القيم الإنسانية المشتركة ودورها في تعزيز التضامن بين الشعوب والأمم
أ. الشيخ محمد علي التسخيري الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
تمهيد:
كيفما عرفنا الحضارة فانه يجب أننقر بان الصفة الإنسانية - بمعنى: امتلاك الاتجاه العام لخدمة الإنسان وتطوير إمكاناته الذاتية والعرضية - هي أهم مقوماتها بلا ريب.
ولا يمكن ان يتسم أيمذهب أو تخطيط أو حتى مجرد سلوك بالسمة الحضارية الا اذا اتسم بالصفة الإنسانية.
والصفة الإنسانية، عبر ادراكات الوجدان ، وبلا حاجة الى استدلال، تلازم الايمانبمجموعة من القيم المطلقة والمشتركة ، فلا يمكن ان نفترض النسبية في كل شيء ثم نفترض وجود خصائص انسانية فان ذلك يستبطن نوعاً من التناقض ؛
مفاده: الاعتراف - منجهة - بأن الإنسان له هويته المتفردة جزئياً - إن لم يكن التفرد كلياً - ورفض أي تمايز انساني أو قيمة ثابتة فيه من جهة اخرى.
فما هي هذه السمة الثابتةالمميزة؟
إن الجواب الوجداني (ونؤكد على وجدانيته لأن ذلك يغنينا عن الاستدلال) هو: الفطرة الإنسانية.
والمقصود بالفطرة هو أن الإنسان مخلوق الهي، اودعتالحكمة الإلهية في وجوده وطينته الاصلية مجموعة من القضايا البديهية والقدرات العقلية والميول والغرائز التي تضمن له سيراً طبيعياً نحو تكامله المرسوم له.
وكلالحضارات والمذاهب والاديان إنّما جاءت لتثير له دفائن العقول - كما يعبر الإمام علي(ع) - وتهيئ الجو المناسب لبروز هذه الطاقات الكامنة على سطح حياته؛ فتهديه سبيلاًيختلف كل الاختلاف عن السلوك الذي تسلكه الحيوانات العجماء التي لا تتمتع بما يتمتع به من طاقات.
اما القضايا البديهية فهي التي تمنحه القدرة على المعرفة: معرفةنفسه ومعرفة الكون والواقع، وفلسفة الوجود والعلاقات القائمة بين الأشياء وتلك من قبيل: الايمان بمبدأ العلية، والايمان بمبدأ استحالة التناقض (الجمع بين النقيضين،وارتفاع النقيضين) و(بعض القضايا الأخرى) فهذه قضايا مغروزة في القناعة والوجدان الإنساني لا يحتاج للاستدلال عليها، وإلا دخل في طريق مسدود لأنّ الاستدلال نفسه يتوقفعليها كما هو واضح.
أما القدرات العقلية فهي نفس قدرة النفس الإنسانية على التأمل والتفكير وتجريد القضايا من ملابساتها، والصعود من مرحلة الجزئيات إلى مرحلةالكليات، والقيام بقياس الأشياء للوصول إلى تصورات جديدة والتخطيط الذهني لمراحل غير موجودة على صعيد الواقع القائم. ان هذه القدرة الذهنية هي من مختصات الإنسان وهي سرّمسيرته التكاملية وابداعه ونموّه.
واما الميول الغريزية فهي التي تقوده نحو كماله وتدفعه للاستفادة من طاقاته في هذا المجال؛
ومن هذه الميول:ميله نحو الكمال، والسير نحو الكمال المطلق، ومحاولة سد جوانب العجز في وجوده، والركون إلى هذا المطلق القادر، وأداء حقه وشكر نعمه والقيام بحق طاعته؛ فهذه امور يجدهاالإنسان مغروزة في الطينة الإنسانية وان اختلفت تجلياتها وتعددت أساليبها، وربما غطت الشبهات على هذه الميول وكبتتها.
