هَل تعبَّدنا الشَرعَ بالهدي في حال يترك فيها للفسَاد
لحضرة الأستاذ الفاضلالشيخ محمد جواد مغنيه المستشار بالمحكمة الشرعية الجعفرية العليا ببيروت نحن نعرف فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء دلتناعليه أبحاثه القيمة التي يتمثل فيها علمه الذي لا ينضب له معين، و فهمه لأصول الإسلام و فروع الدين، و اجتهاده الذي ينتقل بالقاريء خطوة فخطوة من سر إلي سر من أسرارالتشريع المختلفة الألوان و التي لا يحصيها عد و لا بيان.
يعبر عن ذلك كله بأسلوب حديث سليم، و قد يستدعيده بعض الموضوعات إلي الإفاضة و التطويل بالنقل و الرد نقضا وحلاًّ، فيظن القاري أنه في غني عن ذاك.
و علي أي الأحوال فقد فتحت أبحاثه الدينية ابوابا لقادة الدين و الرجوع بهم إلي الدرس و التفكير، فله منهم الشكر و من اللهالاجر.
نشرت رسالة الاسلام الغراء في العدد 4 م/ 1 لفضيلته جوابا عن استفتاء وجه إلي علماء الأزهر عن جواز استبدال النقد بالهدي الحج، و قد أوحي إليّ جواب فضيلته بفكرةحول الموضوع.
و هي: هل الشارع المعصوم عن العبث تعبد حجاج بيته الحرام بالذبح و إراقة الدماء في حالات خاصة مع فرض أن الذبيحة في تلك الحالات لابد أن تطمَر في الأرض أوتترك للتعفن، و أن الحاج يذبح بقصد التقرب إلي الله و امتثال أمره المتعلق بإراقة الدم، و أنه عازم عزما أكيدا قبل الذبح و حينه علي طمر ذبيحته أو إحراقها كما يجري ذلك فيالحج كل عام، فيذبح الحاج و يدفع نقودا لمن يقبل الهدي و يدفنه؟
حول هذه المسألة فحسب يدور كلامي في هذا المقام.
أمالو أمكن بالتقديم أو التأخير شرعا عن تلكالحالات الخاصة، أو أمكن تجفيف اللحم، أو استخدام إحدي الوسائل الحديثة لحفظه و ادخاره في غلاف يدرأ عنه الفساد؛ فلا ينبغي لأحد الشك و التوقف في الجواز لوضوحه و بداهته،حيث يتحقق بذلك امتثال التكليف و الفائدة المطلوبة، و بالجملة إن مانتكلم عنه هو الانحصار و عدم وجود أية مندوحة عن الطمر أو الإحراق. لايسوغ لإنسان أن يأتي بعمل ما،قاصدا به القرب من الله سبحان، بقصد أنه تعالي طلب الفعل منه و تعبده به، مالم يعلم بإحدي الطرق المشروعة أنه مأمور به من قبل الله سبحانه، و إلا كان من التشريع المحرمشرعا و عقلا. و بعابارة ثانية إن العبادة من الأمور التوفيفية و يشترط في صحتةا قصد امتثال أمره تعالي المتعلق بالفعل المتقرب به إليه. فاذا لم يكن أمر فلا عبادة و لاتعبد.
و تثبت أو امرالله و أحكامه بالكتاب أو السنة قولا أو فعلا أو تقريرا أو بالاجماع، أما الكتاب فليس في آية من آياته نص صريح علي جواز أو وجوب إراقة الدماء في الحجالمستلزمة ترك اللحوم للفساد، و لم يرد في رواية أن النبي صلي الله عليه وسلم أو فعل ذلك أو أقر أحداً عليه، فسياق القرآن و الأحاديث واحد من وجوب الهدي في مكان و زمانمعينين.
