الاجتهاد فى الشريعَةِ
لحضرة صاحب السماحة
السيد محمد على القاضى الطباطبائي
النجف الأشرف بالعراق
تسلمت الأجزاء الأربعة من المجلة الشريفة «رسالة الإسلام» لسنتها الأولي، الصادرة عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة، و طالعتها فى إمعان و تعمق و إعجاببما فيها من البحوث العلمية و الآراء العميقة التى قلما يوجد لها نظير فى الصحف المجلات.
و إنى أقدم الشكر و التقدير لجماعة التقريب على القيام بهذا الواجب، فإنالمسلمين اليوم فى أشد الحاحة إلى الاتحاد و التعاضد و التعاون و اتّفاق الكلمة و جمع شتات آراء الأمة، و إحكام عرى الوحدة الإسلامية، و الاعتصام بحبل الإخاء الدينى والاتحاد الصحيح.
و لعل الله تعالى قيض لهم جماعة التقريب لتبعث فيهم روح المودة و المحبة، و ترسل حبلها بينهم كافة، فنسأل الله تعالى أن يوفهم لتحمل أعباء هذه المهمة.
و قفت فى العدد الأول صحيفة (87) على مقال بعنوان: «صوت التقريب»(1) حافل بالمزايا التاريخية، و جامع شامل للاشارات إلى كثير من حقائق القضايا الواقعة فى القرونالماضية، و قد تضمن الإشاوة إلى الخلافات و الآراء الفكرية الكلامية
ـــــــــــ
(1) يريد البيان الأول لجماعة النقريب.
(429)
بين الأمةالإسلامية، و أن هذه الخلافات لم تفقت عندها، بل شملت الفقة و الأحكام التشريعية، و أنها لم تكن فى هذه الناحية عنيفة، و إنما كانت تجرى فى هدوء و سكينة و وقار لا يسيطرعليها إلا العلم و الحجة و البرهان، و هكذا كانت ريح الفقه تجرى رخا حتّى نما وزكا و أينعت ثمراته، و لذلك استطاع الفقه الإسلامى أن يقف عالى الرأس عزيزاً كريماً.
ثمجاءت بعد ذلك طبقات من المقلدين و المتعصبين للمذاهب، كلت هممهم عن حمل ما كان يحمل سلفهم من العلم و النظر، و صادف ذلك عهود الضعف السياسي، و حكم أكثر المشتغلين بالفقهعلى أنفسهم و على جميع أهل العلم فى زمانهم بأنهم ليسوا أهل للنظر و الاستنباط، ولا لفهم كتاب الله و سنة رسوله، و من ثم حكموا بإغلاق باب الاجتهاد، و ترتب على ذلك أن وقفالفقه و جمد، و أن تعصب كل منهم لرأى إمام و زعم أنه الحق و أن ما سواه باطل و أسرفوا فى ذلك إسرافاً بعيداً، تم حصروا الأئمة الذين أوجبوا اتباعهم فى عدد معين، و هكذا ضاقأفق الأتباع و الأشياع عما اتسع له أفق المتبوعين، و ضاقت بهم دائرة الفقه الإسلامي، و ركدت ريحه و صوح نباته.
ولكن إخواننا قد استطاعوا فى العهد الحاضر أن يتخلصواإلى حد بعيد من آثار هذه العصبيات التى تنكرها الشريعة حتّى جاء صريحاً فى صحيفة (91):
و لعلهم يشهدون فى القريب العاجل إن شاء الله مذاهب إسلامية أخرى يدرس فقهها فىالأزهر كما يدرس فقه المذاهب الأربعة، و يومئذ يحق لهم أن يستوفوا جهات الفخر برجوع الفقة الإسلامى إلى مجده الأول يوم كانت الأراء المحتكة، و الحجج المتقابلة، و الأدلةو وجهات النظر، هى مادته و غذاءه و عمدته فى التنوير الفكرى و الوصول إلى الحق، لا قول فلان و لا رأى فلان.
و نتيجة هذا المقال لزوم انفتاح باب الاجتهاد على مصراعيهقولا و عملاً لحاجة الأمة إلى رعاية مصالحها الدينية و الدنيوية فى كل عصر و زمان.
