الأزهر ووزارة المعارف بَيَنَ التّجْدِيدَ و الْجُمودْ
لحضرة صاحب الفضيلةالأستاذ الكبير
الشيخ محمد عبد اللطيف دراز
مدير الأزهر و المعاهد الدينية
كان الأزهر إلى عهد الأستاذ الإمام المغفور له الشيخ محمد عبده، عاكفاعلى علومه الخاصة، بعيدا عن المشاركة فى علوم الحياة العامة، بل كان يعتبر الاشتغال بها نوعا من العبث، و تضييع الوقتع فيما لا طائل تحته، و لا فائدة فيه،
و كان فىعكوفه على علومه الخاصة شديد الحرص على التزام طريقة بعينها فى الدراستة، و نوع بعينه من الكتب، قلما يحاول الخروج عليهما، أو التحرر منهما، فإذا حاول ذلك أحد من علمائهأو طلابه؛ عُدّ ذلك حدثاً من الأحداث، التى تستدعى الاهتمام و تسترعى الانتباه من المسئولين عنه، و تحفزهم إلى نوع غريب من التكاتف و التعاون يوحى به الاحساس بالخطر أوما يشبه الخطر، فلا يقر لهم قرار حتى يأخذوا على يد هذا المتطلع إلى أفق غير أفهم المعهود.
و لقد حدثنا التاريخ أن الأستاذ الإمام رضى الله عنه، رأى ـ قبل أخذه شهادةالتدريس ـ أن يطالع مع بعض الطالب كتبا منها شرح العقائد النسفية للتفتازانى مع حواشيه، و سوَّ غ لنفسه فى أثناء ذلك أن يرجح مذهب المعتزلة فى بعض المسائل الكلامية علىمذهب الأشعرية، فقامت لذلك ضجة كبرى فى الأزهر و وصل الأمر إلى المرحوم الشيخ عليش الكبير، و كان رجلا حديد ا
(358)
لمزاج، سريع الغضب، شديد الغيرة على ما يعتقد،فهاج و ماج و أرسل إلى الشيخ محمد عبده و كلمه فى ذلك كلاما شديداً، و تعصب للشيخ عليش فى ذلك طلاب من الأزهر و علماء، حتّى كان الشيخ عبده يضطر إلى اصطحاب عصا معه و هو يقرأالدرس خوفا على نفسه من اعتداء ذوى العصبية.(1)
إلى هذا الحد كان الأزهر متمسكا بعلومه و تقاليده الدراسية، و قد احتاج الأمر فى تقرير بعض المواد الحديثة فى إلى أخذورد، و مشاورات و محاورات، حتى أمكن تقرير دراسة التاريخ السلامى و تقويم البدان و علم المحاضرات، على أن يقرأ فى المادة الأولى كتاب «المواهب اللدنية فى تاريخ السيرةالنبوية» و فى المادة الأخيرة كتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه، و أن يترك أمر المادة الوسطى لما يختاره مدرسوها على ألا يعبر عنها بالاسم المشهور: «الجغرافيا».
ولهذا كله اشتهر الأزهر منذ ذلك العهد «بالمحافظة» أو بتعبيرا أصرح «بالجمود» مما دعا إلى التفكير فى إصلاحه، و كان من أسباب إنشاء بعض المعاهد الأخري، كمعهد الاسكندريةالذى أنشيء فى سنة 1904 م، و أريد به إيجاد نوع من التعليم الأزهرى يستطيع مجاراة التطور الذى تقضى به الحاجة.
ثم وضع قانون سنة 1911م، و أخذ به الأزهر، و فيه كثير من مظاهرالتطور فى المناهج و الكتب و المواد و طريقة التدريس و الامتحان و غير ذلك، و تلاحق على الأزهر بعد ذلك، التعديل فى إثر التعديل، حتّى أصبحت معاهدة الابتدائيه جامعةلكثير من المواد التى كان يعتبر تدريسها فى الأزهر خروجا على تقاليده، و ذلك إلى جانب موادة الأصلية، و حسبى أن أنقل من المنهاج الرسمى على سبيل السرد ما يدرس فى هذاالقسم الابتدائى من المواد، و هو الفقه بمذاهبه الأربعة، و التوحيد، و السيرة النبوية، و سيرة كبار الصحابة، و تجويد القرآن الكريم، و الإنشاء، و النحو، و الصرف، والإملاء، و المطالعة، و المحفوظات، و التاريخ، و الجغرافيا،
ـــــــــــ
(1) ص 132 ـ 131 من الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، تأليف السيدمحمد رشيد رضا، طبع مطبعة المنار بمصر سنة 1350هـ.
