المجتمع الانساني في القرآن الكريم
أ. السيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الاعلى للمجمعالعالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
خلافة آدم والإنسان
تمهيد
( وَإِذْ قالَ رَبّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الاْرْضِخَلِيفَةً قَالُواْ أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَتَعْلَمُونَ * وَعَلّمَ ءَادَمَ الاْ سْمآءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَـدِقِينَ*قالُواْ سُبْحَـانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاّ مَا عَلّمْتَنَآ إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قالَ يَــَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمّاأَنْبَأَهُمْ بِأَسْمآئِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَيْبَ السّمـوَ تِ وَالأرْض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْقُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَـافِرِينَ * وَقُلْنَا يَــَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَوَزَوْجُكَ الْجَنّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتَما وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِمِينَ * فَأَزَلّهُمَا الشّيْطانُ عَنْهَافَأَخْرَجَهُمَا مِمّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الاْرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَـعٌ إِلَى حِين * فَتَلَقّى ءَادَمُمِنْ رَبّهِ كَلمَـات فَتَابَ عَلَيْهِ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنّكُمْ مِنّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَهُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِـَآيَـتِنَا أُولائِكَ أَصْحَـبُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ )(1). هذه الآيات العشر تتحدث عن قضية استخلاف الله سبحانه لآدم على الأرض ، وهو استخلاف للنوع الإنساني في الأرض ـ كما سوف نعرف ذلك ـ وقضية الإستخلاف هذه تشتمل علىجانبين وفصلين :
الفصل الأول : يتناول معنى الإستخلاف ، والحكمة ، والعلة فيه ومبرراته ، وهذا الجانب من قصة آدم يشير إليه القرآن الكريم في عدة مواضع ، ولكنأكثرها تفصيلاً ووضوحاً الآيات الأربع الأولى من هذا المقطع الشريف ، وذلك لأن جميع آيات الإستخلاف تتحدث عن هذا الموضوع ـ أيضاً ـ إلا أنها تتحدث عن استخلاف الإنسانعموماً ، مثل قوله تعالى : ( وَهُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَـات لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ ءَاتَـكُمْ إِنّ رَبّكَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )(2) .
وقوله تعالى : ( هُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْض فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَيَزِيدُ الْكَـفِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّ خَسَاراً )(3).
وقوله تعالى : ( وَلَقَدْأَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالبَيّنَـتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَالْمُـجْرِمِينَ * ثُمّ جَعَلْنَـاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْض مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ )(4) .
وقوله تعالى : ( إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَعَلَى السّمـاواتِ وَالأرْض وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاْنسَـانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً )(5) .
وسوف نلاحظ أن هذه الآيات الكريمة الاُخرى تكمل الصورة في فهم هذه الخلافة ومبرراتها ، التي لا تختص بشخص آدم .
والفصل الثاني : يتناول مسيرة الخلافة من الخلقإلى الأرض ، والعملية التي تم بها انجاز هذا الاستخلاف خارجاً ، وهذا الجانب تحدث عنه القرآن في مواضع متعددة منها ما ورد في هذا المقطع الشريف من سورة البقرة من الآية (30)إلى(39) ، ومنها ما ورد في سورة الأعراف من قوله تعالى : ( وَلَقَدْ مَكّنّـاكُمْ فِي الأرْض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـايِشَ قَلِيلاً مَاتَشْكُرُونَ * وَلَقَدْخَلَقْنَـاكُمْ ثُمّ صَوّرْنَـاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِلْمَلائكَةِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِنَ السّـاجِدِينَ * قالَ مَا مَنَعَكَأَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين * قالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبّرَفِيهَا فَاخْرُجْ إِنّكَ مِنَ الصّـاغِرِينَ * قالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قالَ إِنّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قالَ فَبِمَـآ أَغْوَيْتَنِي لاَقْعُدَنّلَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمّ لاَتِيَنّهُم مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُأَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ * قالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لاَمْلاَنّ جَهَنّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَـاَآدَمُ اسْكُنْأَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَـا وَلاَ تَقْرَبَا هذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظّـالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشّيْطَـانُلِيُبْدِيَ لَهُمَا مَاوُرِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقالَ مَا نَهَـاكُمَا رَبّكُمَا عَنْ هذِهِ الشّجَرَةِ إِلاّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَـالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النّـاصِحِينَ * فَدَلّـهُمَا بِغُرُور فَلَمّا ذَاقَا الشّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَاوَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ وَنَادَاهُمَا رَبّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشّجَرَةِ وَأَقُل لَكُمَآ إِنّ الشّيْطَـانَلَكُمَا عَدُوّ مُبِينٌ * قَالاَ رَبّنَا ظَلَمْنَآ أَنْفُسَنَا وَإِن لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ * قالَ اهْبِطُوابَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرْض مُسْتَقَرّ وَمَتَـعٌ إِلَى حِين * قالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ *يَـبَنِيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَـاتِ اللهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ *يَـبَنِي ءَادَمَ لاَيَفْتِنَنّكُمُ الشّيْطَـانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِنَ الْجَنّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنّهُيَرَ كُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَتَرَوْنَهُمْ إِنّا جَعَلْنَا الشّيَـاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ )(6) .