و من المقرر أن الشارع لم يتخذ لبيان أحكامه سبيلا غير السبيل التي سلكها الناس في التفهيم و التفهم، فقد جرع عادته في التخاطب علي طريقتهم لأنه واحد منهم،فمتي أراد تفهيم المكلفين حكما من الأحكام خاطبهم بلفظ ظاهر عندهم بما ييده من المعاني، و هذا الظهور الذي لا ينحصر سببه بالوضع و معاني الحقيقة فقد يكون ناشئا عنالقرائن المقالية أو الحالية، و قد يكون سببه كثرة استعمال اللفظ في بعض أفراد الكلي الذي و ضع له أولاد كالدابة فانها لكل ما دب من الحيوان ثم غلب علي ما يركب و يحمَّل. و ظهور الكلام في معناه هو الطريق الصحيح لمعرفة مرادات المتكلمين، والحجة لهم و عليهم، فاذا قال السيد ـ مثلا ـ لخادمه اشتر لنا لحما ولم يتبين نوع اللحم فعاد الخادم مندون لحم لأنه يجد لحم ضأن فلا يحق للسيد لومه و توبيخه لأنه لم يأته بدجاجة أو إوزة، كما لا يحق للخادم أن يشتري دجاجة أو إوزة، محتاجا بأن الدجاجة لحم، فغير الضأن يحتاجإلي زيادة لي البيان، و حيث لم يبين فقد أراد السيد الضأن خاصة، لأنه المفهوم من الكلام دون سواه، و المفهوم من وجوب الهدي أنه الذي تعورف بين الناس إمكان الأكل و الإطعاممنه، فلسان الدليل الذي دل علي وجوبه كلسان قولك: ضح، فإن الناس تفهم من هذا الخطاب وجوب الأضحية حيث يمكن الأكل و الإطعام، أما التعبد بإراقة الدماء علي كل حال فبعيد عنالأذهان تحتاج إرادته إلي زيادة في البيان، و لهذا يتساءل الناس مستغريين! هل أراد الشارع الهدي في حال ضياع لحمه و طمره في بطن الأرض؟ و الحقيقة أن الشارع لم يرد ذلك ولوأراد لبين في قول أو فعل أو تقرير بل إن قوله تعالي: «فكلوا منها و أطعموا البائس الفقير» هو تفسير لمطلوبه، و أنه أراد الهدي حيث يمكن الانتفاع به، فيجري مجري قول السيدلخادمه موضحا اشتر لحم غنم، و مجرد صدق اسم الهدي علي الحالة المفروضة لا يثبت حكم الشرع، لأن الاستعمال أعم من الظهور الكاشف عن المراد، و العام لا يثبت به الخاص، ولوأصر إناسن علي أن وجوب الهدي في الآيات و الروايات يشمل صورة عدم الانتفاع باللحم للزم حتي مع وجود المندوحة و إمكان الانتفاع، و لا قائل بذاك من الأولين و الآخرين. ولا شيء مما قدمته بين يدي القاريء، يشعر بالاجتهاد الذي يفتح باب الشي والفساد، و إنما هو تفسير للنص، تقتضيه الصناعة السلمية، و أصول المخاطبات.
أما الإجماع فقدأوجب العلماء الهدي كما أوجبته الآيات و الروايات من دون تعرض لحكم الذبائح التي يترك لحمها للفساد، و سكوتهم لا يدل علي الترخيص ولا علي المنع، علي أن المنقول منال،جماع عل لسان فقيه من الفقهاء ليس بحجة، و المحصل الذي يحصله من استقراء فتاوي الفقهاء واحدا فواحدا. هذا النحو من الإجماع أحيط بقيود جعلته نادر الومجود، و بعد تمامهو توفر الطرق لاوجوده مستند الإجماع و الأصل الذي العتمد عليه المجمعون، يكون مستندهم هو الدليل الوحيد فينظر مستقلا و يعمل بما يقتضيه، و نحن نعلم أن الفقهاء اعتمدوا فيوجوب الهدي علي ما جاء في الكتاب و السنة، و قد علمت عدم دلالتها علي جواز الذبح بقصد امتثال الأمر إذا كان الذبح علة تامة و سببا كافيا لتعفن اللحوم و فسادها.
أما جوازاستبدال النقد بالهدي ـ في هذه الحال ـ أو يكون حكمها حكم فاقد الهدي، فليس ذليك من غرضنا في هذا المقام.
و إنني أختتم كلامي بما افتتحته به من الشكر لفضيلة العلامةالشيخ محمود شلتوت, و الإكبار لعلمه الجم الذي يبعث النشاط و يحمل علي الدرس و التفكير.
والله سبحانه المسئول أن يديمه داعيا للدين، و نصيرا للإسلام.
يبدو أنه لاخلاف بين الأستاذين الجليلين، أو أن الخلاف بينهما علي غير ألحكم الفهي، من أنه: هل الخاصل فعلاً هو تكدس اللحوم و عدم استطاعة الاستفادة منها و صرورة طمرها أو إحراقها أوتركها للتعفن؟.
بيان ذلك أن الكلام يرجع ألي أمور:
(1) يري فضيلة الشيخ شلتوت: أن إراقة الدم نوع من القربة مقصود عينا في بعض الحالاتأ لا يغني عنه التصدق الذي هو نوعآخر من القرب، و أذن فلا يجوز التفكير في استبدال النقد بالهدي أو الأضاحي التي طلبها الشارع بذاتها أقامة للتصدق بثمنها مقامها. و يري فضيلته أيضا ؤن ما يبررون بهجواز الاستبدال من تكدس اللحوم و تعفنها، أو إحراقها و طمرها، أنما نشاً ـ ؤن صح ـ من شيئين:
الف ـ عدم التنظيم، و هذا يمكن تلافيه بأحدي الوسائل الحديثة في حفظ اللحومو تجفيفها.
