الاختلاف واسلوب الحوار الحكيم
الاستاذ الشيخ محمد علي التسخيري هذا البحثيتناول أسباب اختلاف الفقهاء، والموقف العملي للدولة الاسلامية تجاه هذا الاختلاف، ثم يذكر دعوة الاسلام الى الحوار، وشروط هذا الحوار مركزا على مسائل تحرير محلالنزاع، والموضوعية والانطلاق من المبادئ المتفق عليها، والابتعاد عن التهويل ، والاثر العملي.
قبل أن نبحث عن دواعي وأسباب الخلاف الفقهي ينبغي أننذكر حقيقة مهمة هي: أن الاسلام دين الفطرة، أي أنه دين واقعي لا يتعامل مع الخيال وإنما يتعامل مع الواقع سواء كان على صعيد الوجود كله، أو صعيد التاريخ الانساني أو صعيدالفطرة الانسانية وهي السر الوحيد لتميز الانسان عن غيره من المخلوقات.
ومن عجائب الفطرة هذا الانسجام التكويني الرائع بين القناعة الفكرية، والميولالعاطفية والسلوك العملي في الانسان، كما أن من عجائبها هذا التنوع في دراسة الاشياء ومعرفتها وتطبيق البديهيات العقلية عليها، وربما كان من عجائبها أيضاً اختلاف وجهاتالنظر والاجتهادات في تحليل القضية الواحدة.
ولسنا بصدد التحليل النفسي بقدر ما نحن بصدد القول بأن الاسلام بمقتضى واقعيته قرر أن العقيدة يجب أن تتشكل وفقبرهان منطقي: (قل هاتوا برهانكم) وأنه لا يمكن الاكراه عليها، وإنما مسيرها الطبيعي الاستدلال والبرهنة، وكذلك فانه بمقتضى واقعيته أيضاً سمح بالاجتهاد في فهم نصوصهالقرآنية والنبوية واستنباط أبعادها وتطبيق مفاهيمها على الواقع، وبالتالي استنباط الصور الكلية والجزئية لموقف الاسلام من أنماط السلوك الانساني بل وحتى الموقفالاسلامي من الكون والحياة والانسان، وشتى المواقف الاجتماعية المطروحة أو التي ستطرح على المسيرة الحضارية.
أما الاختلاف الذي نهى عنه القرآن الكريم وشددالنكر عليه، فهو كما هو واضح، الاختلاف في الموقف العام من القضايا المصيرية المشتركة للامة الاسلامية الواحدة، ذلك أن حبل اللّه الذي أمرنا بالاعتصام به هو الخط العامالمتيقن من الاسلام والذي يشكل عصمة هذه الامة وخصيصتها الكبرى، إنه (القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة) ولايشك في هذه العروة الوثقى الا جاهل أو مكابر.
وتبقى كل الاختلافات والاجتهادات المتنوعة في إطار الاعتصام بالكتاب والسنة وحينئذ يتوحد الموقف العام رغم اختلاف الاتجاهات في الاطار الواحد.
إن وعي هذهالحقيقة ضروري لدى مفكرينا بل جماهيرنا، وردّ على أولئك الذين يدعون الى تذويب المذاهب الفقهية تحقيقاً للوحدة الاسلامية.
أسباب الاختلاف الفقهي:
ومعرفة أسباب الاختلاف الفقهي أمر مفيد جداً لتحقيق التقريب، وضروري لبحثنا هذا، فما هي هذه الأسباب؟ ورقة العمل المقدمة من قبل اللجنة المنظمة لندوةالتقريب التي انعقدت في المغرب، أرجعت الأسباب إلى أربعة، هي:
أ - الاختلاف في دلالة النص الثابت.
ب - الاختلاف في صحة النص المتعلق بالحكم.
ج - تباين الاجتهاد في ترجيح الأدلة عند تعارضها.
د - اختلاف الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص صريح(1).
وأوجزها ابن رشد في مقدمة كتابه 'بداية المجتهدونهاية المقتصد' وحصرها في ستة أمور:
أحدها: تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع، أعني بين أن يكون اللفظ عاماً يراد به الخاص أو خاصاً يراد به العام، أو خاصاًيراد به الخاص، أو يكون له دليل الخطاب أو لا يكون.
