إشکالیة التاریخیة للعلاقة بین الدین و السلطة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

إشکالیة التاریخیة للعلاقة بین الدین و السلطة - نسخه متنی

علی فیاض

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الإشكالية التاريخية للعلاقة بين الدين والسلطة: التأسيس وتحولاتالفقه والسياسة

أ.د. علي فياض

رئيس المركز الاستشاري للدراسات الاسلامية في لبنان

لا تقوم المناظرة السياسية لدى الإتجاهاتالإسلامية المعاصرة، بمعزل عن التاريخ، إذ ان مسعى التأصيل في الأفكار لا ينفك عن صلة بالتاريخ، وهو إلى جانب الفقه، يشكلان المنهل الذي يمد هذه الإتجاهات على إختلافهاوسعة مساحات التباين فيما بينها، بالحجج والقرائن التي تسوّغ للبناءات السياسية شرعياتها. إن مشكلة الشرعية التي تستند أو ينبغي أن تستند إليها السلطة، والقيم التييمكن أن يمارس باسمها الحكم، وإطار السيادة والقوة التي كانت موروثة عن زمن الفتح والإنتصارات العسكرية والتاريخية، والولاء الرمزي والسياسي كجماعة، ترسخت صورتها فيالوعي، باعتبارها جماعة المسلمين أو الإسلام عامة(1).

بيد أن هذه العودة إلى التاريخ، لا ترأب صدعاً، ولا تزيل خلافاً، إذ إن التباينات لم تكن وليدة الراهن، كييوحد بينها التاريخ، بل هي تتأسس في الأصل على التاريخ الذي تعود إليه. ثم يأخذ الراهن بتعقيداته المعرفية والسياسية طريقة إًى إنتاج المزيد من التباينات في الفكرالسياسي الإسلامي. لقد شكّل مفهوم السلطة موضوعاً إنقسامياً في الإجتماع الإسلامي التاريخي، ولايزال كذلك، في الزمن المعاصر، حيث أضيفت إلى إشكالياته التاريخية،إشكاليات أخرى، جعلت من علاقة الدين بالسلطة، علاقة أكثر تركيباً، تداخل فيها إرث التاريخ بتعقيدات المعاصرة. لذلك نجد، كما يشير هشام جعيط ، 'ان الخلافة الأولية تهمالمسلمين الحديثين، الذين يضفون عليها سجالاتهم ومجادلاتهم السياسية - الدينية الناجمة عن الإصطدام بالحداثة. فمنذ 1924، تاريخ إلغاء أتاتورك لمؤسسة الخلافة، هناك سجالمركزي بين السجالات، ذو علاقة بعلمنة السياسة والدولة، لايزال يشق الوعي الإسلامي الحديث إلى شقين. أنصار علمانية الدولة وأتباع إسلاميتها، واستناداً إلى كون المرجعيةهي مرجعية الخلافة الأولية، الحق والراشدة، نشر كاتب مصري، علي عبد الرازق، كتاباً في العشرينات، عنوانه الإسلام وأصول الحكم، أراد فيه البرهان على كون الخلفاء الأربعةالأوائل قد تولوا حكماً سياسياً خالصاً، لا علاقة له بالدين، إذ إن الديني يحدد بوصفه علاقة بالله، إنتهت مع انتهاء الوحي ووفاة النبي'(2).

وفي واقع الحال، إنالإنقسام لا يقتصر على مقاربة تجرپة الخلفاء التي تلت غياب الرسول، إنما يمتد إلى فهم النص القرآني نفسه، وإلى تحليل تجربة الرسول في تأسيس الدولة ومنطلقات إدارتها.فنجد، على سبيل المثال، أن 'محمد سعيد العشماوي'، الذي ينتقد شعار 'إن الإسلام دين ودولة'، يعتبر أن لفظ الحكومة عند الرعيل الأول من المسلمين، كان يشير إلى العدالة، وأنإستعماله من قبل المسلمين المعاصرين للإشارة إلى السلطة التنفيذية أو سلطة الإدارة العامة، يتم بفعل ما اكتسبه اللفظ عبر تطور تاريخي، وأن ذلك يؤدي الى خلط شديد وسوءإستعمال لآيات القرآن الكريم، التي تتضمن لفظ الحكم بمعنى القضاء في الخصومات. والتي تتوجه على نحو أساس لأهل الكتاب ليحكموا بما أنزل الله في التوارة(3). أما د. رضوانالسيد، فيرى في محاولة بحثه، عن السياسي والديني الخالص في تجربة الرسول، ان كلا التصورين الشيعي والسني، لا يقتضيان الشرعية التأسيسية للأمة، أي على مقتضيات الدين،وليس على الجماعة السياسية، أو ضرورة الدولة للدين، أو عدم ضرورتها، وبرأيه، إن كتاب المدينة الذي كتب أواخر السنة الأولى أو مطلع السنة الثانية للهجرة (624م) يُعد عملاًسياسياً بارزاً غير ذي طبيعة دينية، أو أن الدين أو النبوة، أو الإستخلاف، كل ذلك لا يقتضيه، وهكذا يكون الكتاب تعاقداً دستورياً يشبه مانعرفه في المجتمعات السياسيةالحديثة(4).

في مقابل ذلك، نجد أن المقاربات التي تقوم على لحمة الديني والسياسي. في تجربة الرسول، أو على فهم آيات القرآن الكريم التي تدعو للحكم بما أنزل الله،فهماً سياسياً ودولتياً إذا صح التعبير، أكثر من أن تحصى، وهي بصورة عامة، مقاربات الإسلاميين الذين يرون الإسلام دينا ودنيا ودولة، وأن الإسلام دين السياسة، بل إنأحكام الإسلام السياسية أكثر من أحكامه العبادية(5).

