دارفور بين الهجوم الاستعماري والواقع
أ.د محمد سليم العوا الامين العام للاتحاد العالميلعلماء المسلمين
زار الدكتور محمد سليم العوا عضو المجلس الاعلى للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية والامين العام للاتحاد العالميلعلماء المسلمين منطقة دارفور السودانية، وكتب عن مشاهداته وحواراته خلال زيارته لدارفور والسودان في نشرية (وجهات نظر) العدد التاسع والستين اكتوبر 2004 ونظراً لاهميةالموضوع نقتطف مايلي من المقال .
منذ بداية هذا العام (2004) يتابع العالم كله
(216)
سلسلة من المعلومات المكذوبة، أو المبالغ فيها مبالغة هائلة، حولالنزاع القائم في دارفور، وآثاره الإنسانية، وأسبابه الحقيقية أو المزعومة.
وقد توجهت بعثات من مناطق شتى من العالم إلى دارفور أو الى السودان. دون أن تعني نفسهابالذهاب إلى دارفور. ونقلت إلى وسائل الإعلام تلك المعلومات الخاطئة ، أو المكذوبة عمداً، أو سكتت عن نفيها بعد أن تيقنت من عدم صحتها، فشاركت بذلك في شيوع الصورة غيرالصحيحة عما يجري في تلك المنطقة من العالم.
الصورة الشائعة تقول: إن الصراع في دارفور هو صراع عرقي بين القبائل العربية والقبائل الإفريقية: وإن القبائل العربيةتمارس إبادة جماعية أو تطهيراً عرقياً ضد القبائل الإفريقية؛ وإن هناك حملات منظمة للاغتصاب الجماعي للنساء على مرأى من الرجال(!): وان الحكومة السودانية ضالعة في ارتكابهذه الجرائم، أو التستر عليها بغض الطرف عنها، لأن الذين يرتكبونها هم فرق من ميليشيات الجنجويد الذين تسلحهم الحكومة، وهم ينتمون الى القبائل العربية، وان ضحايا هذا
(217)
الصراع المسلح جاوزوا الخمسين الف قتيل وملايين اللاجئين والنازحين والمشردين (لكل لفظ مدلوله الخاص في القانون الإنساني) فأصبحنا أمام أسوأ كارثةإنسانية في التاريخ(!)
الإعلام الغربي يسوق هذه الصورة، والإعلام العربي، القابع في جحر الضب، يروجها مجاناً، ومجلس الأمن اتخذ حتى الآن (سبتمبر 2004) قرارين ضدالسودان وقد يكون القرار الثالث في الطريق!
والناس، الذين ليس لديهم مصدر آخر للمعرفة، يصدقون هذه الصورة الشائعة، أو يقفون أمامها حائرين لا يملكون تصديقاً ولاتكذيباً.
ولا يستطيع المرء أن يقف على حقائق الحال الثقافي في دارفور دون ان يتعرف على تكوينها السكاني، وموقعها الجغرافي، وتاريخها الثقافي، والثروات التيتختزنها ارضها وعلاقتها الحالية والتاريخية بالمركز (الخرطوم/ حكومة السودان)، والقوى التي تغذي الصراع الدائر على أرضها، وتلك التي تظن انها قد تستفيد منه.
دارفور وسكانها
دارفور جغرافياً هي غرب السودان، لها حدود مع ليبيا (في الشمال الغربي) ومع تشاد (في الغرب) ومع افريقيا الوسطى (في الجنوب). (218)
وطبيعتها متنوعة تنوع اهلها ففيها صحارى واسعة، وجبال، ووديان، وانهار صغيرة، وأراضٍ صخرية ورملية وطينية، وفيها منطقة جبل مرة التي تتمتع بمناخ البحر الأبيضالمتوسط(!) ويصف اهلها بلادهم بأنها «ارض بكر ومية شبر»! وهي غنية بينابيع المياه الطبيعية، وبساتينها تنتج أجمل ثمار بلدان البحر الأبيض المتوسط (ولم ينزح من سكانهاأحد).
مساحة دارفور 807. 547 كم 2 أي انها نحو نصف مساحة مصر ، واكبر من مساحة فرنسا، وهي خُمس مساحة السودان أو أكثر قليلاً. وثمانون في المائة مـــن هــــذهالمســـاحة صالحة للزراعة فوراً (وهي نحو 000/500/43 فدان بكــر لا تحتاج إلى استصلاح!).
سكانها عددهم اقل من ستة ملايين نسمة.