والثاني: الاشتراك الذي في الألفاظ، وذلك:
إما في اللفظ المفرد كلفظ: 'القرء' الذي يطلق علىالأطهار وعلى الحيض، وكذلك لفظ : 'الأمر' هل يحمل على الوجوب أو الندب، ولفظ 'النهي' هل يحمل على التحريم أو الكراهة، وإما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى: (إلا الذينتابوا)(2) فإنه يحتمل أن يعود على الفاسق فقط، ويحتمل أن يعود على الفاسق والشاهد فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف.
والثالث: اختلاف الإعراب.
والرابع: تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز التي هي: إما الحذف وإما الزيادة وإما التأخير وإما تردد على الحقيقة أو الاستعارة.
والخامس: إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة أخرى، مثل إطلاق الرقبة في العتق تارة وتقييدها بالإيمان تارة.
والسادس: التعارض في الشيئين في جميع أصنافالألفاظ التي يتلقى منها الشرع الأحكام بعضها مع بعض وكذلك التعارض الذي يأتي في الأفعال أو في الإقرارات أو تعارض القياسات نفسها، أو التعارض الذي يتركب من هذه الأصنافالثلاثة، أعني معارضة القول للفعل، أو للإقرار أو القياس ومعارضة الفعل للإقرار أو للقياس، ومعارضة الإقرار للقياس(3).
إلا أن هذا التقسيم وقع موقع الاعتراضإذ أنه ركز على الأسباب التي تتصل بالاختلاف في تنقيح الصغريات لحجية الظهور أو حجية القياس، في حين أن الاختلاف في الكبريات نفسها - باعتبارها المنشأ الأساس لهذاالاختلاف - مما يمكن تجاهله، ولذا اتجهوا الى التركيز على منبعين رئيسيين هما:
1- الخلاف في الأصول والمباني العامة المعتمدة في الاستنباط الاجتهادي كالخلاففي حجية القياس أو العقل أو الاستصحاب.
2- الخلاف في تعيين مصاديق تلك الكبريات وموارد انطباقها.
( وفي هذا القسم تنتظم جميع تلكم المناشئ التيذكرها ابن رشد ونظائرها مما لم يتعرض له كمباحث المفاهيم والمشتقات ومعاني الحروف وما يشخص صغريات حجية العقل، كباب الملازمات العقلية، بما فيه من بحوث مقدمة الواجب،واجتماع الأمر والنهي والإجراء، واقتضاء الأمر بالشيء، والنهي عن ضده وغيرها من المباحث الهامة)(4) وهنا نشير الى أن بعض العلماء كانوا يجيزون الاختلاف في الفروع دونأصول الفقه.
وهذا التقسيم الأخير بلا ريب أوفى وأكثر انطباقاً على الواقع من التقسيمين السابقين، وهذا يعني أن الاختلاف في أصول الفقه هو أساس في جلالاختلافات في الفتاوي، الأمر الذي يتطلب جهداً واسعاً ولقاءات عملية مستمرة لتحقيق تفهم أكبر للآراء والأدلة والوصول إلى مساحات مشتركة - وهي واسعة كما أتصور - وذلكتقليلا للخلاف - من جهة - وتفهما أكثر لوجهة النظر الفقهية المخالفة - من جهة أخرى - الأمر الذي يمنع من انسحاب هذا الخلاف الطبيعي إلى المجالات التحريفية التي لمحناإليها.
وما نود أن نضيفه هنا هو عامل الاختلاف في مناهج الاستدلال فهو يؤدي بالطبع الى الاختلاف في النتائج ومن هنا أدعو الى ضرورة التحديد في منهج الاستدلال،وملاحظة الترتيب المنطقي بين الأدلة. وهو أمر ضروري جداً وإلا لوقعنا في الخلط الكبير.
ولا أعتقد أننا إذا ركزنا على نوع الدليل، ولاحظنا ظروفه الخاصة به، سوفنختلف في الترتيب المطلوب وبدون ذلك نشهد اضطراباً واسعاً، فهذا يستدل بالاستصحاب أولا، ثم يلجأ إلى النص، وذاك يذكر مقتضى أصل الإباحة ثم يلجأ للاجماع، وهكذا نقع فيدوامة فقهية فظيعة، وسر هذا الوقوع عدم التصفية المنهجية ابتداء، وهي شرط كل استدلال فقهي متين.
