من زلات المستشرقين
للأستاذ عبد الوهاب حمودهسنكون في هذه المرة مع ثلاثة من كبار المستشرقين القدماء وهم: 1 ـ شبرنجر. 2 ـ سنوك هجرونييه.
3 ـ فنسنك.
ومن المناسب أن نذكر كلمة في تاريخ كل واحد منهم حتى يكون القارئ على بينة من أمرهم قبل البدء في نقد آرائهم وماذهبوا إليه.
فشبرنجر (1813 ـ 1893 م) ولد في بلدة من أعمال النمسا وأتم فيها دروسه ثم رحل إلى لندن ودخل في خدمة الإنجليز فأرسل إلى الهند وكلف ولاية مدرسة دهلي ومطبعةكلكتا. ثم عاد إلى وطنه فعلم العربية في برلين هذه انقطع بعدها إلى التأليف في هيد لبرغ.
وأما سنوك هجرونييه الهولندي فقد كان أستاذاًَ للغة العربية في جامعة لندن ثمرحل إلى بلاد العرب سنة (1884 ـ 1885 م) ووصل إلى مكة متنكراً قضى فيها مدة. ومكث سبعة عشر عاماً في جاوه مستشاراً للحكومة في الشئون الإسلامية. وكان سرئيس أكاديمية هولندا. وهويميل في كتاباته إلى انتقاد الإسلام (راجع دائرة المعارف الإسلامية).
أما فنسنك فهو تلميذ (سنوك) وساعده الأيمن وهو رئيس تحرير دائرة المعارف الإسلامية. والمستشرقون في جملتهم هم طلائع المبشرين ولا سيما القدامى منهم وهم الذين
/ صفحه 156/يمهدون السبيل لتشكيك المسلمين في عقائدهم خدمة للإستعمار ويمهدون بذلكللمبشرين سبيل الطعن في الإسلام وفي نبيه الكريم ويزردونهم بأنواع شتى من الشعوذة العلمية باسم الاستنتاج التحليلي والنقد الفني وحرية الفكر وسرعان ما اغتر بهم بعضالباحثين المعاصرين وروجوا لآرائهم الفجة وساروا وراء انتقاداتهم المغرضة فأوقعوا بذلك الشباب في بلبلة من عقائدهم وشك في دينهم.
على أن من واجبنا أن ندرس كل مستشرقمن جميع نواحيه في حيطة وحذر وندرس كل مؤلفاته وآرائه في شك وارتياب ولا سيما إذا كان ممن يبحثون في القرآن الكريم أو في حياة الرسول محمد العظيم.
جاء في دائرة المعارفالإسلامية ص 27 من المجلد الأول ما يأتي نقلا عن فنسنك: كان سبرنجر أول من لاحظ أن شخصية إبراهيم كما في القرآن مرت بأطوار قبل أن تصبح في نهاية الأمر مؤسسة للكعبة. وجاءسنوك هجرونييه بعد ذلك بزمن فتوسع في بسط هذه الدعوى فقال: إن إبراهيم في أقدم ما نزل من الوحي (الذاريات آية 74 وما بعدها، والحجر آية 50 وما بعدها والصافات أية 82 وما بعدها،والأنعام آية 74 وما بعدها، وهود آية 72 وما بعدها، ومريم آية 42 وما بعدها، والأنبياء آية 52 وما بعدها، والعنكبوت آية 15 وما بعدها هو رسول من الله أنذر قومه كما تنذر الرسلولم يذكر لإسماعيل صلة به ـ والى جانب هذا يشار إلى أن الله لم يرسل من قبل إلى العرب نذيراً (السجدة آية 2، وسبأ آية 43، ويس آية 6) ولم يذكر قط أن إبراهيم هو واضع البيت، ولاأنه أول المسلمين.