ثرواتها الطبيعية هي الحديد(نقاوته من 80-90%) والنحاس (بها منطقة تسمى حفرة النحاس لا يحتاج نحاسها عالي النقاء الى تعدين لوجوده فوق سطح الأرض!) والبترول (هي المربع رقم 12 في تقسيم النفط السودانيوحقولها متاخمة لحقول تشاد الغنية باليورانيوم، والجير، والصودا وهذه الأخيرة كلها في شمال دارفور. (219)
ثروتها من الإبل والماشية (الأبقار) نحو 88 مليونرأس، أما الأغنام فلا تكاد تحصى(في أحداث محلية كتم وحدها كانت الخسائر من الأغنام 734/239/2) وفي تقدير حكومي لثروة دارفور من الأغنام جاء انها 610/987/28 رؤوس من الضأن والمعز،وهو تقدير تقريبي على كل حال.
ويتوزع اهالي دارفور على 180 قبيلة؛ منها 30 قبيلة كبيرة والباقي قبائل متوسطة او صغيرة. والجميع يتكلمون اللغة العربية، ويفخرونبفصاحة ألسنتهم وبلاغتهم، وبعض القبائل ذات الاصول الإفريقية ليس لها لغة غير العربية، والقبائل التي لها لغة تتكلم بها فيما بينها كما لو كانت لهجة محلية لا لغةبالمعنى الكامل للغة.
وأهل دارفور كلهم مسلمون، وتاريخ الإسلام في بلادهم يبدأ من القرن الثالث عشر الميلادي أو قبله، وكلهم يتبعون المذهب المالكي، وكلهميقرأون القرآن الكريم بقراءة (ورش)، وكلهم ينتمون إلى الطريقة الصوفية التيجانية. ولفظ كلهم في الجمل السابقة حقيقي لا مجازى (!) ولذلك فالوحدة السكانية في دارفور أعلىمنها في أماكن اخرى كثيرة من السودان، بل من العالم العربي والإسلامي قاطبةولا يستطيع أحد ان يفرق بين ذي الأصل العربي وذوي الأصل الإفريقي من أهل
(220)
دارفور، بالنظر إلى الملامح أو الصفات الجسمية. وعندما كرر كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الكلام عن الصراع العرقي في زيارته لدارفور، طلب منه الوالي ان يتعرف على منهو عربي ومن هو أفريقي، فأخطأ في تحديد هوية كل من حاول التعرف على اصله القبلي: من ظنه منهم عربياً تبين انه إفريقي ومن ظنه افريقيا تبين انه عربي(!) وأبدى كثير من الأجانبالذين زاروا دارفور تعجبهم من ان اللغة العربية هي لغة الجميع، وان الفارق الوحيد بين العربي وغير العربي هوما يقوله كل منهم عن انتمائه القبلي!
سكان دارفورينقسمون الى مزارعين ورعاة. رعاة يرعون الإبل (الأبالة) أو يرعون البقر (البقارة) والجميع يمتلكون مع الإبل والبقر كميات هائلة من الأغنام.
وفي أحوال سخاء الماءلم تكن تجري أية مشكلة بسبب المرعى او النزول للراحة في اثنائه في الصواني المخصصة لذلك. ولكن الجفاف الذي اصاب إفريقيا، وخص السودان بنصيب كبير منه، منذ اواسطالسبعينيات حتى اواسط الثمانينات ادى الى ان تبدأ رحلات الرعاة من الشمال إلى الجنوب
(221)
مبكرة عن مواعيدها المعتادة، وقل العشب في الأرض (ارض المرحال)فأكلت الإبل والأبقار زروع المزارعين في بعض الاراضي، واراد المزارعون الانتقام فحرقوا ما في الارض من عشب وكلأ نكاية في الرعاة وماشيتهم، او وسعوا نطاق زراعاتهم اوالاراضي المحجوزة للزراعة اقتطاعا من ارض المراحيل، وتوالى الفعل ورد الفعل حتى ترتب على ذلك نزاعات كثيرة وقع فيها قتلى من العرب والافارقة وعقدت الحكومة لتسويتها نحو(15) مؤتمرا للصلح بين المتنازعين انتهت كلها بتسوية النزاع وسداد ديات القتلى. وفي سنة 2001 وقع نزاع بين قبيلة الزغاوة (الافريقية) وقبيلة ابناء زيد (العربية) قتل فيه منالزغاوة 76 رجلا، واتفق على الصلح، وحددت قيم الديات، لكنها لم تدفع في المواعيد المحددة لذلك، وكان المتفق عليه ان تدفعها الحكومة السودانية، فلم يرض ذلك شباب الزغاوة،واعتقلوا زعماءهم الذين عقدوا الصلح وبدأ التمرد. واعقبت ذلك حادثة قتل فيها بعض العرب في منطقة جبال مرة فنشب صراع مسلح بين العرب والفور في تلك المنطقة.. وهكذا توالتالنزاعات المسلحة التي سببها اصلا الخلاف على الماء والعشب.
