الَاسْلأُِم وَ المُسْلمُونَ
لصاحب العزة الكاتب الكبير الاستاذ أحمد أمين بك
من البديهى أنه يجبالتفريق بين الإسلام فى مبادئه و تعاليمه، كما يدل عليه اقرآن الكريم، و السنة الصحيحة، و بين أعمال المسلمين من وقت أن اعتنقوا الاسلام إلى اليوم، فمن أراد الحكم علىالأسلام فليرجع إلى أصوله الأولي، و ينظر إلى جوهر تعاليمه و يزنها بميزان الحق و العدل، و من الخطاء الفاحش أن اعتقوا الاسلام إلى اليوم، فمن أراد الحكم على الأسلامفليرجع إلى أصوله الأولي، و ينظر إلى جوهر تعاليمه و يزنها بميزان الحق و العدل، و من الخطأ الفاحش أن يحكم على الاسلام بالمسلمين فقد يكون الدين صحيحاً، ومعتنقوه خادجينعليه، متحرفين عنه، فيكون الخطأ خطأ أصحابه لا خطاأه هو، بل أحيانا يكون الدين فاسداً فى جوهرة و تعاليمه، و يرتقى معتنفوه، فتصدر عنهم أعمال فاضلة، لا تمت إلى دينهمالأصيل بسبب، و إنما هم الذين حوّ روادينهم، و صاغوا صياغة خيراً مما كانت عليه ـ و الحق أن الفرق كبير بين الاسلام نفسه، و عمل المسلمين فى مختلف العصور، و أكاد أجزم بأنالإسلام لم يحى حياة عملية صحيحة طبق مبادئه إلا عصراً قصيراً جداً، و هو عصر الرسالة و ما بعدها بقليل، و أما ما عدا هذه الفترة، فقد عاش المسلمون عيشة منحرفة عن الدين ،و إن اختلف هذا الانحراف قلة و كثرة أوشدة و ضعفا.
لننظر قليلا فى أهم عنصر من عناصر الإسلام، و هو التوحيد الذى تبلور فى قولنا «لا إله إلا الله» فهل سار المسلمونعملياً و اقتصادياً على هذا المبدأ، و إلى أى حد؟ إن هذا المبدا، يدعو إلى اعتقاد أنه لا يصح تأليه غير الله، و عباإة غير الله، و أما من عداه من الناس فسواسية لا إله و لامألوه، قد يختلفون فى النسب، و قد يختلفون فى الثروة، و قد يختلفون فى غير ذلك، و لكنهم كلهم إخوة فيما بينهم، و عبيد لله وحده.
ولكن هذه العقيدة بعدم تأليه أحد منالناس، تحتاج إلى جهد جهيد فى تطبقها فى الحياة العملية، إنها تحتاج إلى رياضة قوية، تحتاج إلى أن يحتفظ الضعفاء بإيمانهم، فلا يركعوا لأقوياء، و تحتاج إلى أن يلجمالأقوياء غرائزهم، فلا يحاولوا السيطرة على الضعفاء و هذا مطلب ليس باليسير، و إن كان هو جوهر الاسلام.
و من أجل هذا كان أسرع الناس إلى الاسلام أكثرهم من الضعفاء، لامن من أصحاب السيطرة، كبلالٍ و أمثاله، لأنهم و جدوا فى الاسلام تحررا من عبوديتهم لغير الله. و كان أكبر المعاندين أصحاب السيطرة و التأله من مثل صناديد قريش، فلم يسلمواإلا أخيراً، و بعد عناد طويل، كأبى سفيان بن حرب فى مكة، أو إسلاماً ظاهراً بعد أن سدت الأبواب فى وجوههم، كعبد الله بن أبّى فى المدينة، و أكبر سبب فى تأخرهم، أنهم رأواالاسلام يفقدهم تألههم و عظمتهم و ربوبيتهم.
و لما فتح المسلمون فارس و الروم، كان أغرب ما استرعى انظارهم، عبادة الرعية لسادتهم، لما وقر فى نفوسهم بسبب الإسلام منأنه لا معبود إلا الله، و القر آن مملوء بلعن الذين اتخذوا سادتهم أرباباً، أو خلعوا القدسية و الربوبية على رؤسائهم الدينيين. و كانت دعوة الاسلام دائما دعوة إلى عبادةالله وحده و عدم الاعتراف بربروبية أحد غيره «يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ذلا نعبد إلا الله و لا نشرك به ولا يتخذ بعضنا يعصا أرباباً من دون الله».