وكذلك ما ورد في سورة طه فيالآية 115 ـ 123 ، وغيرها من الآيات ، ولابد من دراستها بشكل عام .
الفصل الأول
في مبررات الخلافة والحكمة في استخلاف آدم (عليه السلام) : إنما يعنينا من دراسته في هذا الفصل ، هو الآيات الأربع الأولى من هذا المقطع القرآني الشريف ، والآيات الاُخرى المشابهة السابقة .
والبحث فيها ، وما تضمنته منمعلومات ومفاهيم له عدة جوانب :
الأول : تحديد الموقف العام تجاه دراسة هذه الآيات من هذا المقطع القرآني ، وتصوير ما يعنيه القرآن الكريم منها .
الثاني :تحديد الموقف القرآني والإسلامي تجاه بعض المفاهيم التي جاءت في هذا المقطع ، بالشكل الذي ينسجم مع المسلّمات القرآنية ، والظهور اللفظي لهذا المقطع بالخصوص .
وقد اختص هذان الأمران بهذا المقطع ، لما ذكرناه من وضوحه وتفصيله.
الثالث : بيان الصورة الكاملة حول الاستخلاف ، التي يمكن استفادتها من مجموع الآيات القرآنيةالشريفة المتشابهة .
وفيما يتعلق بالجانب الأول نجد الشيخ محمد عبده تبعاً لبعض الدارسين المتقدمين يذكر رأيين مختلفين بحسب الشكل وان كانا يتفقان في النهاية ،حسب ما يقول :
الرأي الأول : هو الذي سار عليه السلف واختاره الشيخ محمد عبده نفسه أيضاً ، حيث يقول : ' وأما ذلك الحوار في الآيات فهو شأن من شؤون الله مع ملائكته ،صوره لنا في هذه الفصول بالقول والمراجعة والسؤال والجواب ، ونحن لا نعرف حقيقة ذلك القول ، ولكننا نعلم أنّه ليس كما يكون منا ، وان هناك معاني قصدت افادتها بهذهالعبارات ، وهي عبارة عن شأن من شؤونه تعالى قبل خلق آدم وأنّه كان يعد له الكون ، وشأن مع الملائكة يتعلق بخلق نوع الانسان ، وشأن آخر في بيان كرامة هذا النوع وفضله '(7) . والرأي الثاني : الرأي الذي سار عليه الخلف من المحققين وعلماء الإسلام الذين بذلوا جهدهم في دراسة القرآن والتعرف على مقاصده وتأويله على أساس العقل ، فإذا جزمالعقل بشيء وورد النقل خلافه ، يكون حكم العقل القطعي قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ، حيث يرون أنّ هذه القصة بمواقفها المختلفة انما جاءت على شكل التمثيل ومحاولةتقريب النشأة الآدمية الانسانية واهميتها وفضيلتها ، وأنّ جميع المواقف والمفاهيم التي جاءت فيها لا يمكن فهم حقيقة المعاني والاهداف التي قصدت منها ، بل يأتينا الله فيذلك ما يقرّب المعاني من عقولنا ومخيلتنا(8) .
فالرأي الأول والثاني وان كانا يلتقيان في حقيقة تنزيه الله سبحانه وتعالى وعالم الغيب عن مشابهة المخلوقات الماديةالمحسوسة في مثل هذه المشاهد والمواقف المختلفة ، وكادا يتفقان ـ أيضاً ـ في الاهداف والغايات العامة المقصودة من هذا المقطع القرآني ، ولكنهما مع ذلك يختلفان فيامكانية تحديد بعض المفاهيم التي وردت في المقطع ، كما سوف يتضح ذلك عند معالجتنا للمقطع القرآني من جانبه الآخر .