وفي هذا الصدد نجد مثلا الإمام الغزالي، يطرح الترتيب علىالنحو التالي: 'يجب على المجتهد في كل مسألة أن يرد نظره إلى النفي الأصلي قبل ورود الشرع، ثم يبحث عن الأدلة السمعية المغيرة، فينظر أول شيء في الإجماع، فإن وجد فيالمسألة إجماعاً، ترك النظر في الكتاب والسنة فإنهما يقبلان النسخ والإجماع لا يقبله، فالإجماع على خلاف مافي الكتاب والسنة دليل قاطع على عدم النسخ إذ لا تجتمع الأمةعلى الخطأ، ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة، وهما على رتبة واحدة، لأن كل واحد يفيد العلم القاطع، ولا يتصور التعارض في القطعيات السمعية إلا بأن يكون أحدها ناسخاًفما وجد فيه نص عن كتاب أو سنة متواترة أخذ به، وينظر بعد ذلك إلى عمومات الكتاب وظواهره، ثم ينظر في مخصصات العموم من أخبار الآحاد ومن الأقيسة، فإن عارض قياس عموماً أوخبر واحد عموماً، فقد ذكرنا ما يجب تقديمه منها، فإن تساويا عنده توقف على رأي، وتخير على رأي آخر'(5).
فالترتيب لديه هو مقتضى القاعدة التي تنفي التشريع قبلوروده، ثم الأدلة المخالفة لهذا المقتضى، وفيها أيضاً يرجع إلى الاجماع أولاً، وإلا فإلى النصوص المتواترة، وبعدها إلى العمومات الكتابية ثم المخصصات، والأرجح إلىالأقيسة، وعند التعارض يطلب الترجيح ومع التساوي، فإما التخيير، وإما التوقف، والذي يظهر أن هناك نقاطاً مبهمة في هذا الترتيب.
منها: إن الاجماع - لو قلناباستقلاليته في الدليلية - يقف إلى صف واحد من الكتاب والسنة وباقي الأدلة الاجتهادية فما معنى تخصيصه أولاً بالرجوع؟
ومنها: إن العمومات الكتابية على مستوىواحد من عمومات السنة، فما معنى تخصيص الأولى بالذكر.
ومنها: إن القياس - لو قلنا به - فهو في رتبة واحدة مع النصوص ، فلماذا التأخير؟
ومنها: إنه ماالموقف عند فقدان الأدلة الاجتهادية، أي، ماهو الموقف العلمي؟ وليس لدينا أصلاً دليلان متعارضان حتى نتخيّر أو نتوقف، ثم أين مسألة الاستصحاب؟ والبراءة؟ وعلى أي حال،فهناك إبهامٌ واضح في البين.
إن هذا الأمر يتطلب دراسة موسعة حول ملاكات تقديم أي دليل على آخر، وهذه الملاكات تعرضت لها بالتفصيل المدرسة الأصولية الإمامية،وإن كان الاستيعاب قد تم في مرحلة متأخرة جداً (6).
وقد ذكرت أن الملاكات هي: التخصيص والتخصص والحكمة والورود، ونشير بالإجمال إلى معانيها:
-التخصيص : والمراد به إخراج من الحكم مع دخول المخرج موضوعاً.
- التخصص: والمراد به الخروج الموضوعي الوجداني.
وهذان معروفان:
- الحكومة:والمراد بها أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الآخر موسعاً أو مضيقاً له، فمن القسم الأول: من أن الفقاع خمر استصغره الناس. ومن الثاني: قوله(صلى الله عليه وآله):'لا ضرر ولا ضرار' الذي يقوم بتضييق موضوع الأدلة الأولية إلى مالا يشمل الأحكام الضرورية. - الورود: والمراد به الدليل النافي للموضوع وجداناً، ولكن بواسطةتعبد شرعي كتقدم دليل : 'لا ضرر' على دليل: 'وجوب دفع الضرر المحتمل' في المورد الضروري.
وعبر هذه الملاكات لا أظن أننا سنختلف بعد ذلك كثيراً، ذلك أن المجتهديبحث - أول ما يبحث - عن واقع الحكم الشرعي - فإذا لم يجد شيئاً، راح يبحث عما نزل بمنزلة الواقع، فإذا لم يعثر على شيء فعليه البحث عن موقفه العملي كما تحدده الوظيفةالشرعية، وإلا راح للموقف العلمي كما يحدده العقل، وعند تعقّد الأمر يلجأ عادة للقرعة طبق تحديداتها.
وهذا الترتيب قائم على قوانين الحكومة والورود.
