اشراقة مغربیة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

اشراقة مغربیة - نسخه متنی

محمد الطاهر ابن عاشور

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

وهو محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن محمد بنمحمد الشاذلي بن عبد القادر بن محمد بن عاشور، وأمه فاطمة بنت الشيخ الوزير محمد العزيز بن محمد الحبيب بن محمد الطيب بن محمد بن محمد بوعتور. وفي عناية والده الشيخ محمدابن عاشور رئيس جمعية الأوقاف، وفي كنف جدّه للأم الشيخ الوزير محمد العزيز بوعتور، نشأ مترجمنا نشأته المميّزة على أكمل الصفات الدينية، وأفضل المناهج التربوية، وخيرالقيم والمبادئ الأخلاقيةالتي توافرت جميعها في هذه البيئة الأصيلة الراقية العلمية، حيثما كان مع أبيه وجده بتونس أو منوبة أو المرسى.

وتعزيزاً لعناصر تكوينهالأسري، وحسنَ إعداد له للمشاركة في الميدان الذي ينتظره، أقبل الفتى من السنة السادسة من عمره على مسجد سيدي أبي حديد المجاور لبيتهم بنهج الباشا بتونس. فحفظ به القرآنالكريم ورتّله على الشيخ المقرئ محمد الخياري، وحفظ مجموعة من المتون العلمية كابن عاشر، والرسالة، والقطر، ونحوها مما كان يُعنى المؤدبون بتلقينه لتلامذتهم الصغار.ودرس في نفس المسجد شرح الشيخ خالد الأزهري على الأجرومية (1).

التحاقه بالجامع الأعظم

وفي سنة 1310/1893 إلتحق الشاب محمد الطاهر ابن عاشور بجامعالزيتونة لطلب العلم. وكانت المواد التي تدرّس بهذا المعهد الديني متنوّعة بين مقاصد ووسائل. وعلى هذا الأساس درس علوم النحو، والصرف، والبلاغة، والمنطق من جهة، وعلومالمقاصد كتفسير القرآن، والقراءات، والحديث ومصطلح الحديث، والكلام وأصول الفقه، والفقه والفرائض من جهة ثانية.

كان دفتر دروس الطالب محمد الطاهر ابن عاشورمؤرخاً 18 شعبان 1310، ورقمه 3036، وعدد صفحاته 44 من مائة. وبعناية كريمة من الشيخ سيدي

(221)

عمر ابن الشيخ كان توجيه الطالب أثناء دراسته بهذا المعهد وتعيينالشيوخ له. ومَن مثله يقدّم النصح ويحسن الاختيار - وهو من درّس بالجامع الأعظم نحو ستين عاماً. فكان الرُّحلة وممن ألحق الأحفاد بالأجداد في حلقات دروسه - وكانت المادةالواحدة أو الكتاب الواحد يوزّع تدريسه على عدد من الشيوخ، إما لأهميته أو لطولـه، حرصاً على ختمه، كما كان من خصال أولئك الشيوخ مشاركتهم في العلوم، وإحاطتهم بما وضعفيها من كتب ومصنفات.

وقد تخرج الشيخ على يد كبار علماء النحو والبلاغة والقرآن والمنطق والاصول والفقه و..

شيوخه

تخرّج محمد الطاهر ابنعاشور على الشيخ عبدالقادر التميمي في تجويد القرآن وعلم القراءات، وبخاصة في رواية قالون.

وعلى الشيخ محمد النَّخْلي. درس عليه من كتب علوم الوسائل القطر،والمكودي على الخلاصة، ومقدمة الإعراب في النحو، ومختصر السعد في البلاغة، والتهذيب في المنطق. وتخرّج به في أصول الفقه بدراسة الحطاب على الورقات، والتنقيح للقرافي،وفي الفقه المالكي بكتاب ميارة على المرشد، وكفاية الطالب على الرسالة.

وقرأ على الشيخ محمد صالح الشريف كتاب الشيخ خالد الأزهري، والقطر لابن هشام، والمكوديعلى الخلاصة في النحو. والسُلّم في المنطق، وفي علوم المقاصد: مختصر السعد على العقائد النسفية، والتاودي على التحفة في الفقه.

وعن الشيخ عمر ابن عاشور لاميةالأفعال وشروحها في الصرف، وتعليق الدماميني على المغني لابن هشام في النحو، ومختصر السعد في البلاغة، والدردير في الفقه، والدرة في الفرائض.

(222)

ودرسعلى الشيخ محمد النجار الشريف كتاب المكودي على الخلاصة في النحو، ومختصر السعد في البلاغة، والمواقف في علم الكلام، والبيقونيّة أو غرامي صحيح في مصطلح الحديث.

ـ وقرأ على الشيخ محمد طاهر جعفر شرح المحلِّي على جمع الجوامع في أصول الفقه، والشهاب الخفاجي على الشفاء للقاضي عياض في السيرة النبوية.

ـ وعلى الشيخ أحمدجمال الدين القطر في النحو، والدردير في الفقه.

ـ وعلى الشيخ محمد العربي الدُّرْعي كفاية الطالب على الرسالة في الفقه(2).

وهكذا ضم محمد الطاهر ابن عاشورإلى استظهاره لكتاب الله وحفظه لعدد من المتون العلمية المتعلقة بالوسائل والمقاصد، دراستَه الجادة بجامع الزيتونة، التي شهد شيوخه له - بتفوّقه ونبوغه فيها، وبقدرتهالفائقة على احتواء موضوعاتها وتعمّق أسرارها - سلجوا ذلك في دفتر شهاداته، كلٌّ في المادة التي درّسها له، وأفاد الطالب منه فيها (3).

تحفّي جدّه الوزير به

يمكن أن نضيف إلى هذا التكوين العالي ما برز فيه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور على أقرانه بتعلمه الفرنسية في ذلك العهد بمساعدة أستاذه الخاص السيد أحمد بن وَنّاسالمحمودي. وقد شملت هذا الطالب المتفوق حسنُ سياسة جدّه له، وإقباله عليه وكريم توجيهه. ومن مظاهر عناية الوزير الشيخ العزيز بحفيده تدوينه بخط يده لمجموع فريد جمع له بهعيون الأدب ونصوص الحِكَم وبدائع النظم والنثر. أراده اختيارات انتقاها له، كاختيارات أپي تمام أو البحتري، وهو أوسع من هاته وتلك، لِينهج نهج مبدعيها، ويحاكيهم فيمايروق له منه. ولم يقف اهتمام الوزير العلامة عند هذا الحد، بل فَتَحَ له خزانة كتبه، وكَتبَ له بيمينه - تشجيعاً له وحبّاً فيه - مصنفات في الحديث

(223)

والبلاغة مثل متن البخاري، وكتاب المفتاح للسكاكي، اللذَين مازالت تحتفظ بهما المكتبة العاشورية العامرة، شاهدة بفائق عناية جدّه به (4).

وإنك لتجد هذا الطالبالمُجِدّ مقبلاً إقبالاً شديداً على مطالعة أمهات الكتب، ومراجعة دواوين العلوم، مشتغلاً بالبحث في مختلف المسائل العلمية، اللغوية منها والشرعية، حتى صار ذلكدَيدَنَه كاملَ حياته.

حصوله على شهادة التطويع

ولا غرو إذا هو - بفضل هذا التكوين - قد تفوّق في امتحاناته ومناظراته، وفي حياته العلمية والوظيفيةبعد ذلك.

وأول هذه النجاحات الباهرة حصوله على شهادة التطويع في 4 ربيع الأول 1317/11 جويلية 1899.

دراسته العليا

وبعد حصوله على شهادة التطويععاد إلى حضور دروس شيخه محمد النخلي. قرأ عليه الوسطى في العقيدة، وكتاب المحلِّي على جمع الجوامع في أصول الفقه، والمطوّل في البلاغة، والأشموني في النحو. كان ذلك سنة 1318بتقييد الشيخ. كما حضر صحبة صديقه الشيخ محمد الخضر حسين درس الأستاذ الشيخ عمر ابن الشيخ في تفسير البيضاوي، ودرسَ الأستاذ الشيخ محمد النجار لكتاب المواقف، ودرسَ الشيخسالم لكتابَيْ البخاري والموطأ بشرحيهما. ومما لاحظه الشيخ الخضر حسين في زميله شدّةَ حرصه على العلم ودقّة نظره، متجليين في ملاحظاته وبحوثه.