(359)
و الحساب، و الهندسة، و الجبر، و تدبير الصحة، و الرسم، و الخط.
و كذلك الأمر فى مناهج التعليم الثانوى والعالى و التخصص، و طرقة الدراسة فيها.
و بهذا استطاع الأزهر أن يشارك بخرجيه فى كل ناحية من نواحى النشاط العمل، و أن يقدم للدولة شبانا أقواياء مدركين للحياة،قادرين على مسايرة غير هم فى الأعمال و المصالح، و ذلك كله مع احتفاظه بشخصية العلمية التى تقوم على التبريز فى أصول الدين و الشريعة و اللغة العربية، و أصبح من مجافةالواقع، و مجانبة الانصاف أن يتهم الأزهر بالجمود أو عدم مسايرة ركب الحياة كما يزعمون.
وفي] رأيى ان وزارة المعارف هى الجامده فهى التى تحرص أشد الحرص على برنامجعتيق إذا ساغ لها أن تحرص عليه أيام عهد القس (دنلوب) وما التحق به ، فلا يسوغ لها أن تحرص عليه بعد الاستقلال والتطور السياسى والعقلى الذى صارت إليه الامة.
و لست أرمىو زارة العارف بهذه التهمة جزافاً، ولا أقصد بها عهداً معيناً، من عهود و زرائها فى الماضى أو الحاضر، فان لدى الديليل على ذلك من مسألة التعليم الدينى فى المدارس والدعوة إلى تغية أبنائنا بمزيد من ثقافتنا الإسلامية على نحو مثمر، و قد ناديتً بفكرتى هذه فى البرلمان لأول مره فى سنة 1941 على ما أظن، و كان ذلك فى عهد و زارة سرى باشاالأولي.
إنه مما لا شك فيه أن «قومية الأمة» تقتضى منها رسم سياسة أساسها إبراز شخصيتها، و العناية بالملامح التاريخية و الفكرية لهذه الشخصية، فإذا وجدنا أمة تتنكرلماضيها، و تنسي
(360)
تاريخها و تقاليدها، و تغمر نفسها فى حياة ليس متفقة مع هذا التاريخ و هذه التقاليد، فإنها تكون أمة مقلدة أو مسوقة، سواء أشعرت بذلك أم لمتشعر، و قد كانت سياسة المتلين ـ كما هو الشأن فيهم دائما ـ أن يباعدوا بيننا و بين ترثنا الفكري، و تاريخنا العلمى القومي، من حيث كوننا أما إسلامية، فكانت مناهج التعليمتوضع لتخريج موظفين، و كانت الأمة محرومة من الدراسة العميقة المتصلة بهذه الناحية إلا قليلا، بل كانت محرومة حتّى من تعليم أبنائها أوليات الأحكام الشرعيه و العقائدالتى يقوم عليها الدين، فما كان يدرس فيها إلا بعضى ما يتصل بالآداب و الأخلاق و مباديء العبادات، كان هذا منطق الاحتلال و المحتلين و من يجرى فى دائرتهم من المشرفين علىالتعليم، ولكن هذه السياسة مع الأسف الشيد بقيت فى مصر، و لم تجد من القائمين بوزراه المعارف فى عهد ما تحمسا لتبديلها و التخلص منها، و إهداء الأمة أسساً أخرى تبنى عليهاتعليمها و تثقيفها باعتبارها أمة حرة لها تقاليد، و لها ماض فى العلم و الرأي، لها فكرة و شخصية
و كلما نادى مناد بهذا حسبوه متعصباً للدين أو اللغة، أو حريصاً علىإيجاد متنفَّس لخريجى الأزهر، مع أن الأمر ـ و إن كان ذلك بعضَ بواعثه أحيانا أجلُّ من أن ننظر إليه هذه النظرة.