(430)
و طالعت فى العدد الثالث صحيفة (239) المقال الذى جادت به يراعة المجتهد الأكبرسماحة شيخنا الإمام آية الله كاشف الغطاء ـ متع الله المسلمين بوجوده و نفعنا بعلومه ـ عن الاجتهاد فى الشريعة بين السنة و الشيعة.
و قد صدع الإمام فى هذا المقالبالقول الصراح، و أتى بالحقائق الراهنة و الأسس العلمية المنطقية، و أشاد أطال الله بقاه بالمذهب الأسدّ الأقوى فى هذه المسألة، و هو لزوم انفتاح باب الاجتهاد علىمصراعيه قولا و عملاً، و أن ليس الاجتهاد لحاجة الناس إليه فحسب، و إنما هو أمر تقضى به الغريزة البشرية و طبيعة الشريعة نفسها، و أن الاجتهاد لا بد من فى الشريعة فى كلعصر و زمان، و لا بد لكل من لم يصل إلى تلك المرتبة الشامخة و لم تحصل له هذه الملكة القدسية أن يقلد فى الأحكام الفرعية مجتهداً حياً جامعاً لشرائط الفتوي، و هذا معنىالاجتهاد عند الشيعه الامامية، و يعد اليوم من مفاخرهم بين الامه الإسلاميه.
و كم لأستاذنا الإمام من نظائر هذه المقالات و البحوث القيمة و التآليف و التصانيفالثمينة المنتشرة فى المدن و البلاد الفسيحة الأرجاء.
ثم طالعت مقالا قيماً فى العدد الرابع من بحوث الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الجامع الأزهرالأسبق ـ رحمة الله ـ حول الموضوع، و قد جاء فيه فى صحيفة (351).
(و انى مع احترامى لرأى القاثلين باستحالة الاجتهاد أخالفهم فى رأيهم، و ذقول أن بين علماء المعاهدالدينية فى مصر من توفرت فيهم شروط الاجتهاد، و يحرم عليهم التقليد).
و فى صحيفة (352) عند الكلام فى تجزؤ الاجتهاد و عدمه (المكلف إذا حصلت له أهلية الاجتهاد بتمامها فىمسألة من المسائل، فان اجتهد فيها و أداه اجتهاده إلى حكم فيها، فقد اتفق الكل على أنه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين فى خلاف ما أوجبه ظنه، و إن لم يكن قد اجتهد، فقداختلفوا فيه، و المعتمد أن يقال أن القول
(431)
بجواز التقليد حكم شرعى لا بدله من دليل و الأصل عدم ذلك الدليل فمن ادعاه، فعليه البيان).
و فى صحيفة (352) (ولوالتزم مذهباً معيناً، فقيل يلزم، و قيل لا، و هو الأصح، لأن التزامه غير ملزم، إذلا واجب إلا ما أوجبه الله و رسوله، و لم يوجب الله و رسوله على أحد من الناس أن يتمذهببمذهب رجل من الأئمة فيقلده فى دينه فى كل ما يأتى و يذر دون غيره، و قد انطوت القرون الفاضلة على عدم القول بذلك).
و فى آخر هذا المقال صحيفة (357) (والخلاصة أنه يجوزتقليد عير الأئمة الأربعة متى صحّ النقل عنهم، و فهم مرادهم، و سنثبت فى فصل آخر امكان صخة النقل عن غير الأئمة الأربعة).
و قرأت فى العدد الثالث حيفة (317) كلاماً يفصحعن غرص جماعة التقريب (أنهما ترحب بالخلاف الفقهى المنبى على النظر فى الأدلة، و رعاية المصالح العامة للمسلمين التى اعترفت الشريعة بها، و لا تبغى إلغاء المذاهب الفقيةو لا توحيدها)
و الظاهر أن المقصد الأسنى من نشر المقال من بحوث الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، هوالاعتراف بأن علماء السنة أيضا، يعترفون اليوم بانفتاح باب الاجتهادعندهم كانفتاحه عند الشيعة الإمامية، و لكن من ينعم النظر فى هذا البحث القيم، يرى أن نتيحته هو انفتاح باب الاجتهاد بمصراع واحد، و هو القول لاتفتاحه قولا لا عملاً، و أنالمرجع فى مقام العمل، هو التقليد عن أحد المذاهب الأربعة أو غيرهم، إذا صحيحين النقل عنهم، و فهم مرادهم، كما جاء فى آخر هذا البحث (أنه يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة،متى صح النقل عنهم، و فهم مرادهم).