ومنها أيضاً غريزة حب الذات، والعمل علىتحقيق طموحاتها، فهي من الغرائز الاصلية في الإنسان والتي لا يمكن تجاوزها والقضاء عليها، كما تصورت الماركسية يوماً ما أنها ظاهرة فوقية يمكن حذفها من الوجود الإنسانيمن خلال تحريم الملكية.
ومنها التذوق الفني، والابتهاج لعناصر الجمال التي يزخر بها هذا الكون.
وعلى هذا فالذي يبدو لنا بكل وضوح ايضاً ان مسألة الايمانبنظرية الفطرة الإنسانية يفسح المجال للحديث عن جملة مفاهيم من قبيل مفاهيم (الحقوق) و(التكاليف) و(العدالة) و(الإنسانية) و(الاخلاق) و(الذوق الفني العام) و(القيم المشتركة)و(الحضارة) و(الحوار) و(الدين) و(المعرفة) و(التصديق) و(المنطق) بل وحتى (البرهان والاستدلال) و(العلم) لانهما يعتمدان على عنصر ثابت بدونه لا تسلم لهما حدود ومعالم.
وبدون الايمان بهذه النظرية يبقى الإنسان حبيس نفسه ولا يتصل إلا بصوره الذهنية - كما يعبر جورج باركلي - بل يمكن القول بانه لا يستطيع الايمان بذاته هو وهذا منتهىالخواء.
وبدونها فكل حديث عما مضى انما هو حديث بلا معنى كما نتصور. وهذه حقيقة كبرى تصطدم بها الاتجاهات المادية بقوة، ومن هنا جاءت النصوص الإسلامية لتؤكد على(الفطرة) وان الدين في الحقيقة ينسجم مع (الفطرة) لانها واقع أصيل والدين مشروع واقعي لاصلاح الإنسان يقول تعالى:
(فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة اللهالتي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) .وهذه الآية الكريمة تقرر كما يقول الامام الشهيد الصدر(قدس سره) في كتابه «اقتصادنا» (ص 312):
أولاً: إنالدين (بكل مافيه من حقوق وتكاليف ومنظورات للعدالة) هو من شؤون الفطرة الإنسانية التي فطر الناس عليها جميعاً لا تبديل لخلق الله.
ثانياً: إن هذا الدين الذي فطرتالإنسانية عليه ليس هو إلا الدين الحنيف الخالص، اما اديان الشرك والايمان بالالهة الوهمية النسبية فهي لا يمكن ان تحلّ المشاكل الإنسانية.
يقول سيدنا يوسفلصاحب السجن: (ما تعبدون من دونه الا اسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) .
وثالثاً: ان الدين الحنيف الذي فطرت عليه الإنسانية يتميز بكونهديناً قيماً على الحياة قادراً على التحكم فيها وصياغتها في إطارها العام.
ذلك ان المسألة الاجتماعية المهمة في تاريخ الإنسان هي التعارض الذي ينشأ بين المصالحالفردية (وهي تؤدي لأن يتصور الإنسان لنفسه حقوقاً في الحصول عليها بمقتضى حب ذاته) و(المصالح الاجتماعية) التي يطرحها النظام الاجتماعي الذي يعيشه ويفرض عليه (تكاليف)تجاهها باسم (العدالة)، وهذا التناقض بين المصالح الفردية والاجتماعية لم يستطع العلم ان يحلّه، فان علم الإنسان لن يقف مطلقاً امام ترجيح مصالحه الشخصية.
ولمتستطع المادية التاريخية من خلال قوانينها التاريخية أن تقدم الحلّ ويبقى للدين الحل النهائي لهذا التعارض وتحقيق العدالة وذلك من خلال ربطه بين المصالح الذاتية وسبلالخير إذ يقول القرآن الكريم: (ومن عمل صالحاً من ذكر أو انثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة، يرزقون فيها بغير حساب) ويقول: (من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها) . وهكذا تتلاحم المصلحة الفردية والمصلحة الاجتماعية و(الحقوق) و(التكاليف) تلاحماً رائعاً ينفي التعارض.