نحن أمة تريد أن تكوِّن جيلا مؤمناً بنفسه، قويا بدينهو خلقه، متصل القلب بماضية، مشبوب العاطفة بمفاخره، فإن ذلك هو الأساس الطبيعى الذى تقوم عليه أمة من الأمم، أو هو على الأقل ركن هام فى هذا الأساس، و إننا تقوم عليه أمةمن الأمم، أو هو على الأقل ركن هام فى هذا الأساس، و إننا لنشهد فى عصرنا الحاضر جميع الأمم الأوربية تتمسح فى التاريخ اللاتيني، و تتشبث بثقافاتها القديمة، فإذا لم يكنلأحدها حظ منها، حاولت أن تزعمه منحدراً اليها عن عمومة أو خؤولة، بل أقول: إننا نشهد الآن أفكاراً و مباديء فى السياسة و الحكم و النظام تحترب و تتجادل فى عنف و قوة لتفرضنفسها على العالم، فما بالنا نحن و أفكارنا أصيلة عريقة نعرض عنها، و نتخلى عن احتضانها، و نذوب فى غيرها؟
أنا لا أدعو و زراة المعارف إلى اقتباس المنهاج الأزهرىلمدارسها البتدائيه أو الثانوية، و لكنى
(361)
أدعوها إلى أن تقدم لأبناء هذه المدارس قسطا صالحا من الثقافة الإسلامية، يعرفهم بدينهم و لغتهم، و يغرس فيهم نزعةالشعور بالقومية الإسلامية، و يقرب ما بينهم و بين تاريخهم المجيد.
و قد طرقتْ هذه الدعوات آذانَ وزراء المعارف جميعا، فآمنوا بها، ولم ينكروا مزاياها، و لكنهم معذلك لم يتحمسوا لها، و لم يعملوا على إبرازها فى صورة عملية واقعية، و كلما أوشك ذلك أن يكون، عوَّقته معوقات، و حالت دونه حوائل، أليس هذا هو «الجمود».
و أحب فى هذاالمقام أن ألفت إلى أمر كثيرا ما تحدث به الناس فى شأن التقريب بين تعليم الأزهر و تعليم الحكومة، ذلك هو الدعوة إلى أن ينبذ الأزهر معاهده الابتدائية و الثانوية، و أنيستمد من مدارس الحكومة طلابا لكلياته بعد تزويد هذه المدارس بشيء من الثقافة الأزهرية.
إن هذه فكرة خاطئة، ولا يقول بها إلا غافل أو متغافل عن البر نامج الأزهرى فىقسميه البتدائى و الثانوي، و قد علمتنا التجارب أن الدين و الشريعة الإسلامية و اللغة العربية لا يمكن دراستها دراسة عالية إلا إذا زِّود طلابها بدراسة سابقة تجعلهمأصحاب ملكات قادرة على تلقيها و هضمها، يعرف ذلك أهل الأزهر و يعرفه الذين اتصلوا بدار العلوم أو بقسم الدراسات الإسلامى فى كلية الحقوق، فإن الطلاب الذين كانوا يلتحقونبدار العلوم من الأقسام الثانوية بالمعاهد الدينيه كانوا أصبر و أقدر على منهاج دار العلوم من الطالب الذين كانوا يلتحقون بها من القسم التجهيزي، و ما ذلك إلا لأنالأولين وُبُّوا تربية ملائمة لهذا النوع من التعليم العالي. وأَمْرُ طلاب الدراسة الإسلامية فى الحقوق من حيث شعورهم بثقل العبء فى هذه الدراسة كذلك مشهور معروف، معأنهم يعتمدون فيها على مذكرات و خلاصات، لا على كتب قديمة هى المنابع الأولى لهذا النوع من المدرسة، كما يفعل الأزهريون، و السر فى هذا أنهم لم
(362)
يتمرسوا بماتمرس به الطالب الأزهرى فى دراسته الابتدائية و الثانوية، و لم يعوَّدوا بالحث و الأخذ من المناجم العلمية الزاخرة بالأصول و القواعد، و هى الكتب القديمة.