وفيما يتعلق بالجانب الثاني نجد السلف انسجاماًمع موقفهم في الجانب الأول يقفون من دراسة المقطع موقفاً سلبياً ، ويكتفون ـ في بعض حالات الانفتاح ـ بذكر الفوائد الدينية التي تترتب على ذكر القرآن لهذا المقطع القرآني( المتشابه ) الذي لا يمكن فهم حقيقة المعاني فيه .
وقد أشار الشيخ محمد عبده إلى بعض هذه الفوائد ، ونكتفي بذكر فائدتين مـنها :
الاُولى : أنّ الله سبحانهوتعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده ان يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه(9) .
الثانية : أنّ الله سبحانه لطيف بعباده رحيم بهم ، يعمل علىمعالجتهم بوجوه اللطف والرحمة ، فهو يهدي الملائكة في حيرتهم ويجيبهم عن سؤالهم عندما يطلبون الدليل والحجة بعد ان يرشدهم إلى واجبهم من الخضوع والتسليم : ( ... إِنّيأَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلّمَ ءَادَمَ اْلأَسْماءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ... )(10) .
واما الخلف فقد حاولوا إيضاح المفاهيم التيوردت في هذا المقطع القرآني ليتجلى بذلك معنى استخلاف الله سبحانه وتعالى لآدم .
وعلى أساس منهج الخلف نرى في المقطع القرآني عدة مواضيع للحديث ترتبط بقضيةالاستخلاف ، يحسن بنا الإشارة إليها ، والوقوف عندها ، ثم الحديث عن المعنى العام للمقطع القرآني :
1 ـ الخلافة :
الخليفة بحسب اللغة : من خلف منكان قبله ، وقام مقامه ، وسد مسده ، وتستعمل ـ أيضاً ـ بمعنى النيابة(11) ، ومن هذا المنطلق يطرح هذا السؤال : لماذا سمي آدم خليفة ؟ وما هو المضمون القرآني لهذا اللفظ ؟ توجد هنا عدة مذاهب :
الأول : أنّ آدم سُميّ خليفة لأنّه خلف مخلوقات الله سبحانه في الأرض ، وهذه المخلوقات إما أن تكون ملائكة أو يكونوا من الجن الذينكانوا قد أفسدوا في الأرض وسفكوا فيها الدماء ، كما روي عن ابن عباس ، أو يكونوا آدميين آخرين قبل آدم هذا(12) . الثاني : أنه سميّ خليفة لانه وأبناءه يخلف بعضهمبعضاً ، فهم مخلوقات تتناسل ويخلف بعضها البعض الآخر ، وقد نسب هذا المذهب إلى الحسن البصري(13) .
الثالث : أنه سميّ خليفة لانه يخلف الله سبحانه في الأرض .
وفي تفسير هذه الخلافة لله سبحانه وارتباطها بالمعنى اللغوي تعددت الآراء واختلفت ، ومن أهم هذه الآراء :
أ ـ أنه يخلف الله في الحكم والفصل بين الخلق ، لأن اللهقد اعطاه حق القضاء وحل الاختلافات ، وهو المروي عن ابن مسعود(14) .
ب ـ يخلف الله سبحانه في عمارة الارض واستثمارها ، من انبات الزرع ، واخراج الثمار ، وشق الانهار ،وغير ذلك(15) .
ج ـ يخلف الله سبحانه في العلم بالاسماء ، كما ذهب إلى ذلك العلامة الطباطبائي(16) .
د ـ يخلف الله سبحانه في الارض بما نفخ الله فيه من روحهووهبه من قوة غير محدودة ، سواء في قابليتها أو شهواتها أو علومها ، كما ذهب إلى ذلك الشيخ محمد عبده(17) .
ولعل المذهب الثالث من هذه المذاهب الثلاثة ، هو الصحيح ،لظهور النص القرآني فيه ، ولما ذكرته بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) بهذا الشأن(18) .
ويكون ما ذكر في القول الأول والثاني ، إنّما هو من آثار هذهالخلافة ومترتباتها .
كما يمكن أن ما ذكره الشيخ محمد عبده في القول الرابع هو بيان السر في منح الإنسان هذه الخلافة ، لأنّه يتميز بهذه المواهب والقوىوالقابليات ، ولا يمثل رأياً قبال الآراء الاُخرى في تفسير معنى الخلافة ، وإنّما هو بيان السر والعلة لهذه الخلافة .
وبذلك يمكن أن نجمع بين هذه الأقوال .