فالأدلة التي تكشف بلسانها عن الواقع كالكتاب والسنة والإجماع، وغيرها مقدمة بلا ريب على الأدلة التي تكشف عن الواقع التنزيلي (أي ما هو بمنزلة الواقع) كالاستصحابوأصالة الصحة وقاعدة التجاوز والفراغ في الصلاة وأمثالها، وذلك لأن الأولى حاكمة على الثانية ومزيلة لموضوعها تعبداً، في حين نجد أن أدلة الواقع التنزيلي مقدمة بدورهاعلى أدلة الوظيفة الشرعية كأدلة البراءةوالتخيير والاحتياط، لأن هذه الأدلة، أخذ في موضوعها فقدان الواقع بجميع مراتبه حتى التنزيلية.
وأدلة الوظيفةالعملية الشرعية مقدمة على أدلة الوظيفة العملية العقلية.
وهذه الأخيرة مقدمة على أدلة القرعة لنفس ما ذكرناه(7).
وما أظنه أن الكثير من الاختلاففي مناهج الاستدلال راجع إلى عدم التركيز على ملاكات التقديم هذه والا فلا مجال للاختلاف الكثير.
ومن الضروري أن ننبه هنا أن هذه الملاكات بنفسها تلعب دورهافي تقديم أدلة الأحكام الثانوية - كالأحكام الضرورية والحرجية وأحكام (السبيل على المؤمنين) وأمثالها - على أدلة الأحكام الأولية، كالوضوء والصوم والحج، وغيرها.
وكذلك في تقديم أدلة الأحكام الولائية التي يصدرها ولي الأمر في منطقة المباحات بعناوينها الأولية على أدلة الإباحة هنا باعتبار أن أدلة الولاية ناظرة إلى الأدلةالأولية ومقدمة عليها، وهو باب واسع من الضروري أن تتم دراسته والتأمل العميق فيه.
مجالات الاختلاف الفقهي والموقف فيها
لاحظنا أن وجودالاختلاف حالة طبيعية نتيجة تعدد أسباب الاختلاف. الا أننا هنا نحاول التحدث عن المجالات التي يتم الاختلاف فيها وكيفية توجيه الموقف فيها أو احتواء الموقفالخلافي أو بالاحرى تحويل الخلاف الى نقطة قوة وثراء بدلاً من أن يتحول الى نقطة خور وضعف، ومهما قيل عن الحديث المنسوب للرسول(صلى الله عليه وآله) 'اخلاف أمتي رحمة' فانالاسلام لابد أن يحول كل القضايا الطبيعية الى عنصر ثراء للمسيرة الاسلامية الصاعدة.
ولما كان الفقه مرتبطاً بالحياة الفردية والاجتماعية فمن الطبيعي أنهيترك أثره الايجابي أو السلبي على المسيرة الحياتية، فماهو الطرح الاسلامي المتصور في البين؟
ولدى الجواب نود أن نذكر بأن السلوك ينقسم الى فردي واجتماعيدون أن نضع حداً فاصلاً بينهما، فان هناك سلوكات فردية ترتبط تماماً بالسلوك الاجتماعي،وأخرى لا علاقة مباشرة لها بذلك، ولذلك فهي مشمولة للاحكام الاجتماعية بمقدار هذهالعلاقة.
فاذا ركز على أنماط السلوك الفردي من قبيل (استحباب القنوت في الصلاة ووجوب رد السلام، وحرمة النذر لغير اللّه تعالى) وأمثال ذلك مما لا يرتبط مباشرةبالسلوك الاجتماعي العام، وجدنا أن الاسلام يفسح المجال للمسلم أن يجتهد بنفسه لاستنباط هذه الاحكام أو يقلد مجتهدا فيها، ولا ضير حينئذ في اختلاف الاجتهاد ولا يتركأثراً على وحدة الموقف العام.
فاذا انتقلنا الى الساحة الاجتماعية، والعمل الاجتماعي فان الموقف كما نرى يتغير، فرغم سماح الاسلام للمجتهدين بل تأكيده عليهمفي استنباط المواقف النظرية للاسلام في هذا المجال، وكذلك سماحه لهم في إبداء الرأي في النوازل والحوادث الواقعة الا أنه لا يسمح لهم مطلقاً بالاخلال بالموقف العام، ومنهنا نقول: إن المجتهدين يمكن أن يستنبطوا الحكم الاسلامي الاولي أي الذي وصفه الاسلام للموضوعات بعناوينها الاولية كحرمة الخمر والربا والقمار ووجوب الصلاة والزكاةوالحج، كما لهم أن يعينوا الموقف النظري في الاحكام الثانوية أي الاحكام التي تطرأ على الموضوعات نتيجة حصول ضرر أو حرج أو إكراه أو وقوع الشيء مقدمة للواجب أو سد ذريعةللحرام وما الى ذلك، والمكلفون هم الذين يشخصون مصاديق هذه المواقف النظرية ويعملون بها في سلوكاتهم الفردية.