وإذ يبدو إختلاف مفهوم السلطة في المجال السياسي الإسلامي ، وثيق الصلة بتعيين الجماعة السياسية لخياراتها،وربما لهويتها السياسية، وذلك تبعاً لإختلاف المقاربات والأجوبة التي تقدمها. فإن إعادة التقاط تطور المسار التاريخي لإشكالية الدين والسلطة. يأخذ منحى تأسيسياً لفهمالإتجاهات المعاصرة. ولاشك، أن هذا الموضوع، يقع موقعاً جوهرياً في إهتمامات الإجتماع السياسي الإسلامي المعاصر. بل إن السؤال النهوضي، بأبعاده السياسية والإجتماعيةوالثقافية، لاينفك عن كونه سؤالاً في السلطة بالدرجة الأولى، وكل محاولة للبحث في المأزق الحضاري للمسلمين، لن يتنسى لها تجاوز هذا السؤال أو إغفاله.

يظهر مماسبق، ان المقاربة المعاصرة لإشكالية العلاقة بين الدين والسلطة، تقوم على تتبع الديني والسياسي في التجربة التأسيسية، لناحية القول بالفصل بينهما أو توحيدهما وجعلهماشيئاً واحداً، وتتساوى في ذلك المقاربات السنية والشيعية، بيد أن ذلك يشكل توصيفاً عاما لتلك الاشكالية، التي تعددت أپعادها وخضعت لتحولات تاريخية حادة، طالت بنيةالواقع السياسي والإجتماعي كما طالت الفقه نفسه. وإذ يفرض بحثنا أن نحصر تتبعنا التاريخي لإشكالية العلاقة بين الدين والسلطة بالشيعة، وتحديداً مايتصل بمرحلة الغيبةالكبرى للإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن المهدي(ع)، أي بدءاً من العام 329هـ ، إلا أن ثمة مرحلة تأسيسية، دشَّنها غياب الرسول، الذي أفضى إلى ولادة إشكالية كأداء، لمتقتصر على زمنها، إنما جرى ترحيلها إلى المستقبل، لتغدو لصيقة بالمسار التاريخي للمسلمين، وهي إشكالية النص والإختيار. لقد فتح غياب الرسول الخلاف بين المسلمين علىمصراعيه، وكان قوام هذا الخلاف، التباين في فهم السلطة، في مشروعيتها وآلية إختيار الحاكم ودوره.

وقد شكّلت سقيفة بني ساعدة(6)، وما دار فيها من سجالات، تظهيراًلمنطق التغالب والعصبيات والمصالح، وبدا ذلك تعبيراً عن تنازع سياسي - قبلي بالدرجة الأولى، إختزن في داخله حجماً مركباً من التناقضات ، بين المهاجرين (أبو بكر وعمر)والأنصار (سعد بن عبادة الخزرجي) ، وبين قريش وغيرها من العرب (في رواية عن أبي بكر انه قال: إن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش) (7). وبين الأوس والخزرج(إنقلاب بشير بن سعد على سعد بن عبادة، ومسارعة الأول لمبايعة أبي بكر).

أما الإحتجاج بالسابقة في الإسلام وفضيلة الجهاد والقرب من رسول الله(ص)، التي وردت علىلسان القوم، فلم تكن كخطاب ديني قادر على ستر اللغة أو الحسابات القبلية الحادة. لقد أظهر إستخلاف الرسول، في داخل السقيفة، التناقضات القبلية وغلبة توازناتها علىماعداها. وأظهرت كذلك، تناقضاً بين منطق السقيفة نفسه ومنطق الهاشميين الذي كان علي بن أپي طالب(ع) قد عبّر عنه في حواره مع العباس بن عبد المطلب بالقول: ومن يطلب هذاالأمر غيرنا(8). إن ذلك، كشف تناقضاً مركباً بين التناقضات القبلية، وبين منطق الإختيار ومنطق الوصية.

فمن وجه، يصح القول: إن منطق المهاجرين في مواجهة منطقالأنصار، شكَّل منطقاً دينياً في مواجهة منطق مدني (عصبوي، توازني وتسووي) ، ثم عاد منطق المهاجرين ينقلب منطقاً مدنيا (أموي وتغلُّبي) في مواجهة منطق ديني (أهل البيتوالقرابة من رسول الله). وفي المؤدى، بدت تجربة الخلافة الأولى في نتائجها محكومة للواقع ولتوازنات القوى فيه، مفسحة في المجال لثنائية الدين ــ السلطة.

وبمعنىآخر، أفضت إلى ولادة مجال سياسي تمارس فيه السياسة باستقلال نسبي عن المنطق الديني نفسه.

وقد آل الإنقسام تجاه السلطة، إلى تأسيس اتجاهات ثلاثة، عبّر عنها جمهورالفقهاء والمتكلمون ، وقد لخصها محمد عابد الجابري وفقاً للتالي(9).

1- الموقف الأول: يرى أصحابه أن الإمامة، أي تنصيب الإمام، وبالتالي إقامة الدولة في المجتمعالإسلامي. فرض من فروض الدين وركن من أركانه، وهؤلاء هم الشيعة. الذين قالوا إن الإمامة، ليست قضية مصلحية تناط باختيار العامة، وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصوليةوركن، لايجوز للرسل إغفاله واهماله، أو تفويضه إلى العامة وإرساله. وعلى قول الشهرستاني، يجمعهم القول بوجوب التنصيص والتعيين وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً علىالكبائر والصغائر. ويقول هذا الفريق ان النبي نص على علي بن أبي طالب خليفة وإماماً من بعده، وإن علياً نص ووصى، وكذلك فعل الأئمة من بعده من ذريته ونسله.

2- الموقفالثاني: وهو مناقض تماماً للأول، يرى أصحابه ان الإمامة (والدولة) ليست بواجبة، بمعنى أن الدين لا ينص على وجوب إقامتها، ولا على وجوب تركها. بل ترك أمرها للمسلمين. فإن همإستطاعوا نصب إمام عادل من دون إراقة الدماء، ومن دون حروب وفتن ، فذلك أفضل ، وإن هم لم يفعلوا ذلك، وتكفَّل كل واحد منهم بنفسه وأهله، وطبق أحكام الشريعة كما هي منصوصعليها في الكتاب والسنة، جاز ذلك وسقطت الحاجة إلى إمام. وقد قال بهذا الرأي بعض أوائل الخوارج 'والنجدات' أتباع نجدة الحنفي، زعيم فرقة من الخوارج، كما قال به أيضاً،فريق من المعتزلة، على رأسهم أبو بكر الأصم وهشام إبن عمرو الفوطي وعباد بن سليمان.

