الإسلام والثِّقة بالإنسان
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد جواد مغنية
رئيس المحكمة الشرعيةالجعفرية العليا ببيروت
ـــــ
قال الشيعة والمحققون من الأشاعرة: إن أحكام الشريعة الإسلامية تتبع المصالح والمفاسد في نفس ما تعلقت به من الأعمال، فالأمربالشيء يدل على حسنه والمصلحة في فعله، والنهي عنه يدل على قبحه والمفسدة في ارتكابه. وقد جاء في الحديث الشريف: ' ما من شيء يقربكم من الجنة، ويبعدكم عن النار الأوقدأمرتكم به '. فالإسلام يفترض هذا، ويفترض أيضاً الخير والنية الصالحة فيمن شرعت الأحكام لأجله، فهو يثق بالإنسان وضميره كل الثقة، ويفسر أقواله وأفعاله بما لا يشينه ويحطمن قيمته كإنسان برئ، أو قل يغلب فيه نواحي الخير على الشر حتى يستبين غير ذلك. ونسوق فيما يلي بعض الأمثلة من الشريعة الإسلامية على هذه الحقيقة:
1 ـ إذا أجرى إنسانمعاملة من بيع أو إيجار أو هبة، وما إلى ذلك، أو أدى عبادة كالصوم والصلاة والحج، وشككت هل وقع عمله صحيحاً على الوجه المطلوب، أو فاسداً يفقد بعض ما يعتبر فيه من الأجزاءوالشرائط، إذا كانت الحال كذلك فعليك أن تحمل معاملاته وأفعاله على الصحة حتى يثبت العكس، وعلى مدعى الفساد عبء الاثبات، وإذا صدر منه قول أو فعل، ولم تدر هل قصد به خيراًأو شراً فلا يسوغ لك أن تحمله محملا سيئاً، مثال ذلك: لو مر بك شخص، وسمعته يتكلم بشيء، ولم تدر هل كان سلاما أو شتما فليس لك أن تفسره بالشتم، كما أنه لا يجب عليك ردالتحية، لأنك لم تتأكد من وجودها، أما لو تيقنت بأنه تفوه بالسلام، وشككت هل كان ذلك بقصد التحية
/ صفحه 152/
أو السخرية فيجب الرد حملا له على الصحة (1).
2 ـ منارتكب محرما يوجب بظاهره إقامة الحد على الفاعل، كما لو قارب امرأة لا يحل له الزواج بها، ثم ادعى توهم الحل يسقط عنه الحد بمجرد الدعوى، ولا يكلف بينه أو يمينا، وقال صاحبالشرائع والجواهر: ' لو أقر بما يوجب الرجم، ثم أنكر سقط الرجم ' وفي هذا المورد تنتقض قاعدة ' لا إنكار بعد اقرار '.
3 ـ ذكر الفقهاء موارد كثيرة يقبل فيها قول المدعيبمجرد دعواه. منها من ادعى عينا لابد لأحد عليها، ولم يعارضه فيها معارض، فيؤخذ بقوله دون بينه أو يمين، وله أن يتصرف بها تصرف المالك الأصيل، ومنها امرأة تدعي أنها خلية،ولم يعلم كذبها فيجوز العقد عليها من غير بحث وسؤال، وتصدق المرأة أيضاً في اليأس والحيض والطهر والحمل، وإذا طلق الرجل زوجته ثلاثا، فغابت عنه، ثم جاءته مدعية أنهاتزوجت بزوج آخر مع الدخول، وأنه طلقها، وانتهت العدة، ومضت مدة يحتمل معها الصدق، يقبل قولها بلا يمين، وللزوج الأول أن يتزوجها بعقد جديد، وليس عليه الفحص، ومنها منيدعي الفقر والإعسار، وليس له مال ظاهر: ومنها إذا قال المالك أخرجت زكاة مالي، أو لم تتعلق بمالي زكاة يقبل قوله بلا بينة أو يمين (2).
4 ـ من وضع يده على شيء، ولم نعلمهل استولي عليه بنحو الملك أو الغصب أو الأمانة أو الغلط فعلينا أن نعامله معاملة المالك حتى يثبت العكس، فنشتري منه، ونشهد له به، ونقبل قوله فيه من الطهارة والنجاسةوغير ذلك، وجاء في أحاديث أهل البيت: أن حفص بن غياث سأل الإمام جعفر الصادق: إذا رأيت شيئاً في يد رجل أيجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال الإمام: نعم. فقال حفص: أشهد ــــــــــ
(1) رسائل شيخ الانصاري، وحاشية الاشتياني باب اصالة الصحة.
(2) كتاب بلغة الفقيه باب قاعدة اليد، وكتاب الجواهر باب الطلاق وباب الزكاة، وكتابمستمسك العروة الجزء السادس باب الزكاة.