وقد سجل صاحبالدفتر بخطه في صفحة 41 من دفتره أنه أفاد من شيخه الإمام سالم بوحاجب أدباً وعلماً، قائلاً: قرأت صحيح الإمام البخاري، رحمه الله ورضي عنه، على شيخنا وشيخ مشايخنا

(224)

العلامة النحرير سيدي سالم بوحاجب المفتي المالكي... بشرح شهاب الدين القسطلاني رحمه الله، قراءة تحقيق بجامع الزيتونة، وقرأت عليه من الموطأ (أجزاء) بشرحالشيخ الزرقاني قراءة تحقيق (5).

الإجازات العلمية

وكان من الطبيعي، بعد ملازمة هذا الإمام وصحبته، أن يتوّج ارتباطه به بنفحات من الإسناد زكيّة،وطرق من الرواية سنيّة. وذلك مادعا الشيخ الإمام سالم بوحاجب إلى أن يكتب له في نهاية دفتر بالإجازة الشريفة قائلاً في غضونها: أكتفي بالإجازة بأنواعها المبيّنة فيالأصول، لتأسيس المعارف على سند موصول.. مَنْ تعلّقت همّته بالمهم المذكور، وانتظمت رغبته منه في سلك السعي المشكور.. محرز قصب السبق في الميادين العرفانية بلا منازع،(مَن) أحرز شرفي العلم والنسب، واسترقّ الألباب كلما تكلّم أو كتب، مَن تتشرف ببنوّته منّي الروح، وبتهذيبه ينمحي النقص وتندمل الجروح، الشيخ المدرس سيدي الطاهر ابنالعمدة اللوذعي الماجد الزكي المهذب ، سيدي محمد بن الهمام النحرير من تقاصر العصر والمصر أن يأتيا له بنظير، كما يقصر القلم واللسان في الإعراب عن فضل شيخنا الشهير،سيدي محمد الطاهر ابن عاشور المفتي المالكي، بَرَّد الله ضريحه، وأسكنه من الفردوس فسيحه.

فبناء على ذلك أقول، مقتبساً إنارة طرف الإيجاب من طرف القبول: قد أجزتلابننا المذكور جميع محفوظاتي وملحوظاتي من معقول ومنقول، في فروع أو أصول، إجازةً تامة مطلقة عامة..

وأروي صحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري عنالعالم الفاضل المحدث الأديب أبي العباس الشيخ سيدي أحمد بن الطالب بن سودة، وهو عن شيخه مفتي الأنام وتاج الإسلام سيدي مصطفى بن محمد المالكي،

(225)

الجزائري المنشأ، الإسكندري الموطن، وهو عن شيخه العلاّمة مفتي الإسلام الشيخ علي بن عبدالقادر، شُهِر بابن الأمير المتوفى 1236، وهو عن شيخ المشايخ سيدي علي الصعيديالمتوفى 1185، وهو عن شيخه العلاّمة محمد عقيلة الكي، وهو عن الشيخ حسن بن علي العجيمي، وهو عن الشيخ أحمد بن محمد العَجِل اليميني، وهو عن الإمام يحيى بن مكرم الطبري، عنالشيخ برهان إبراهيم بن محمد بن صدّيق الدمشقي، عن الشيخ عبدالرحيم بن عبدالأول الفرغاني - وكان عمره مائة وأربعين سنة - وقرأ البخاري على أبي عبدالرحمن محمد بن شاذ بختالفرغاني، بسماعه لجميعه على الشيخ، أحد الأبدال، أبي لقمان يحيى بن عمار بن مقبل اهان الخَتْلاني - وكان عمره مائة وثلاثاً وأربعين سنة - وقد سمع جميعه عن محمد بن يوسف بنمطر بن صالح الفِرَبري، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري رحمه الله تعالى، وأفاض علينا من ينابيع علومه آمين. كتب هذه الإجازة سالم بوحاجب في الخامسوالعشرين من رمضان 1323 (6).

وممّن منحه فضيلة الإسناد وشرّفه بربط حلقات اتصاله العالي بأكرم جناب، جدّه الوزير الشيخ محمد العزيز بوعتور الذي أجازه بكل مروياتهسنة 1321/1904. أجازه بسنده الجامع بين صحيحي البخاري ومسلم، كليهما عن طريق واحد هو طريق الفِرَبري. وهو ماحدّث به الشيخ محمد العزيز بوعتور، عن الشيخ محمد صالح الرضوي، عنعمر بن عبدالكريم، عن الشيخ محمد صالح الرضوي، عن عمر بن عبدالكريم، عن محمد بن سنّة، عن أحمد بن موسى بن عجيل، عن قطب الدين محمد النهرواني، عن محمد بن عبدالله الطاوسي،عن الشيخ المعمّر بابا يوسف الهروي، عن محمد بن شاذ بخت الفرغاني، عن يحيى الخَتْلاني، عن الإمام محمد بن يوسف الفربري، عن أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، وعن أبيالحسين مسلم بن الحجاج

(226)

القشيري النيسابوري.

تذييل: وبهذا السند الأعزّ أروي عن الإمامين من طريق شيخي محمد الفاضل، عن أبيه الشيخ محمدالطاهر، عن جدّه محمد العزيز بوعتور (7).

إجازات أخرى

مثل: إجازة شيخ الإسلام محمود ابن الخوجة له.

وإجازة العالم النابغ سيدي عمر بن أحمد ابنالشيخ 1325/ 1908 (8).

ومن جميل عناية الله بي، وسابغ فضله عليّ، اتصالي بهذه الأسانيد كلها وبغيرها، في الخامس من رمضان 1366 بالمرسي، من طريق مقام والدي، أستاذي وشيخي،عميد الزيتونة ومفتي الجمهورية رحمه الله الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور طيّب الله ثراه وتغمّده بواسع رحمته (9).

تجربته في التدريس ونقده الذاتي لمنهجه فيه

بجمع الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بين علوم الرواية والدراية على أكمل وجه، وبتعَمُّقِه الفريد في علوم الوسائل وعلوم المقاصد على وجه شحذت به ملكاته الذهنية،وقدراته العلمية، ومداركه الذوقية اللسانية، وتصوراته الدقيقة للحقائق الشرعية، والآراء والأنظار المقصدية، عجِل - لا كما يعجل كل مُطَوَّع إلى حلقات التدريس من أجل أنينتسب إلى هذا الجامع انتساب المتعلم والمعلم - ولكن ليبدأ طريق الإفادة، ويتمكن بعد من تدريس أمهات الكتب , وأفانين العلوم، على منهج بديع، وأسلوب رفيع، كان يحدّث بهنفسه من وقت التحاقه بهذا المعهد، للأخذ عن أشياخه، ونيل مختلف المعارف والآداب منهم وعن طريقهم.

فكان وهو يتوجّه في اليوم الأول إلى حلقة درسه، ليقوم بدورهالمجيد في

(227)

تعليم الأجيال وتلقينها مقوّمات المعرفة، وحقائق العلم، وجميل الأخلاق، وكمال التربية، وحسن الاستعداد، والتضلّع بالطاقات والكفاءات،لمواجهة الحياة والوقوف أمام التحديات، ومسايرة التقدم والرقي، بالأخذ بأسباب النهضة والقوّة، يراجع نفسه ويتحسّر على مافاته بسبب ما مسّ التعليم الإسلامي من الوهنقائلاً: «وإنّي على يقين أنَّنِي لو أتيح لي في فجر الشباب التشبّع من قواعد نظام التعليم والتوجيه لاقتصدت كثيراً من مواهبي، ولاكتسبت جمّاً من المعرفة، ولسَلِمت منالتطوّح في طرائق، تَبيّنَ لي بعد حين الارتدادُ عنها. مع أني أشكر ما منحت به من إرشاد قيّم من الوالد والجَد ومن نصحاء الأساتذة. ولا غِنى عن الاستزادة من الخير (10).