3- الموقف الثالث: وهو في جملته رد على الموقفين السابقين، وهوموقف عموم أهلالسنة وأكثرية المعتزلة والخوارج والمرجئة، ويجمعهم القول بأن الإمامة واجبة من جهة، وانها تكون بالإختيار لا بالنص من جهة أخرى. وفيما عدا ذلك يختلفون إختلافاًكبيراً، فمنهم من يرى ان وجوب الإمامة يفهم بالعقل، ومنهم من يرى انه يفهم بالشرع، ومنهم من يجمع بين الإثنين.

إن تحليل المرتكز النظري لهذه الإتجاهات الثلاثة،سيوصلنا إلى ملاحظة، التباينات التأسيسية التي تتصل بمرجعية السلطة ومشروعيتها. والتي سيبقى لها حضور مستديم في التاريخ السياسي الإسلامي: فالإتجاه الشيعي إستند إلىالمشروعية الدينية للسلطة / الإمامة، حيث أعطاها معنى تكميلياً للنبوة. ودمج كلياً بين الديني والسياسي. وأعطى السلطة طابعاً مقدساً، وكما ينقل الكليني لاحقاً عن'الإمام الصادق: إن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام، سيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإن نقصوا شيئاً أتمه لهم'(10).

أما الإتجاه الثاني، الذي يشكل الخوارج عمدته،رغم التنوع الذي ينطوي عليه، فقد مثـّل اتجاهاً حروفياً ونصوصياً، ينشد طوباوية إسلامية نقية. فهو بمعنى من المعاني، بلغة معاصرة، يمثل شكلاً من أشكال السلفية المتشددة.ورغم تمسك هذا الإتجاه بمرجعية القرآن فقد أدى دوراً تدميرياً، وأشعل الفتنة في كل إمتدادها واتساعها، كما يعبر هشام جعيط: 'أولئك الرجال الذين كانوا يرجعون إلى القرآن،إلى مرجعية إسلامية. فالدولة وتطور المجتمع والقيادة التاريخية كانت تعارض بقراءة معينة للإسلام، قراءة جذرية وحرفية. ورفع الإسلام كقوة رفض ، كقوة انقلابية: هذه بدايةظاهرة ستظل تنتج نفسها بطريقة تكرارية حتى أيامنا، وذلك كله، لأن مبدأ الدولة، في الأصل بالذات، كان خاضعاً لمبدأ التعالي الديني. في هذه الحالة بالذات، تمكنت حركة كهذهمن قتل خليفة أول، ومن إشعال فتنة عامة ومهددة للحفاظ الذاتي على الأمة، ثم تمكنت من قتل خليفة ثانٍ، لتفضي إلى توطيد المبدأ الملكي، وإلى ربط الدولة بالقوة، وإلى أنتتطور هي ذاتها إلى راديكالية مهمَّشة ودون نفوذ كبير: الحركة الخارجية'(11).

أما الإتجاه الثالث، وهو على نحوٍ عام يعكس موقف. أهل السنة، فقد قام على الإختيار. وهوما عبَّر عنه 'الباقلاني' لاحقاً، في الحاكم انه 'لايجب ان يكون معصوماً عالماً بالغيب ولا بجميع الدين حتى لايشذ عليه منه شيء.. وهو في جميع ما يتولاه وكيل للأمة ونائبعنها. وهي من ورائه في تسديده وتقويمه وإذكاره وتنبيهه وأخذ الحق منه إذا وجب عليه، وخلعه والإستبدال به، متى إقترف مايوجب خلعه، فليس يحتاج مع ذلك إلى أن يكون معصوماً'(12)إن هذا الإتجاه أحال الإمامة: إلى ما يقرب أن يكون منصباً مدنيا، زمنياً ودنيوياً، رغم وظائفه الدينية. بل إن البعض يعتبر ذلك علمنة وعقلنة لمنصب الحاكم مادامت مصلحةالأمة معياره(13). وتعتبر مقولة جواز إمامة المفضول على الفاضل(14) التمثيل الواقعي لهذا الإتجاه الذي قام بتأصيل الضروروات والمصالح، بوصفها قيماً لإختيار الحاكموممارسة السياسة. لقد باتت السياسة أكثر إنحكاماً للمصالح وأقل إنحكاماً للدين، لا لناحية إختيار الخليفة فقط، الذي تفاوتت آلاليات تحديده، فلم تسلم من تدخل الخليفةنفسه، كما حصل مع أپي بكر في توصيته لعمر، أو كما حصل مع حصر عمر للشورى في ستة، وفق توازن معروف النتائج سلفاً، بل تعدت ذلك إلى الإجتهاد في حالات كثيرة في قبال النص(15) 'إنمبدأ المصلحة هو المستند الذي كان الصحابة يرتكزون عليه في تطبيقهم للشريعة، سواء تعلق الأمر بما فيه نص أو بما ليس فيه.. وهي ممارسة ؛جتهادية تتخذ المصلحة مبداًومنطلقاً، فإذا تعارضت المصلحة مع النص في حالة من الحالات، وجدناهم يعتبرون المصلحة ويحكمون بما تقتضيه، ويؤجلون العمل بمنطوق النص فيها'(16). إن ذلك لا يخرج عن كونهتعبيراً منسجماً مع المنطق الذي أطلقه انفتاح المجال السياسي. فالحال لم تقتصر على إصطراع قوى إجتماعية بفعل تضارب إنتماءاتها القبلية واختلافها على المرجعيات الشرعيةلتأسيس السلطة، بل أضيف لها الإختلاف في تقدير المصلحة التي جرى تحويلها إلى قاعدة لممارسة السلطة. وهي في حقيقة الأمر، ستكون نتاجاً لتوازنات القوى واتجاهات التغالب فيها. لقد أفضت مرحلة الخلافة الراشدة، التي توجت بفتنة ضروس، أعادت تشكيل الواقع السياسي والإجتماعي الإسلامي، إًلى تجاوز التقسيم الثلاثي: 'إسلام راديكالي وعنفي -القراء - ، إسلام تاريخي وشرعي - علي ، وإسلام سياسي وأرستقراطي - معاوية'(17)، كي يستقر الأمر ملكاً عضوضاً. فإسلام القبيلة أحكم سيطرته على السلطة على حساب إسلام العقيدة.وكان ذلك تحولاً درامياً في بنية السلطة الإسلامية، وفي قيم إنتاجها وممارستها. فالإشكالية التأسيسية التي ولدت بعد غياب الرسول، والتي عبر عنها بالنص أو الإختيار، جرىالإطاحة بها لحساب واقع جديد، سيحمل معه إشكاليته الخاصة، التي ستتجاوز منطقي الشورى والوصية، إلى منطق التوارث والتغلب. وقد كانت هناك 'مسألتان تحدِّدان بالنسبة للعربالمسلمين موقفهم من سلطتهم في القرن الهجري الأول: مدى إقتناع السلطة بالمشروع الشامل للأمة في الرسالة والوراثة، وهذ هي الشرعية التأسيسية، ومدى قدرة السلطة على تحقيقالأمن والعدالة والتوازن في الداخل، وهذه هي شرعية المصالح'(18).