أما السور المدنية فالأمر فيها على غير ذلك فإبراهيم يدعي حنيفا مسلما وهو واضع ملة إبراهيم ورفع مع إسماعيل قواعد بيتها المحرم ـ الكعبة ـ وسر هذاالاختلاف أن محمداً كان قد اعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن اتخذوا حياله خطة عداء فلم يكن له بد من أن يلتمس غيرهم ناصراً ـ هناك هداه ذكاء مسدد إلى شأن جديد لأبيالعرب ـ إبراهيم ـ وبذلك استطاع أن يخلص من يهودية
/ صفحه 157/عصره ليصل حبله بيهودية إبراهيم تلك اليهودية التي كانت ممهدة للإسلام ـ ولما أخذت مكة تشغل جلتفكير الرسول أصبح إبراهيم أيضا المشيد لبيت هذه المدينة ا لمقدس ا هـ فنسنك.
نقول إن الذي يكون خالي الذهن عن المستشرقين وأعمالهم يظن لأول وهلة إن هذا البحث جليلمستفيض استقصى أصحابه (شبرنجر وسنوك وفنسنك) كل آيات القرآن واستخرجوا منها مواضع الضعف ويخيل للناظر في هذا الموضوع أن الإسلام قد زعزعت أركانه وأنهم اكتشفوا اكتشافامن الخطورة بمكان حين يدعون أن محمداً
(عليه السلام)أراد استغلال اليهود ثم أخفق ثم هداه ذكاؤه المسدد لشأن جديد لأبي العرب.
وما على الباحث إلا أن يراجع السورالمكية جميعها والسور المدنية جميعها وأن يوازن بينها ليعرف إذا كانت السور المدنية هي وحدها التي انفردت بذكر نسب محمد إلى إبراهيم بأني البيت العتيق أولا؟ وفيما إذاكانت الحقائق التاريخية التي في متناول يدنا تتفق مع استنباط فنسنك أم لا؟ علينا إذن أن نراجع كل ذلك لنتمشى معه في بحثه فإن كان ما قاله حقيقيا كان لنا أن نبحث فياستنباطه أيضا وعن السبب في عدم ذكر تلك الصلة في السور المكية إذ ربما كانت من المعترف بها ولا توجد مناسبة في القرآن. أما إذا كان من نقل من الآيات خطأ كان الرجل قد عثرمن أول الطريق فلنتركه في تلك الحفرة التي وقع فيها ولننظر إليه كيف يجاهد في الخروج منها.
ونحن لا يخامرنا شك في أن هذا الدين متين وأن (فنسنك وشبرنجر وسنوك) أقل علمابفهم روح القرآن فضلا عن نقده.
فالذي يهدف إليه هؤلاء المستشرقين الثلاثة ومن على شاكلتهم أن يقولوا
أولا: إن الإسلام في مكة غير الإسلام في المدينة بالنسبةلإبراهيم (عليه السلام). فإن إبراهيم في مكة أو في القرآن المكي لم تكن له صلة بالعرب، فليس أباً لهم ولم يكن باني البيت، ولا صلة له بإسماعيل ولا بالعرب.
/ صفحه158/ثانياً: إن النبي لما جاء إلى المدينة كان يحمل أكبر الآمال في أن يؤمن به اليهود ويظاهروه على أمره. ولما أخلفوه ما أمله أراد أن يتصل بهم عن طريق إبراهيم وعبر عنذلك (بيهودية إبراهيم). وهم في ذلك كله في ضلال مبين.
أما عن الأول فقد اخطأ خطأ ظاهراً فإني ألاحظ أن المستشرقين فنسنك يقول: لم يذكر في السور المكية أية صلة لإسماعيلبن إبراهيم. وذلك ترويجاً لفكرته التي يريد أن يصل إليها ـ وهي أن محمداً ظل بعيداً عن صلة العرب بإبراهيم وإسماعيل إلى أن هاجر إلى المدينة فبدت له فكرة هي أن يصل حبلالعرب الذين هو منهم باليهود عن طريق إسماعيل وإبراهيم مع أنه لا صلة بينهم وبين إبراهيم وإسماعيل. وهذه الفكرة تهدم التوراة قبل أن تهدم القرآن لأنها ذكرت صلة إبراهيمبإسماعيل وأنه جد عدة قبائل في بلاد العرب. وحين عد السور المكية عمد إلى التي يذكر فيها إبراهيم مجردا عن الصلة بإسماعيل والعرب لذلك تخطى سورة إبراهيم وهي مكية وقد شهدتبعكس ما يقول وآياتها شاهدة بأن إبراهيم وإسماعيل بينا البيت وأنهما كانا يدعوان الله تعالى بالهداية وأن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام ـ وإبراهيم يذكر أنه أسكن من ذريتهبواد غير ذي زرع عند بيت الله الحرام ويدعو الله أن يرزقهم من الثمرات ويحمد الله أن وهب له إسماعيل وإسحق ـ (اقرأ من سورة إبراهيم آية 35 إلى آية 41) ولا يمكن أن يمر بخاطريأنه لم يعرف هذه الآيات ولم يتنبه إليها بل أكبر اعتقادي أنه تخطاها عمدا حتى يتيسر له تأييد نظريته.