ثم وهو في أول مراحل التدريس يعلّم طلابه مبادئ العربية وقواعد المنطق يشعر بالحيدة عن الحق، ويقوم مع الشيخ محمد الخضر حسين صديقه بنقد ذاتي، يستشعران به في دروسهماإضاعة الأوقات النفيسة عليهما، وعلى من وكل أمرهم إليهما بالتلقّي عنهما من الطلاب. فكتب الشيخ الخضر في رحلته الجزائرية مقالات صرّح فيها بأنّه كان ممّن ابتُلي في درسهباستجلاء المسائل المختلفة الفنون، متوكئاً على أدنى مناسبة، حتى أفضى الأمر إلى ألاّ يتجاوز في درسه شطر بيت من ألفية ابن مالك مثلاً. فتراجع قائلاً: ثم أدركت أنهاطريقة منحرفة المزاج عن الإنتاج (11).

وقال الشيخ ابن عاشور: وأنا عرَض لي مثل ذلك في تدريس المقدمة الآجُرُّومية. فكنت آتي في دروسي بتحقيقات من الشاطبي علىالألفية، وفي درس مقدمة إيساغوجي أجلب مسائل من النجاة لابن سينا. ثم لم ألبث أن أقلعت عن ذلك (12).

ويظهر أن الذي نبّههما إلى الترك بعد الإقدام ماكان عليه طلبتهممن سوء فهم، فإن عقولهم ومداركهم لم تمكّنهم من ذلك، كما أنهما ذَكَروا ما

(228)

يقتضيه إصلاح خير الدين، ونص عليه القانون في الباب الثاني، الفصول 7-22المتعلقة بالمنهج وبواجبات الأستاذ. ونص ذلك: «أن يضع المدرس نفسه في مستوى سامعيه، ويجعل لغته وتفسيره في متناول ذكائهم ودرجةتعلُّمهم»، إذ القصد تبليغ المعلومات إلىالطلاب وإفادتهم بها، لا الإغلاق على قلوبهم، والتعالي عليهم لإبهارهم، أو إظهار التنافس بينه وبين غيره من الأساتذة والمدرّسين.

وهكذا بعلم وافر غزير، وتطلّعإلى الإصلاح كبير، امتزجت حياة مترجَمنا رحمه الله في مراحل العمر كلها. وكانت وجوه تصرّفاته ومختلف نواحي أنشطته وأعماله متّسمة بالرصانة العلمية، والاستقلاليةالفكرية، والالتزام بأحكام الشريعة والدين، والبصر بآيات الله في الكون، والتفتّح على مايجري في أطراف العالم، وحبّ الخير للكافة، وبذل الجهد فيما ينفع الناس، وتدفّقالعطاء. نلمس ذلك كلّه في حياته العلمية والإدارية والقضائية، وفي إنتاجه المتنوِّع الغزير.

درجاته العلمية وعمله في التدريس

تقلّب الشيخ ابن عاشورفي مراتب التدريس. ففي سنة 1320/ 1903 نجح في مناظرة الطبقة الثانية وتولّى مهام التعليم بصفة رسميّة بالجامع الأعظم.

وبعدها انتدب للتدريس بالمدرسة الصادقية في عام1321/1904، وبقي بها 1321/ 1351 - 1904/1932 خلا فترة مباشرته للقضاء.

وفي سنة 1324/1905 شارك في مناظرة التدريس للطبقة الأولى بجامع الزيتونة. وكان درسه في تلك المناظرة في الفقه.وموضوعه: بيع الخيار (13).

وارتقت به همته العالية إلى العناية بجملة من الفنون، كان موفّقاً في الوقوف على دقائقها، مبرّزاً في استخلاص مقاصدها، متعاملاً معمصادرها

(229)

تعامل من تعدّدت مواهبه، واتسع أفقه الفكري. وكان قديراً، لا على الإحاطة بالمادة والكتاب بترديد ما علمه من ذلك فحسب، بل على النظروالمشاركة والنقد أيضاً لكل ما يقع تحت يده، وذلك بما خصّه الله تعالى به من سَعَة العارضة، وقوة الذاكرة، ودقة المقارنة والمناظرة بين مختلف المراجع والأقوال والآراءالعلمية.

درّس الشرح المطوّل للتفتازاني، وكتاب دلائل الإعجاز للجرجاني في البلاغة، وشرح المَحَلّي لجمع الجوامع للسبكي في أصول الفقه، ومقدمة ابن خلدون، وهيكما لا يخفى من أمهات الكتب في نقد التاريخ وأصول علم الاجتماع، وديوان الحماسة لأبي تمام . ودرّس أيضاً في الحديث موطأ الإمام مالك، وأقرأ تفسير البيضاوي بحاشية الشهاب(14).

وقد تخرّجتْ بشيخنا العلامة محمد الطاهر ابن عاشور أجيالٌ كثيرة، كانت تجلس إليه في حلقة درسه بالمسكبة الأخيرة من بيت الصلاة بجامع الزيتونة، وكان مقرّدروسه بين أبواب البلّور على مقربة من باب الشفا بجوار حلقة شيخه مقدَّم علماء الحنفية الشيخ محمد بن يوسف. فكانا رأس أئمة العلم بهذا المعهد، يحتشد الطلاب في حلقتيهما،يجلسون أسماطاً على شكل بيضوي دائري حول شيخهما.

ويكون من بينهم الشيوخ المدرسون، والمتطوِّعون، وكبار الطلاب الذين يستعدون للمشاركة في امتحانات التطويع أوالتدريس.

الوظائف الإدارية

تمرّس رحمه الله، إلى جانب ذلك، بالأعمال الإدارية والوظائف الشرعية، التي أهّلته لها مواهبه الفائقة العالية، كما شاركفي المؤسسات العلمية والثقافية، وأسهم في إدارتها وتنشيطها بعزم وهمّة.

(230)

عيّن عضواً بمجلس إدارة الجمعية الخلدونية سنة 1323/1905.

وحصل على خطّةالعدالة في نفس التاريخ، وإن لم يباشرها فعلاً.

ولعنايته الفائقة بالكتب والمخطوطات شارك في اللجنة المكلّفة بوضع فهرست للمكتبة الصادقية، بوصفه عضواً، في محرم1323/فبراير 1905.

ـ وسمي نائب الدولة لدى النظارة العلمية سنة 1325/1907.

ـ وعضواً في لجنة تنقيح برامج التعليم سنة 1326/1908. وكَتَبَ تقريراً عن حالة التعليم،واقترح إيجاد تعليم ابتدائي إسلامي في مدن القيروان وسوسة وصفاقس وتوزر وقفصة.

ـ كما عيّن عضواً بمجلس المدارس، وبمجلس إدارة المدرسة الصادقية سنة 1326/1909.

ـ ثم ترأس لجنة فهرسة المكتبة الصادقية ابتداءً من ربيع الأنوار 1327/ مارس 1910.

ـ والتحق بعد ذلك بمجلس إصلاح التعليم الثاني بجامع الزيتونة، فكان عضواً به سنة1328/1910.

ـ وفي السنة الموالية عيّن عضواً بمجلس الأوقاف الأعلى سنة 1328/1911.

ـ فعضواً في مجلس الإصلاح الرابع سنة 1348/1930.

ـ وبحكم وظيفته الشرعية،عُيِّن عضواً في النظارة العلمية وقاضياً أو كبير أهل الشورى في المجلس الشرعي.

ـ ثم شيخاً للجامع الأعظم سنة 1351/1932 - 1933 (15).

ـ وعاد إلى مباشرة مهامه علىرأس مشيخة الجامع الأعظم سنة 1365/1945-1372/1952.

ـ وبـإثر استقلال البلاد عيّن عميداً للجامعة الزيتونية سنة 1375/ 1956-1380/1960.

(231)

الوظائف القضائية الشرعية

كانت تمتزج بهذه المهام الإدارية والإصلاحية وظائفه السامية الشرعية.

ـ اختير حاكماً بالمجلس المختلط العقاري سنة 1328/1911.

ـ عيّن قاضياً مالكياًبالمجلس الشرعي سنة 1332 - 1342/1913- 1923.

ـ عيّن مفتياً في رجب 1341/ مارس 1923.

ـ عيّن مفتياً ثانياً مكلَّفاً بخطة باش مفتي سنة 1342/1924.

ـ وارتقى بعدها إلىخطة كبير أهل الشورى سنة 1346/ 1927.