إن تطور منظمة القيم التأسيسية التي قامت عليها شرعية السلطة، إستندت في المرحلة الأولى، إبان'الخلافة الراشدة' ، إلى السابقة والقدم في الإسلام والقرب من رسول الله،(19) وان 'الأئمة من قريش'(20) وفق ماجرى تداوله آنذاك. وفي المرحلة الأموية، جرى التمسك بقرشية الأئمةلتوافقها مع القاعدة القبلية للأمويين، وإبتكار خطاب تعويضي، تعددت مرتكزاته التسويغية لشرعنة السلطة الأموية، لتجاوز مأزق الأسبقية والقرابة من الرسول وضرورةالإستناد إلى الشورى. إلا أن أپرز مسوّغاته هو القول بأن سير قضاء الله وقدره، أي مشيئته وإرادته، قد ساقت الحكم إليهم(21).

وقد كانت الأيديولوجيا الأموية شديدةالتركيز على الطاعة والإخلاص للحاكم بوصفه تعبيراً عن مشيئة الله. كما ان لقبه لم يقتصر على كونه خليفة للرسول بل خليفة لله أيضاً(22). إن ذلك لا يخفي كون الصيغة الأمويةللحكم هي أقرب إلى الحكم الملكي لقيامها على التوريث وإستنادها إلى السياسة (المصالح) قبل الدين. ويذهب البعض في هذا السياق إلى القول بتأثر النظام السياسي الأمويبالنظام الذي كان سائداً في الدولتين الفارسية والبيزنطية(23).. بيد أن هذا التحول لم يقتصر على موقع الحاكم ولا على مرتكزات المشروعية السياسية فقط، إنما طال بنيةالدولة، ففي حين كان الخلفاء الراشدون حكاماً وعلماء في الآن نفسه، نحى هذا الأمر منحى الفصل مع الأمويين. ففي نصّ شهير لأپي بكر إبن العربي الفقيه الأندلسي المالكييقول: 'كان الأمراء قبل هذا اليوم، وفي صدر الإسلام ، هم العلماء، والرعية هم الجند، فأطرد النظام، وكان العوام القواد فريقاً والأمراء فريقاً آخر. ثم فصل الله الأمر،بحكمته البالغة وقضائه السابق، فصار العلماء فريقاً والأمراء آخر، وصارت الرعية صنفاً وصار الجند آخر، فتعارضت الأمور، ثم أرادوا الإستقامة بزعمهم فلم يجدوها، ولنيجدوا أپداً، فإنه من المحال أن يبلغ القصد من حاد عنه'(24).

إن مقاربة النموذج الأموي في السلطة، من حيث دلالاته التأسيسية، ستفضي إلى إعتباره تدشيناً للدولةالإستبدادية(25). في لحظة ولادتها التاريخية، داخل التجربة الحضارية الإسلامية، ولن يكون النموذج العباسي على إختلاف جوهري معه. فقد ظلت السلطة ملكاً يتوراث مستنداً إلىالشرعية القرشية، لكن ، مضافاً إليها القرابة من رسول الله، كميزة تفاضلية عما إستند إليه الأمويون، وعنصر مواجهة لشرعية العلويين من آل البيت الذين ينتسبون إلى السيدةفاطمة الزهراء إپنة الرسول. ويظهر ذلك جلياً من خلال خطب أپي جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس، وأپي العباس السفاح، والتي كان يشير فيها إلى شرف القرابة من الرسول،وإلى تأكيد القرآن على المودة لآل البيت، معتبراً أن بني العباس هم أهل البيت، فيقول: 'الحمد لله الذي إصطفى الاسلام لنفسه تكرمة.. وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بهاوأهلها، وخصَّنا برحم رسول الله(ص) وقرابته، وأنشانأ من آپائه، وأنبتنا من شجرته'(26). ويكتمل مفهوم المشروعية الذي تستند إليه السلطة العباسية، وتنضح آليات تسويغهاالأيديولوجي، من خلال خطبة أخرى لأپي جعفر المنصور يقول فيها: 'أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئتهوأقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، قد جعلني عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني '(27). إذن، نحن أمام ما يتجاوزالمفهوم الأموي الذي ربط مجيء الحاكم بمشيئة الله، إلى التماهي بين إرادة الله وإرادة السلطان، فدور السلطان منوط بالإرادة الإلهية، وفي ذلك إعلاء لشأن السلطة، وإضفاءللطابع الشرعي الإلهي على ممارساتها وقراراتها. وثمة من يرد الأيديولوجية السلطانية التي سادت مع الدولة العباسية إلى التأثر بالأدبيات السلطانية الفارسية. وتحديداًبتأثير ترجمات إبن المقفع (106 - 142هـ) عن الفارسية وكتبه، في 'الأدب الكبير' و'رسالة في الصحابة'. ويشير إلى مثل هذا الرأي الجاحظ في كتابه 'التاج في أخلاق الملوك' حيث يعتبران قوانين الملك والمملكة، وترتيب الخاصة والعامة وسياسة الرعية، قد جرى أخذها من ملوك العجم(28).

