العولمة من منظور إسلامي(1)
أ. د. كامل الشريف الأمين العام للمجلس الإسلامي العالمي للدعوةوالإغاثة - الاردن
مقدمة
ربما كانت 'العولمة' (Globalisation) ومثلها النظام العالمي الجديد (New World Order) تعابير حديثة دخلت في قاموس السياسة المعاصرة،وحددت إتجاهاً جديداً في التعامل الدولي، إلا أن الجوهر أو المحتوى ليس بالشيء الجديد على الإطلاق، كما سنرى بعد قليل، فقد أوضحت مسيرة التاريخ الإنساني الطويل أنه مامن قوة دولية تظهر على المسرح إلا حاولت التمدد على حساب الجيران أولا، قبل أن تتربع على خارطة العالم بعد ذلك، ومن هنا ظهر ما سمى Pax Romana أو Pax Britanica أو السلامالروماني، والسلام البريطاني، أوغير ذلك من أنواع السلام، التي بدأت بحروب صغيرة لتدمير المقاومة المحلية أو الإقليمية، ثم حاولت فرض نمط خاص من السلام على المنافسينالأقوياء نسبياً، قبل أن تذوي القوة الجديدة وتضمحل إما بعوامل الزمن وأمراض الشيخوخة، أو الصدام مع قوة جديدة تظهر في الأفق، وهكذا دواليك. وفي كل هذه الأحوال يكونالتوسع والإمتداد هو أحد العوامل التي تؤدي للإنهيار في المدى الطويل، كما عبر نابليون في مقولة مشهورة حين قال: 'أن الإمبراطوريات تموت دائماً بمرض التخمة!' وكأن جوفهايعجز عن هضم ما يدخل فيه من الأقاليم والشعوب المختلفة. ويلاحظ دائماً أن الأهداف الحقيقية للتوسع الإمبراطوري وهي السيطرة والإستغلال وحكم الآخرين، كثيرا ما تختفيوراء إدعاء مرغوب وهو إقرار السلام العالمي، لكنه سلام القبور والجثث الهامدة، التي لا تبدي معارضة أو مقاومة للغزاة الجدد، كما يقول الشاعر الروماني تاسيتوس في أشعارهعن حروب الرومان 'أنهم ينهبون، أنهم يذبحون، أنهم يسرقون، هذه الألقاب الشنيعة يسمونها إمبراطورية ، وحين يحيلون الأرض إلى صحراء جرداء يسمونه سلاماً!'. وهذهالنزعة القديمة الحديثة تبدو واضحة كلما تحدث السياسيون في الولايات المتحدة والدول الغربية عن فهمهم للسلام العالمي والإستقرار الدولي بقوة الأحلاف العسكرية،والتدخل المسلح، وفرض الحصار والعقوبات على كل من يحاول أن يشذ عن الخطوط المرسومة لدوام الهيمنة الغربية على مصائر الشعوب، وتبدو هذه النزعة أوضح ما تكون في تخطيطالصهيونية العالمية المتحالفة مع الغرب، والتي إستطاعت أن تتسلل لقلب التحرك الغربي، حين تدّعي هي أيضا العمل للسلام، ولكن من خلال ديمومة الظلم، وبقاء الإحتلال،وتصفية الشعب الفلسطيني، والإنطلاق بعد ذلك للسلام العالمي الإسرائيلي
Pax Judaica وهم يغنون أنشودة السلام التي صورها تاسيتوس!
هذه النزعة الامبراطوريةوجدت في الغرب طبقة من الفلاسفة والكتاب، الذين يرتادون آفاق التوسع ويتطوعون برسم الاطار الفكري للاستعمار الجديد أمام الساسة والقادة، أو يتخيلون الاخطار المستقبليةالتي يمكن أن تهدد الامبراطورية من الداخل أو الخارج، ويصعب تحديد من يقوم بالدور الأول في المعادلة، الا أن المسلم به ان المؤسسة السياسية الغربية تستفيد فائدة كبرى منانتاج مراكز الدراسات الاعلامية والاستراتيجية، عكس دول المشرق حيث يقع طلاق بائن بين الفكر وصناعة القرار السياسي، وحيث ينظر كل فريق للآخر بعين الريبة والحذر. لقد نشر الباحث الاستراتيجي صموئيل هنتجتون مقالا مشهورا في مجلة الشؤون الخارجية في صيف 1993، تحت عنوان 'صدام الحضارات' ثم ضم اليه أبحاثا أخرى في كتاب، وأضاف علىالعنوان القديم 'اعادة رسم النظام العالمي'، وقد التزم الكاتب عبر مقالاته تقسيم العالم الى نوعين من الناس: الغرب والباقي West and the Rest وكأننا نشهد عودة نزعات القرن الثامنعشر العنصرية التي صورها كيبلنج 'الشرق شرق والغرب غرب، ولن يجتمعا!'.