وهنا يؤكد المرحوم الشهيد الصدر (قدسسره):
«فللفطرة الإنسانية إذن جانبان، فهي من ناحية تملي على الإنسان دوافعه الذاتية التي تنبع منها المشكلة الاجتماعية الكبرى في حياة الإنسان (مشكلة التناقضبين تلك الدوافع والمصالح الحقيقية للمجتمع الإنساني) وهي من ناحية اخرى تزود الإنسان بإمكانية حل المشكلة عن طريق الميل الطبيعي إلى التديّن» .
ونضيف الىماسبق ان الإنسان بفطرته يطمح الى (التغيير) أي تغيير الواقع الذي يعيشه الى الافضل باستمرار، فهذا من نوازعه الفطرية التي قد تخمد لديه أحياناً ولكنها لن تنمحي من صفحةالذات وهو مجهز بإمكانات التعالي على الواقع والخلاص من ضغوطه وتصور الحالة الأفضل تصوراً إجمالياً - وربما كان تفصيلياً - ثم العمل على تغيير الواقع الى الصورةالمفروضة، وهي حالة لا يتمتع بها اي حيوان آخر. ومن هنا تنشأ عملية التغيير وتطبع الحياة الإنسانية بطابعها الحضاري دون غير الإنسان من الموجودات.
وهكذا يمكن اننقرر ان العملية الحضارية تحتاج في كل مراحلها الى الايمان بالقيم الثابتة وعلى النحو التالي:
اولاً : في مرحلة ايمان الإنسان بذاته.
ثانياً: في مرحلةالعبور الى خارج الذات.
ثالثاً: في مرحلة صياغة الفكر وتكوين الصورة عن الحاضر والمستقبل انطلاقاً نحو التغيير الى الافضل .
رابعاً: في مرحلة نقل الفكرةالى الآخرين واستلام افكارهم .
خامساً: في مرحلة السبر والتقسيم والتمحيص والتداول.
سادساً: في مرحلة الاستنتاج والاقتناع .
سابعاً:في مرحلة التخطيط للتغيير.
وأخيراً : في مرحلة تنفيذ التغيير وتحقيقه.
وخلاصة الأمر ان هناك تلازماً تاماً بين المسيرة الحضارية الإنسانية التغييريةوعملية الحوار والايمان بالقيم المشتركة والمطلقة.
القيم المشتركة مطلقة واقتضائية
اننا وبالتحليل النفسي الوجداني الذي اعتمدناه في مسيرتنا هذهندرك وجود منظومتين من القيم احداهما مطلقة التأثير لا تحدها حدود او ظروف معينة والاخرى هي قيم الحالة الطبيعية او (قيم الاصل) مما يعني تحولها الى النقيض او فقدانهاالتأثير المطلوب اذا طرأت ظروف اخرى. ومن امثلة المجموعة الاولى:
قيمة العدالة فهي مطلوبة مهما كانت الظروف.
وكذلك تقديم الشكر للمنعم المتفضل.
ومن أمثلة المنظومة الثانية:
حفظ الذات، حفظ الكرامة، التعاون، الدفاع عن المستضعفين و السلام والامن، التغيير الى الافضل، الرحمة، الايثار، الامانة.
فقد يكون الصدق في بعض الأماكن نتيجة ما يؤول إليه من تبعات ظلماً لا عدالة، وكذلك السلام احياناً بما يؤدي إليه من جرأة على حرمات الإنسانية. فإذا كانت العدالةقيمة مطلقة فان السلام قيمة نسبية نعمل على تحقيقها إذا عادت وجهاً من وجوه العدالة، ونرفضها ان كانت ظلماً، ولكن التساؤل الأساس هو: ماهي معايير العدالة؟ وكيف نتأكد منتحقيقها.
