من زلات المستشرقين
للأستاذ عبد الوهاب حموده من زلات المستشرقين خوضهم في نقد أسلوب القرآن و اجتراؤهم بالحكم علىبلاغته و أسرار فصاحته، و من لهم بهذا القدر من اللغة، و الدرجة من التذوق، و هم الأجانب الأعاجم و الغرباء البعداء.
و هل ينتظر إنسان من أجنبي لم يتفيأ البيئةالعربية، و لم تتعود أذناه جرس اللغة العربية إلا من بعض ألفاظ تلقفها من هنا أو هناك، أن يستطيع الحكم على كتاب الله الذي هو الآية الكبرى من الإعجاز، و الذي أنزله بلسانعربي مبين، و تحدى به قريشا و العرب كافة، و هم من هم في الفصاحة و البلاغة، فقال جل من قائل:
(و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله و ادعوا شهداءكممن دون الله إن كنتم صادقين).
فما ذا استطاع العرب جميعا أن يفعلوه؟ لم يتقدم أحد لمطاولة القرآن ومحاكاة أسلوبه، و كان ذلك العجز اعترافا صريحا منهم بصدق آية الرسولالكبرى.
و هل أتاك حديث عمر بن الخطاب حين ذهب ليقتل أخته و زوجها لأنهما صبآ، فما كاد يسمع منها قوله تعالى: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) - إلى آخر الآيات - حتى أحسبقوته القدسية التي لا يقوى على صدها ، و دخل الإيمان قلبه، فذهب إلى الرسول فبايعه.
و هذا الوليد يقول - و هو من فحول العرب، و ذوى أحلامها، و المتصرفين في فصاحتها،جاء إلى رسول الله
(صلى الله عليه و آله و سلم)و قال: اقرأ على شيئا من
/ صفحة 267 /القرآن، فقرأ عليه: (إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى)الآية، فقال أعد، فأعاد، فقال الوليد: و الله إن له لحلاوة، و إن عليه لطلاوة، و إن أسفله لمعذق، و إن أعلاه لمثمر، ما هذا بقول بشر.
فمن زلات المستشرقين و اجترائهمعلى أسلوب القرآن و نقده ما جاء في دائرة المعارف البريطانية في بحث مادة (قرآن) فقد كان أسلوب القصص في القرآن و تكريره موضع هجوم و موطن طعن، و هو هجوم قائم على الجهلبالأساليب، و طعن متأثر بالتوراة و ماجاء فيها من القصص، يقول كاتب المقال تحت عنوان: (الضعف الأسلوبي للقرآن):
( و على الجملة فبينما نجد سورا كثيرة من القرآن تعتبرمن غير شك ذات قوة بيانية جديرة بالتقدير و الاعتبار حتى بالنسبة للقاريء غير المؤمن، إذا بالكتاب من ناحية الجمال الفنى في المقام الأول).
(و لأجل أن نبدأ بما نقدرعلى نقده، دعونا ننظر في بعض القصص الطويلة، فهناك نشاهد العنف و الجفاف يحلان محل الرصانة الملائمة لسير الأبطال ، و أن الربط الضروري سواء أكان في التعبير أم في تسلسلالحوادث مفقود في أكثر الأحيان، حتى يمكن أن يقال: إن فهم تلك القصص أسهل علينا نحن من فهمها لأولئك الذين سمعوها لأول مرة، و ذلك لأننا نستطيع أن نطلع عليها في مصادر أخرىلا تتيسر لأولئك المعاصرين لمحمد).
(و نجد على طول الخط جزءا كبيرا من اللغو و الحشو الزائد، و لا نجد في أى جزء تقدما ثابتا في القصص).
(و قصة يوسف دليل على هذاالتباين في المقام التاريخي و ما فيها من عدم اللياقة، و قلة المناسبة الواضحه بالنسبة للقصة الرائعة في سفر التكوين من التوراة).