2ـ كيف عرف الملائكة أن الخليفة يفسد في الأرض ؟
لقد ذكر المقطع القرآني أن جواب الملائكة على إخبار الله تعالى لهم بجعل آدم خليفة في الأرض ، أنّهمتساءلوا عن سبب اصطفاء هذا المخلوق ، ووصفوه بأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فكيف عرف الملائكة هذه الصفة في هذا الخليفة ؟
وهنا عدة آراء :
الأول : أنالله سبحانه وتعالى أعلمهم بذلك ، لأن الملائكة لايمكن أن يقولوا هذا القول رجماً بالغيب وعملاً بالظن(19) ، فلابد لهم من العلم ; والعلم مصدره هو الله تعالى ، غاية الأمرأن هذا الإعلام لم يذكر في الآيات الشريفة ، وإنّما تم بطريقة ما ، فكأنه تعالى قال : إني جاعل في الأرض خليفة يكون من ولده افساد في الأرض وسفك الدماء . الثاني :أنهم قاسوا ذلك على المخلوقات التي سبقت هذا الخليفة ـ من الآدميين أو الجن ـ الذي سوف يقوم مقامها ، كما يشير إلى ذلك بعض الروايات والتفاسير ، فعن ابن عباس ، وابن مسعود، وقتادة : إنّما أخبروا بذلك عن ظنهم وتوهمهم لأنّهم رأوا الجن من قبلهم قد افسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فتصوروا أنه إن استخلف غيرهم كانوا مثلهم(20) .
وإلى مثلهذا تشير بعض الروايات ، مثل ما رواه العياشي ، عن الصادق (علي2ه السلام)قال : ' وما علم الملائكة بقولهم : ( أتجعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَاءَ )لولا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء '(21) .
الثالث : أنّ طبيعة الخلافة تكشف عن ذلك بناء على الرأي الأول من المذهب الثالث في معنى الخلافة ، حيث أنالفصل والحكم يفترض وجود الاختلاف والنزاع ، ولازمه الفساد في الأرض وسفك الدماء .
الرابع : أنّ طبيعة الخليفة نفسه تقتضي ذلك ، وهنا رأيان :
أ ـ انالمزاج المادي والروحي لهذا المخلوق الذي يريد ان يجعله الله خليفة ، والاساس الاجتماعي للعلاقات الأرضية التي سوف تحصل بين ابناء هذه المخلوقات ، هي التي جعلت الملائكةيعرفون ذلك ، يقول العلامة الطباطبائي ' ان الموجود الأرضي بما انه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية والدار دار التزاحم محدودة الجهات وافرة المزاحمات ، مركباتها فيمعرض الإنحلال وإنتظاماتها واصطلاحاتها مظنة الفساد ومصب البطلان ، لا تتم الحياة فيها الا بالحياة النوعية ولا يكمل البقاء فيها الا بالاجتماع والتعاون فلا تخلو منالفساد وسفك الدماء'(22) .
ب ـ ان الارادة الانسانية بما اُعطيت من اختيار يتحكم في توجيهه العقل بمعلوماته الناقصة ، هي التي تؤدي بالإنسان إلى أن يفسد في الأرضويسفك الدماء ، قال محمد عبده : ' اخبر الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة ، نفهم من ذلك أنّ الله يودع في فطرة هذا النوع الذي يجعله خليفة أن يكون ذا ارادة مطلقةوأختيار في عمله غير محدود ، وإن الترجيح بين ما يتعارض من الأعمال التي تعن له تكون بحسـب علمه ، وان العلم اذا لم يكن محيطاً بوجوه المصالح والمنافع فقد يوجه الإرادةإلى خلاف المصلحة والحكمة ، وذلك هو الفساد ، وهو معين لازم الوقوع ، لان العلم المحيط لا يكون إلا لله تعالى '(23) .
ويبدو أنّ الرأي الأول هو الصحيح ، حيث إنّهتعالى لا بد وأنّه قد أعلم الملائكة بذلك ، ولو عن طريق إعلامهم بحال وطبيعة هذا المخلوق الذي ينتهي به الحال إلى هذه النتائج .