إن الأديان السماوية كلها تؤكد على معيارين:
الأول: معيار تعبدي نستفيد فيه من علم العالم المطلق وهو الله تعالى وهو تعليمات الدينالثابتة، والتي نتأكد من كونها صادرة من الله سبحانه؛ ذلك اننا نتأكد قبل ذلك من علم الله الشامل، ومن لطفه ورحمته بالإنسان المخلوق ومن عدالته وتمتعه بكل صفات الكمال،فهو لا يريد بالإنسان الا الخير ولا يخدع الإنسان وانما يكشف له كل الواقع ويريد له كل الخير. الثاني: معيار وجداني يكفي فيه التأمل في الاعماق وقناعاتها أوفلنعبر بأنه يكفي فيه الرجوع إلى الفطرة نفسها.
وما يساعدنا في اكتشاف العمق الفطري هو كون هذه القناعة - أيّة قناعة كانت - من ملازمات الطبيعة الإنسانية، ولذلكنجدها متوفرةً لدى كل ابناء الإنسان في مختلف ظروفهم وحالاتهم الفردية والاجتماعية وازمنتهم وامكنتهم.
ولكي نتأكد من هذا المعنى نستطيع ان نطرح هذا السؤال علىاي إنسان (هل تعتبر ان السلوك الفلاني سلوكاً انسانياً أم سلوكاً حيوانياً) فمثلاً لنركز على (قتل اليتامى والعجزة والمستضعفين للتلهي والتشهي) مثل هذا السلوك يعد سلوكاًوحشياً من قبل اي إنسان بلا ريب والقرآن الكريم احياناً يعيد الإنسان إلى تأمله الوجداني وقناعته الفطرية حينما يقول: (أحلّ لكم الطيبات) ويترك أمر تعيين الطيبات له ،ويقول (إنّما حرّم ربّي الفواحش) ويترك أمر تعيين الفواحش له أيضاً، ويعتبر الخروج عن الحالة الإنسانية (فسقاً) وانحرافاً عن الطبيعة (نسوا الله فأنساهم انفسهم اولئكهم الفاسقون).
وهكذا ننتهي إلى هذه الحقيقة وهي:
ان الأديان تؤمن بالفطرة الإنسانية، وان الفطرة تقرر كون العدالة مطلوباً مطلقاً وكون السلام مطلوباًاذا شكل مصداقاً من مصاديق العدالة، وتجلياً لها ومن هنا كان التأكيد الدائم على (السلام العادل) تأكيداً انسانياً صحيحاً.
السلام العالمي والموقفمنه
قلنا لا ريب في كون الامان مطلباً انسانياً فطرياً يستمد جذوره من أهم غريزة وجدت في فطرة الإنسان، وهي غريزة (حب الذات). وهذه الغريزة تعمل مع باقي الغرائزبشكل متناسق لتحقيق سير إنساني متوازن نحو الأهداف التكاملية العليا للانسان، فلا يكفي وجود الدوافع الغريزية لتأمين المسير المتوازن وإنما يجب تأمين جو طبيعي للذاتالفردية وللذات النوعية كي تدفعها تلك الدوافع نحو أغراضها المنشودة. وتأكيداً من الفطرة نفسها على توفير الجوّ الآمن، نجد العناية الإلهية قد غرست فيهابديهيات الحكمة، والميول نحو العدل، والنفور من الظلم والاعتداء، بل ومنحتها القدرة على تعيين الكثير من مصاديق العدل والظلم، مما يمهد لها السبيل للاتصال بالخالقالعظيم وتقديم معاني الولاء له، وحينئذ تنفتح لها آفاق الوحي، وتكتشف بذلك الأطروحة السماوية الرحيمة التي تعطيها المخطط الكامل للمسيرة، وتضمن لها كل ما يوصلها إلىأهدافها.
فالامن إذن حاجة انسانية دائمة لا تغيّرها الظروف، وليس ظاهرة عرضية حتى يقال، بأنها معلولة لوضع اجتماعي معين إذا ما تبدل تبدلت هذه الظاهرة معه. ومنهنا أيضاً يكون من الطبيعي أن نتصور الحاجة إلى نظام شامل يتكفل حماية الأمن الفردي والاجتماعي على مدى مسيرة الإنسان الطويلة.