وأما عن الأمر الثاني فإن النبي ما أمل أن يعتز باليهود ولكن لماكانوا أهل توحيد ويجانبون الأصنام ويعادون أهلها. والنبي له ذكر عندهم في كتبهم لم تزل آثاره إلى اليوم ناطقة تنادي عليهم بأنهم يكتمون ما أنزل الله كان يتوقع أن يؤمنوافلما جحدوا كانوا عنده بمثابة غيرهم فقط.
ومعلوم أن القرآن يرفض أن يكون إبراهيم يهودياً لأن اليهود هم أبناء إسرائيل وإسرائيل إنما هو ولد اسحق بن إبراهيم. وغريب أنيكون المتقدم معزوا وتابعا لولد ولده الذي لم يره ولم يعاصره (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) سورة آل عمران.
/ صفحه 159/ولم يعتز الإسلام قط بالانتساب إلىيهودية إبراهيم ولكنه نازع اليهود عقيدتهم في يهوديته قال تعالى في سورة آل عمران (قل يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما انزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلاتعقلون).
وما كان الإسلام في عهد من عهوده بحاجة إلى ممهد من اليهودية كما يقول (فنسنك) لأن مذهب القرآن أن الإسلام كان الدين الأقدم الذي أوحاه الله للبشرية فحرفهرؤساء الأديان وأخرجوه عن صراطه فكان الله يرسل المرسلين لتخليصه مما أدخل عليه حتى أرسل به محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم)في آخر الزمان فقال تعالى: (شرع لكم منالدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).
أما الكعبة فقد كان بناء ساذجا مربعاً والعرب تسمى كل بناءمربع بالكعبة من الطراز الذي يبنيه الناس بأنفسهم وإن لم يكونوا بنائين ليجعلوه مصلي فهل يستبعد على إبراهيم ـ وكان نبياً باجماع الأمم ـ أن يبني له ولأبنه بناء من هذاالطراز يصليان فيه.
وإذا ثبت أن إبراهيم أوصل أبنه إلى تلك البقعة من بلاد العرب وقد ثبت ذلك بنص التوراة فيكون من المتعين أني تخذ له فيه بنية ساذجة يجعلها متعبداً لهعلى مثال الصوامع. ولم ينازع أحد إلى اليوم إبراهيم في أنه باني ذلك المصلي حتى يصح أن يقال أن محمداً نسبة إليه تعظيماً لشأنه.
ومما يدل على أن النبي(صلى الله عليهوآله وسلم)لم يتخذ بناء الكعبة أساساً من أسس دعوته أنه أمر أصحابه أن يولوا وجوههم في صلاتهم إلى بيت المقدس طوال مقامه بمكة.
بقي أمر ثالث يعزوه هؤلاء المستشرقونوهو أنهم ينكرون أن يكون إبراهيم أو إسماعيل رسولا إلى العرب مستندين إلى قوله تعالى (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) سورة السجدة (وما آتيناهم من كتب يدرسونها وماأرسلنا إليهم قبلك من نذير) سورة سبأ وقوله تعالى (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون) سورة يس.