وأما ما بُيّنَ من هذهالطبيعة فلعل الصحيح هو بيان أمرين :
أحدهما : الخصوصية المادية الغضبية والشهوية ، التي أشار اليها العلامة الطباطبائي وهي الهوى في طبيعة هذا الخليفة . والآخر : هو أنّ هذا الانسان مريد ومختار يعمل بارادته ، كما ذكر الشيخ محمد عبده ، ويمكن أن نفهم ذلك من قرينة قول الملائكة ( وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُلَكَ ) ، حيث أن هذا التسبيح والتقديس أمر لازم في الملائكة لاينفك عنهم ; لأنّهم غير مختارين ، بل يفعلون ما يأمرون ، بخلافه في الإنسان باعتبار إرادته ، الأمر الذياستدعى التوضيح الالهي ، الذي يشتمل على بيان الخصوصية التي تجعل هذا الموجود مستحقاً لهذه الخلافة وهو العلم .
وقد تحدث القرآن الكريم في وصف الإنسان بكلتاالخصوصيتين والصفتين ، فقد قال تعالى في وصف الإنسان في خصوصيته المادية : ( زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَـاطِيرِالْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالاْ نْعَـامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَـعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُالْمَـَآبِ)(24) .
كما تحدث عن اختياره فقال : ( إِنّا خَلَقْنَا الاْنسَـانَ مِن نُطْفَة أَمْشَاج نّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـاهُ سَمِيعاً بَصِيراً* إِنّاهَدَيْنَـاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً )(25) .
3 ـ الأسماء :
والأسماء من المفاهيم التي وقع الخلاف فيها بين علماء التفسير حولحقيقتها والمراد منها ، والآراء فيها تسير في الاتجاهين التاليين : الأول : أنّ المراد من الأسماء الألفاظ التي سمّى الله سبحانه بها ما خلقه من أجناس وأنواعالمحدثات وفي جميع اللغات ، وهذا الرأي هو المذهب السائد عند علماء التفسير ، ونسب إلى ابن عباس ، وبعض التابعين(26) .
وينطلق أصحاب هذا المذهب من فكرة أنّ اللهسبحانه كان قد علّم آدم جميع اللغات الرئيسة ; وقد كان ولده على هذه المعرفة ، ثم تشعبت بعد ذلك واختص كل جماعة منهم بلغة غير لغة الجماعة الاُخرى .
الثاني : أنّالمراد من الأسماء : المسميات ، أو صفاتها وخصائصها ، لا الألفاظ ، وحينئذ فنحن بحاجة إلى القرينة القرآنية أو العقلية التي تصرف اللفظ إلى هذا المعنى الذي قد يبدو أنّهيخالف ظاهر الاطلاق القرآني لكلمة ( الأسماء ) الدالة على الالفاظ .
والقرينة الدالة على استعمال لفظ ( الأسماء ) في ( المسميات ) ، يمكن أن نتصورها في الأمورالتالية :
أ ـ كلمة ( علم ) التي تدل على أنّ الله سبحانه منح آدم ( العلم ) وبما ' أن العلم الحقيقي انما هو ادراك المعلومات أنفسها ، لأن الألفاظ الدالة عليها تختلفباختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح فهي تتغير وتختلف ، والعلم الحقيقي بالشيء لايتغير ، وهذا بخلاف المعنى فأنه لا تغيير فيه ولا اختلاف '(27) ، فلابد أن يكونهو المسميات التي هي المعلومات الحقيقية .
ب ـ قضية التحدي المطروحة في الآيات الكريمة ، ذلك أنّ الأسماء حين يقصد منها الألفاظ واللغات ، فهي اذن من الأشياء التيلا يمكن تحصيلها إلا بالتعليم والاكتساب ، فلا يحسن تحدي الملائكة بها ، إذ لا دلالة في تعليمها آدم على وجود موهبة خاصة فيه يتمكن بها من معرفة الأسماء ، بل علمهابالتعليم الذي كان يمكن للملائكة أن يعلموا من خلاله ، وهذا على خلاف ما اذا قلنا : إنّ المقصود منها المسميات ، فانها مما يمكن ادراكه ـ ولو جزئياً ـ عن طريق إعمال العقلالذي يُعدّ موهبة خاصة فيكون لمعرفة آدم بها دلالة على موهبة خاصة منحه الله اياها .
قال الطوسي : ' إنّ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها ولا وجه لايثاره الفضيلةبها '(28) .
وقال الرازي : ' وذلك لان العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة ، بل ذلك لا يحصل الا بالتعليم ، فان حصل التعليم حصل العلم به والا فلا ، اما العلمبحقائق الأشياء ، فالعقل متمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي فيه '(29) .