ولا يمكننا أن نتصور حدوداًلمسألة حماية السلام والأمن إلا في إطار مسألة التكامل الإنساني ذاتها، بعد أن ندرك أن الفطرة هي معيار الحقوق الإنسانية كلها بشكل اجمالي، وأنها هي التي فرضت حمايةالامن الإنساني لتحقيق الهدف الكبير. وحينئذ لن يقبل الامن تحديداً الا اذا خرج عن وظيفته الحياتية، وعاد عنصراً ضد الامن نفسه، فلا معنى إذن لضمانه.
وإلاّ فكيف نتصور الفطرة التي أعلنت الحاجة إلى الامن وهي تسمح للفرد بالقضاء على أمن نفسه هو، أو أمن الآخرين، وبالتالي على أمن المسيرة الإنسانية كلها دون أن تحددهبما يردعه عن فعلته، حتى ولو كان ذلك بتهديد أمنه؟
الحوار بين الديانات واسع الابعاد
بعد ما سبق نستطيع بكل وضوح أن نقرر امكان الحوار بشكل واسعالابعاد بين الاديان وذلك: 1ـ لأنها جميعاً تؤمن بنظرية الفطرة الإنسانية وتوابعها .
2- لأنها جميعاً تؤمن بقيم مشتركة كثيرة حتى ليلمح الإنسان تطابقاًتاماً في اصول القواعد. وربما ذكر بعض المؤلفين المسلمين القدامى مجمل تعليمات المسيح واعتبرها تعليمات اسلامية .
وقد قام محققان فاضلان مسيحيان باعداد بحثجيد عن القيم والقواعد المشتركة للاحكام القانونية انتهيا فيه الى نتائج جيدة فهما يقولان:
(تكفي محاولة اقامة جسور حول السؤال الذي يطرحه الناس نساءً ورجالاً،عندما يريدون ان يعيشوا بمقتضى ايمانهم: «ما هي مشيئة الله؟ ماذا يتوجب علي ان افعل؟» يبدو لنا ان الديانات الابراهيمية الثلاث تسير في جوابها في اتجاه واحد) .
وهما يقرران في النهاية: وحدة الناس في الله .
3- ان الاديان كلها تدعو الى الحوار المنطقي ولما كانت الاديان هي روح الحضارات فان الحوار بينها يفسح المجال لحوارحضاري اصيل ممتد الى مختلف المساحات الحياتية، ويوجه الحوار الحضاري نحو مسارات اكثر انسانية.
الحوار بين الحضارات ودور القيم فيه
بعدملاحظة ماسبق يمكننا القول ان السير الطبيعي للبشرية يقتضي ان يسود منطق الحوار بين الحضارات - باعتبار ان الحضارات تحمل بشكل واضح بصمات الفطرة - اعترفت بها بشكل فلسفياو رفضتها . ولذا ففيها جوانب مشتركة تفسح المجال للحوار لا محالة. كما اننا ذكرنا من قبل ان الاديان تشكل جوهر الحضارات - حتى ولو انكرت الحضارات ذلك - وبالتاليتبقى التأثيرات الدينية واضحة المعالم واخيراً نجد المجالات المشتركة بين الاديان تفسح المجال لحوارات مشتركة بين الحضارات.
هذا بالإضافة الى حقيقة امتدت معالبشرية وتعاظمت مساقطها باستمرار؛ وهي هذا الترابط المصلحي بين عمار الارض وساكنيها على مختلف الاصعدة.
وهو ترابط عبرت عنه طموحات الأديان العالمية،والفاتحين الكبار بشتى التعابير منذ اقدم العصور، واشتد على مر الايام حتى عدنا اليوم نشبه العالم بقرية صغيرة. والعالم هذا لم يصغر، ولكن وعينا لترابطه وشدة الالتحامبين اجزائه هو الذي اوصلنا الى هذه النتيجة.