لقد أخذ الكاتب على عاتقه تحليل ملامح الحضارات المعاصرة ومكوناتها بهدف واحد، هو تأكيدحتمية مصادمتها للغرب، وكيفية الوقاية من الخطر، ثم ينتهي للتساؤل التحذيري 'عما اذا كانت المؤسسات الدولية وتوزيع القوة. وسياسات واقتصاديات الدول، في القرن الواحدوالعشرين ستعكس قيم الغرب ومصالحه، أم أنها ستتشكل أولا بقيم الاسلام والصين ومصالحهما؟ وقال 'أن النظرة الواقعية في العلاقات الدولية توحي بأن الدول التي تمثلالحضارات غير الغربية سوف تتحالف لتقيم توازنا مع قوة الغرب المسيطرة (2) ، وقد عكس هذا الاتجاه الكاتب الاميركي الياباني الأصل 'فرانسيس فوكاياما' في كتاب أثار نشرهأصداء واسعة بعنوان 'نهاية الحضارةوالرجل الأخير'. والكتاب كله يدور حول فكرة واحدة، هي أن الحضارة الغربية هي نهاية المطاف، وآخر مايمكن أن تفرزه العبقرية الانسانية،وليس أمام الآخرين سوى أن ينتظموا في هذا الصف!
ومن الضروري القول أن مولد الإمبراطوريات ونموها وتوسعها لا يأتي - تماماً - وفق تخطيط مسبق، ترتبط فيه المقدماتبالنتائج، وكثيراً ما يأتي ثمرة لعوامل 'ديناميكية' داخلية يصعب تحديدها في الدولة نفسها أو في المنطقة المحيطة بها، وهي أقرب ما تكون إلى قوانين الطبيعة 'التي تركهالفراغ' كما يقول رابيليه، ذلك أن الرياح تندفع من مناطق الضغط العالي إلى الضغط المنخفض، في سلسلة من الأسباب يعرف الإنسان بعض حلقاتها، حتى يصل إلى الأسباب المجهولة،والأسئلة الحائرة التي لا يجيب عنها سوى القرآن الكريم في قوله: 'الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء' وأسلوب التتابع في الأسباب الطبيعية (Cosmologique) هوالذي اعتمده بعض الفلاسفة لتأكيد وجود الذات الإلهية والخلاصة إن في أسباب قيام الإمبراطوريات واتساعها، جوانب يصعب إخضاعها للبحث العلمي المجرد.
نقول كل ذلكلكي نصل إلى مجموعة من الحقائق أولها أن 'العولمة' الراهنة كما نراها الآن هي الشراب القديم في آنية جديدة 'وأنها لا تعدو أن تكون أسلوباً مختلفا تمليه ظروف الزمن وطبيعةالمرحلة، وأن أهم دواعي نجاحه وخصوصاً في المنطقة العربية - الإسلامية هو حالة 'الفراغ' والتفكك التي تصبغ حياتنا السياسية والاقتصادية والفكرية، وسوف نتعرض لذلك فياختصار.