والرعي والزراعة يتقاسمهما العرب والافارقة،
(222) فأغلبية العرب رعاة ومنهم مزارعونواغلب الافارقة مزارعون، ومنهم رعاة للمزارعين ديارهم وحواكيرهم وللرعاة ديارهم وحواكيرهم كذلك. لذلك تداخلت القبلية مع الصراع الرعوي/ الزراعي، وتسبب تقصير الحكومة فيتنامي حركة الرفض التي استغلتها حركتا التمرد المسلح الرئيسيتان «حركة العدل والمساواة» و«حركة تحرير السودان».
وقيام الحركات المسلحة كان يسيراً، وكذلك تسليحالأفراد. وأهل المنطقة من قديم، يعتبرون السلاح ضرورة، لكنه كان السلاح التقليدي من مثل السيف والرمح والحربة وما إليها، فلما كثرت النزاعات المسلحة في دول الجوار،وتوالت الانقلابات العسكرية ما نجح منها وما اخفق في تشاد وافريقيا الوسطى، كانت دارفور هي ملجأ الفارين من أولئك الانقلابيين، وكان اكثرهم يبيع السلاح بأثمان رخيصة،حتى اصبح المثل السائر بين اهل دارفور (بندقية بجلابية)! والسلاح عندما يفشو في أيدي الناس يسهل استعماله، ويتقوى به حاملوه على غيرهم.وهؤلاء يحتاجون للدفاع عن انفسهمالى سلاح يواجهه، وهكذا تتسع الحلقة الشيطانية وينشأ العنف والعنف المضاد له.. وكان واجبا على الحكومة السودانية ان تنتبه
(223)
لهذه المخاطر منذ بدايتها،لكنها لم تفعل بل إنها لم تتدخل لحفظ الأمن إلا في 24 ديسمبر 2003 واستطاعت بنهاية يناير 2004 ان تقضي على التمرد المسلح وتستعيد سيطرتها على المدن التي كانت في يد الحركتينالمسلحتين، في أثناء هذه المحاولة لاستعادة سلطة الدولة حدث حرق القرى، وحدثت المصادمات العسكرية التي كان ضحاياها من غير المقاتلين اكثر من ضحاياها من المقاتلين(1)وحدثت المأساة الإنسانية الحالية التي هي اكبر بكثير من مشكلة القتلى من الفرقاء جميعا . فعدد القتلى منذ عام 2000 حتى الآن لم يتجاوز خمسة آلاف قتيل بينما عدد اللاجئينوالنازحين والمشردين في السودان وخارجه يبلغ نحو مليون ومائة الف شخص منهم 250 في تشاد والباقون داخل ولايات دارفور الثلاث، وهم موزعون على نحو عشرين مخيماً اكثرها كثافةما تديره الحكومة السودانية. وهذه الحقيقة وحدها ترد على المزاعم القائلة ان القوات الحكومية ، والموالية لها، هي التي ارتكبت مجازر ضد السكان واحرقت قراهم، اذ لو كانالأمر كذلك ما لجأ الى مخميات الحكومة أحد.
ان التطهير العرقي الذي تتحدث عنه وسائل الاعلام الغربية والصهيونية ليس الا اكذوبة كبرى لا اصل لها في الحالةالسودانية ابتداء، اذ ليس
(224)
هناك عرق ضد عرق، وإنما هناك نزاع على الماء والارض والعشب، وغياب حكومي طال امده، وإهمال للتنمية مكافئ لإهمال سائرالمناطق في السودان. وان شئت قلت في افريقيا وآسيا ايضا. استغلته عناصر ثائرة عليه، وعلى طول امده، وحاولت، ولا تزال تحاول. استثماره القوى السياسية الطامعة في السيطرةعلى السودان كله وثرواته جميعا ، من الداخل والخارج، أحدهما يعضد الآخر، وعين كل منهما على مصالحه الحقيقية او المتوهمة، واذنه تصغي لوعود وعهود اكثرها لن يصدق حين تحينساعة اقتسام الغنيمة التي يستأثر بها، بعد كل صراع، الأقوى وحده دون سواه.
والإبادة الجماعية تهمة أوهى من تهمة التطهير العرقي، وهو أمر تثبته أعداد القتلى مناهل دارفور.
الجنجويد كلمة مركبة من كلمتي «جن» و«جواد» وهي كلمة افريقية وفدت من لغات غرب افريقيا المحلية الى لغةاهل دارفور العربية بمعنى جن يركب جوادا،وتطور معناها بعد الصراع المسلح في دارفور ليتضمن حمل راكب الجواد سلاحاً آليا، لانه في الماضي كان يحمل سيفا او رمحاً او حربة.