فلم يعد بمقدور اي بلد او دولة ان تخطط لبيئتها ولطاقاتها وقوانينها الجوية والبحرية ومواصلاتها ومخابراتها بلوتعليمها وتربيتها وثقافتها ونهضتها واقتصادها ودفاعها، بمفردها بعيداً عن ملاحظة مايجري في العالم.
ومن هنا نعتبر ان الاتجاه نحو العالمية اتجاه طبيعي لا معنىلمقاومته، بل يجب تشجيعه ودعمه . واذا كنا نقف بوجه (العولمة) ونعتبرها تحدياً خطيراً فانما ذلك لان هذا النمط يعني تفسيراً خاصاً لهذا الاتجاه يصب في مصلحة القوة العظمى،او فلنقل يعني سيطرتها على مقود المسيرة وتحويلها لصالح امة بعينها مهما كان الأمر، وأمركة للعلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية
والاجتماعيةوغيرها بمختلف الوسائل وشتى السبل القمعية. ولذلك وصفت بالعولمة المتوحشة والمجنونة و(ان تأكل او تؤكل) وامثال ذلك.
وعلى أي فان الحوار هو مقتضى الترابط ووحدةالمصير الإنساني ولا بديل له الا الصراع وهو منطق الغابة لا الإنسان بلاريب.
فيجب اذن تأكيد انسانيته وتعميقها بتأصيل القيم الإنسانية فيه.
ويمكنناالحديث عن هذه القيم في ما يأتي كنماذج فقط والا فمجال هذه القيم واسع جداً .
نماذج من القيم المشتركة التي يجب أن تسود
1ـ قيم الحوار المنطقية. وهي قيمٌ انسانية ثابتة. لا تتغير باختلاف الظروف فيجب ان يكون الحوار قائماً على مفروضات متفق عليها بين الطرفين وإلاّ لم يعد منتجاً.
ويجب أن يدخله الطرفانبروح طلب الحقيقة ، وأن تكون اطراف الحوار بمستوى دراسة الموضوع، ويجب ان يتوضح محور الحوار بشكل تام كما يجب أن يكون امراً عملياً لا طوبائياً.
ويجب أن تسوده روحاحترام الآخر، كما يجب ان يتخلص من رواسب الماضي أيضاً.
ويجب أن يتم في جو حر بعيد عن الضغط والعنف والتحايل والضوضاء والتهويل.
وغير ذلك من مقتضياتالحوار السليم.
واستطيع بكل اطمئنان ان اقول: إن القرآن الكريم اشار الى كل هذه القيم الحوارية الثابتة في اصالتها.
2- قيم العدالة ومعاييرها ومساحاتها.
فمهما اختلفت الآراء وتنوعت المذاهب فانه تبقى هناك مساحات لا يختلف عليها اثنان، وهل يختلف أحدٌ على ضرورة إعطاء الحق لأهله، وأن سلب الشعوب حقوقهافي الارض والمصير ظلم، وان التنمية والاستثمار الصحيح للموارد أمر حميد وغير ذلك.
فيجب اذن اكتشاف هذه المساحات والسعي لتعميمها وتعميم الالتزام بها.
3-الاتفاق على الحقوق الأساسية للانسان، والسعي لتوسعة هذا الاتفاق ليشمل الحقوق التفصيلية الأخرى، وهو امر غير صعب اذا حسنت النوايا؛ لان البحث بحث في عمق الوجدانالإنساني وفي قيم تدرك بالفطرة الصافية.
4- الاتفاق على حدود الحرية الإنسانية ومحاولة ترجمتها الى معالم واضحة وتطبيقات عملية.
5- الانطلاق من القيمالإنسانية لتحديد الايديولوجيات الهدامة: كالارهاب والعنصرية والاستبداد والتفرقة العنصرية والاستعمار وغير ذلك.
6- وضع مبادئ سلامة البيئة وتعميمها .
7- الاتفاق على مبادئ الفن الرفيع بما يخدم البشرية ويستجلي كوامنها.