/ صفحه 153/
أنه في يده ولا أشهد أنه له، فلعله لغيره. فقال الإمام: أيحل الشراء منه؟ فقال: نعم. فقال الإمام: لعلهلغيره؟! فمن أين جاز لك أن تشتريه وتصيره ملكا لك؟! ثم تقول بعد الملك هو لي، وتحلف عليه! ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك!. ثم قال الإمام: لو لم يجز هذا لماقام للمسلمين سوق. وفي رواية مسعدة بن صدقة: كل شيء لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك. وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته، وهو سرقة، أو المملوك عندك لعلهحر قد باع نفسه، أو خدع فبيع أو قهر، أو امرأة تحتك، وهي أختك أو أرضعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة.
وهذه قاعدة كلية تشمل كل ذي يدمسلماً كان أو غير مسلم، وعليها عمل العقلاء من جميع الأديان في كل عصر قبل الإسلام وبعده، ولو لا اعتبارها لاختل النظام ' وما قام للمسلمين سوق '. أما التعبير بلفظالمسلمين في حديث حفص وغيره من الأحاديث الواردة في هذا الباب ونظائره فيراد به عموم أفراد الشعب من كل دين للمسلمين وغيرهم، وتخصيص المسلمين بالذكر، لأنهم الأكثريةالغالبة في البلاد التي تلتزم العمل بالكتاب والسنة.
وعلى أية حال فإن تغليب جانب الصحة على الفساد، والإباحة على التحريم، والطهارة على النجاسة، والملكية علىالغصب، وما إلى ذلك إنما هو لأجل التسهيل على الناس، وحفظ النظام، وتيسير التعايش والتعاشر في حدود الدين والمصلحة. وقد تقتضي المصلحة والأخذ بالدين الحيطة الحذر، وذلكإذا كان في التساهل مظنة الوقوع في المحرمات والمعاصي، وشبهة التعدي على حق الغير، ولم يرد في الشرع الإذن بالإقدام، والأمان من الوقوع في الحرام، وحينئذ تنعكس الآية،وينقلب الأصل من الاباحة إلى الحظر، وقد ذكر الفقهاء موارد أوجبوا فيها التجنب والعمل بأصالة الحرمة عند الاشتباه، وهي الدماء والفروج والأموال واللحوم والجلود، فإذااشتبهت بأمر امرأة هل يحل لك منها ما يحرم على غيرك؟ أو بإنسان هل هو معصوم الدم؟ أو في مال هل هو لك أو لغيرك؟ أو في لحم
/ صفحه 154/
أو جلد هل هو مذكى أو ميتة ولايد عليه لمسلم؟ وجب عليك الاجتناب عن ذلك كله عملا بأصالة التحريم في المواد الثلاثة الأولى، وأصالة عدم التذكية في الأخير، وجب الاجتناب حتى يثبت الحل والجواز، فأصالةالاباحة إلى أن يثبت التحريم تجري في غير هذه الموارد، أما فيها فتجري إصالة التحريم إلى أن تثبت الإباحة (1).
وبالتالي، فإن غرضي الوحيد من هذا المقال أن أبين أنتعاليم الإسلام وأحكامه ترتكز على أساس الطهر والنبل في الإنسان، وأنه خير بطبعه، ولا يخرج عن الطريق القويم إلا لسبب عارض، فكما أن جسم الإنسان يوجد ـ في الغالب ـ مستوىالخلقة تام الأعضاء، وأن الأعمى والأعرج، ومن إليهما شاذ خارج عن الأصل فكذلك يفترض الإسلام السلامة في نفس الإنسان وضميره، وأنه يتجه بفطرته وطبيعته في الطريق المرسومله، ولا يخرج عنه إلا الأمر عارض. وقد أكدت الآيات والأحاديث هذه الحقيقة، فمن الآيات ' وقولوا للناس حسنا... اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم '.
ومن الأحاديث ' إنالمؤمن لا يتهم أخاه، وإذا اتهمه انماث الإيمان في قلبه انمياث الملح في الماء '. وقال الإمام علي (عليه السلام): ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه، ولا تظننبكلمة خرجت من أخيك سوءا، وأنت تجد لها في الخير سبيلا.
ــــــــــ
(1) رسائل الشيخ الانصاري، وحاشية الشتياني، وتقريرات الخراساني للمرزا النائيني باب البراءة.وقال النائيني: ينقلب الأصل أيضا في صورة ما لو رأينا ماءا، ولم نعلم هل هو كر أو أقل، ولاقته النجاسة فيجب والحالة هذه، البناء على النجاسة، ولا يجوز الأخذ بقاعدة ' كلشيء طاهر حتى نثبت النجاسة '. لما جاء في الحديث ' إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء. ومعنى هذا أنه إذا لم نحرز كرية الماء ولاقته النجاسة فلا نرتب عليه آثار الطهارة.