إن التحولات التي إعترت صورة الخليفة مع الدولة العباسية، أدتإلى الإمعان في إضفاء طابع المهابة على موقعه وعلى الإعلاء من سلطانه، ما مثـّل إيغالاً في الصورة التي أسسها بنو أمية. وتتجلى المفارقة، في حال المقارنة، في ان صورةالخليفة في زمن الخلفاء الأربعة، رغم تفاوت سياساتهم وموقعهم، كانت أقرب إلى الرعية، وأكثر قابلية للمساءلة، رغم انحكامها للدين بصورة عامة. فيما راحت توغل فيالإستعلاء السلطاني والنهج الإستبدادي، مع تحولها إلى دولة أقل إنحكاماً للدين ومراعاة لقواعده وأحكامه. وبالخلاصة، إن النموذج الديني قد تلازم مع ممارسة دينية سياسيةأشد تواضعاً وأكثر رحابة. فيما تلازم النموذج السياسي (العلماني نسبياً)، مع ممارسة سلطانية إستبدادية، لن يسلم التاريخ الإسلامي بإمتداداته المستقبلية، من تأثيراتهاعلى بنية الدولة وأنساق التفكير السياسي فيها.

وإذ يفرض موضوعنا عدم الأسهاب في متابعة تحولات السلطة على مدى التاريخ الإسلامي، إلاّ بمقدار ما يسمح بفهمالإشكاليات التأسيسية لعلاقة الدين بالسلطة التي إرتبطت بغياب الرسول في مرحلة أولى وتحوّل الخلافة إلى ملك يتوارث في مرحلة ثانية. إلا أن مرحلة ثالثة، يجدر إيرادها فيسياق تحولات السلطة. وهي جاءت على شكل تطور خطير في دلالاته إپان الدولة العباسية، وهو بروز أمراء الإستيلاء أو الدولة السلطانية، حيث أدت ممارسة السلطة على قاعدة تغييبالأمة وضرب مفهوم الشورى وإقصاء تيار الخيار الديني الممثل بالإمامة المعصومة. إلى تراكم في إلتباسات واقع السلطة، حيث أفضت بعد نحو قرن من الزمن على تأسيس الدولةالعباسية، إلى حالة مكشوفة، تفتقد مرتكزات الإستقرار والمشروعية في ظل مناخات إضطراب وانقسام. مادفع بالخليفة العباسي المعتصم، إلى الإعتماد على قوة عسكرية جديدة.كإمعان في خيار تغييب الأمة، وسعياً لقاعدة إستقرار بديلة. وقد تمثلت هذه القوة بالمرتزقة الأتراك التي مارست نفوذها على مدى قرن آخر من الزمن وقد أفلت الزمام كلياً منيد الخليفة المعتصم، بينما إنزوى خليفته الواثق لا يلوي على شيء، حتى إذا حاول المتوكل التصدي لهذا الواقع، كان الأتراك أسبق إلى إلغائه والتخلص منه. ومنذ ذلك الوقت،فقدت الخلافة العباسية مضمونها السلطوي ، وبات الخلفاء مجرد أدوات يتلاعب بها القادة العسكريون، دون أن يجد هؤلاء حرجاً في خلع الخليفة أو أسره أو قتله، إذا ما رابهم أمرمن سلوكه أو ولائه لهم(29). وقد تزامن صعود الأسرة البويهية في فارس مع إنهيار سلطة الأتراك في بغداد، حيث زحف عليها بجيوشه أحمد بن بويه عام 334هـ، مبايعاً الخليفة المستكفيالذي لقبه بمعز الدولة.

إن هذه التطورات التي أفضت إلى ولادة الدولة السلطانية، قد عمقت إشكالية علاقة الدين بالسلطة، ودفعتها إلى مزيد من الإلتباس والفصل، ذلكما يمكن تبيُّنه من التحولات التي طرأت على الفقه أيضاً، الذي ماكان ممكناً ان يظل بمنأى عنها . لقد قارب الفقهاء تحول الخلافة العباسية إلى خلافة صورية - معنوية ذاتدلالة رمزية على وحدة الأمة، وسيطرة المتغلبين البويهيين ثم السلاجقة على السلطة الفعلية تحت عنوان جديد يتصل بعلاقة الشريعة بالسياسة فقالوا بطغيان الثانية علىالأولى(30).

وقد عبر الماوردي (364 - 450هـ) عن هذه التطورات، من منظور فقهي، بقوله: 'وأما إمارة الإستيلاء التي تعقد عن إضطرار، فهي أن يستولي الأمير على بلاد يقلدهالخليفة إمارتها، ويفوّض إليه تدبيرها وسياستها . فيكون الأمير مستبداً بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفذاً لأحكام الدين ليخرج من الفساد الى المصلحة ومن الحظرإلى الإباحة. وهذا وإن خرج من عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه، ففيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية، مالا يجوز أن يترك مختلاً مدخولاً ولا فاسداًمعلولاً. فجاز فيه مع الإستيلاء والإضطرار ما امتنع في تقليد الإستكفاء والإختيار، لوقوع الفرق بين المكنة والعجز'(31).