8- الاتفاق على القيم الاجتماعية ومقومات المجتمع السليم الخالي من الشذوذ والتسيب.
9- الاتفاق على نوع التخطيط للصراع ضد التحديات المتفق على رفضها من قبيل: الأمراض والفقر والجهل والأمية، والتخطيط لتقليل آثار الكوارث الطبيعية كالزلازل والسيولوالحرائق وغيرها .
10- تنظيم الحقوق الدولية المشتركة في مجال الملاحة والمواصلات والمعلومات وامثال ذلك.
11- بناء المؤسسات الدولية العاملة بمقاييسمتعادلة واحدة بعيداً عن الازدواجية والتفرقة .
12- الوصول الى آليات عملية لتعزيز التضامن وتعميم المسؤولية الإنسانية تجاه عملية السلام ونشرالعدالة.
معاً لتعميم منطق الحوار
وفي ختام حديثنا المختصر هذا لابد أن ندعو بقوة لتعميم منطق الحوار بعد أن آمنا بانه أمر تقتضيه الحكمة والفطرةوالعقل السليم، في قبال مقتضيات العاطفة الجامحة والعصبية المقيتة والانحباس في بوتقة الماضي. وفي هذا الصدد ندعو لتكوين أمة من المفكرين من كل الاطراف القائمةفي الواقع العملي تعمل على تهيئة الظروف لهذا التعميم، وتضع الخطة اللازمة لذلك، وأرى ان نسميها بـ (الوسطية العالمية)، اسوة بما ندعو إليه ونسميه داخل الهوية الاسلاميةبـ (الوسطية الاسلامية). وذلك انطلاقاً من ايماننا بان هذه الوسطية لها مفهوم شمولي يعم تصورنا عن الوجود (باعتباره متوازنا)، وموقف الإنسان منه موقفاً متوازناً، كمايشمل تصورنا عن التاريخ والعوامل المؤثرة فيه، فضلاً عن كونه تعبيراً عن طبيعة الاسلام وموقفنا منه ايضاً.
ومن هذا المنطلق (الوسطي) نرى ان تعتمد الخطة العالميةالدعوات التالية:
1ـ الدعوة الى التفرقة الجادة بين الثنائيات الحدية المتناقضة أو المتضادة بحكم العقل القطعي من قبيل ثنائيات (الوجود والعدم) و(التوحيد والشرك)و(الاطلاق والنسبية) وأمثالها، وبين الثنائيات اللاحدية او المصطنعة من قبيل (انا الخير والآخر الشر) (اما محاربة الارهاب او الكون معه) (اما ان تكون ماركسياً او فانت لاتفهم الماركسية). (انا التوحيد وما عداي الشرك) (انا التمدن وما عداي التوحش) (مبادئي هي منتهى التاريخ وما عداها هي التي يجب ان تزول) (اما انا او الهمجية) وأمثالها، فانالنمط الاول مما يمكن الاتفاق
عليه وان شكك في ذلك الماركسيون . أما النمط الثاني فهو من قبيل الاصنام الفكرية التي تتم عبر عملية (تصعيد) ذهنية اونفسية او تاريخية او عصبية فيتحول (النسبي) فيها الى (مطلق) وبالتالي يقيد كل عمليات التفكير ويمنع كل احتمالات التطور. نعم يجب الاذعان للقيم الإنسانية المشتركة التياشرنا اليها ودل عليها الوجدان.
2- العمل على إشاعة روح الانفتاح الواعي على الحاضر ، وعدم الانحباس الأعمى في الماضي أو حتى في النظريات التي تم القبول بها معاحتمال وجود ثغرات فكرية فيها.
3- السعي لتعميم ما قلناه من قبل؛ من ان كل الحضارات لابد ان تستقي من الفطرة بعض مكوناتها، أو على الاقل نبقي احتمال استقائهاوارداً وحينئذ تنفتح أمامنا كوى الحوار.