/ صفحه 160/والجواب على هذا أن المفسرين يقولون إن معنى ذلك أنالموجودين من هؤلاء القوم لم يباشرهم رسول يبلغهم دين الله وبهديهم إلى الدين الحق ـ فلا تناقض لأن تبليغ إسماعيل أو إبراهيم إنما كان لآبائهم.
أو أن العرب كان دينكثير منهم عبادة الأوثان وكان لهم قرابين يقدمونها إليها وقد سنوا لهم سنناً وشعائر ما أنزل الله بها من سلطان. فجاء محمد لينذر هؤلاء القوم الذين يدعون أنهم على دين وأنالله قد أمرهم بما هم عليه مع أن الله ما أرسل إليهم نذيراً شرع لهم هذه الشرائع الباطلة لأنهم كانوا إذا ظلموا أنفسهم بشرائعهم الباطلة قالوا وجدنا عليها آباءنا واللهأمرنا بها ـ وقد ناقشهم الله في ذلك ورد عليهم في غير موضع من القرآن كقوله (إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون).
وقد ذكر الأستاذ العقاد في بحثه(أبو الانبياء: الخليل إبراهيم).
ها هنا رواية عن نشأة الكعبة في الحجاز على عهد إبراهيم ـ فمن ينكرها فعليه أن يثق أولا من أسباب إنكارها وعليه بعد ذلك أن يعرفنا بماهو أصح في التاريخ وأولى بالقبول.
إن روايات هؤلاء القوم الأميين ـ قوم مكة في الجاهلية ـ تذكر لنا أن مكة عمرت قديما بأناس من اليمن. ثم أناس من النبط وكل معلوم عنأحوال الحجاز يعزز هذه الروايات. لكن أهل اليمن ـ في اليمن ـ لا يخلقون لغير بلادهم قداسة تعفى على شأنها بين الشعوب العربية وقد حدث منهم غير مرة أنهم نظروا إلى الكعبةنظرتهم إلى منافس خطر فهموا بهدمها وتحويل الحجاج إلى معبد يقوم عند العرب مقامها. أما النبط في الشمال فمكة هي طريقهم ولا مزاحمة عليها منهم وآثارهم الباقية في البتراءتنطق بالمشابهة بينهم وبين الحجازيين في العبادة واللغة والسلالة، والنسابون من الحجاز يقولون إنهم نبط وإنهم أخذوا الأصنام من النبط وجميع المصادر بعد ذلك تقول إنالنبط هم ذرية نبات بن إسماعيل.
هذا؛ وفي مقاييس الكعبة شاهد لا يجوز إهماله عند البحث في أصل بنائها
/ صفحه 161/فإنها قد بنيت مرات مرات كما هو معلوم وكانالبناة في كل مرة يحافظون على معالمها القديمة حيث أمكنت المحافظة عليها وقد تعذر عليهم أن يحافظوا على إبعاد جوانبها لدخول الحجر (بكسر الحاء) فيها تارة وخروجه منهاتارة أخرى ولكنهم حافظوا على ارتفاعها كما جاء في أكثر الروايات وارتفاعها الآن سبع وعشرون ذراعا أو خمسة وعشر مترا ولن تكون الخمسة عشر متراً سبعاً وعشرين ذراعاً إلاإذا كان الزراع بالمقياس المقدس عند قوم إبراهيم لأنه كما حققه الأستاذ (جريفس) الخبير المتخصص في المقاييس الأثرية يزيد على واحد وعشرين قيراطا (بوصة) وثلاثة أرباعالقيراط ويقاس بالتقريب عند مضاهاة الأبنية القديمة التي قدرت بالزراع.
هذه القرائن المتجمعة يجب أن تستوقف نظر الباحث المنزه عن الفرض وتجعله يعلن أنه من الخطأ أنيقال إن الروايات عن بناء الكعبة تلفيق من اليهود لإرضاء العرب والتقريب إليهم بتوحيد النسب بينهم والارتفاع بنسبهم جميعاً إلى جدهم إبراهيم فإن نسبة العرب إلى إسماعيلبن إبراهيم مكتوبة في سفر التكوين.
* * *
وبعد فموعدنا مع المستشرقين في العدد القادم لنناقشهم موقفهم من أحاديث الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم)