آثار التقريب بين المذاهب على المجتمع والثقافة والاقتصاد والسياسة
الاستاذ الشيخ احمد كفتارو(1) من آثار التقريب على الحالة الاجتماعية
إن المذاهب الإسلامية حقيقة موجودة في هذا العالم الإسلامي، لانملك تجاهلها وهي منذ قرون قائمة في مختلف أطراف هذا العالم الإسلامي، وليست محسومة جغرافياً، بل تتداخل في البلدان والأمصار حتى إنه ليعسر القول بأن ثمة بلداً إسلامياًواحداً لا يوجد فيه الاختلاف مذهبي، وكذلك فإنه لم يحصل أن عاش المسلمون قرناً واحداً من الزمان بدون اختلاف مذهبي، ومن هنا فإنه يمكن القول ان ما يتصوره بعضهم من إتحادالمواقف الإجتهادية إزاء سائر القضايا الفرعية هو أمر لاوجود له في الزمان ولا في المكان في هذا العالم الإسلامي. وقد قامت تاريخياً عدة محاولات سياسية لفرضمذهب إسلامي واحد، باستخدام الوسائل العسكرية والإدارية، لعل أشهرها محاولة المعتزلة فرض آرائهم الاجتهادية في العصر العباسي، ولكنها لم تؤد في النهاية الا إلى إضافةالضغائن على الخلافات الفكرية الاجتهادية، التي كان ينبغي أن تبقى ضمن إطار الفكره لا تتعداه.
إن ما نبحث عنه هنا ليس قراراً سياسياً يتبنى اتجاهاً محدداً فيالفقه الإسلامي، ويحظر ماسواه، بل إن ذلك سيؤدي الى نقيض مقاصدنا في تحقيق الوحدة الإسلامية، وقد رفضه بشدة سائر الحكماء في التاريخ الإسلامي، ونستشهد هنا بالموقفالحكيم للإمام مالك بن أنس(رضي الله عنه) حين قدم للعالم الإسلامي كتابه النفيس الموطأ، الذي ضمنه عصارة فكره، ونتيجة تمحيصه في الرواية والضبط، وحين طلب إليه الخليفةالعباسي أبو جعفر المنصور أن يحمل عليه الناس في القضاء والفتياء، ويجعله للناس إماماً، رفض إمام أهل المدينة ذلك، بشدة وقال: إن أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قدتفرقوا في الأمصار فحدثوا عند أهل كل مصر حيث حلوه، وكل مصيب، فقال المنصور: وفقك اللّه يا أبا عبد اللّه.
وهكذا.. فقد رسم لنا الإمام مالك (رضي الله عنه) مذهبالوحدة الإسلامية الذي نبتغي، وهو الذي يضمن التكامل بين حركة الاجتهاد ووحدة الجماعة.
وهذا الفهم للوحدة المنشودة ليس بدعاً في التاريخ الإسلامي، فقد عاشعلماء هذه الأمة عاملين متجاورين متزاورين، وكان التعصب المذهبي خافتاً ضعيفاً في الجملة، توقظه السياسة بين الحين والآخر، ولكنه لا يلبث أن يختفي في ساحة الفكروالعلم، وأياً كان، فإن من المؤكد أن هذا التعصب اليوم قد آل إلى زوال، وأصبح في حكم المتفق عليه أن سيرة الاجتهاد اليوم منوطة بالمصادر المتفق عليها من الكتاب والسنةوالإجماع والقياس، ومصالح المسلمين، دون التقيد باختيارات أئمة بعينهم في أصول الاستنباط من المصادر.
وهكذا فإننا قد حققنا بحمد اللّه التقريب المنشود علىمستوى المذاهب الأربعة ولكن ليس هذا إلا نصف الطريق، إذا علينا أن ننظر الى التعصب الذي لايزال موجوداً بين الصوفية والسلفية، وبين السنة والشيعة، وبين أهل التأويل وأهلالتفويض، وكذلك غربة بعض الطوائف وعزلتها رغم سعي أجيالها الجديدة للاندماج بالعالم الإسلامي، والعودة الى الأصول التي انبعثت منها، ومشاركتها الأمة الإسلامية فيقضاياها الكبرى.
ويجب الاعتراف أن نصف الطريق الباقي الذي نتحدث عنه هو هم إسلامي حاضر في كل مدينة في العالم الإسلامي، وفي الأقليات الإسلامية المنتشرة فيالعالم، إذ تجد مشكلة صوفية سلفية، أو سنية شيعية، في أكثر البلدان الإسلامية، كما تجدها بشكل واضح في المراكز الإسلامية في أوروبا وأمريكا، بشكل أصبح يعكس أسوأ ظاهرةتصد عن الإسلام في العالم الغربي.
ويتحدث سائر أطراف هذه العصبيات عن الوحدة الإسلامية، كغاية وهدف وأمل، وهو أمل لن يروه أبداً، إذا بقيت تصوراتهم لهذهالوحدة تقوم على أساس إلغاء الآخر ومصادرة رأيه، وهو أمر يحول باستمرار دون تحقيق الاندماج الاجتماعي بين أبناء الأمة الإسلامية.
إن التقريب والتوحيدسيقودان بالنتجية الى تذويب الكيانات المصطنعة غير الطبيعية والقائمة على قواعد التعصب والتفريق، وسيؤدي هذا إلى حالة من التمازج الاجتماعي ينمو ويكثر فيها الزواج بينكافة الأطراف، وتزدهر العلاقات الاجتماعية وتتشابك، فيظهر تبادل المنافع والزيارات، وحضور المناسبات المختلفة لدى كل طرف، وبالإرادة والصبر والتوجيه والتعليمالمستمر يمكن أن نصل الى مرحلة متقدمة من الاندماج الاجتماعي التدريجي بين أبناء الأمة.
من آثار التقريب على الحالة الثقافية
وعلى هديماقدمناه من حتمية السعي الى التقريب، فإن انبعاثاً ثقافياً كبيراً ينتظرنا في العالم الإسلامي، إذ ستتضاعف الأعمال المعرفية حين يكسر كل جانب عقدة الوهم من الجانبالآخر، ويلتمس الفائدة الحقيقية من مؤدى إجتهاداته فيما أصاب فيه، وسنجد برامج كثيرة للتعاون الثقافي والفكري، تبدد صورة الشقاق الدائم التي يلاحظها من يرصد النشاطالإسلامي في العالم. يجب أن نتذكر دوماً أن 'الأزهر' نفسه إنما وجد النور على أيدي الفاطميين، وكذلك فإن أكبر مدارس السنة في الحديث إنما هي مدرسة نيسابور قربمشهد، ومن إيران وأطرافها إنبعث أئمة الحديث الستة البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة.
وهذا التمازج يكشف لك أن الأمة الإسلامية في سعيمستمر الى غاية واحدة هي التعريف بوحدانية اللّه، وأن جهودها وإن تناقضت في الظاهر، فإنها تجد مع الأيام سبيل تكاملها وتواصلها.
من آثار التقريب علىالناحية الاقتصادية
ولا شك أن الدعوة الى التقريب، ستعاني كثيراً من المصاعب الاقتصادية في العالم الإسلامي، فإنه حين تبلغ دعوة التبليغ مبلغها في نفوسالناس، فان من الطبيعي أن تتوقف تلك المشاريع التي تهدف الى 'تشييع' المسلمين أو 'تسنينهم' وكذلك الى قمع السلفية أو محاربة التصوف، وهي مشاريع تستنزف من خيرات العالمالإسلامي وموارده جانباً كبيراً، وقد تورطت للأسف دول إسلامية بحالها في مثل هذه المشاريع الهائجة والتي لا تعود في النهاية إلا بتكريس العداوة والأحقاد بين المسلمين.وتبلغ نفقات مثل هذه المشاريع مبالغ كبيرة، إذ تشتمل على مبان وإدارات، وكتب وإصدارات، وأجور دعاة، ومصاريف سفر، وتكاليف إذاعات ومحطات، وربما بناء مساجدتكرس لخدمة طوائف بعينها، وهذا كله في النهاية من الهدر البغيض، الذي يسير في عكس المصلحة الإسلامية، ويزيد في فرقة المسلمين وشتاتهم.
وإني أقدر أن ربع هذهالتكاليف كافية لتنشيط الدعوة الإسلامية على مستوى العالم كله، فيما توجه بقية تلك النفقات لجهة معالجة مشاكل العالم الإسلامي الاقتصادية المتفاقمة، في جانب تحقيقالحياة الكريمة للشعوب الإسلامية الفقيرة.
كما أن التقريب سيزيل كثيراً من الحواجز النفسية التي تحول دون تعميق التبادل التجاري بين أبناء المذاهبالإسلامية الواحدة، وهذا ينعكس إيجاباً على التنمية الصناعية والزراعية، وكذلك على التكامل اقتصادياً في المحصلة.