أما المجال الاجتماعي أو الموقف الاجتماعيفالذي يقرره هو المجتهد الحاكم لا غير ويمكن لغيره من المجتهدين أن يعينوه على ذلك، وإذا صدر الموقف الحكومي الشرعي فليس لاحد من المجتهدين أن يخالفه عملياً على الاطلاقوالا لأدى ذلك الى شق عصا المسلمين ومن هنا يحق لنا أن نقول إنه لامجال للاختلاف في الموقف الاجتماعي العام داخل المجتمع الاسلامي أو تجاه خارج هذا المجتمع.
ولي الامر وانتخاب الفتوى الملائمة
في أحد بحوثنا الماضية التي طرحت حول مسألة (التلفيق والأخذ بالرخص) قلنا بأنّ للفرد أن يأخذ بمسألة التلفيق بينالفتاوى بعد أن بنينا ذلك على عدم لزوم اتباع الأعلم في التقليد . ولسنا نريد إعادة البحث هنا، ولكنا نريد أن نتحدث عن حقيقة مهمة هنا هي إن الحاكم الشرعييستطيع أن يعتمد فتواه أو فتوى غيره مما يراه منسجماً أكثر من غيره مع مجمل الخط العام الاسلامي، فيصدر أمره بجعل هذه الفتوى حكماً عاماً وقانوناً تتبعه الأمة - بما فيهاسائر المجتهدين بما يشمل القائلين بخلاف تلك الفتوى - وهذا المعنى إنما يتصور في مجال الحياة العامة لا السلوك الفردي(8).
ولتوضيح الامر نقول:
إنالمجال هنا ليس مجال تقليد العامي للمجتهد ليأتي بحث (الأعلمية)، وإنما هو مجال إدارة الحياة العامة بما يحقق المقاصد الاسلامية وفق الاحكام التي شرعها الشارع الحكيم(تعالى)، في إطار تخطيط إسلامي للحياة قد يتطلب أحياناً اللجوء الى فتوى معينة هي أكثر انسجاماً مع المصلحة العامة، وتشكل مع غيرها مجموعة متكاملة، مما يدفع الى انتقائهاوجعلها قانوناً بعد أن كانت حصيلة اجتهاد اسلامي جار وفق الطريقة الشرعية لاستنباط الاحكام. فلو كان الحاكم ممن يقولون بمسألة تعدد الآفاق - كما هي فتوى الشافعية -وبالتالي تعدد أوائل الشهور القمرية في العالم الاسلامي، إلا أنه كانت هناك فتوى معتبرة - وحبذا لو كانت مشهورة أيضاً - تقول بوحدة الآفاق وكفاية رؤية القمر في أي مكان منالعالم للحكم بدخول الشهر القمري كما هي مثلاً فتوى المذاهب الثلاثة (الحنفي والمالكي والحنبلي) وبعض علماء الامامية كالمرحوم الامام الخوئي والامام الشهيد الصدر(9) فانللحاكم الشرعي لا بصفته يفتي لمقلديه، بل بصفته يدير شؤون الامة الاسلامية ان ينتخب هذه الفتوى ويحولها إلى حكم الزامي تدار على أساس منها شؤون الامة.
فملاكعمل الفرد في تقليده هو الوصول الى الرأي الحجة بينه وبين ربه في المجال العملي في حين أن ملاك عمل الحاكم الشرعي هو تحقيق مقاصد الشريعة وإشاراتها مع الحفاظ على المصلحةالعامة للامة في إطار ما منحته الشرعية من صلاحيات قانونية.
ولكي نقرّب الأمر إلى الذهن نلاحظ أن الباحث المسلم لكي يكتشف مذهباً حياتياً كالمذهب الاقتصاديالاسلامي أو المذهب الاجتماعي، أو الحقوقي أو غير ذلك، قد يجد فتاوى منسجمة مع بعضها لدى مفتين متعددين، لكنها تشكل وجهاً واحداً لخط عام منسجم، وحينئذ فانه يستطيع أنيطرح ذلك الخط كصورة اجتهادية عن المذهب المذكور.