ـ فشيخ الإسلام المالكي سنة 1351/1932 (16).

ـ باشر هذه المهام كلها بحكمة وجِدٍّ وحزم.

وقد انتخب عضواً بالمجمعين: مجمعاللغة العربية بالقاهرة سنة 1950، والمجمع العلمي العربيي بدمشق سنة 1955. وكانت له كتابات وتحريرات في مجلتيهما، وبغيرهما من المجلات العلمية بالشرق، كالموسوعة الفقهيةبالكويت، التي كان يصدرها الشيخ مصطفى الزرقاء، ومجلة الهداية الإسلامية بالقاهرة، وعدد من الصحف والمجلات الأخرى بالشرق كالمنار، وبتونس كالسعادة العظمى.

وقدتزوج سلسلة المجد والشرف ابنة نقيب الأشراف بتونس سيد محمد محسن. وكان له ثلاثة بنين، هم العلاّمة البحر محمد الفاضل ابن عاشور، والسيدان الجليلان عبدالملك، وزينالعابدين رحمهم الله، وبنتان. وكانت وفاته بالمرسي عن 94 سنة يوم الأحد 13 رجب 1394/12 أغسطس 1973. ووري رحمه الله التراب في مقبرة الزلاج من مدينة تونس.

مكانتهالعلمية وثناء العلماء عليه

فمما نعته به صديقه الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع

(232)

الأزهر قولـه: «وللأستاذ فصاحة منطق،وبراعة بيان. ويضيف إلى غزارة العلم وقوّة النظر، صفاءَ الذوق، وسعة الاطلاع في آداب اللغة... كنت أرى فيه لساناً لهجته الصدق، وسريرة نقيّة من كل خاطر سيِّئ، وهمّةطمّاحة إلى المعالي، وجِداً في العمل لا يَمَسه كلل، ومحافظة على واجبات الدين وآدابه... وبالإجمال ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته فيالعلم» (17).

وذكره العلاّمة الشيخ العالم اللغوي الأديب محمد البشير الإبراهيمي قائلاً: «عَلَم من الأعلام الذين يعدّهم التاريخ الحاضر من ذخائره. فهو إماممتبحِّر في العلوم الإسلامية، مستقلّ في الاستدلال، واسع الثراء من كنوزها، فسيح الذرع بتحمّلها، نافذ البصيرة في معقولها، وافر الاطلاع على المنقول منها. أقرأ وافاد،وتخرّجت عليه طبقات ممتازة في التحقيق العلمي.

وهذه لمحات دالَّة في الجملة على منزلته العلمية، وخلاصتها أنه إمام في العلميات لا ينازع في إمامته أحد.

وأما عن دوره الإصلاحي المتميز فقد ذكر «أن الذين يثيرون في وجهه الغبار، أو يضعون في وجهته العواثير لمجرمون، وإنا إن شاء الله للأستاذ الأكبر في طريقه الإصلاحيلمؤيدون وناصرون» (18).

ودرس العلماء والمفكرون كُتب الإمام وآثاره، وتأثروا بها أيما تأثر، فقال عنه الداعية المصلح الشيخ محمد الغزالي: هو رجل القرآن الكريم،وإمام الثقافية الإسلامية المعاصرة... الرجل بدأ يتكلم عن اللغة، ويتكلم بها أديباً.. أقرأ كلماته في التحرير والتنوير فأستغرب لأنه وطأ كلمات مستغربة وجعلها مألوفة،وحرر الجملة العربية من بعض الخبات الذي أصابها في أيام انحدار الأدب في عصوره الأخيرة. ولكن الرجل لم يلق حظه... ابن عاشور لا يمثل صورة من اللحم والدم، إنما يمثل تراثاًأدبياً علمياً عقائدياً أخلاقياً (19).

(233)

وتحدث الأستاذ الدكتور مصطفى زيد عنه بعد سبع سنين من اصداره الطبعة الأولى من كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية،معجَباً بتصرفاته وطريقته في الحديث عن المصلحة قائلاً: وتمضي الأعوام فلا نرى في المصلحة كلاماً ذا وزن حتى خرج علينا شيخ جامع الزيتونة السيد محمد الطاهر ابن عاشوربكتابه المقاصد (20).

وعن الكتاب نفسه يقول الأستاذ الدكتور البوطي: من أهم ما يمتاز به هذا الكتاب فيما أعتقد، أنه أول مؤلف يعالج موضوعاً من أبرز وأهم الموضوعاتفي أصول الفقه، ألا وهو مقاصد الشريعة الإسلامية، ويفرده بالبحث والتحليل... لا ريب أن صنيع العلامة المرحوم ابن عاشور يعد تأسيساً كبيراً لذاتية هذا العلم ورسماً لإطارهالذي ميزه عن غيره (21).

أما الأستاذ الدكتور سعيد الأفغاني فقد كتب عنه قائلاً: هو خطوة سديدة نحو إنشاء علم أصول الأصول في الفقه (22).

وقفى على هؤلاءالأستاذ الدكتور عبدالمجيد النجار الذي وصف كتاب المقاصد بأنه تطوير وتهذيب (23).

ودعا البحثُ في مقاصد الشريعة والنظر في جملة مما كتب عنها إلى الانتهاء إلىمقالة الأستاذ الدكتور إسماعيل الحسني في مقارنته بين مقاصد الشاطبي في الموافقات ومقاصد الشريعة الإسلامية عند الإمام الأكبر. قال: فقد اعتقدت أنه لم يعد هناك مجالللبحث في مقاصد الشريعة كبحث متميز في علم الأصول لأن الإمام الشاطبي لم يترك جانباً من جوانبه إلا استوفاه وأتقنه. واستقر في ذهني بسبب ذلك أن البحث في المقاصد لن يتجاوزتوضيح ما سطره رُواد الفكر المقاصدي من الأصوليين وخاصة الشاطبي... إلا أني ازددت شكاً في هذا التصور كلما أمعنت في دراسة فكرة المقاصد الشرعية عند الإمام محمد الطاهر ابنعاشور من خلال أهم مؤلفاته.. واقتنعت اقتناعاً كاملاً بأني

(234)

إزاء نظرية في المقاصد الشرعية بعدما تردد أصولها إلى تراث المقاصد، تعمل أيضاً علىمراجعته وتكميله (24).

ومما يمكن أن نفسر به حياة العلم والجد التي لازمها طول حياته ننقل عن الإمام الأكبر قوله عن نفسه: «إن مزية العلم وشرفَ الانتساب إليه، أمربلغ من اليقين والضرورة مبلغاً يقصر عنه البيان، وينقص قدره محاولةُ إقامة البرهان، بعد أن توجه الله تعالى به إلى نبيه الكريم، وهو الذي علّمه مالم يكن يعلم، وزكّاهبأنه على خُلُق عظيم، وعلى صراط مستقيم، فقال: (وَقُل رَّبِّ زدني علما) قولاً جعل طَلَبَ العِلْم، والحرصَ عليه، والاستزادةَ منه، أعظمَ مطلوب لأشرف موجود. وبذلك كانالعلم تاجَ نبوَّته، وشعارَ ملّته.

وإني أحمد الله على أن أودع فيَّ محبةَ العلم، والتوقَ إلى تحصيله وتحريره، والأنسَ بدراسته ومطالعته، سجيةٌ فُطرت عليها،فخالطت شغاف قلبي، وملأت مهجتي ولُبّي، وغرزت فيّ غريزة نمّتها التربية القومية التي أخذني بها مشايخي طيب الله ثراهم، وطهر ذكراهم، ممن جمع أبوّة النسب وأبوّة الروح،أو ممَّن اختصّ بالأبوة الروحية وحدها` حتى أصبحتُ لا أتعلَّقُ بشيء من المناصب والمراتب، تعلُّقي بطلب العلم، ولا آنسُ برفقةٍ ولا حديث أنْسِيَ بمسامرة الأساتيذوالإخوان في دقائق العلم ورقائق الأدب، ولا حبِّب إليّ شيء ما حُبّبت إليّ الخلوة إلى الكتاب والقرطاس، متنكّباً كل ما يجري حولي من المشاغل. فلا تكاليف الحياة الخاصة،ولا أعباء الأمانات العامة التي حُمّلتها فاحتملتها، في القضاء وإدارة التعليم، حالت بيني وبين أنسي في دروس تضيء منها بروق البحث الذكي، والفهم الصائب بيني وبينأبنائي من الطلبة الذين ماكانوا إلا قرَّة عين وعُدَّة فخر، ومنهم اليوم علماء بارزون، أو في مطالعات وتحارير أخلص فيها نجيّاً إلى الماضين من العلماء والأدباء، الذينخلفوا لنا في آثارهم الجليلة ميادين فسيحة ركضنا فيها بالأفهام والأقلام، ومرامي بعيدة سدّدنا

(235)

إليها صائب السهام.