و لذلك حارب الاسلام الاعتزاز بالنسب، و الاعتزار بالجاه، و الاعتزاز بالمال، لأن كل ذلك من ضروب التأليه، و الاسلام عدو كل تأله.
ولكن لم يستطع كثير من المسلمينأن يحتفظوا بهذا المبدأ الجليل القويم، و ظهر التراجع من أول عهد معاوية أو قبله أحيانا، فعاد الاعتزاز بالحسب و النسب، و أصبح ملك معاوية ـ كما عبر كثير من المسلمين ـملكا عضوداً فيه اعتسافٌ و فيه تأله، و خاصة من أهل بيته، و عادت الفروق بين الطبقات قريبا مما كانت فى الجاهلية، و تتابع الأمر على هذه الحال، و كلما تقدم الزمن نمت غريزةالتأله،
/ صفحه 145/
كما كان فى العصر العباسى و بعده؛ و بلغ ذلك التأله أوجه فى مثل جنكيزخان و تيمورلنگ و اشباههما. إن نظرة الإسلام إلى الألوهية، والدعوة إلى إله واحد يتساوى أمامه الناس جميعاً. تقضى على كل فكرة من شأنها وجود طبقة يكون لها الشفاعة أو الوساطة بين الله و خلقه، ولكن ما لبث المسلمون أن عادوا إلىسيرتهم الجاهلية الأولي، فاتخذوا أصنافا من الناس شفعاء يستشفعون بهم عند الله و يتقربون بهم إلى الله، متأثرين بالديانات القديمة، أما الاسلام نفسه فيدعوا الى أنهلاحجاب بين أى عبد مهما ضعف وبين الله . و قد عاب على النصارى و اليهود اتخاذهم أخبارهم و رهبانهم، أرباباً من دون الله.
و لعل السبب فى ذلك، أنَّ هذه العتميدة الصحيحة،عقيدة الإيمان بالله وحدة، و الخضوع له وحده، و عبادته وحده، تحتاج إلى رياضة شديدة فى تصفية النفس من الشوائب ، و النفوس القوية عادة تعشق التأله والا ستعلاء، و النفوسالضعيفة سرعان ما تستسلم، و هذا مشاهد فى كل أمة، و فى كل جماعة، و فى كل عصر، من عهد أن قال فرعون: «أنا ربكم الأعلي» و من قبله و من بعده.
و هؤلاء الاقوياء يتخذونلتألهم أشكالا و ألوانا من المظاهر. فمنهم من يتأله بجنوده و بنوده، و كثرة ماله و نحو ذلك. و منهم كبار المستبدين فى أمحهم مثل نابوليون، و مثل هتلر و ستالين، و منهم كبارأصحاب رؤوس الأموال فى كل أمة، و نحو ذلك، كلهم يتألهون، و كل الناس حولهم تؤلهم، و إن لم يسِّم الأولون أنفسهم آلهة، و إن لم يسم الآخرون أعمالهم عبادة، و لكن العبرةبالحقيقة لا بالأسماء. و الاسلام يكره هذا التأله بجميع أشكاله و ألوانه، و المسلمون ـ مع الأسف ـ فى كل عصورهم ما عدا الفترة الأولى لم يخل سلوكهم من تأله من جانب القوة،و عبادة و خضوع من جانب الضعف.
هذه ناحية من نواحى التأله و العبودية، يصح أن نسميها ناحية سافرة، و هناك ناحية أخرى من التأله و العبودية يصح أن نسميها مُحجبة؛ ذلك أنهناك قوماً لم يكن لهم من قوة السلطان ، و كثرة المال و الجنود و العصيبة، ما يمكنهم.
/ صفحه 146/
من الاستعلاء فى الظاهر، فبحثوا عن وسائل للاستعلاء منطريق خفي، و لهؤلاء أمثلة كثير كالسحرة و المشعوذين و الدجالين من رجال الدين الذين يدعون الاتصال بالغيب و الاستمداد من السماء، و أن بينهم و بين الله نسبا، أو بينهم وبين الجن صلة، و أنهم يستطيعون بذلك أن يقربوا إلى الله من يشاءون، و يحرموا من الجنة من يشاءون، أو أنهم يستطيعون أن يسيطووا على قوانين الطبيعة فى هذا الكون بسحرهم وتعاويذهم و تعزيمهم و ما إلى ذلك، كل هؤلاء و أمثالهم لما فقدوا السلطة الطاهرة و القوة الدنيوية، لجئوا بمكرهم و حيلهم إلى ادعاء سلطة خفية يستمدون منها سلطانهم، ويبسطونها على السذج و البله، و كان من سوء الحظ و ضعف العقل أن قبلت دعوتهم، و تألهوا هم الأخرون، و عبدهم أتباعهم، فكان فى الدنيا مملكتان: مملكة السلطنة المادية: و مملكةالسلطنة الغيبية، و الناس موزعون فى العبادة بين هؤلاء و هؤلاء، و كل هذا حرب على الاسلام فى جوهر تعاليمه و هو الذى ينادى دائما، و يجعل شعاره دائما، أن لا إله إلا الله، وآن كل تأله بالطل، و أن كل عبادة لغير الله باطلة، و لكن كم من المسلمين فى العصور المختلفة استطاعوا أن يحتفظوا بهذه الوحدانية خالصة لم يشبها شييء من عبادة و تأله.