ليت شعرى إذا عترفوا بانفتاح باب الاجتهاد على مصراعيه، و صحة تقليد المكلف عن المجتهد الحى فى كل زمان، و لزومه فى كل أوان، فأىقيمة لصحة النقل عن غير الأئمة الأربعه، أو عنهم، و عدمها، و ما معنى هذا الكلام، و كيف يجوز تقليد المجتهد الذى مات فى الزمن الغابر؟ سواء أصح النقل عنه، أملا، و ليسفائدة
(432)
النقل سوى الاطلاع على أقوال الفقهاء الماضين فى المسائل الفرعية، فإنه لا دليل على جواز تقليد المجتهد الميت أصلا، خصوصاً ابتداءً، كالبالغ يريدالتقليد و قد نقلوا (أن القول بجواز التقليد حكم شرعي، لابدله من دليل، و الأصل عدم ذلك الدلي) و أما الاجماع فهو قائم على جواز تقليد المجتهد، و القدر المتقّين منه، هوالمجتهد الحى الجامع لشرائط الفتوى لأن الأجماع دليل لبّى يؤخذ بالمتقين منه، و أما المجتهد الميْت، فلا دليل على جواز تقليده، فعلى مدعى الجواز البيان.
و نرى بوناًشاسعاً بين هذا المقال، و قول بيان التقريب فى العدد الأول و لعنا نشهد فى القريب العاجل إن شاءالله، مذاهب إسلامية أخري، يدرس فقهها فى الأزهر، كما يدرس فقه المذاهبالأربعة، و يومئذ يحق لنا أن نستوفى جهات الفخر ـ إلى أن يقول ـ و الوصول إلى الحق، لاقول فلان، و لا رأى فلان)؟.
فإنا نرى فى العدد الذى أوعزنا إلى محله، و نقلناعبارته، اعرافاً بجواز الأخذ بقول فلان، و رأى فلان، متى صح النقل عنهم، و فهم مرادهم، فكيف التوفيق بين الكلامين.؟
و رأينا أن المجلة فى العدد الثالث، اعترفت بأنهاترحب بالخلاف الفقهي، المنبى على النظر فى الأدلة، و رعاية المصالح العامة للمسلمين، التى اعترفت الشريعة بها، و قد تستفيد الأفكار و الأنظار من هذه الجمل الاعترافبانفتاح باب الاجتهاد، فإن من الواضح، أن الاجتهاد هو النظر إلى الأدلة الشرعيه من الكتاب و السنة، و استخراج حكم الله، و فهمه منها على حسب القواعد المسلمة، مع رعايةالمصالح العامة للمسلمين دون رعايه الأقوال و الآراء الصادرة عن الأفواه الدائرة سواء و افق ما استنبطه من الحكم لأحد المذاهب الفقية، أو خالقها، و هذا هو الترحيببالخلاف الفقهي، و التوسع فى دائرة الاستنباط، ولكن ينافي، بل يناقض هذا المقال ما يذكر متصلابه (ولا تبغى إلغاء المذاهب الفقهية و لا توحيدها)
لا أدرى كيف أنها بعدالترحيب بالخلاف الفهي، و التوسع فى الاستنباط و الاستدلال،
(433)
و الاعتراف بالنفتاح باب الاجتهاد ـ كيف أنها ال تبغى إلغاء المذاهب، فإن الاجتهاد، و فهم حكمالله تعالى عن الأدله الشرعيه يوجب إلغاء المجتهد، أى مذهب فرض من المذاهب الفقهية، إن لم يوافق ما استنبطه مع أحدها و له أن يفتى لمقليديه على حسب ما فهمه، فإن المجتهدإذا نظر بحسب ملكته العلمية الاجتهادية، و عقله المستقيم، و ذوقه السلي، مراعياً القواعد المسلمة الشرعية، و بذل وسعه فى تحصيل الأحكام و الواقعية الثابتة فى كل واقعة،و استنباطها من مظلانها من الكتاب و السنة، فكل مايخالفه من المذاهب الفقهية بالطل عنده، و له التمسل من الكتاب و السنة، فكل ما يخالفه من المذاهب الفقهية باطل عنده، ولهالتمسل والاتباع لالأدلة و البراهين الدينية، فإن الديليل هو امتبع، دو أى مذهب فقهى حتّى أن المتبع عند المجتهد فى صورة موافقة ما استنبطه من الحكم مع أحد المذاهبالفقهية، هو مافهمه من الدليل، و أدْى ظنه منه دون قول فلان، و لا رأى فلان.