فالحمد لله الذي بوّأنا،بين الماضين من أسلافنا والآتين من أخلافنا، منزلة مَن تلقّى الأمانة فأدّاها، وأوتي النعمة فشكرها ووفّاها» (25).

صدمة الاحتلال

في خلال الفترةالتي تقدّمت انتصاب نظام الحماية الفرنسية بالبلاد التونسية، وتقاطُرِ الأوروبيين وخاصة الفرنسيين منهم على تونس العاصمة، واتخاذهم حيّاً متميزاً بها عمراناً ونضارةًوبهجة حياة، بدا الفارق العظيم والبون الشاسع بين بؤس الحياة الأهلية، ونعمة الحياة الأوروبية التي لم يستطع اللحاق بها إلا كبار الموسرين وعظماء الحكام.

وظهرالأطباء والصيادلة والمهندسون الغربيون بمظاهر تفوّقهم في العلوم الطبيعية، وسبقهم في ميدان الحياة العملية. وفاضت على البلاد الثروات الأجنبية، بسعة معاملاتهاوقوانينها الغربية المغرية. وبدأ نظام الدولة في الإدارة والقضاء يتطوّر بالاقتباس من الأساليب الغربية، وترك ما كان سائداً من الأحكام الشرعية والتقاليد القومية (26).

يقظة الشعب

هنا توقّف الشعب والعلماء والحكام جميعاً، وأصابتهم هزة الاحتلال، وتملّكتهم الحيرة، واتجهوا جميعاً إلى تدارك الأمر، كلٌّ على شاكلته،وبالوجه الذي يراه ويختاره. فصرفوا عنايتهم إلى شتى المجالات يرعونها، ويبذلون الجهد لإصلاحها. وامتدت أيديهم إلى المدرسة الأم، المعهد الديني، جامع الزيتونة الذيأصابه الشلل، وأصبح غير قادر على تهيئة الخريجين لمواكبة التطوّرات الجديدة التي شملت كل جوانب الحياة، ولا على التقدّم بخطى

(236)

دقيقة وموزونة للخروجبالبلاد من التخلّف، ولا على الصمود كثيراً أمام الاتجاهات الخطيرة.

وكان حتماً أن يحرِّك الإصلاحُ مشاعرَ الراشدين فيزيلون الفساد ويقضون على أسبابه في كلمجالات الحياة. فالإصلاح عند أهل اللغة هو إزالة الفساد أينما ظهر. وقد يتجاوز الإصلاح إلى التجديد والتطوير وجعل اللغويون وعلماء الاجتماع لمصطلح الإصلاح فرعين: أحدهمايتعلق بالفرد، وثانيهما بالأمة. وفصّل الشيخ ابن عاشور المصطلح بنوعيه الخاص والعام في كتابه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام. واستُعمل الإصلاح مضافاً إلى أشياء كثيرةكإصلاح البناء وإصلاح الماء، ماء الشراب، وإصلاح العيش. ومن هذه الدلالة العامة جاء الإصلاح الاجتماعي. وهو ما تقدمت الإشارة إليه، والإصلاح الاقتصادي والمالي والسياسيوإصلاح التربية والتعليم.

وقد تحركت مختلف الطبقات والعناصر لإصلاح التعليم الزيتوني. وهذا ما حدا بخير الدين إلى تكوين لجنة لتنظيم الدروس بجامع الزيتونة،والنظر في شؤون الشيوخ والطلبة من جهة، كما قام بتأسيس المدرسة الصادقيةمن جهة ثانية في 4 ذي الحجة 1291/13 يناير 1875. وعلى إثره سعى روّاد الإصلاح من حولـه إلى تأسيس الجمعيةالخلدونية سنة 1314/1897. وقامت حركة الشباب التونسي بالعمل على إنشاء وتطوير الحركة الطالبية الزيتونية (27).

ترتيبات خير الدين

كان عمل خير الدين في هذاالمجال متأثراً بالمنهج الذي دعا إليه في كتابه أقوم المسالك. نزع فيه منزع الرصانة والتجديد: الأصالة والتفتح. وكان من نتائج همّة هذا الوزير، بعد سنة من إنشائه للجنةالإصلاح الزيتوني التي تولّى رئاستها بنفسه، فراغ هذه اللجنة من عملها في ذي القعدة 1292/

(237)

جويلية 1875.

وقد ضَمَّت لجنةُ تنظيمٍ التعليمٍ ووضعالقوانين للزيتونة، إلى جانب الوزير خير الدين رئيساً، عدداً من أنصار دعوته من أهل العلم ورجال الحكومة، فكانت تتركب من الشيخ محمد العزيز بوعتور وزير القلم، والشيخأحمد ابن الخوجه المفتي الحنفي، والشيخ محمد الطاهر النيفر القاضي المالكي، والشيخ عمر ابن الشيخ مدرس، والشيخ محمد بيرم مدرس، والسيدالعربي زروق.

ودخل الأمرحَيِّز التطبيق بعد ستة أشهر من التاريخ المذكور. ويتكوّن قانون تنظيم الزيتونة من خمسة أبواب، تشمل سبعة وستين فصلاً:

الباب الأول: يُعنى بالدراسات والكتبالواجب دراستها: ص 1-6.

الباب الثاني:يضبط واجبات المدرّسين، ويحدّد حصة الدرس بينهم بساعة ونصف الساعة: ص 7 - 11.

الباب الثالث: ينظم شؤون الطلاب، ويقتضيمنهم أن يكونوا مصطحبين لدفاتر الشهادات التي يسجل بها حضورهم الدروس، ونتائج امتحاناتهم . وهي الوثيقة المعتدّ بها لإعفائهم من ضريبة المجبى، ومن الخدمة العسكرية: ص12-32، كما يلزمهم النظام الحزم وحسن السلوك ومراعاة حرمة المعهد.

الباب الرابع: يحدِّد طرق مراقبة العمل وسير الدروس بالجامع، وأحوال الطلبة وسلوكهم. وقد عهد بذلكإلى هيئة أسسها القانون، هي هيئة النظارة العلمية: ص 33 - 53. وجعل الامتحان سنوياً يبدأ في 13 يونيو من كل سنة بمقر الحكومة بدار الباي، بحضور موظف حكومي.

البابالخامس: مخصص لشؤون المكتبة وترتيبها وسير العمل بها.

ثم صدر بعد هذا الأمر أمر جديد بعد شهر واحد من صدور الأمر الأول. وهو يكِل مهمة تطبيق ماجاءت به الترتيباتإلى أمير الأمراء حسين وزير التعليم العمومي (28).

(238)

ويمتاز ترتيب خير الدين بأنه أكثر من عَدَدِ العلوم التي تدرس بالجامع الأعظم، وحدّد كيفية ابتداءتعليم التلميذ، والعلوم التي يتلقاها أولاً، ومراتب التدريس للكتب، وشهادات الحضور، والسيرة، وترتيب التعليم من حفظ وفهم، كما حدَّدَ للدرس حصة زمانية، وللمدرسين صفةتقرير الدرس، وترتيب الدرس من قواعد وشرح وقراءة وتمرين، وجعلت طريقة التدريس طريقة الإملاء (29)، وجعل الامتحان لتحصيل شهادة التطويع (نهاية للتعليم الثانوي) لمن زاولالدراسة بالجامع المدة المحددة وشهد له الشيوخ بذلك.

كان أول من شارك في هذا الامتحان 1317 شيخنا الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور. وكانت شهادة التطويع، شهادةللخرّيج الحاصل عليها بكونه ذا ذهن قوي، وعقل مدرك للحقائق، قدير على إيصالها إلى أذهان طالبيها. وهي تخوِّله التصدّي للإقراء (30)، كما أحدث المناظرة بين المترشِّحينللحصول على خطة التدريس الرسميّة، وأوكل المراقبة العامة للنظار ولنواب الحكومة لسائر الأحوال العلمية، وللمطبوعات.