ج ـ عجز الملائكة عن مواجهة التحدي ، لأن هذه الأسماء لو كانت الفاظاً لتوصل الملائكة إلىمعرفتها بانباء آدم لهم بها ، وهم بذلك يتساوون مع آدم فلا تبقى له مزية وفضيلة عليهم ، فلابد لنا من ان نلتزم بأنّها أشياء تختلف مراتب العلم بها ، الأمر الذي أدى إلى أنيعرفها آدم معرفة خاصة تختلف عن معرفة الملائكة لها حين اخباره لهم بها ، وهذا يدعونا لان نقول إنّها عبارة عن المسميات لا الألفاظ .
قال العلامة الطباطبائي بصددشرح هذه الفكرة : ' أن قوله تعالى : ( ... وَعَلّمَ ءَادَمَ الأَ سْماءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ ... ) ، يشعر بان هذه الأسماء ـ أو ان مسمياتها ـ كانت موجودات احياء عقلاءمحجوبين تحت حجاب الغيب ، وان العلم بأسمائهم كان غير العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء ، والاّ كانت بإنباء آدم إياهم بها عالمين بها وصائرين مثل آدم مساوين معه '(30) .
ولكن ما هي العلاقة المعنوية التي صححت استعمال لفظ ( الأسماء ) مجازاً من ( المسميات ) ؟
وحين يصل اصحاب هذا الاتجاه إلى هذه النقطة نجدهم يحاولون أنْ يتعرفواعلى هذه العلاقة ويذكرون لذلك قرائن متعددة :
1 ـ فالرازي يرى هذه المناسبة والعلاقة في مصدر اشتقاق الاسم ، فان هذا الأشتقاق إما أن يكون من السمة أو السمو ' فانكان من السمة كان الأسم هو العلامة ، وصفات الأشياء خصائصها دالة على ماهياتها ، فصح أن يكون المراد من الأسماء : ( الصفات ) . وإن كان من السمو فكذلك ، لأنّ دليل الشيءكالمرتفع على ذلك الشيء ، فان العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول '(31) ، والصفات تدل على الموصوف ، وهي كالظاهر المرتفع بالنسبة إلى الشيء .
2 ـ والشيخ محمدعبده يرى هذه العلاقة في ' شدة الصلة بين المعنى واللفظ الموضوع له وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر ' .
3 ـ كما أنّه يرى في ذلك وجهاً آخر ، يكاد يغنيه عن هذهالعلاقة حيث : إنّ الأسم قد يطلق اطلاقاً صحيحاً على صورة المعلوم الذهنية ( اي ما به يعلم الشيء عند العالم ) فأسم الله مثلاً هو ما به عرفناه في أذهاننا لا نفس اللفظ ،بحيث يقال : إننا نؤمن بوجوده ونسند إليه صفاته ، فالأسماء هي ما يعلم بها الأشياء في الصور الذهنية وهي العلوم المطابقة للحقائق الخارجية الموضوعية ، والأسم بهذاالمعنى ، هو الذي جرى الخلاف بين الفلاسفة ، في انه عين المسمى أو غيره ، الأمر الذي يدعونا لأن نقول : إنّ للإسم معنى آخر غير اللفظ ، اذ لا شك بان اللفظ غير المعنى .
والأسم بهذا الاطلاق ـ أيضاً ـ هو الذي يتبارك ويتقدس : ( سبـّحِ اسْمَ رَبّكَ الاْعْلَى )(32) ، اذ لا معنى لان يكون اللفظ هو الذي يتبارك ويتقدس(33) .
كما أنه هوالذي يوصف بالحسنى ( ... لهُ الأسْمآءُ الْحُسْنَى )(34) ، بما يعبر هذا الأسم عن الأوصاف الحسنة .
وهذا هو ما نفهمه ، مما في دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله :' وبأسمائك التي ملأت أركان كل شيء ' ، فأن هذه الأسماء إنّما هي مظاهر الأوصاف الإلهية الحقيقية التي تجلت في كل الوجود ، من القدرة والحكمة والرحمة والجود والكرم... الخ .
فتعليم آدم الأسماء كلها ، هو تعليمه الصفات والخصائص التي تتصف بها الأشياء .
ماهي حقيقة هذه الأسماء ؟
وبعد هذا كله نجدهم يختلفون في حقيقة هذهالمسميات والمراد منها في الآية الكريمة .