(و كذا نجد أخطاء متشابهة في الأجزاءغير القصصية، فارتباط الأفكار مفكك إلى حد بعيد حتى تركيب الجمل، و بناء الكلمات شاذ يظهر فيه الخلل الأسلوبي و التعقيد اللفظي، أما ضعف التأليف فكثير الوقوع، و لا يمكنأن نعتبره ترتيبا
/ صفحة 268 /أدبيا صحيحا ، فكثير من الجمل تبدأ بكلمة (و إذ) التي تظهر كأنها تحلق في الهواء، حتى أن المفسرين اضطروا إلى إضافة تقدير (اذكر)ليسدوا هذا النقص، و يصلحوا هذا الخلل).
(فليس هناك مادة أدبية عظيمة واضحة في التكرار الذي لا لزوم له لنفس الكلمات و الجمل، كما نرى ذلك واضحا في سورة الكهف، حيثتكرر فيها قوله: (حتى إذا) فهى قد تكررت ثماني مرات).
و اختصار القول أن محمدا ليس بأي حال من الأحوال أستاذا للأسلوب أو البيان، و هذا الرأي سيوافق عليه أي شخص أجنبييقرأ القرآن بروح العدل و عدم المحاباة أو التحيز، مع شيء من معرفة اللغة دون أن يدخل في ذلك حساب التأثير الممل للتكرار الذي لا نهاية له).
و للرد على هذا الكاتب نقول:
أولا: إن هذا القرآن ليس من تأليف محمد
(صلوات الله عليه)حتى يوجه إليه النقص و العيب في أسلوبه و تعبيره بل هو من صنع خالق القوى و القدر.
ثانيا: إن العرب الذينهم أهل البلاغة و فرسان الكلام قد تحدوا فعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، و لو كانوا و جدوا أي عيب في تأليفه لأسرعوا لإعلانه و مجابهة محمد به و هم أدرى ببلاغته و أسرارفصاحته.
ثالثا: يجب على الكاتب التسليم بأن لكل لغة خصائصها و معالم بلاغتها و سمات فصاحتها، و لا يصح أن تقاس بلاغة لغة على أخرى و ليس ما يعد عيبا في لغة يكون عيبا فيلغة أخرى.
رابعا: لا تجوز مقابلة أسلوب القصص القرآني بالقصص في التوراة لاختلاف الغرض في الكتابين.
ففي التوراة حوادث تاريخية منظمة تجرى فيها الأخبار مجراهاالواضح العادي.
يقول الأستاذ (فيلب حتى) أستاذ الأدبيات السامية في جامعة يرنستون يقول في كتابه (تاريخ العرب) ما ترجمته:
/ صفحة 269 /(إنما يقصد القرآن منعرض هذه القصص التوسل إلى التهذيب و التأديب لا مجرد سرد قصة، بل المقصود العظة الخلقية و تعليم الناس إن الله في الأزمان السالفة كان دائما أبدا يكافىء الأخيار و يعاقبالأشرار و هذه سنته: أما قصة يوسف فقد جاءت في قالب واقعي جذاب و الاختلافات اليسيرة في هذه و أمثالها من القصص الأخرى كقصة استجابة إبراهيم لدعوة الله الواحد الحق(52 سورةالأنبياء) عن المعروف في التوراة لها نظائرها التي تقابلها في المشنا و التلمود و سواهما من كتب اليهود القانونية).
و يقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده:
إنالقرآن حملات روحية خطابية، لا يقصد بها تسلسل الخبر، ولكن تستخدم فيها القصة للتذكير أو التهويل، و لذلك ترد مرارا، و كثيرا ما تروى على سبيل الإشارة و التلميح.
والأسلوب الخطابي يقتضى التكرير. فالقرآن ليس سفر تاريخ، و لم تذكر أخبار الأولين فيه، ليتلقاها المخاطبون، كما يتلقون مسائل التاريخ. (و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل منمدكر).
فلا يضير القرآن أن لاتكون قصصه مسرودة فيه، و مرتبة على نحو ترتيبها في كتب التاريخ، و إنما هو يذكرها كلما سنحت لها مناسبة، و يذكرها مقدمة أجزاؤها و مؤخرة،موجزة أو مسببة، كل ذلك للاعتبار بالنعم و النقم و للاستعانة بهذه القصص على الترغيب و الترهيب، و الإيقاظ و التنبيه، فتتأثر النفوس و تتيقظ القلوب.