ثم تلا هذا قانون ثانٍ عزّز الأول، كان بهترتيب النظارة، وتسمية مستشار للمعارف ونائبَيْن عنه لمراقبة أحوال التعليم وإجراء التراتيب (31).

من رواد الإصلاح: محمد البشير صفر

أما رواد الإصلاحمن أنصار الوزير خير الدين، ومن غير الزيتونيين، فأبرزُهم وأقدرُهم رئيسُ بعثة المدرسة الصادقية إلى فرنسة محمد البشير صفر. يقول صاحب تراجم الأعلام عنه: اقتنع بوجوبتلبية داعي الواجب، فترك هو وأصحابه مواصلة الدراسة بفرنسة ليتولى بنفسه التوسط بين الأقلام العربية في الإدارة التونسية، والقلم الفرنساوي في إدارة الحماية. وعُهدإليه بإدارة فرع المدرسة الصادقية. وأنشأ علي بوشوشة صحيفته الأسبوعية

(239)

الحاضرة في 24 من ذي القعدة 1305/2أوت 1888.

فكان محمد البشير صفر ركنَالتفكير والتحرير في هذه الصحيفة إلى جانب مؤسسها، ومن أبرز أعماله: خدمته للنهضة الفكرية، وسعيه في تأسيس الجمعية الخلدونية سنة 1314/1896. وقد اضطلعت الخلدونية بمهامكبيرة: منها دروسها الحرة، لما كان من العلوم مهجوراً في التدريس بالجامع الأعظم، من علوم اجتماعية ورياضية وطبيعية.

وتزاحم طلاب الزيتونة على دروسها، وأقبلواعلى محاضرات الأستاذ محمد البشير صفر في التاريخ. فكانت تغص بهم القاعة الكبرى للجمعية. وبرز دور هذا الأستاذ الإصلاحي العملي بسدّ الثغرات، وحسن توجيه الطلبة في مجالاتالحياة، حتى نال الزعامة المطلقة، والإجلال العظيم، من الشبيبة الصادقية وطلبة الجامعة الأعظم جميعاً (32).

وعلى غرار هذا المصلح، وبروح متوثِّبة إلى التغييروالتكميل، سار الشيخ ابن عاشور، تدفعه همته العالية وروحه اليقظة، داعياً أمير البلاد، عند عودته من رحلته الباريسية، إلى وجوب العناية بجامع الزيتونة الأعظم وتعزيزه.

الشيخ ابن عاشور والإصلاح

كانت هذه المطالب وما يرتبط بها حاضرة ماثلة في ذهن الشيخ محد الطاهر ابن عاشور. وتوفّرت أسباب ذلك لديه:

منها ماهومعروف بين الخاصة والعامة، وفي الأوساط العلمية الزيتونية، وحتى في الأوساط السياسية والاجتماعية. وهي إصلاحات الوزير خير الدين.

وما كان يتلقاه مباشرة من آراءجدّه الوزير، وتصرّفاته بشأن إصلاح الزيتونة. وقد كان جدّه الوزير من علماء الزيتونة، تخرّج من بين عرصاتها، واغتذى بلبانها بالأخذ عن أشياخها، وتردّد طالباً على حلقاتالعلم بها، ثم تولّى

(240)

تفقّدها وهو وزير، كما تولّى بنفسه الإشراف على اللجنة الأولى لإصلاح التعليم بجامع الزيتونة سنة 1316/1898.

وما لاحظهالشيخ ابن عاشور بنفسه، وهو طالب ومدرس بالجامع الأعظم، من مسيس الحاجة إلى الإصلاح في مجالات عديدة مختلفة.

ومنها ما دعاه إلى المعالجة الفعلية لقضايا الإصلاح،وهو نائب الدولة لدى النظارة العلمية 1325/1907، ثم وهو قاضٍ، بوصفه عضواً في هيئة تلك النظارة، ثم بوصفه شيخ الإسلام، والشيخ المدير للجامع الأعظم.

كان الشيخ محمدالطاهر ابن عاشور يدرك مدى العلاقة بين رجال العلم والإصلاح. فالشيوخ لم يكونوا يكترثون بالتعديل أو التغيير لتعليمهم من تلقاء أنفسهم، أو يظهرون الاهتمام به والالتفاتإليه، إلا ما كان منهم بعد تأسيس الجمعية الخلدونية في 18 رجب 1314/24 ديسمبر 1894، كما كان يدرك موقف المشائخ وما يتلقون به مساعي المصلحين من الحكومة بالتذمر والضجر. لايحملهم على ذلك إلا حرصهم على حرية التصرّف في معهدهم، كما كان أسلافهم، وعدم التقيّد بنظام أو التزام بترتيبٍ ينشأ عنه تدخّل في الدين ومنهج تلقينه وطريقة نشره وتعليمه.ومن ثَمّ لم يعيروا الإصلاحات الثانية اعتباراً، ومضوا مستهينين بها، ومخالفين لها، مجدّدين بذلك موقفهم الذي وقفوه قبل من إصلاحات المشير أحمد باي الأول.

وانكمش خير الدين عن المضي في إصلاحه، تاركاً أشياء كثيرة لم يتمّها، كما توقّف المسؤولون في قطاع التعليم من رجال الحماية عن المشاركة في جهود الإصلاح، لما تقدّم بهرجال العلم بالزيتونة من وصفهم للإصلاحات بكونها بدعة. وبدأ الشقاق يظهر بين الطرفين المحافظ والإصلاحي، فازداد الأول تمسكاً بموقفه، وأبدى دعاة الإصلاح رغبتهم فيالتغيير والتجديد وإصلاح التعليم العربي الإسلامي على وجه لا يزيل عنه صبغته المحمودة عند

(241)

عموم الأمة. وقابل الجانب الفرنسي هذه الدعوة بالانكاروالإعراض، وقال مدير التعليم العمومي: أرجعوا تعليم جامع الزيتونة إلى المشايخ الأربعة وخلّوا بينهم وبين جامعتهم (33).

حركات إصلاح التعليم في القرن 14/20 فيربوع المشرق والمغرب

إنا حين نؤكد على ارتباط الشيخ ابن عاشور بشيخيه النخلي وبوحاجب، لطول ملازمته لهما، وإفادته منهما، وسيره على وفق منهجيهما في العملالإصلاحي، لا ننسى ما يشدّه من عرى المودة أو يصل بينه وبين رواد الفكر الإصلاحي في عصره. فقد كان له ارتباط متفاوت، إما مباشرة برجال الإصلاح في العالم العربيوالإسلامي، وإما بما ذاع عن بعض قرنائه في هذا المجال من آراء واجتهادات وأفكار، لفتت الأنظار إليهم، واقتضت الاتصال بهم أو التعرف عليهم.

ومنهم على سبيل المثالالاستاذ الامام محمد عبده مفتي الديار المصرية وزعيم الاصلاح، الازهر الشريف حيث تأثرت به صلته عند زيارته للتونس سنة 1321هـ / 1903م.

ومنهم الاستاذ محمد كرد عليرئيس المجمع العلمي العربي بدمشق 1293/1876 - 1372/1953 كان رئيساً لديوان المعارف ثم وزيراً للمعارف.

وكذلك الشيخ محمود شكري الآلوسي وهو من كبار علماء العراق 1273/1856 -1342/1924.

وكذلك محمد بن الحسن بن العربي الحجري الثعالبي الجعفري الفلالي المغربي 1298/1874-1376/1956.

الشيخان العالمان المصلحان الشيخ الحميد بن باديس 1308/1889 -1359هـ/ 1940م الشيخ محمد البشير الابراهيمي 1306/1889 - 1380/1965.