إذن، يدفع نص 'الماوردي' بإتجاه شرعنة الحكمالسلطاني، رغم تجاوزه لشروط الشورى والبيعة، التي كان يتسالم عليها الفقهاء السابقون، في حال كان ذلك ممكناً. وما يملي الحاجة للسلطان، هو الإضطرار والحؤول دون الفسادوالإختلال وانعدام المكنة في أن تستوي الأمور على أصولها. إن شرعنة الحكم السلطاني، في جوهره، شرعنة للأمر الواقع، ويمثل هذا الموقف الفقهي نموذجاً عن مواقف فقهاءكثيرين، يصفهم د. وجيه كوثراني بأنهم كانوا 'يميلون ويتجهون إلى تجريد الدولة السلطانية من الوازع الديني، ووصف وازعها بالوازع السلطاني أو العصباني، على غرار ماكان يرىإبن خلدون، حتى كان وصف المقريزي لرؤية الناس في زمانه يميزون بين حكم الله وحكم السياسة، وبأن الشريعة هي ماشرَّع الله من الدين وأمر به كالصلاة والصيام والحج وسائرأعمال البر، والسياسة هي القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال، وصولاً إلى الإعتراف بأمر واقع هو نوع من فصل الدين عن الدولة'(32).

في الواقع،إن فقه السياسة خضع بدوره، كما ظهر معناه لتحولات شديدة الصلة بتحولات إيقاع الجماعة في علاقتها بالواقع. فالشروط التي حددها الماوردي للإمام، والتي يشكل العلموالعدالة والنسب القرشي أبرزها، إنتهت مع الوقت إلى سلسلة من التنازلات عنها جميعا(33). فالفقيه الحنبلي أپو يعلى الفراء (ت 458هـ)، الذي تحدث عن شروط الإمامة، قد عقب عليهابالتالي: 'وقد روي عن الإمام أحمد، رحمه الله، الفاظ تقتضي إسقاط إعتبار العدالة والعلم والفضل... فقال ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين، لا يحل لأحديؤمن بالله واليوم الآخر، أن يبيت ولا يراه إماماً عليه. مبراً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين.. وقال: فإن كان أميراً ويعرف بشرب المسكر والغلول، يغزو معه، إنما ذلكلنفسه'(34). أما الغزالي (ت 505هـ)، فقد ذهب إلى القول، بأن الغرض قيام شوكة الإمام بالأتباع والأشياع(35). وقال إبن تيمية بأن الإمامة تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، فالإمامةملك وسلطان(36). أما الفقيه المالكي إبن العربي فقد أسقط شرط القرشية عن الحاكم(37)، وكذلك القاضي أبو بكر الباقلاني، على مايذكر إپن خلدون في مقدمته(38). الذي يذهب بدورهأيضاً، إلى إعتبار القرشية شرطاً أملته العصبية، يوم كانت شرطاً للغلبة والقوة، ويقول: 'إذا بحثنا عن الحكمة في إشتراط النسب القرشي، ومقصد الشارع منه، لم يقتصر فيه علىالتبرك بوصلة النبي (ص) كما هو المشهور.. لم نجدها إلا إعتبار العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب'(39).

يرى محمدعابد الجابري ان التطور التاريخي الذي آل إليه الفقه السني، أفضى إلى سقوط الشروط الثلاثة: العدالة والعلم والنسب القرشي. لتستقر الحال، على ما عبر عنه فقهاء المالكية:من إشتَّدت وطأته وجبت طاعته. وإن مابقي ثابتاً في الفكر السني هو الأيديولوجيا السلطانية(40).

بناء على ماسلف، نستخلص مساراً من التحولات شهدته إشكالية علاقةالدين بالسلطة، تبعاً لتحولات الواقع التاريخ لمشروعية السلطة. إذ أن البداية تأسست مع غياب الرسول، على قاعدة الوصية أو الإختيار (الشورى)، ثم جرى تجاوز الأمرين معاً فيبعض محطات تجربة الخلفاء الأربعة. وتتحول السلطة إلى ملك يتوارث بالإستناد إلى شرعية النسب القرشي والقدر الإلهي، كما حصل مع الأمويين، أو بالإستناد إلى القرابة من رسولالله والإرادة الألهية، كما حدث مع العباسيين، ثم يلحق بها تحول آخر، إستناداً إلى شرعية الأمر الواقع التي تقوم على قوة الشوكة والتغلب، كما حصل مع أمراء الإستيلاءوولادة الدولة السلطانية. علماً أنه قد جرى إدماج الخطاب السلطاني بمضمون أيديولوجي متفاوت، يقوم على منع الفساد والإختلال (البويهيون) ، أو إنتصاراً لرؤية مذهبية(السلاجقة)، أو من خلال الدور الجهادي والدفاع عن دار الإسلام (المماليك).

لقد أفضى ذلك إلى تكريس الإنفصال بين المؤسستين، شكلاً ومضموناً، أمير الإستيلاء بدولتهوسلطانه وجنوده، والخلافة برمزيتها الدالة على وحدة الأمة والمعبرة عن إستمرارها التاريخي، بيد أن هذا الإنفصال لم يقم على قطيعة كاملة، لقد ظلت حاجة السلطان للخليفةقائمة بفعل الحاجة لإكتساب الشرعية، وتعبيراً عن ضرورة الإنتماء للجماعة والأمة(41).

إن الحقيقة الأگثر رسوخاً التي أفضى إليها الواقع التاريخي للسلطة في المجالالسياسي الإسلامي العربي، هو إستبدادية السلطة، وإرتكازها إلى قوة القهر والغلبة. فاستقر الأمر على توهين علاقة السلطة بالدين واسباغ الصفة الرمزية عليها. وفي الآنذاته، جرى تغييب دور الأمة كقاعدة لتسويغ السلطة وممارستها والقبول بها. فالمعادلة الثلاثية بين الدين والسلطة والأمة. تكرَّست على إختلال تاريخي ، تعذر معه توفيرالتوازن الضروري لإستقرار السلطة.