الغرب... والعولمة.. والنظام العالمي الجديد
في دراسات حول الأدب الألماني قال توماس كارليل: 'أن عناصر ثلاثة هي عمد الحضارة الغربية:البارود، والطباعة، والديانة البروتستانتية' وإذا اعتبرنا العنصر الثالث أمراً يعكس حماس الكاتب للمسيحية عموما ولمذهبه بشكل خاص، ويشكل اعترافا بعلاقة 'التبشير'بالتوسع الاستعماري للدول المسيحية، وأن ذلك التوسع قام - ولا يزال - على دعامتين القوة المسلحة، ووسائل النشر والإعلام، ولاتزال هذه السمات واضحة للعيان، بل تزدادضراوة مع تطور وسائل الحرب وأسلحة الدمار، واتساع حقول الإعلام الغربي عبر أجهزة وأدوات غير مسبوقة في قوتها ومدى انتشارها وتأثيرها. واندفاع الحضارة الغربيةنحو العالمية ظاهرة قديمة قبل عصر كارليل في القرن الثامن عشر، فحين كانت قوة الدول الغربية في طريقها للنمو كانت الدولة العثمانية أهم مراكز المقاومة في طريق الانحدار،وكانت تحتل - بجدارة - مكانة 'رجل أوروبا المريض'، وتفقد مواقعها واحدا بعد الآخر. ولم تعطل الحربان العالميتان الأولى والثانية قوة المد الغربي، رغم أنها كانت حروباً بينالدول الغربية نفسها، - على الأغلب - إلا أن الطرف المنتصر كان يواصل مسيرة التقدم، ومثال ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية استفادت من الأپحاث الأًمانية حول الطاقةالنووية، وورثت إنجازات الرايخ الثالث واليابان في مجال الصناعات الحربية الأخرى، كما أن الصراع بين الدول الغربية لم يؤد لظهور محور جديد حقيقي على المستوى العالمي،وهذه الظاهرة - في ذاتها - تستحق الاهتمام؛ ذلك أن الحروب وخصوصا الحروب الكبيرة كانت دائما تهيء الظروف لظهور قوى جديدة، إلا أن عجز الحربين العالميتين عن إفراز مثل تلكالقوى لم يكن - أيضا - من قبيل المصادفة، لأن الدول 'الغربية' المنتصرة حرصت قبل نهاية الحرب الثانية على تعطيل مسيرة التاريخ أو خيل إليها أنها تفعل ذلك، فكان مؤتمر يالطا'فبراير 1945' الذي ضمن توزيع أسلاب المحور على الدول المنتصرة، وقسّم مناطق العالم بينهم حتى تلك التي لم تصلها الحرب، وذلك لكي تمنع قيام محاور جديدة، وتعطل ماسمي حينذاك New Polarisation (الاستقطاب الجديد).
وقد يثير التساؤل أننا أدخلنا الاتحاد السوفياتي في المنظومة الغربية، والحقيقة أن هناك أكثر من سبب لذلك، فروسيا القيصرية كانتتعتبر نفسها دائماً دولة أوروبية، وشريكا أصيلا في الحضارة الغربية 'المسيحية' ولم يغير الاتحاد السوفياتي هذه النظرة، وكانت الشيوعية هي الأسلوب المختار لتوسيع تخومالإمبراطورية الروسية، وسحق مقاومة الشعوب المغلوبة، ولاسيما الشعوب الإسلامية في القوقاز. فالخلاف - إذن - لم يكن على الأهداف النهائية بقدر ما كان على الوسائل وأسلوبالخطاب لتحقيق تلك الأهداف.