أما سر تكرير قصصالأنبياء، فقد ذكر ابن قتيبة في كتابه (مشكل القرآن): (أما تكرار الأنبياء و القصص، فإن الله عز و جل أنزل القرآن نجوما في ثلاث و عشرين سنة، بغرض بعد غرض تيسيرا علىالعباد، و تدريجا لهم إلى كمال دينه، و وعظ بعد وعظ تنبيها لهم من سنة الغفلة، و شحذا لقلوبهم بمتجدد الموعظة.
و كان أصحاب رسول الله
(صلى الله عليه و آله و سلم)
إنما يقرأ الرجل منهم / صفحة 270 /السورتين و الثلاث و الأربع، و البعض و الشطر من القرآن، إلا نقرأ منهم و فقهم الله لجمعه، و سهل عليهم حفظه.
و كانت وفودالعرب ترد على رسول الله
(صلى الله عليه و آله و سلم)
للإسلام فيقرئهم المسلمون شيئا من القرآن، فيكون ذلك كافيا لهم. و كان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة،فلو لم تكن الأنباء و القصص مثناة و مكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم، و قصة عيسى إلى قوم ، و قصة نوح إلى قوم، فأراد بلطفه و رحمته أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض، و يلقيهافي كل سمع، و يثبتها في كل قلب. و من أسرار التكرير أيضا أن في إبراز الكلام الواحد في صور كثيرة و أساليب مختلفة، ما لا يخفى من الفصاحة.
منها أنه تعالى أنزل هذاالقرآن، و عجز القوم عن الإتيان بمثله، ثم أوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القصة في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله، بأي نظم جاءوا، و بأي عبارة عبروا. و منها أن القصة الواحدة لما كررت، كان في ألفاظها في كل موضع زيادة و نقصان و تقديم و تأخير، و أتت على أسلوب غير أسلوب الأخرى، فأفاد ذلك ظهور الأمر العجيب، في إخراجالمعنى الواحد، في صور متباينة في النظم و جذب النفوس إلى سماعها، لما جبلت عليه من حب التنقل في الأشياء المتجددة، و استلذاذها بها، و إظهار خاصة القرآن حيث لم تحصل معتكرير ذلك فيه هجنة في اللفظ، و لا ملل عند سماعه، فباين ذلك كلام المخلوقين: (و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)
يقول السيد محمد على الهندي في كتابه(الدين الإسلامي):
و يعترف كتاب الغرب بما فيهم المتعصبون منهم بمكانة القرآن الرفيعة في عالم الأدب و الدين، و هاك مقتطفات مما كتبوه عنه.
و يقول (سيل) في مقدمةترجمته للقرآن:
إن أسلوب القرآن جميل و فياض، و في كثير من نواحيه نجد الأسلوب عذبا
/ صفحة 271 /و فخما، و بخاصة عند ما يتكلم عن عظمة الله و جلاله. و منالعجيب أن القرآن يأسر بأسلوبه هذا أذهان المستمعين إلى تلاوته سواء منهم المؤمنون به و المعارضون له، و يفسر المعارضون ذلك بقولهم إنهم قد سحروا بالقرآن و أسلوبهفأنصتوا إليه و أعجبوا به.
و يقول (جوتيه):
لا يصح لنا أن نقيس القرآن بأي كتاب آخر من كتب الأدب من حيث عذوبة اللغة و طلاوتها، و إنما نقيسه بالثورة التي أحدثها فينفوس المعاصرين لمحمد، فقد نفذ القرآن إلى قلوب سامعية بكل قوة و إقناع، و اجتث من ثناياها كل ما كان متأصلا فيها من وحشية، و انتزع كل همجية، فأوجد ببلاغته و بساطته أمةمتمدينة من أمه متوحشة.
و يقول (هرشفلد):
ليس للقرآن مثيل في قوة إقناعه و بلاغته و تركيبه، و إليه يرجع الفضل في ازدهار العلوم بكافة نواحيها في العالم الإسلامي.