وهناك اتجاهان رئيسيان يطرحان في هذا المجال :
الأول : إن هذه المسميات موجودات أحياء عقلاء وهي إما :
أـ عبارة عن أسماء العناصر والذوات الانسانية الموجودة في سلسلة امتداد الجنس البشري من الأنبياء والربانيين والأحبار الذين جعلهم الله تعالى شهوداً على البشريةوالانسانية ، واستحفظهم الله تعالى على كتبه ورسالاته ( إِنّآ أَنْزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسْلَمُواْ للذِينَهَادُوا وَالرّبّـانِيّونَ وَالاْ حْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَـابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ... )(35) ، ويكون وجود هذا الخط الإنساني الإلهيالكامل ، هو الضمان الذي أعده الله تعالى لهداية البشرية والسيطرة على الهوى ، وتوجيه الإرادة نحو الخير والصلاح والكمال .
وقد ورد هذا الإتجاه في روايات أهلالبيت (عليهم السلام) ، فعن الصادق (عليه السلام) : 'إن الله تبارك وتعالى علم آدم (عليه السلام) اسماء حجج الله كلها ثم عرضهم ـ وهم أرواح ـ على الملائكة ( فقالَأَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَـادِقِينَ ) ، بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم (عليه السلام) ( قالوا سبحـانَكَ لاَ عِلْمَلَنَآ إِلاّ مَا عَلّمْتَنَآ إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )قال الله تبارك وتعالى : ( يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمّآ أَنْبَأَهُمْبِأَسْمآئِهِمْ ) ، وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته '(36) .
فكأنه اُريد بهذا التعليمبيان الخلفاء الحقيقيين والذوات الطاهرة النقية من عباد الله الصالحين ، الذين أستحق بهم الجنس البشري صلاحية الخلافة على الأرض ، باعتبارهم المسبحين المقدسين لله معالإرادة والعلم ، وبذلك يفضلون على الملائكة .
ويكون العلم بهذه الأسماء معناه تحقق وجودها في الخارج باعتبار مطابقة العلم للمعلوم ، وتعليم آدم الأسماء إنّماهو اخباره بوجودها ، أو إداعها في صلبه .
أو يكون العلم بالأسماء معناه إيداع هذه الكمالات التي يتصف بها هؤلاء المخلوقون في خلقته وتأهيله للوصول إليها بإرادته، وهي صفات وكمالات تمثل نفحة من الصفات والكمالات الإلهية ، ولاسيما إذا أخذنـا بنظر الاعتبار أنّ كلمة الأسماء في القرآن الكريم تطلق على الصفات الإلهية بنحو منالاطلاق .
وقد مال أستاذنا الشهيد الصدر (قدس سره) إلى هذا الرأي ، حيث أفترض بأن الملائكة حين أخبرهم الله تعالى بإرادته في أن يجعل آدم خليفة في الأرض ، ثارت فينفوسهم مخاوف أن يفسد هذا الخليفة الذي يتمتع بالإرادة والأختيار ، وعندما أخبرهم الله تعالى بوجود الأنبياء والأولياء والأوصياء ، أي بوجود هذا الخط الذي يعبر عنه بخطالشهادة الذي يكون مقتضاه شهادة أصحاب هذا الخط على الناس والنظارة على حركتهم وتعليمهم وهدايتهم ، وحينئذ استقرت نفوس الملائكة ، وذهبت عنهم الحيرة والخوف بعد معرفتهملهذه الحقيقة(37) .
ب ـ أو هي أسماء ذرية آدم وأسماء الملائكة ، كما ورد ذلك عن الربيع بن زيد(38) .
ج ـ ويرى العلامة الطباطبائي أنها موجودات عاقلة لها مراتبمن الوجود ، ويمكن من خلال العلم بها أن يسير الأنسان في طريق التكامل .
وكأن أصحاب هذا الاتجاه أستفادوا ثبوت الحياة والعقل ، لهذه الموجودات من قوله تعالى : ( ...ثمّ عَرَضَهُمْ ... ) ، حيث استخدم ضمير الجماعة المختص بمن يعقل(39) .
ولكن الشيخ الطوسي يناقش فكرة الإعتماد على الضمير بقوله : ( وهذا غلط لما بيناه من التغليبللعاقل على غيره وحسنه ، كما قال تعالى : ' وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّة مّن مّآء فَمِنْهُم مّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِوَمِنْهُم مّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَع ... '(40) ، فحينما يكون المورد شاملاً للعقلاء وغيرهم يغلّب ضمير العقلاء .
الثاني : أن هذه المسميات تعني الحقائق والأشياء فيهذا الكون وما يتعلق بعمارة الدين والدنيا من غير تحديد ولا تعيين .