وهذاما فعله المرحوم الشهيد الصدر - وهو من كبار المجتهدين - في كتابه 'اقتصادنا' وقال مفسراً ذلك: 'إن اكتشافالمذهب الاقتصادي يتم خلال عملية اجتهادية في فهم النصوص وتنسيقها والتوفيق بين مدلولاتها في اطراد واحد، وعرفنا أن الاجتهاد يختلف ويتنوع تبعاً لاختلاف المجتهدين فيطريقة فهمهم للنصوص، وعلاجهم للتناقضات التي قد تبدو بين بعضها والبعض الآخر، وفي القواعد والمناهج العامة للتفكير الفقهي التي يتبنونها. كما عرفنا أيضاً أن المجتهديتمتع بصفة شرعية وطابع إسلامي مادام يمارس وظيفته ويرسم الصورة ويحدد معالمها ضمن إطار الكتاب والسنة، ووفقاً للشروط العامة التي لا يجوز اجتيازها.
وينتجعن ذلك كله ازدياد ذخيرتنا بالنسبة إلى الاقتصاد الاسلامي ووجود صور عديدة له كلها شرعي وكلها إسلامي، ومن الممكن أن نتخير في كل مجال أقوى العناصر التي نجدها في تلكالصورة وأقدرها على معالجة مشاكل الحياة وتحقيق الاهداف العليا للاسلام وهذا مجال اختيار ذاتي يملك الباحث فيه حريته ورأيه'.
ويضيف : 'إن ممارسة هذا المجالالذاتي، ومنح الممارس حقاً في الاختيار ضمن الاطار العام للاجتهاد في الشريعة قد يكون أحياناً شرطاً ضرورياً من الناحية الفنية لعملية الاكتشاف'.
ثم يضيفمتسائلاً: 'هل من الضروري أن يعكس لنا اجتهاد كل واحد من المجتهدين - بما يتضمن من أحكام - مذهباً اقتصادياً متكاملاً وأسساً موحدة منسجمة مع بناء تلك الاحكام وطبيعتها؟ونجيب على هذا التساؤل بالنفي لأن الاجتهاد الذي يقوم على أساسه استنتاج تلك الاحكام معرض للخطأ،ومادام كذلك فمن الجائز أن يضم اجتهاد المجتهد عنصراً تشريعياً غريباًعلى واقع الاسلام.. ولهذا يجب أن نفصل بين واقع التشريع الاسلامي كما جاء به النبي(صلى الله عليه وآله) وبين الصورة الاجتهادية كما يرسمها مجتهد معين'(10).
فإذاكانت الحال هذ ه- مع اكتشاف النظرية العامة للاسلام من قبل مجتهد ما - مشروعة فهي أولى في المشروعية عندما يراد إصدار قانون عام، وذلك:
أولاً: لما يملكه الحاكمالشرعي من صلاحية واسعة لتحويل الاحكام وفق المبادئ المعطاة.
ثانياً: لكون هذه الحالة مؤقتة في حين يراد للنظرية أن تكون دائمة.
ثالثاً: لأنه يعتمدعلى خبراء الدولة ومشاورتهم في معرفة القائم واكتشاف التلاؤم بين الفتاوى، الأمر الذي يقربه من الواقع.
رابعاً: لأنه لا مفر لانتخاب أحد الفتاوى للعمل بهابشكل عام من قبل الحاكم الشرعي ولذا فمن الطبيعي أن تنتخب الفتوى الاكثر انسجاماً مع سير الأمور.
كل ذلك شريطة أن تكون قد صدرت على أساس من قواعد الاجتهادالمعروفة بل وقد نشترط فيها احياناً أن تكون من الفتاوى المشهورة. ونشير هنا إلى أن الكثير من الدول في دساتيرها لم تعتمد مذهباً إسلامياً معيناً حتى في قضايا الاحكامالمدنية، رغم أنها ركزت على خصوص أحد المذاهب، فقد اضطرت لكي تحفظ سلامة العائلة وصيانتها للاعتماد على الرأي الإمامي القائل بعدم مشروعية الطلاق بالثلاث واعتبارهاطلاقاً واحداً رغم أنها اعتمدت في عموم أحكامها على المذاهب الاخرى.
الحوار المطلوب
إذا كان الاسلام قد سمح بالاجتهاد واعتمد العقلوالبرهان سبيلاً منطقياً للاقناع فمن الطبيعي أن يجوز الحوار ويدعو اليه على كل الاصعدة، وهي من قبيل: أ - الحوار بين المسلمين المختلفين في الشؤون الشخصية.
ب - الحوار بين المختلفين في القضايا الاجتماعية.
ج - الحوار بين الفقهاء.
د - الحوار العقائدي.