على أنالمدارس الابتدائية و الثانوية لا تستطيع من ناحية أخرى إعداد الطالب لكليات الأزهر فان تلاميذ المدارس الابتدائية يلتحقون بها فى سن مبكرة بين السابعة و العاشرة، فهليستطيع تلميذ فى هذه السن أن يهضم علوم الأزهر؟! أما طالب الأزهر فلا يلتحق به إلا فى الثانية عشرة على الأقل ـ والحد الأعلى فى ذلك هو السادسة عشرة ـ و لذلك يقدر الطالبعلى داسه كتابين فى الفقه، و أربعه كتب فى النحو هى الاجرومية و شرحها، و الزهرية، و شرح القطر، و شذور الذهب، و على دراسة كتاب متوسط فى علم الطرف يقرأ فى سنتين، و علىدراسة التوحيد فى ثلاث سنوات ... الخ.
و المدارس الثانوية فى وزارة المعارف مكتظة بالمواد فى كل ناحية، و الشكوى عامة من كثرتها و طولها و شحن أذهان الطلبة بها، حتّىضعف المستوي، و بدت آثار هذا الضعف فى المعلومات العامة، و اللغات العربية و الأجنبية، كما نشاهد ذلك، و كما تشهد به تقارير وزارة المعارف نفسها، و قد جاء فى بعض هذهالتقارير مانصه: «إن الشكوى عامة من أن الطلبة لا تتحقق فيهم الصفات المطلوبة للدراسة العاليه من حيث روح التعقل و قوة الملاحظة و لاعتماد على النفس وحب البحث، حتّى إنهميضطرون أساتذتهم إلى إملاء الدروس عليهم إملاء مما يعوق سير الدراسة العالية فى صورتها الكاملة».
فاذا كان هذا رأى وزارة المعارف فى طلاب مدارسها الثانوية؟ فكيفُيطلب إلى الأزهر أن يعتمد على هذه المدارس فى إمداد كلياته العالية، و كيف يقول قائل بإمكان تقوية طلاب هذه المدارس و تزويدهم بزاد جديد من التعليم يجعلهم قادرين علىتلقى الدراسة الأزهرية؟ هل نعطى طلاب هذه المدارس ـ إلى ما عندهم من المواد التى ينومون بأعبائها ـ علوما جديدة منها الفقه و التوحيد و الصرف و المنطق و العروض مثلاً ممالا بد منه فى الإعداد للتعليم العالى الأزهري؟
(363)
لا. إن هذه كلها آراء فجة ينقصها التأمل، فضلا عن الدرس و البحث، فليكف عنها دعاتها، و لا سيما العارفين بثقافهالأزهر.
إن أحد ممن يهمهم أمر الأمة الإسلامية، لا ينازع فى وجوب العمل على تقريب الثقافة العامة بين أبنائها، و لسنا ننكر أن التقارب فى الأفكار، يحقق التقارب فىالغايات و الآمال، و يرفع من الأمة كثيرا من أسباب الخلاف، و عوامل التفرق، و يجعل منها وحدة قوية متماسكة، تسير فى طريق واحدة، و ترمى إلى هدف واحد، لسنا ننكر هذا، ولكنلا ينبغى أن يكون ذلك التقريب أو التوحيذ على حساب ديننا و تراثنا الأسلامى المجيد، و إنما ينبغى أن يكون فى دائرتهما، و تحت رعايتهما، فان من سفه المشورة. و خطل الرأي، أننتاندى بالخروج عن أنفسنا لكى نوجد أنفسنا، و ما أنخلاع المسلمين عن دينهم و ثقاقتهم إلا انخلاع عن أنفسهم لو كانوا يعلمون.
ألا و إن الدعوة التى يجب أن ندعو لها، ونتكاتف عليها، لا فى مصر فحسب، و لكن فى سائر الأقطار الاسلامية، هى احترام هذا النظام الأزهرى الذى لا بد منه فى المحافظة على الدين و العلم و اللغة، و الذى لا ينفردالأزهر به، و إنما يشاركه فيه كل شعب من الشعوب الاسلامية كالعراق و إيران و المغرب و غيرها، و ذلك مع العمل على أن تقرب الثقافة العامة فى التعليم الحكومى من الروحىالقومى الإسلامي، الذى يبعث فى الأمة معنى الا عتداد بنفسها، و الشعور بشخصيتها، و الذى يربط بين ماضيها و حاضرها، و يفتح لها آفاقا مترامية الاطراف فى مستقبلها، و ماأريد بالامة قى هذا المقام شعب مصر فحسب، ولكن أريد الأمة السلاميه بالمعنى الذى تفهمه «جماعة التقريب» من الأمة الاسلاميه، و الله المستعان؟