ففي العرب جنجويد وفي الأفارقةجنجويد، وجماعاتهم قد يختلط فيها
(225)
العرب بالأفارقة لأن الذي يجمعهم ليس العرق او الانتماء القبلي وانما السطو والنهب واستقواء بعضهم ببعض دون نظرالى نسب او اصل او قرابة.
ولم يستطع وفد الاتحادالعالمي لعلماء المسلمين ان يقف على دليل او شبهة دليل على ان الحكومة السودانية سلحت الجنجويد اواستعانت بهم فيحربها ضد الحركتين السياسيتين المسلحتين في دارفور. لكن الحكومة استنفرت (عبأت) المتطوعين من الجيش الشعبي، واستجاب لهذه التعبئة اعداد كبيرة من شباب القبائل العربيةوالافريقية معا في ولايات دارفور الثلاث، وهذه هي القوة التي ساعدت الجيش النظامي في استراداد سيطرة الدولةعلى مدن دارفور ما بين 24 ديسمبر 2003 ونهاية يناير 2004 وقد سرح 80%من هؤلاء.
واستردت القوات النظامية ماكان بأيديهم من سلاح، وانضم الباقون الى القوات النظامية لحفظ الامن في مختلف انحاء دارفور.
فلا الجنجويد جماعةمسلحة منظمة ذات قيادة، ولا الحكومة سلحتهم واستعانت بهم ضد الأفارقة، وانما هي كملة ذات وقع خاص استعملت لتأكيد مزاعم ضلوع الحكومة في التطهير العرقي والإبادةالجماعية اللذين لم يقعا اصلاً.
(226)
هل عانت نساء دارفور من اغتصاب جماعي؟
تلك كانت التهمة الثالثة التي اريد من إشاعتها تسويغ التدخلالدولي العسكري في السودان بزعم حماية نساء دارفور من قوات الحكومة. سألنا أول من قابلناه في الخرطوم عن هذه التهمة فنفاها نفياً قاطعا، وقال إنها شائعات تروجهاجهات معادية للحكومة السودانية، وللصورة العربية للسودان الافريقي، وانها ليس لها في الواقع اصل البتة، وانها تنافي اخلاق اهل دارفور واهل السودان عامة.
سألتاحد السياسيين السودانيين الحكماء عن مسالة حمل 400 امراة ونقلهن الى الخرطوم لوضع اطفالهن، فقال لي: إن الاحداث كلها بدات في فبراير 2004 بعد نجاح الحكومة في السيطرة علىجميع مدن ولايات دارفور في نهاية يناير. فهل حملت جميع هؤلاء النسوة في وقت واحد، وكلهن جاء حملهن مكتملاً بعد ادنى مدة الحمل (6 اشهر)؟! واردف قائلاً: في مصر عندكم مثليقول: «ان كان المتكلم مجنوناً الا يكون المستمع عاقلاً»؟! قلت له: صدقت، هذه فاتتنى!
(227)
ومع ذلك فان إعلامنا العربي لايزال يردد ماتقوله وسائل الاعلامالاجنبية، وتردده الدول الطامعة في ثروات السودان الهائلة التي يسوؤها ان تقوم فيه حكومة مركزية قوية او يتماسك نسيجه الاجتماعي بحيث يقوى على مقاومة الضغوط او ردالاعتداءات.
هل دارفور لها قيمة ثقافية؟
عن طريق دارفور دخل الاسلام معظم بلدان غرب افريقيا، ولم تزل دارفور منذ عمها الاسلام تعرف بدارفور القرآنلكثرة مافيها من حفاظ القرآن الكريم وقرائه، وفي دارفور اكثر من 2800 خلوة لتعليم القرآن (الخلوة= الكتاب) واللغة العربية هي اللغة الاصلية في دارفور لابنائها كافة، وقدلاحظ بعض من زاروها ان ابناء القبائل الافريقية يحرصون على البراعة في تعلم العربية والكتابة بها تقديرا منهم لصلتها بالقرآ ن الكريم والسنة النبوية. وقد قال لنا احدابناء دارفور الذين قابلناهم في الخرطوم ان جميع مساجد العاصمة السودانية فيها امام او مؤذن او خادم من اهل دارفور، فهؤلاء هم الذين (228)
يحافظون علىالثقافة العربية القرآنية ليس في السودان فحسب بل في افريقيا جنوب الصحراء كلها.
هذا العمق الثقافي الاسلامي. العربي بدارفور يضيف الى مطامع القوى الدوليةالطامعة فيها مطمعا خاصا بحصار القلب الاسلامي بتمزيق اوصال أطرافه القريبة بعد ان عزلوه عزلة شبه تامة عن اطرافه البعيدة.
والحكومة السودانية وحدها لا تملكالموارد الضرورية لحل المشكلة التنموية في جميع انحاء السودان، لذلك لابد من التعاون العربي والاسلامي.