ومن الأسف أنه فى كثير من عصور تاريخ المسلمين، تعاونت القوتان، الظاهرة و الباطنة، و المادية و الغيبية، على إفساد حال المسلمين، فتحالف الملوك الظلمة و السلاطينالغاشمة مع الدجالين من رجال الدين، و الدجالين من المتصوفين، و أعملوا قوتهم ف إفساد عقيدة الوحدانية، و فى تعديد الألهة و عبادتها، و اتخذوا لذلك و سائل لا تحصي،فالسلاطين الغاشمة تحيط مظاهرها بكل أنواع الجبروت و الطغيان، و رجال الذين تضع لهم من الأحاديث مثل «السلطان ظل الله فى أرضه» و الخطباء و الوعاظ يصرفون الناس عنالمطالبة بحقوقهم بإفهامهم أن الفقر من الله و الغنى من الله، و ليس للجد و لا للعمل أى ذخل فى الغنى و الفقر، و أن ظلم الظالمين إنما هو انتقام من الله لسوء سيرةالمسلمين، و نحو ذلك من تعاليم تفسد الروح، و تذل النفس، و تمكن التألهين من التأله، و توجه الأذلة إلى عبادة المتأله، ولم يكن هذا من جوهر الاسلام فى قليل، ولا كثير.
/ صفحه 147/
ولو نحن نظرنا نظرة شاملة، لرأينا أن أكثر شرور العالم فى الشروق و الغرب، و فساد حال الأمم يرجع إلى هذا التأله من جانب، و العبادة و الضعفمن جانب آخر. فالعلاقات بين الأمم و الحروب المتتابعة إنما يبعثها فى الغالب حب ال ستعلاء أو بعبارة أخرى التأله و محاولة الدولة القوية أن تسيطر على العالم لتكون إلته، وليكون غيرها عبادا أذلة، و كان كل هذا يزول لواعتنق الجيمع أن لا إله إلا الله.
و بعد فهذا أصل من أصول السلام، رأينا كيف انحرف المسلمون عنه، فساء حالهم، و انحط شأنهم.و لعلنا نتبع ذلك ببيان بعض الأصول السلامية الأخري، و نبين كيف عطلت و أهملت، و الله الموفق؟
رسالة الإسلام.
ترحب المجلة بما وعد به الأستاذ الكبير من بحوث فى هذااصدد، فإن أمر المسلمين لا يصلح إلا إذا فهموا دينهم حق الفهم، و كانوا على بصيرة من أصوله و قواعده، و ما كلفهم الله إياه.
و قد اشتبه على كثير من المسلمين فى هذاالعصر أمر الدين فحسبوه بعيد عن معترك الحياة العملية، قاصرا عن الأخذ بأيدى أهله إلى الصراط السوى فى السياسة و الحكم و الاقتصاد و القوة و سائر ما تصلح عليه الأمم، ولذلك نراهم ينادون بالفصل بين الدين و الدولة، و يعتبرون هذا الفصل أساسا من أسس الإصلاح: و يزعمونه أمرا مقررا مسلّما به عند أهل لتفكير التقدمى الحديث لا ينازع فيه إلاالذين يفكرون بعقول قديمة «رجعية».
ولا شك أن الجهل بالا سلام، و النظر إلى حالة المسلمين فى ضعفهم و تأخرهم، و الرذغبة فى تقليد المباديء الغربية فى نظم الحكم والسياسة، هى السر فى ذلك الاشتباه، و هذا التهجم.
فاذا تضافرت قوى المفكرين المخلصين من أهل العلم و الأدب، و ذوى الآقلام السيالة ـ من مثال الأستاذ الكبير أحمد أمينبك ـ على بيان أصول الاسلام، و مقارنتا بما يفعله المسلمون، فان القضية تتغير يومئذ، فلا تكون دعوة إلى هجر الاسلام، ولكن دعوة إلى هجر ما عليه المسلمون مما ينافىالاسلام؟