4- الاتجاه نحو تعميق مفهوم التطور الفكري والابداع الجديد، وعدم التأثر بمفهوم (ليس في الإمكان أبدع مما كان) وابقاء روحاكتشاف الحقائق حية دافعة متدفقة.
5- السعي نحو تعميم الاحساس الإنساني المشترك بالاخطار التي تهدد البشرية جمعاء ولا تفرق بين حضارة وحضارة، وقومية واخرى،ومنطقة وثانية كالمرض والجهل ونقص المعنويات وتلويث البيئة وتفكك العائلة وسيادة منطق العدوان وغيرها.
6- الدعوة الى تغليب التعقل على عنصر التطرف فهو امر يعميالبصيرة ويمنع من التفكير بهدوء مهما كانت الايديولوجية .
7- السعي للتوصل الى حل متوازن بين الاتجاه العالمي وبين احتفاظ الشعوب والامم بخواصها الثقافية وغيرها.وهذه الجادة الوسطى هي التي تضمن نجاح الاتجاه العالمي من جهة لكيلا يصطدم بالعقبات الجادة، كما يحفظ
للبشرية والامم ثرواتها المتنوعة على مختلفالصعد، فنحقق بذلك مبدأ فلسفياً يقول بـ (الكثرة في عين الوحدة) .
8- ضرورة تثقيف الجميع بان مصالح الامم هي جزء من ماتؤكد عليه قيمها. وحينئذ لن يقوم هناك تناقض بينالقيم والمصالح وتتهيأ فرص واسعة للحوار.
9- تعميق الروح الموضوعية الإنسانية لمحو الروح الاستعلائية العنصرية من جهة وعدم التأكيد على القيم الحضارية الخاصةواعتبارها قمة الانتاج الحضاري واعتبار ماعداها تخلفاً . نعم يجب الايمان بالقيم الإنسانية المشتركة.
وقبل أن ننهي حديثنا نؤكد أن بوادر الأمل بالمستقبل الواعد- من وجهة نظرنا - كثيرة:
فهذا القبول العالمي بحوار الحضارات في الامم المتحدة، وهذه اللقاءات المتتابعة منذ الثلاثينات في القرن الماضي وعلى مختلف المستويات ،وهذا الانفتاح من قبل المرجعيات الدينية المتنوعة على الحوار، وهذا الاتجاه الواسع نحو المعنويات ، وهذه المعلوماتية المنتشرة والتي تكشف الحقائق امام الجميع، كل هذاوغيره يعدنا بمستقبل مثالي رغم ما نواجهه من تحديات العولمة المصلحية، والنظريات الاستعلائية، والظلم الفاحش ضد الشعوب، والاحتلال والارهاب الفردي والرسمي، والتعاملالمزدوج. ذلك اننا نؤمن ونرى أن قوى الخير تنتصر على عوامل الشر وفقاً لسنن الله في الحياة.
1 - الروم/ 30 .
2- يوسف/40 .
3- غافر/ 40 .
4- فصلت/ 46 .
5- اقتصادنا، ص 310 - 312، طبعة مشهد.
6- المائدة/ 5 .
7- الحشر/ 19 .
8- الأعراف/ 33.
9- لاحظ مثلاً ماذكره الشيخ ابن شعبة الحراني (وهومن علماء القرن الرابع الهجري) في كتابه المشهور (تحف العقول) اذ ذكر الكثير من الحكم والمواعظ الحياتية عن عيسى(ع).
10- الاستاذ عادل خوري والاستاذ فانوني، كما جاء فيتقرير الندوة الايرانية النمساوية المشتركة المنعقدة في فينا عام 1999م ، ص260.
11- ولتوضيح ذلك يلاحظ ان كل فلسفات التشكيك في الحقائق المطلقة في مجال الفكر او السلوككالماركسية والفرويدية والدور كهايمية والكانتية وفلسفة باركلي وغيرها، هذه كلها تحمل نوعاً من الجزم والقطع لا محالة وإلا لشكت في نفسها ايضاً وهي لا تفعل ذلك.