هـ - الحوار بين الاديان.
و - الحوار بين الحضارات.
وفي كل هذه الانماط نجد النصوص الاسلامية تركز على بعض الشروط الضرورية، وقد تحدث علماؤنا القدامى عن آداب الحوار والجدال،ولكننا ندخل ما ذكروه جميعاً في منطقة الشروط الضرورية لأنها جميعاً إن لم تتوفر عرضت النتائج لخطر التمويه.
أولاً: تحرير محل الحوار، وهو أول شرط وأهمه فانالحوار قد يكون مضيعة للوقت اذ يتبين للمتحاورين بعد فترة طويلة أنهما كانا يركزان حديثهما على محورين مختلفين، أو وجهتين متفاوتتين، ولذا كان ديدن علمائنا البدءبتحرير محل النزاع وتشخيص أبعاده ليكون الاستدلال منتجا، وهذا شرط منطقي لا نحتاج للاستدلال عليه(11).
ثانياً: الموضوعية، ونعني بها الدخول الى مرحلة الحوار بعدالتخلي موقتاً عن كل القناعات السابقة والسعي لطلب الحق أينما كان.
وهذا هو القرآن الكريم يخاطب الرسول الكريم وهو القمة في الايمان واليقين بأن يدخل فيالحوار بروح موضوعية هادفة ليقول (وإنّا أو إيّاكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين)(12).
ويقول تعالى: (قل فأتوا بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما أتبعه إن كنتمصادقين)(13).
وهو أمر أكده السابقون من علماء الاخلاق وغيرهم.
يقول صاحب 'المحجة البيضاء في إحياء الاحياء' عند التحدث عن شروط المناظرة: الاول: أنيقصد بها إصابة الحق وطلب ظهوره كيف اتفق، لا ظهور صوابه وغزارة علمه وصحة نظره، فان ذلك مراء منهيٌّ عنه بالنهي الاكيد' ويضيف 'أن يكون في طلب الحق كمنشد ضالة يكون شاكراًمتى وجدها ولا يفرق بين أن يظهر على يده أو يد غيره فيرى رفيقه معيناً لا خصماً ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق'(14).
ثالثاً: الانسجام بين مؤهلات أطرافالحوار والموضوع نفسه. فلا معنى للحوار حول موضوع لا تعلمه الاطراف أو لا يعلمه أحدهم أو لا يتخصص فيه إن كان مما يحتاج للتخصص.
يقول تعالى: (ها أنتم هؤلاءحاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم، واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون)(15).
ويقول سبحانه: (إن الذين يجادلون في آيات اللّه بغير سلطان أتاهم إنْفي صدورهم إلا كِبْرٌ ماهم ببالغيه فاستعذ باللّه إنه هو السميع البصير)(16).
وهنا يقول أحد العلماء: 'الثامن أن يناظر مع من هو مستقل بالعلم ليستفيد منه إن كانيطلب الحق'(17).
ومن هنا فنحن نعتقد أن طرح الاستدلالات العلمية الدقيقة في المجامع العامة مع اختلاف مستويات الحاضرين أمر يجانب شروط الحوار.
رابعاً:الانطلاق من المبادئ المتفق عليها. إن الحوار لن ينتج مطلقاً إذا لم تكن هناك مبادئ متفق عليها مسبقاً، وفرضيات مسلمة يرجع اليها المتحاوران. ومن هنا رد الجميع عنصرالمصادرة على المطلوب واعتبروه أسلوباً مخاتلاً.. ولا سبيل هنا الا التنبيه على بعض القضايا الوجدانية، ومن هنا نجد القرآن الكريم يرد على أولئك المنكرين للبديهياتبتنبيههم لخطأ ما يعتقدون وإيقافهم أمام تساؤلات فطرية إذ يقول تعالى لاولئك المقلدين لآبائهم (دونما منطق): (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفيناعليه آباءنا أو لوكان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)(18) ويقول تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير الا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا علىآثارهم مقتدون قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون)(19).
فان هؤلاء قوم لا يؤمنون بشيء مشترك مع المحاور المسلم بها، وماعليه إلا أن ينبههم على بعض المشتركات الفكرية من قبيل:
(أن المجانين لا يُتبعون، فاذا افترضنا أن آباءهم مجانين فهم لا يتبعون ، إذن عليكم التحقيق).
أو (إن الافضل والاهدى هو المُـتَّبع فيجب التأكد من الأهدى).
