق بين المسلم و أخيه. لا تتصل بركن من أركان هذا الدين، و لايبعثها فى كل حال حرصٌ عليه، إنما هى النزوات و الشهوات، نزوات الجهل و شهوات التعصب، فحرص على أن يصلح هذه الأحوال المضطربة، و صممم على أن ينقذ الأمة من ويلات الخلاف والشقاق، و على أن يبث فى أهل العلم روحاً من التسامح و الهدوء فى البحث. و التخلص من شوائب التعصب، و أن يرتغع بهم عن الحزازت و اصطناع المكائد و الفتن.
و إذ أردنا أننعرف إلى أى مدى كان الخلاف قد استبد بالعلماء، و شغلهم و عطل مواهبهم، و أفسد العلائق بينهم؛ فلنقرأ تاريخ العلماء و الفقهاء و المتكلمين فى النصف الأول من القرنالخامس، و فى ذلك يقول ابن السبكى فى ترجمته للقشيري: «و من جملة أحواله ما خص به من المحنة فى الدين و الاعتقاد و ظهور التعصب فى عشر سنة أربعين إلى خمس و خمسين واربعمائة، و ميل بعض الولاة
(315)
إلى الأهواء، وسعى بعض الرؤساء و القضاة اليه بالتخليط، حتى أدى ذلك إلى رفع المجالس، و تفرق شمل الأصحاب … حتى طلع صبح كالنوبةالمباركة، دولة السلطان ألب أرسلان فى سنة خمس و خمسين و اربعماءة ، فبقى عشر سنين فى آخر عمره مرفها محترما مطاعا معظما»(1).
و قد ذكر مثل هذا فى ترجمة إمام الحرمينعبدالملك الجويني، كما ذكر مثله فى ترجمة أبى سهل بن الموفق.
و قد أعان نظامَ الملك على دعوته ما عرف عنه من الصلاح و التدين و حب العلماء، فقد كان يقدمهم و يقف إجلالالهم، و ربما تنازل عن مسنده إكراماً لبعضهم، كما كان يفعل إذا قدم عليه إمام الحرمين أو القشيرى أو الفارْقذى الواعظ، و كان إذا سمع الأذان أمسك عن جميع ما هو فيه، و كانتله فوق ذلك ميول صوفية، و وقائع أحوال تدل على هذه النزعة.
و عرف العلماءُ و الفقهاء رغبته فى التقريب، و حبه لطرح الخلاف، و نبذ التعصب، فجروا فى مضماره، و تقربواإليه بما يجب، و قد روى التاريخ لنا فى ذلك حكاية طريفة، هى أن عبد السلام بن محمد بن يوسف القزوينى شيخ المعتزلة، دخل عليه يوما، و كان عنده أبو محمد التميمي، و رجل آخرأشعري، فقاله له القزوين: أيها الصدر، لقد اجتمع عندك رءوس أهل النار، قال نظام الملك: و كيف ذلك؟ قال: أنا معتزلي، و هذا مشبِّه ـ يعنى التميمى ـ و ذلك أشعري، و بعضنا يكفربعضا! فضحك النظام(2).
و المغزى من هذه الواقعة أن العلماء وصلوا إلى حد التفكه بأخبار الخلاف فى مجلسه، و أخرجوا الأمر فيه مخرج المزح و الدعابة، و شتان بين هذا و ماكان من قبل من عنف وحدة و قطيعة.
و قد استعان نظام الملك على دعوته أيضا بوسيلة نعتبرها حديثة فى خدمة المبادي، و الدعوة
ص 254، ج 3، منطبقات الشافعية الكبرى طبعة المطبعة الحسينية المصرية سنة 1324هـ.(2) النجوم الزاهرة، ص 156، ج 5، طبع دار الكتب المصرية سنة 1353 هـ.