وقد تبنى هذا الإتجاه عدد كبير من المفسرين ، وهو الظاهر من كلام الشيخ الطوسي(41) ، والرازي(42) ،في تفسيرهما ، والشيخ محمد عبده(43) ، وحكاه الطبرسي(44) ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعن أكثر المتأخرين .
وهذا الإتجاه مروي عن أهل البيت (عليهم السلام)أيضاً ، فقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم القمي ، عن الصادق (عليه السلام) ، في تفسير قوله : ( وَعَلّمَ ءَادَمَ الاسْمآءَ كُلّهَا ... ) ، قال : ' أسماء الجبال والبحاروالأودية والنبات والحيوان '(45) .
وفي مجمع البيان عن الصادق (عليه السلام) ـ أيضاً ـ أنه سئل عن هذه الآية فقال : ' الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلىبساط تحته فقال : وهذا البساط مما علمه '(46) .
وفي تفسير العياشي ، عن ابي عبد الله (عليه السلام) سألته عن قول الله : ( وَعَلّمَ ءَادَمَ الاسْمآءَ كُلّهَا ... )ماذاعلمه ؟ قال : ' الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال : وهذا البساط مما علمه '(47) .
وهذا الرأي هو الصحيح لما عرفت من عدم اختصاص المسمياتبالوجودات العاقلة بدعوى قرينة ( ضمير الجمع للعاقل ) المدفوعة ، كما أنه الرأي الذي ينسجم مع واقع الإنسان من ناحية ، لأن الله تعالى اعطى الإنسان قدرة الإدراك وموهبةالعلم بالحقائق ، ولم يجعل ذلك مختصاً بالعقلاء من الموجودات ، بل هي شاملة وغير محدودة وقابلة للنمو والتطور ، وبذلك أمتاز الإنسان على الملائكة .
1- البقرة : 30 ـ 39 .
2- الأنعام : 165 .
3- فاطر : 39 .
4- يونس : 13 ـ 14 .
5- الأحزاب : 72 .
6- الأعراف : 10 ـ 27 .
7-المنار 1 : 254 .
8- المصدر السابق : 255 .
9- وهذا يعني توجيه الإنسان للبحث والتدبر في خلق الإنسان والكون .
10- البقرة : 30 ـ 31 ، المنار 1 : 254 ـ 255 .
11- مفردات الراغب : 156 ـ 157 ، مادة ( خلف ) .
12- التبيان للطوسي 1 : 131 .
13- المصدر السابق .
14- المصدر السابق .
15- المصدر السابق .
16-الميزان 1 : 118 .
17- المنار 1 : 260 .
18- تفسير القمي 1 : 36 ـ 37 ، فقد روى جابر بن يزيد الجعفي عن الباقر(عليه السلام) ، عن آبائه(عليهم السلام) ، عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) : ' إنّ الله تبارك وتعالى لما أحبّ أن يخلق خلقاً بيده .. قال : إني جاعل في الأرض خليفة لي عليهم ، فيكون حجة لي عليهم في أرضي على خلقي ... ' ، وكذلك فيعلل الشرائع 1 : 129 ، حديث : 1 ، وعنه تفسير نور الثقلين 1 : 51 ـ 52 ، حديث :80 .
19- التبيان 1 : 132 .
20- المصدر السابق .
21- تفسير العياشي 1 : 29 ، وعنه البحار 11 : 117 ، حديث : 47 .
22- الميزان 1 : 115 و 119 ، والتفسير الكبير 1 : 121 .
23- المنار 1 : 256 .
24- آل عمران : 14 .
25- الإنسان : 2 ـ 3 .
26- التبيان 1 : 138 .
27- المنار 1 : 262 .
28- التبيان 1 : 138 .
29- التفسير الكبير 2 : 176 .
30- الميزان 1 : 117 .
31- المصدر السابق : الموضوع نفسه .
32- الأعلى :1 .
33- المنار 1 : 262.
34- طه : 8 .
35- المائدة : 44 .
36- كمال الدين للصدوق 1 : 25 ، رواه بطريقين ضعيفين ، ط الاعلمي .
37- خلافة الإنسان وشهادةالأنبياء :
38- التبيان للطوسي 1 : 138 .
39- الميزان 1 : 117 .
40- النور : 45 ، التبيان للطوسي 1 : 138 .
41- المصدر السابق .
42- التفسير الكبير 3 : 176 .
43- المنار 1 : 262 .
44- مجمع البيان 1 : 152 ، ط الاعلمي .
45- تفسير القمي 1 : 56 .
46- مجمع البيان 1 : 152 .
47- العياشي 1 : 51 .