ب ـ عدم الألمام بأحكام الشرع، الذي لم يطلب الذبح من كل حاج ولا جعله في خصوص مني، و لا في اليوم الأول من أيام النحرأ ولا فرضه عينا في جميع الحالات. ولوفهم الناس أحكام الشرع لماحدث تكدس و لا تعفن أوطمر.
أما فضيلة الشيخ محمد جواد فيعبد المسألة عن الأحوال العادية، و يفرضها في حالة بعينها هي انحصار الأمر في الطمرأو الإحراق و عدم وجود مندوحة أخري. و يقول: «أما لو أمكن بالتقديم أو التأخير شرعاً عن تللك الحالات الخاصة، أو أمكن تجفيف اللحم أو استخدام أحدي الوسائل الحديثة لحفظه وادخاره في غلاف يدرأعنه الفساد فلا ينبغي لأحد الشك و التوقف في الجواز ـ يريد في وجوب الذبح عينا ـ لوضوحه و بداهته. حيث يتحقق بذلك امتثال التكليف و الفائدة المطلوبة؛ وبالجملة أن ما نكلم عنه هو الانحصار و عدم وجود أية مندوحة عن الطمر أو الأحراق».
و أذن ففضيلته متفق مع فضيلة الأستاذ الشيخ شلتوت فيما و راء هذه الصورة الفرضية. (2) في هذه الحالة الفرضية لا يقرر فضيلة الشيخ محمد جواد أن الأمر ينتهي ألي جواز الاستبدال لأنه يقول ما نصه: «أما جواز استبدال النقد بالهدي في هذه الحال، أو يكون حكمهاحكم فاقد الهدي، فليس ذلك من غرضننا في هذا المقام؟ و يشير الأستاذ بذلك إلي أنه لا سبيل إلي القول بالاستبدال في هذه الحال لأن الا ستبدال أنما يكون بنص من الشارع و لا نص،فأقصي ما يقال في هذه الحالة هو سقوط الهدي عن المكلف دون بدل، لأن الشارع إذا أمر بأمر ولم يمكن للمكلف تحصيله، لم يجز له أن ينتقل إلا إلي أمر قد شرع بدلا منه، فإن لم يكنله بدل سقط، و إذن فلا قائل من الشيخين بالاستبدال في أية صورة من الصور وكلا هما لم يبحث ما يترتب علي صورة الانحصار المفروضة.
(3) أثار فضيلة الشيخ محمد جواد موضوعايرجع إلي أنه: هل يدخل في مفهوم كلمة الهدي أمكان الأكل منه بطريق اللزوم العرفي حتّي يقال أن الهدي المطلوب هو الهدي المتعارف بين الناس إمكانُ الأكل و لاإطعام منه؟ وأجاب بنعم، و رتب علي ذلك أن الشارع حين قال أهد أوضح، كأنه قال أهد أوضح في الحال التي يمكن فيها الانتفاع بالأضيحة أو الهدي.
و الحقيقة أن الهدي هو من يذبح للتقربامتثالا لأمر الله. و كونه بحيث يمكن الأ كل منه أو الاطعام قد يكون شرطا في الأ جزاء، مثله كمثل اشتراط ذبحه ذبحا موافقا للذكاة الشرعية مثلاً، و هذا الأمكان ثابت في نفسهو أن لم يوجد من يأكل أو يطعم، و ليس الازم نفس الأكل و الإطعام، لكن قد يتمال: أذا ترتب علي فعل قربة من القرب ضرر، فهل يترجح جانب الفعل أو جانب الترك؟ و هذا ـ إذا سلمالشيخان بتطبيقه في موضوعنا ـ لا يكون مظورافيه ألي تحقق مفهوم الهدي أو عدم تحققه، و لكن ألي الموازنة بين ما يترتب علي الامتثال بالفعل و الامتثال بالترك، ثم يرجعالكلام حينئذ إلي سقوط الهدي عن المكلف أو استبدال النقد به، و هذا ما تركه الشيخان كما قلنا.
هذا و إنا لنشكر فضيلة الأستاذ محمد جواد علي أسلوبه الراقي في الجدل والنقاش؛ و الباب بعد مفتوح علي الرحب لكل من صاحبي الفضيلة، و لكل باحث؟