(242)

ب- الأسرة العاشورية

ينحدر الإمام الأكبر من أرقى الأسر منزلة، وأعلاها شأناً. درج فيهاعنوانَ نجابة وسمو، تكتنفه مخائل النعمة والرعاية، ومظاهر الحب والعناية من والده الشيخ محمد ابن عاشور، ومن جده للأم الوزير العلامة محمد العزيز بوعتور. تلقّى مترجمنامعارفه الابتدائيةبالمنزل بنهج الباشا من مدينة تونس، وبكتّاب سيدي بوحديد الواقع بجوار منزلـه. وبه حفظ القرآن الكريم حفظاً دقيقاً، وأتقنه طوال عمره قراءة وتدبّراً.وتعلم اللغة الفرنسية ببيته، ووُكل في هذا إلى حاذق من حذاق اللسان الفرنسي من المواطنين.

أما انتسابه للتعليم فقد كان أساساً إلى جامع الزيتونة الأعظم. به نالشرف التعلّم والتعليم للمواد اللغوية والشرعية. وتنقل بين حلقاته، جالساً إلى أشياخه أطواد العلم، مرتقياً عن طريقهم بين مراتب الدراسة، حاصلاً منهم على شهاداتِهم لهبالقراءة عليهم، لكثير من العلوم التي كان يزاولها الطلاب في عهده، وعلى شهادة التطويع التي تخوّل صاحبها، في ذلك الوقت، حقّ التدريس في الدرجات الأولى من التعليمبالمعهد. ومما حَظِي به رحمه الله الإجازات العلمية الجامعة، التي نخصّ منها بالذكر إجازته في الحديث النبوي الشريف، كتبها له بيده بدفتر شهادات دروسه شيخ الإسلام شيخهوشيخ شيوخه الشيخ سالم بوحاجب. فسمع منه، وأخذ عنه، وكان به حفياً.

وقضى الإمام الأكبر حياتَه في جهاد وعطاء. وبذل ماشاء الله له أن يبذل من جهود في مجال التعليموالتدريس. فهو الأستاذ القادر، والمحقق اللامع، يزدحم الطلاب على حلقة درسه. وكان أرقى العلوم لديه هو ما كان يوليه عناية خاصة بممارسته الدائمة له، سواء في ذلك ما كان منعلوم المقاصد أو من علوم الوسائل. وهذا مانوّه به طلبته، وعرَفَهُ منه أقرانه. كان مولعاً بالدروس التي يلقيها بالجامع الأعظم، يرفع بها السجف عن أسرار البيان، ويمكّنطلابه

(243)

بسهولة من فوائد وفرائد غاص عليها هو، في مصادر البحث ومراجعه. وربما كانت بإشارة شاردة، تَلْفِتُ الأنظار العلمية الدقيقة إلى مافيها من علمغزير ومعارف دقيقة. وممّا أكّد هذه الصفات لدى الإمام، حتى كادت أن تكون غريزيّة أو ذاتية فيه، حُبه للمطالعة وإقباله الشديدُ عليها، وحفظُه السريع لما تشتمل عليه الكتبوالرسائل التي كان يلتهمها التهاماً.

تولّى عضوية لجنة فهرست الكتب بالجامع الأعظم، وعُهدت إليه رئاستها. ووقف على أكثر المخطوطات به مطالعةً، وتوفيقاً،وتحشيةً وتعليقاً، بخط جميل يزري بخط الأصل منها، فيزداد بذلك الكتاب نفعاً للواقفين عليه. وهو بدون شك يفضل النسخ الأخرى العريّة مما حبّره الشيخ بقلمه من ضبط أو إصلاح.وكانت بالجامع الأعظم مكتبتان: الأولى الأحمدية، من إنشاء المشير أحمد باشا الأول، والثانية الصادقية أسسهما المشير محمد الصادق باشا باي.

أما الوظائف الإداريةالسامية التي تولاّها الإمام الأكبر فهي - بخارج ميدانه العلمي والقضائي - رئاستُه للجمعية الخلدونية، وتوليّه مشيخة الجامع الاعظم الذي عاش له دهراً طويلاً من حياته.ومن خلال ذلك ظهر دوره الإصلاحي للتعليم بالزيتونة. وتجتمع وظائفه العلمية والشرعية في التدريس الذي بلغ فيه الذروة، لا ينازعه في ذلك أحد، لرسوخ قدمه، ودقيق ملاحظاته،وقمة بيانه وعلمه. وسُمعتِه العلمية والأدبية. وذلك ما رشَّحه ليكون عضواً مراسلاً للمجمع اللغوي بالقاهرة، وللمجمع العلمي بدمشق.

وولِيَ إلى جانب ذلك الرئاساتالشرعية والقضائية؛ من عضو بالمجلس المختلط، ومفتٍ، وقاضٍ، وشيخِ إسلام رئيسٍ للمجلس الشرعي المالكي.

ولا غرو أن يبلغ هذا الشأو البعيدَ من المعرفة والدرسوالعلم وهو القاءئل الموقن بما يقول: إن مزية العلم، وشرفَ الانتساب إليه، أمرٌ بلغ من اليقين والضرورة مبلغاً يقصر عنه البيان، وينتقص قدرَه محاولةُ إقامة البرهان،بعد

(244)

أن توّجه الله تعالى بكتابه الكريم، وهو الذي علّم من لم يكن يعلم، وزكّى رسوله بأنه على خلق عظيم، وصراط مستقيم فقال: (وَقُل رَّبِّ زدني عِلما)(طه/114)، قولاً جعل طلب العلم، والحرصَ عليه، والاستزادة منه أعظم مطلوب لأشرف موجود. وهكذا كان العلم تاجَ نبوته، وشعارَ ملّته.. وإني لأحمد الله على أن جعلني لا أتعلقبشيء من المناصب والمراتب تعلّقي بطلب العلم، ولا آنس برفقة ولا حديثٍ، أنْسي بمسامرة الأساتيذ والإخوان في دقائق العلم ورقائق الأدب، ولا حُبِّبَ إليّ شيءٌ ماحُبِّبتْ إليّ الخلوة إلى الكتاب والقرطاس، متكّباً كل ما يجري حولي من المشاغل.

وقد يكون من الأمور الجديرة بالذكر في هذه العُجالة، أن الإمام الشيخ محمدالطاهر ابن عاشور كان فقيه ميدان، لم يكن يعيش بعيداً عن وَعْي الواقع، منصرفاً إلى أوراقه وبحوثه النظرية، والاكتفاء بالحديث عن خلود القِيَم الإسلامية، وعظمة الفقهالإسلامي، دون النظر في كيفية تنزيل الأحكام الشرعية على واقع الناس، وتقويم حياتهم بِقيَم الإسلام، في الكتاب والسنّة، والارتقاء بأدوات الاجتهاد، والتعامل مع النصوصالتكليفية في الكتاب والسنّة، تفسيراً، وبياناً، واجتهاداً، وفق منهج علمي أصيل.. يظهر ذلك بشكل واضح وجليّ في نشاطه وعمله العلمي، مدرِّساً، وقاضياً، ومفتياً، وشيخاًللجامعة الزيتونية، وتآليفه المتنوعة خاصة في التفسير، حيث يعد كتابه التحرير والتنوير مدرسة في التفسير قائمة بذاتها، بدأت من حيث انتهى المفسِّرون الذين سبقوه،إضافة إلى التأليف في الحديث ومصطلحه، ولعل من أبرز مؤلفاته فيه كشف المغطَّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطا، والنظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامعالصحيح، إضافة إلى الفقه والأصول، حيث يأتي كتاب مقاصد الشريعة في مقدّمتها، هذا عدا تآليفه في النقد، والأدب، والبلاغة، والسِّيَر، والتاريخ.

(245)

ميزالله تعالى هذا الإمام الجليل بما وفّقه إليه من التحرير والتنوير لكتابه العزيز الكريم، وبما رواه وحققه ونقده من أسانيد ومتون، أو دلَّ عليه من ضوابط وحقائق، وما حاطبه سنة نبيه(ص) من بيان شامل ذاد به عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

كان رحمه الله مرجعاً في العلوم الشرعية وهي المقاصد بقدر ما كان حجةًفي الوسائل والعلوم اللسانية، وهذا بما رَزَقَهُ الله عزّ وجلّ من فقه في الدين، وعلم بفروعه وأصوله، وبما جرى به قلمه أو نشره من فتاوى دقيقة مركزة ومعللة، مبنية علىالعلم والفهم والفطنة والملكة الواسعة الأفق، وعلى استعماله وسائل البحث وآلات النظر، للخلوص في ذلك كله إلى مايمكن الاعتداد به. فلم يكن يصدر إلا عن رأي صائب وحجة قاطعةوقول فصل.