فالغلبة كتبت للسلطان، بينما ظلت العلاقة مع الدين إشكالية، أي أن الدين ظل مصدر إضطراب للسلطة، وإن تفاوتت تعبيراته بينالتعايش والممانعة والصراع. في حين ان الأمة ظلت خارج المعادلة بالكامل. باختصار ، يمكن القول إن علاقة الدين بالسلطة في الواقع التاريخي الإسلامي، قد سارت من الإتصالإلى شكل من أشكال الإنفصال، فالإضطراد المتصاعد لمسار السلطة كان يقوم، مع تقادم التاريخ على توهين الصلة بالدين.

وعلى الرغم من أن الدولة العثمانية أعادت توحيدالسلطنة والخلافة إلا أن ذلك كان تدبيراً شكلياً، لم يحجب التشكل التاريخي للدولة السلطانية العثمانية، الذي جاء توليفاً لمصادر ثلاثة:

1- المفهوم الفارسي لدورالشاهنشاه

2- التنظيم العسكري للقبيلة التركية المقاتلة،

3- الدور الوظائفي لممثلي الشريعة.

فالتكامل الوظيفي الذي يبرز بين العلماء ودور السلطان، لا ينفيالمفهوم الفارسي للسلطة ووظائفها ، الذي ورثه العثمانيون عن السلاجقة عبر وزيرهم نظام الملك (الفارسي). ولا يؤكد بالضرورة إسلامية الدولة السلطانية كمفهوم وممارسةوتدبير. فقد كان هناك إزدواجية في بنية نظام الحكم العثماني، إذ رغم ما أظهره السلاطين العثمانيون من حرص على أحكام الشرع، بولاء فاق غيرهم من الأسر الإسلامية الحاكمة فيالعالم الإسلامي، إلا أن المفهوم العام للسلطة ووظائفها في الإمبراطورية العثمانية، لم يتأثر بالآراء الإسلامية إلا بشكل طفيف، ذلك ان السلاجقة كانوا قد تأثروا تأثراًتاماً بالآراء الفارسية، وماكان لقب 'الخنكار' ، أي سيد الكون، وهو أحب الألقاب للسلاطين العثمانيين، إلا دلالة قوية في هذا الإتجاه(42).

بيد أنه من الأهمية بمكان،التأكيد على أن التحولات التي طالت علاقة الدين بالسلطة، واقعاً تاريخياً ومفهوماً فقهياً ونظرياً، والتي قامت على تغليب السياسي على الديني، لم تبلغ حد عزل الدينوإقامة قطعية معه. فهذا لم يكن واراداً في ذهن المسلمين من سلاطين وفقهاء. لقد ظل الإسلام في وعيهم ديناً ودولة. وظل مشروع السلطة المعلن هو خدمة الإسلام والدفاع عن داره.

إلا أن ثمة بوناً شاسعاً، بين مانظر له الفقهاء الأوائل، وما إنتهى إليه الفقهاء المتأخرون. وثمة مساحة لا تردم بين نموذج السلطة الأول الذي أعقب وفاة الرسول،وبين النموذج السلطاني اللاحق. وعلى الرغم من ذلك، ظل النموذج الأول على إختلاف مرجعياته التأسيسية ، مطمحاً مؤملاً يسعى المسلمون اللاحقون لإستعادته. إنما من ناحيةفعلية، دخلت السلطة في الإستثناء الذي غدا تاريخاً مديداً. فرضته ضرورات الواقع وتوازنات القوى، شأنها شأن كل مسألة سياسية.

إن الإشكالية التأسيسية لعلاقةالدين بالسلطة، مع تحولاتها اللاحقة، لن تقتصر على كونها أحداثاً إستقرت في التاريخ، بل سيبرز معنا، ان الإشكاليات المعاصرة لعلاقة الدين بالسلطة ، ستتأسس عليها،مستعيدة مفرداتها وبعضاً من سجالاتها، حول النص والإختيار ، الشورى ودور الأمة، من يحكم وماهي المسوّغات الشرعية للحكم؟ مضافاً إليها المزيد من التعقيد النظريوالواقعي، بحكم تحديات المعاصرة والغرب والدولة الحديثة.





1 - برهان غليون: الدولة والدين/ نقد السياسة، المؤسسةالعربية للدراسات والنشر، بيروت، 1991م، ط 1، ص5.

2 - د. هشام جعيط: الفتنة/ جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، ترجمة د. خليل أحمد خليل، دار الطليعة، بيروت،1995م، ط 3، ص 6.

3 - محمد سعيد العشماوي: الإسلام السياسي، سينا للنشر، القاهرة، 1992، ط 3، ص 8 و ص 82.

4 - د. رضوان السيد: الجماعة والمجتمع والدولة/ سلطةالأيديولوجيا في المجال السياسي العربي الإسلامي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1997م، ط 1، ص 27 و ص 30.

5 - الإمام الخميني: حديث الشمس، منظمة الإعلام الإسلامي، طهران،1992م.، ط 1، ص 9 وص 17.

6 - أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري: الإمام والسياسة، تحقيق الدكتور طه محمد الزيني، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، لا مكاننشر، لا تاريخ، لا ط، الجزء الأول، ص ص 12 - 23.

7 - أحمد بن محمد بن عبد ربه: العقد الفريد، تحقيق محمد سعيد الديان، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1953م لا ط، الجزء4، ص 127.

8 - إبن قتيبة الدينوري: الإمامة والسياسة، مصدر سابق، ص 12.

9 - محمد عابد الجابري: الدين والدولة وتطبيق الشريعة. مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت، 1996م، ط1، صص 24 - 29 .

10 - أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي: الأصول من الكافي، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت، 1401هـ ط 4، م 1، ج 1، ص 178.

11 -هشام جعيط: الفتنة، مصدر سابق، ص 323.

12 - الإمام أبو بكر الباقلاني: التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والمرجئة والخوارج والمعتزلة، دار الفكر العربي، القاهرة،1947 م، لا ط، ص 184.