و فى صورة المخالفة يسيتحيل فى حقه القطع و الاذعان، أو الظن و الاطمئنان لقول من يخاله، والعمل على رأيه، فإن الإنسان إذا فهم شيئاً، و قطع به، أو طن أنه حكم الله تعالى فى حقه و حقه مقلديه، و اعتقد كونه صواباً بينه و بين الله تعالي، و أنه حكم الله الواقعي،الذى بذل الوسع فى تحصيله، يستحيل أن يذعن و يقطع، أو يظن على خلافه و يذهب على ضد ما فهمه أصا، فان سد باب الفهم محال بالضرورة من العقل، اللهم إلا أن يتبدل رأى المجتهد فىفهم حكم الله تعلى بحسب الجتهاده، و استنباط نفسه.
رسالة الاسلام
يرجع ما لاحظه سماحة الأستاذ إلى أن فيما نشرته «رسالة الإسلام» تناقضا فى موضعين:
أولها: اجمعبين القول بانفتاح باب الجتهاد، و القول بجواز الأخذ بقول فلان، و رأى فلان، متى صح النقل.
الثاني: ترحيب «جماعة التقريب» بالخلاف الفقهى المنبى على النظرو الاستدالمع تصريحا بأنها لا بتغى إلغاء المذهب الفقهية ولا توحيدها.
و جوابنا عن الموضع الأول أن فضيلة المغفور له الأستاذ الاكبر الشيخ المراغى بصدد مقامين أحدهما: بيانانفتاح باب الاجتهاد، و قد جادل عنه و أيده بالبرهان الصحيح، و الثاني: مناقشة معارضية فيما زعموه من أن النقل عن غير الأئمة الأربعة لم يصح، و أن ذلك من أسباب حضر التقليدفيهم لمن لم يبلغ درجة الجتهاد، فالأستاذ الأكبريبطل زعمهم فى هذا، و قرر أنه قد صح النقل عن غير الاربعة كما صح عن الأربعة، و أنه متى صح النقل فلا خصوصية للأربعة فى جوازتقليدهم ـ آى لمن لم يللغ درجة الجتهاد ـ و بهذا بتبين أنه لا تناقض بين انفتاح باب الاجتهاد، فى حق من كمل استعداده، و وازه تقليد أى إمام و راء الأربعة فى حق غير المجتهدمتى صحى النقل عن هذه الإمام.
وجوابنا عن الموضع الثانى أن فتح باب الاجتهاد، و الترحيب بالخلاف الفهى المبنى عى النظر و الستنباط ليس معنا هدم ما لدينا من تراث فهىجادت لنا به عقول أئمتنا.
و الأستاذ لايزم أن المجتهد فى أى عصر من العصور مستغن عن معرفة ماقيل فى لامسائل التى يجتهد فيها، و عن النظ فى أدلة المجتهدين قبله. و ليس منشرط الاجتهاد أن يغلق المجتهد نفسه على نفسه، فلا يسمح لفكره أن ينظر فيما رآه غيره كلاً، إنما الذى يجب عليه ـ كما يوافقنا الأستاذ ـ أن يعمل فكره، و يفرغ وسعه ليصل إلىالحق، دون تقصير، أو تأثر إلا بالدليل، فإذا صادفه دليل استدل به غيره و انقدح فى نفسه فقد قرب الله عليه السقة، و يسر له السبيل.
ولو كان الاجتهاد يقتضى التخلص منآراء المجتهدين و الغاء مذاهبهم لما بقى لنا فقه، ولا امتد حبل النظر فى اتصال بين الأولين و الآخرين.
أما اشتراط الحياة فيمن يقلده العامة أو عدم اشتراطها، فهذاموضوع آخرلم يتطرق اليه الكلام، و لم يقصد بالبحث فيما نشرته «رسالة الإسلام».