من آثار التقريب على الحالةالسياسية
إنه لا يمكننا أن ننكر أثر الخلاف المذهبي في صناعة خصومات العالم الإسلامي وإذكائها بكل أسف، ولا نجانب الحقيقة إن قلنا إن بعض المتحاربين فيالبلدان التي شهدت صراعاً إسلامياً إسلامياً، إنما وظفوا هذه المشاعر المذهبية في إضفاء جانب اعتقادي على حروبهم المختلفة، رغم أنني أجزم بأن أسباب اشتعال هذه الحروبإنما هي سياسية بحتة، ولكن من الممكن أن تكون أقصر أعماراً وأقل إضراراً لو أننا أفلحنا في بناء جسر التقريب الإسلامي، الذي يقوم على أساس احترام أهل التوحيد وعصمةدمائهم رغم الخلاف في كثير من الآراء. كذلك فإن كثيراً من الخلافات السياسية في العالم الإسلامي اليوم تعود الى أسباب مذهبية، ويقوم بعض الفقهاء فيها - بكلأسف - بإذكاء نار هذه القطيعة ، وتوفير المبررات والحجج التي تكرس القطيعة وتحول دون الوفاق، وتنقل الخلاف السياسي الى خلاف شعبي، يجعل أمر الوفاق في غاية الصعوبة، وهوبالتأكيد مايسعى اليه أعداء الإسلام والمسلمين.
وكلنا يمكن أن يتصور قوة الموقف السياسي الإسلامي على مستوى الأحداث العالمية لو أن التقريب والتوحيد أخذاالأبعاد المطلوبة على الساحة الإسلامية.
إن البحث عن الخطوط الجامعة بين مذاهب الأمة الإسلامية ليس عسيراً، فثمة كتاب واحد يتفق المسلمون على أنه منزل مناللّه عز وجل، وثمة أحكام متطابقة في العبادات والمعاملات ونظام الأسرة، فيها بعض الهوامش الإجتهادية، ولكنها لا تفقد معنى الروح الواحدة والمصدر التشريعي الواحد.
إن المغول حين اجتاحوا العالم الإسلامي لم يقسموا عدوهم الى سني وشيعي، بل كانوا يسعون الى هدف واحد، هو القضاء على العالم الإسلامي بمختلف شعوبه، وكذلك كانت سهامالصليبيين لا تفرق بين طائفة وأخرى من المسلمين، واليوم فإن العدوان الصهيوني على جنوب لبنان لم يفرق بين سني وشيعي، وصوفي وسلفي، لقد كان أوضح تطبيق لكلمة تاتشر رئيسةالوزراء البريطانية سابقاً التي سمعتها بأذني تقول 'لقد كان الغرب في صراع مع الشيوعية، وبعد أن انهارت الشيوعية في الاتحاد السوفيتي فإن العدو الوحيد للغرب هوالإسلام!...'
وأرفع هنا توصياتي وكلي أمل أن تواتي الفرصة المناسبة لترى هذه التوصيات طريق النور:
أولاً: عقد مؤتمر إسلامي عالمي يكون شعاره (ولاتقولوا لمن ألقى اليكم السلام ليست مؤمنا).
ثانياً: دعوة مندوبين من كافة المذاهب الإسلامية للمشاركة فيه، من الذين يرغبون في الدخول في رسالة التقريب،وإزالة ما بينهم من حواجز.
ثالثاً: يقوم هذا المؤتمر بوضع ميثاق للتقريب والتوحيد يتضمن المبادئ والوسائل، ومن هذه الوسائل:
1- تأليف الكتبالمشتركة في التفسير والسيرة والفقه المقارن وغيرها، على غرار تفسير 'مجمع البيان' الذي أقرته لجنة علماء الأزهر.
2- إصدار مجلة يشرف عليها لجنة متخصصة منبثقةعن ندوة التقريب والمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم، تعتني بموضوعات التقريب والتوحيد.
3- تشكيل لجان فرعية لتمحيص جميع الكتب الإسلامية القديمةوالجديدة وحذف كل مايسيء الى المذاهب الأخرى.
4- إقامة مؤتمرات تخصصية وندوات جماهيرية إعلامية لمعالجة التفريق ودعم التقريب والتوحيد.
5- إقامةالمخيمات السنوية لطلبة الجامعات الإسلامية تحت إشراف العلماء والمفكرين المتنورين للتعارف وإزالة حواجز الوهم بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة.
1- مفتي عام الجمهورية العربية السورية.