وإنك بتتبعك لآثارة ووقوفك على تعاليقه وتحقيقاته، مُلْفٍ بما ذكرناه وما لم نذكره، عالِماً لغوياً، ونحوياً بارعاً، وناقداً بصيراً، وبحراً منالأدب، ذا مكنة في أسرار العربية، وجودةٍ في إبراز مقاصد الشريعة. فلا تكاد تجد له نظيراً بين علماء عصره، أو منافساً له فيما خصّه الله به إلا أن يكون هذا النظيروالمناسب ممّن تخرّج على طريقته ونبغ نبوغه، وقليل ما هم.

إصلاح الجماعة

إن تحقيق هذا المقصد الذي يعتدّ به الإسلام، ويعتبره الغرض الأسمى، حمل المؤمنينعلى الانتساب لجماعة جدّ متسعة وكبيرة، هي الجامعة الدينية الإسلامية التي تفوق أهميّة وقوة كل ما سبقها من ألوان الأنظمة القائمة على الترابط، والتساند والتعاضد. وذلككنظام العائلة، والمصاهرة، والقبيلة، والأمة.

وإذا مانظرنا في الجامعات الدينية مثل جامعة إسرائيل المحصورة في بني

(246)

إسرائيل: اليهود، أو فيالجامعة المسيحية التي خرجت عن حدود شعب إسرائيل لتنتشر بين شعوب أخرى عن طريق الحواريين دعاة النصرانية، وجدنا الجامعة الإسلامية - كما أقامها الله ورضيها لنا - قائمةعلى أصلين عظيمين هما: العموم والدوام. وألفيناها متجاوبة مع الفطرة، رباطُها الدين الحق، والخطاباتُ الإلهية الموجهة لأفراد الأمة الإسلامية، والتي نخص بالذكر منها فيهذا المحل قولـه سبحانه: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا) (آل عمران/ 103).

الأخوة الإسلامية

وتعرّض المؤلف إلى الأخوة الإسلامية. وهي التي تمثلالدعم الروحي والتأييد النفسي لأفراد تلك الجامعة الدينية، إذ جعلها الله جل جلاله أخوَّة بين كل أفراد الأمة في قوله: (إنما المؤمنون إخوةٌ) (الحجرات/ 10). وصرّح بهذهالأخوة الدينية رسولُ الله(ص) فيما رواه مسلم عن أبي هريرة عنه قال: «المسلم أخو السلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم». وما الأخوةالإسلامية إلا رابطة وثيقة بين المسلمين، أبطل بها الحكيم العليم عصبيات ثلاث: عصبيات النسب والحلف والوطن. وتحقَّق على اعتبارها من مظاهر القوَّة والعزة مايشهد لهالتعارف والتواصل بين المسلمين، ويؤكده الاتحاد النامي بينهم رغم اختلاف الأمم الداخلة في الإسلام. قال الإمام الأكبر: «فلم يحفظ التاريخ لدين ولا لدولة ولا لدعوةاستطاع واحد منها أن يضم إليه مختلف الأمم ويجعلهم أمة واحدة لا يرى بعضهم فارقاً بينهم مثل ما للإسلام من ذلك».

(247)

1 - محمدمحفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 3/304، محمد العزيز ابن عاشور. الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: دائرة المعارف التونسية، الكراس الأول: 40-46.

2- دفتر دروس الشيخ محمد الطاهرابن عاشور: 3036 - 18 شعبان 1310: 1 - 39.

3- تلك عادة قديمة عوضت في عهد دراستنا بالجامع بشهادات لجان الامتحان السنوي. ولتعدد هذه الشهادات نقتصر على ذكر شهادة الشيخ النخلي لهبحضور درس مختصر السعد عليه. إذ كتب يقول:

الحمد لله الذي خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أسفرت جوامعُ كلمه عن عرائس الفصاحةوالتبيان، وعلى آله وصحبه الغرر الأعيان، ومن تبعهم بإحسان. وبعد ` فإن الماجد الحسيب، الضارب في العلوم بأوفر نصيب ابننا المسمى أعلاه ]محمد الطاهر ابن عاشور[ دعته همتهالعلمية للإكمال مع العبد الفن الثالث من تلخيص المفتاح. فحضر من أوله، وكانت مزاولته بالشرح المختصر أراني في حضوره من آيات النجابة ما يبلغ به موشى الأماني، ويسفر عنصبح التهاني. واستمر إلى أن نال البغية. وكتب في المحرم 1317هـ - محمد النخلي: دفتر شهادات الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: 22.

4- الخزانة العاشورية بمنزل الشيخ محمد الطاهرابن عاشور بالمرسي .

5- نفس المرجع: 41.

6- دفتر دروس الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: 42 - 44 .

7- إجازة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور المثبتة بدفتر درو الشيخ محمد الحبيبابن الخوجة: 21 .

8- محمد العزيز ابن عاشور. دائرة المعارف التونسية: 1/41 .

9- دفتر دروس الششيخ محمد الحبيب ابن الخوجة: 11 - 21 .

10- محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبحبقريب: 9 .

11- مجلة السعادة العظمى: تونس، عدد 19، شوال 1323: 300 .

12- محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 10.

13- محمد محفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 3/304 .

14-محمد الخضر حسين. تونس وجامع الزيتونة: 125، الإجازة الفاضلية. دفتر دروس الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة: 15.

15- وكان فصله عن هذه الخطّة بسبب دسائس خصومه ومنافسيه وماأبداه وحاوله من إصلاح غاض به المحافظين من شيوخ الزيتونة، فأبدوا معارضة صريحة لبرنامجه الإصلاحي. وألصقوا به فتوى التجنيس، التي لم تحرر أصلاً، ونسبوا جرمها إياهلتبغيض العامة والخاصةفيه.

انظر التقرير حول قضية التجنيس الموجه في 29/4/1933 عن المقيم العام الفرنسي بتونس «منصرون» إلى وزارة الشؤون الخارجية بباريس. نقله إلىالعربية حمادي الساحلي. راجع مجلة وثائق عدد (1) 1984 تونس. المركز القومي الجامعي للتوثيق العلمي والفني.

16- محمد محفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 3/304 - 305، محمد العزيزابن عاشور. دائرة المعارف التونسية: الكراس 1/40-43.

17- محمد الخضر حسين. تونس وجامع الزيتونة: 125-126` محد حفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 3/306.

18- ذكرى الإمام (وزارةالشؤون الثقافية: إدارة الآداب).

19- مجلة الوعي الإسلامي، عدد 28، أبريل 1986، السنة الحادية عشرة، ص 44.

20- المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي. دار الفكرالعربي . ط. (1) مصر 1374/1454. ص 235 .

21- مجلة الوعي الإسلامي: 45 - 46 .

22- على هامش كتاب تلخيص إبطال القياس من تحقيق إحسان عباس. جامعة دمشق 1970.

23- مجلة الوعي الإسلامي. نفسالعدد.

24- أ.د. إسماعيل الحسني. نظرية المقاصد عن الإمام محمد الطاهر ابن عاشور. ص 19. ط. المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1416/ 1990.

25- من كلمته التي ألقاها أمام الرئيسبورقيبة يوم إسناده أول جائزة رئاسية إليه.

26- محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الأدبية والفكرية بتونس: 24-25 .

27- محمد مختار العياشي. البيئة الزيتونية، ترجمة حماديالساحلي: 24.

28- فان كريكن (ج.س). خير الدين والبلاد التونسية. تعريب البشير ابن سلامة: 203 .

29- هي المعروفة اليوم بطريقة المحاضرة، وهي التي كانت تدور في المجالس،وتعرف بالامالي، كأمالي المبرد، ومجالس ثعلب، وأمالي ابن الشجري، وأمالي القالي، ونحوها .

30- محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 236، 239.

31- انظر شرح الترتيبوتحليل مواده: ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 96 - 97، 118 .

32- إحداث شهادة ختم الدروس للمرحلة الأولى من التعليم الزيتوني «الأهلية».

33- ابن عاشور. أليس الصبح بقريب:119-120، 150 .


/ 2