خامساً: المنطقية، بحيث يسير البحث بشكل منطقي وتؤدي المقدمات الى النتائج بشكل طبيعي وذلكدونما تحايل أو مماطلة أو جدال عقيم، والنصوص التي تنهى عن الجدال والمراء كثيرة.
منها قوله تعالى: (ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون)(20). وقوله تعالى:(وكان الانسان أكثر شيء جدلا)(21).
وقد رأينا العلماء يردون التحايل على الطرف الآخر ويذكرون لذلك أمثلة من قبيل:
أ - إبهام العبارة حتى لا يفهمهاالطرف .
ب - الاحتيال عليه حتى يخرجه عن محل تساؤله.
ج - توجيه كلام السائل الى وجوه محتملة(22).
بل تحدثوا عن الصفات التي قد يبتلي بهاالمتحاوران نتيجة عدم القدرة على امتلاك الموقف من قبيل الحقد والحسد وتزكية النفس والفرح بمساءة الاخرين، والاستكبار عن الحق، والرياء، وكل ذلك لكي تعود الى المحاورشخصيته الطبيعية التي تحقق منطقيته في الحوار.
سادساً: الابتعاد عن جو التهويل أو مايسمى بتأثير العقل الجمعي ففي مثل هذا الجو يفقد الحوار جوه المطلوب، ولامعنى فيه للاستدلال المنطقي الهادئ الحكيم.
ومن خير الامثلة على ذلك ما ذكره القرآن الكريم من جو انفعاليواجه المشركون به النبي(صلى الله عليه وآله) واتهموهبالجنون، ولذلك طلب من الرسول(صلى الله عليه وآله) أن يدعوهم الى نبذ هذا التهويل والعودة الى الهدوء المطلوب ثم التفكير بما يتهمونه به، يقول تعالى: (قل إنما أعظكمبواحدة أن تقوموا للّه مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جِنّة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد)(23).
سابعاً: أن يكون الحوار مما يترك أثراً عملياً أوفكرياً فلا معنى للحوار حول افتراضات تجانب الواقع. يقول الامام الغزالي: 'الرابع أن يناظر في واقعة مهمة أو في مسألة قريبة من الوقوع وأن يهتم بمثل ذلك'(24).
ثامناً: أن تلحظ في الحوار كل الجوانب المرتبطة بالموضوع فقد تترك الجوانب غير الملحوظة أثرها على النتيجة، أما إذا لم يتسع صدر البحث فيجب الاتفاق على قدر متيقن فيها.
1- ورقة عمل ندوة التقريب بين المذاهب الإسلامية المقدمة إلى ندوة التقريب في المغرب ص : 12 .
2- النور / 5 .
3- ص 5 - 6 ج 1، من :'بداية المجتهد ونهاية المقتصد'.
4- أصول الفقه المقارن ص 19 .
5- المستصفى 1 / 392 .
6- فقد قال صاحب (أصول الفقه) العلامة المظفر (رحمه اللّه) ج 3 - ص 190: 'إنمصطلحي الحكومة والورود' هما من مبتكرات الشيخ الأنصاري الكبير (رحمه اللّه) المتوفى سنة (1281 هـ ) في حين أرجعه المرحوم الحلي إلى طبقة أسبق منه، كما ذكر السيد الحكيم فيأصول الفقه المقارن ص 87 .
7- راجع أصول الفقه للمظفر - 33 / ص 192 - 195 وأصول الفقه المقارن ص 85 - 92 وباقي الكتب الأصولية من قبيل دروس في علم أصول الفقه للمرحومالصدر،وغيرها.
8- راجع كتابنا 'المرجعية' طبع بيروت ص 44 .
9- راجع 'الفتاوى الواضحة' للامام الصدر و'منهاج الصالحين' للامام الخوئي.
10- اقتصادنا ج 2 ص280 .
11- راجع 'الكافية' للجويني ص 540 و'قاموس الشريعة' للسعدي ج 3 ص 6 .
12- سبأ / 24 .
13- القصص / 49 .
14- 'المحجة البيضاء في شرح الاحياء' للغزالي - ج 1 ص99 - 100 والغزالي في إحياء العلوم ج 1 ص 43 .
15- الانعام / 66 .
16- غافر / 56 .
17- المحجة ج 1 ص 101 .
18- البقرة / 170 .
19- الزخرف / 23 - 24 .
20-الزخرف / 58 .
21- الكهف / 54 .
22- راجع الجويني في الكافية 542 - 549 .
23- سبأ / 46 .
24- المحجة البيضاء ج 1 ص 100 .