وإذا كانت 'العولمة' المعاصرة قد اعتمدت الغزو الثقافي كأحد ألأسلحة لحماية الغزو السياسي والاقتصادي، وشل القدرات الوطنية عنالمقاومة، فهو سلاح قديم أيضا استخدمه الاستعمار القديم على نطاق واسع، وخصوصا في العالم الإسلامي، فالدولة الشيوعية حرَّمت دراسة القرآن الكريم، وأغلقت المدارسالدينية، ومنعت بناء المساجد، إلا في الإطار الذي يخدم السياسة الشيوعية، ويفتح لدعاياتها مسارب في العالم الإسلامي، في الوقت الذي اعتبرت 'الإلحاد' المحور الأساسيللثقافة والفكر، وفرضته مادة إجبارية في برامج التعليم، وتعاملت مع الدين كقوة 'معوقة للحضارة ويجب أن تقاوم بشدة'(3). ومع اكتمال دائرة الشيوعية نحو الدمار الشامل، ظهرأن هذه الأساليب المصطنعة لم تستطع أن تكبح تطلعات الإنسان نحو الله أو تعلقه بتراث الأجداد. لقد زرت الاتحاد السوفياتي خلال العهود الأخيرة المتقلبة وشاهدت التجربة عنكثب، وأذكر في منتصف السبعينات أپان حكم بريجينيف أنني تابعت صحف الحزب الشيوعي ونشراته تتحدث عن 'فضيحة' كبرى في بشكيريا وتدعو لمحاكمة المحافظ وقوميسار الحزب، أماالفضيحة فقد كانت العثور على مدارس قرآنية سرية، بعد عقود مستمرة من غسل الأدمغة ومطاردة الدين، وقد ظهر أن هذه 'الفضيحة' كانت أوسع مدى حين زرت موسكو في أواخر حكمغورباتشوف وهو عاكف على تفكيك آلة الحزب الشيوعي الصدئة، حيث قال لي الوزير المختص بشؤون الأديان في جلسة ودية 'لقد اكتشفنا وجود أكثر من خمسة آلاف مسجد ومدرسة يعملونسرا طيلة هذا الوقت، دون علم الحكومة أو سلطات الحزب!'
وقد التقت الشيوعية مع الفكر الغربي في أن كلاهما كان يعتقد أنه يملك النظرية الحضارية المتفوقة، وأنه مدعولفرض هذه الحضارة على الشعوب المختلفة التي لا تعرف مصلحتها، ومن هنا برز الحديث عن 'الرسالة الحضارية' لبريطانيا وفرنسا في الشرق، ومن ذلك مالخصه جول هيرمند (Jules Harmand)أحد أهم الدعاة للاستعمار الأوروبي في بداية القرن حيث قال: 'أن من الضروري القبول بمبدأ هام كنقطة انطلاق، أن هناك طبقات من السلالات والحضارات، وإننا 'الغربيون' ننتميإلى السلالة العالية والحضارة المتفوقة. إن القاعدة الشرعية للفتوحات الغربية ضد السكان المحليين، هو الاقتناع ليس فقط بقوتنا العسكرية، والاقتصادية، والآلية، ولكنبتفوقنا الأخلاقي. أن شرفنا يرتكز على هذه الموهبة، ويؤكد حقنا في قيادة الإنسانية، والقوة العسكرية ليست إلا وسيلة لتحقيق هذه الغاية'(4).
دور الولاياتالمتحدة الأمريكية:
جاء دخول الولايات المتحدة الأمريكية في الحلبة الدولية وسط هالة عريضة من الآمال والتوقعات الزاهية 'أليست هي الأرض الموعودة للمهاجرينالأحرار الذين فروا بأديانهم وعقائدهم من الإضطهاد والتعصب في القارة القديمة؟ كما أشار صمويل آدامز أحد قادة الثورة الأمريكية في احدى خطبه 'طردوا من كل زوايا الأرض،لكن عشقهم لحرية الفكر، وحق الإختيار في قضايا الضمير، قادهم لهذا البلد السعيد كملجأ أخير' وقد ساعد على رسوخ هذه الآمال عوامل كثيرة منها أن الولايات المتحدة قارةمترامية الأطراف كثيرة العدد، غزيرة الثروات ولا تحتاج للتوسع الإقليمي، أو المزيد من مصادر الثروة، وهذه الحقائق يمكن أن تجعل منها قاعدة لتحقيق التوازن العالمي،ومناصرة قضايا الحرية والإستقلال، ومن الإنصاف القول أن التاريخ الأمريكي قد إشتمل على مواقف شدت إليها عواطف الشعوب الصغيرة ردحا من الزمن، كإعلان مبادئ ويلسونالشهيرة التي أكدت الإلتزام بحرية الشعوب، والعدالة للعدو والصديق، والسلام الدولي عن طريق عصبة الأمم، أو كما حددها ويلسون نفسه في خطاب شهير حيث قال: 'تعاون عالميلإحقاق الحق، تقوم به شعوب حرة، لجلب السلام والأمن لجميع الأمم، والتي تجعل من العالم - أخيرا - عالما حراً ' غير أن هذه الآمال لم تلبث أن ذابت واحدة بعد الأخرى أمامرغبات السيطرة وأطماع السياسة الواقعية، ونفوذ الشركات الصناعية الكبرى، ووصلت الحضيض مع قوة 'اللوبي' الصهيوني وتأثيره الواسع في دنيا المال والإعلام على النحوالمعروف. لقد إكتسب الدور الغربي زخماً مضاعفاً مع دخول الولايات المتحدة الامريكية إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ولم يكن دخولها سعياً وراءمصالح إستراتيجية أو دفاعا عن النفس بقدر ما كان إنحيازاً للأصل، ونجدة للأسرة الواحدة، التي عبر عنها ونستون تشرشل حين قال في احدى خطبه: 'كثيرا ما تنسى حقيقة أنالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تتحدثان لغة واحدة هي الإنجليزية'.