13 - راجع محمد جمال باروت: يثرب الجديدة/ الحركات الإسلامية الراهنة. رياض نجيب الريس للكتب والنشر، بيروت، 1994م، ط 1، ص 50.

14 - الباقلاني:التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والمرجئة والخوارج والمعطلة، مصدر سابق، ص 184.

15 - لقد تكررت حالات الإجتهاد مقابل النص على نحو ملفت مع الخليفة عمر إپنالخطاب، على سبيل المثال. رفضه توزيع سواد العراق على الفاتحين المسلمين، وتجاوزه لمبدأ المؤلفة قلوبهم، ورفضه لزواج المسلم من الكتابية (اليهودية)، كما إختلفت سياستهمن ناحية أخرى عن سياسة أپي بكر في قتال المسلمين الذين تمنعوا عن دفع الزكاة، فقاتلهم الأول وصفح الثاني، راجع مرتضى العسكري: منشورات مؤسسة البعثة - قسم الدراساتالإسلامية، طهران، 1408 هـ ، لا ط، المجلد 2، ص 365 - ص 370.

16 - محمد عابد الجابري: الدين والدولة وتطبيق الشريعة. مصدر سابق، ص 41 و ص 42.

17 - هشام جعيط: الفتنة، مصدرسابق ، ص 323.

18 - رضوان السيد: الجماعة والمجتمع والدولة، مصدر سابق، ص 120.

19 - أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: تاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك)، تحقيق محمدأپو الفضل إبراهيم، دار التراث، بيروت، لات، لاط، المجلد الرابع ص 427. راجع في ذلك دلالة الحديث الذي دار بين الذين بايعوا علياً، انهم قالوا له: 'ولا نجد اليوم أحداً أحقبهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله(ص).

20 - مسند الإمام أحمد بن حنبل: مسند أحمد، رقَّم أحاديثه محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية،بيروت، 1413 هـ - 1993م، ط 1، ص 514.

21 - في دعاء لمعاوية كان يكرره على المنابر: 'اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت'. راجع مسند أحمد: مصدر سابق، ج 4، ص 125.

22 -راجع دراسة رضوان السيد حول الخلافة والملك/ دراسة في الرؤية الأموية للسلطة، التي يعالج فيها كافة المرتكزات النظرية والدلالات الإصطلاحية للرؤية الأموية. في كتابهالجماعة والمجتمع والدولة، مصدر سابق، الفصل الثاني. صص 59 - 121.

23 - الدكتور محمد جلال شرف: نشأة الفكر السياسي وتطوره في الإسلام، دار النهضة العربية، بيروت، 1982م،لا ط، ص 85.

24 - أورده أبو عبد الله بن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك، حققه وعلق عليه علي سامي النشار، سلسلة كتب التراث (45) ، منشورات وزارة الإعلام، بغداد،1977م، لا ط. ج 1، ص 391.

25 - ثمة نسق من الممارسات والخطاب السياسي الأموي، تجدر ملاحظته، وهو يؤسس لإستبداد سياسي لم يكن معروفاً من قبل في مرحلة الخلفاء الأربعة. إذينقل المدائني (ت 235هـ) ، أن معاوية كتب لعماله: من 6اتهمتموه ولم تقم عليه بينة فاقتلوه. كما ان قوله في مسجد الكوفة بعد صلحه مع الإمام الحسن، مخاطباً أهل الكوفة، يا أهلالكوفة، أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون؟ بل قاتلتكم لأتأمر عليكم وألي رقابكم، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا إن كلدم أصيب في هذه الفتنة مطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين' راضي آل ياسين: صلح الإمام الحسن، منشورات ناصر خسرو، بيروت، 1399هـ ، ط 4، صص 321 - 323.

26 - أپو جعفر محمد بنجرير الطبري: تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أپو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، لا ـ ، ط 4، ج 7، ص 425.

27 - الطبري: المصدر نفسه، ج 8، ص 89 .

28 - راجعمعالجة محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي/ محدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990م، ط 1، صص 339 - 354 ونلاحظ أن الجابري يولي أهمية خاصة لمفهومالخاصة والعامة في تحليل بنية الدولة لدى بني العباس.

29 - راجع إبراهيم بيضون : البويهيون والخلافة، مجلة المنطلق، محور: جدل المعرفة والسلطة/ العصر البويهينموذجاً، بيروت، شتاء 1996م، عدد 114، ص 11.

30 - راجع رضوان السيد: الجماعة والمجتمع والدولة، مصدر سابق، ص 360.

31 - أپو الحسن الماوردي الشافعي: الأحكامالسلطانية، مصر 1973م، ط 3، ص 3.

32 - د. وجيه كوثراني: الفقيه والسلطان، دار الرشد، بيروت، 1989م، ط 1، ص 26.

33 - محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي/ محدداتهوتجلياته، مصدر سابق، ص 361.

34 - محمد بن الحسين أپي يعلى الفراء: الأحكام السلطانية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1982م، ص 20.

35 - أبو حامد بن محمد الغزالي :فضائح الباطنية، دار الكتب الثقافية، الكويت، دون تاريخ، دون طبعة، ص177.

36 - تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية: منهاج السنة النبوية، دار الكتب العلمية،بيروت، دون تاريخ، دون طبعة، ج 1، ص 141.

37 - أورده، أپو عبد الله بن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك، مصدر سابق، ص 75.

38 - عبد الرحمن بن محمد بن خلدون:المقدمة، دار العودة، بيروت، 1981م، دون طبعة، ص 153.

39 - إپن خلدون: المقدمة، المصدر نفسه، ص 154.

40 - محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي. مصدر سابق، ص 362.

41 - راجع الفضل شلق: الأمة والدولة: جدليات الجماعة والسلطة في المجال العربي الإسلامي، دار المنتخب العربي، بيروت، 1993م، ط 1، صص 40 - 41 .

42 - راجع، وجيهكوثراني: الفقيه والسلطان، مصدر سابق، ص ص 74 - 76.


/ 1