لقد قيل الكثير عن الهجوم الياباني على بيرل هاربور 'ديسمبر 7/1941' وأنه كان السببالمباشر في دخول أمريكا الحرب إلى جانب الحلفاء الغربيين، ولكن الحقيقة هي أن الرئيس روزفلت كان يعمل بجد لإقناع الشعب الأمريكي بالإنضمام للحلفاء وسط معارضةقوية خصوصامن جانب الأنعزاليين، ولم يمنعه ذلك من إستفزاز اليابان بكل الوسائل وإستدراجها للحرب، كقيامه بإرسال الخبراء والأسلحة لدعم المجهود الحربي الصيني ضد اليابان'(5). وفيالوثائق التي نشرت بعد الحرب ظهر أن روزفلت قد ابتهج بالهجوم الياباني أيما ابتهاج لأنه أعانه على اكتساح معارضة المعارضين.
لقد كانت الولايات المتحدةالأمريكية شريكاً رئيسيا نشطا في التحالف الغربي في الحرب العالمية، وكان دخولها ساحة الحرب سببا مباشراً لرجحان الكفة ضد المحور، وهي التي دعمت الإتحاد السوفياتيوساعدته على إستيعاب الهجوم الألماني، وباشرت تنظيم مؤتمر يالطا الذي أشرنا إًليه، ثم أخذت تدريجياً تتسلم زعامة المعسكر الغربي، وتمهد - بعد ذلك - لدورها 'الأحادي' علىالمسرح الدولي ضاربة بعرض الحائط مصالح وآراء حلفاء الأمس.
في عدد خاص أصدرته مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية 'سبتمبر / أكتوبر 1997 عن عالم المستقبل حدد الكاتبيوسف جوف حلقات الإستراتيجية الأمريكية بين الحربين، ومجمل الظروف التي انتقلت بها من دور الشريك في التحالف الغربي، إلى مقعد الزعامة العالمية المنفردة، وعقد مقارناتذكية مع عدد من الخيارات السياسية العالمية والإستراتيجية، إپتداء من فردريك الكبير، مرورا بنابليون وبسمارك، والساسة البريطانيين، وأوضح أن الولايات المتحدة قدإستفادت من دروس التاريخ، وإنتهت الى نمط جديد من القوة الإمبراطورية أطلق عليها القوة الناعمة Soft power وقد جاء في مقاله مايلي: 'لا يجب أن نقع في التقدير الخاطئ فإن القوةالضاربة Hard power لا يزال لها مكان في السياسة الأمريكية، لأنها المحصلة النهائية في منطق القوة، ولكن في منطقة التعامل اليومي فإن القوة الناعمة Soft power ، هي العملةالناجحة، لأنها الأقل إكراها، والأقل ظهوراً . ومضى الكاتب قائلا: 'لقد كان الأّسلوب التقليدي أن نضطر الدول الأخرى لأن يفعلوا ما نريد ولو باستخدام القوة المسلحة، ولكناليوم فإن الفائدة الأكبر تتحقق حين تجعل الآخرين يريدون ما تريده، وذلك يتوقف على مقدار الإغراء الذي تحمله الأفكار، والبرامج والعقائد، والمؤسسات' ونوع الجوائز التيتقدم ثمناً للتعاون(6). ومضى الكاتب في عقد المقارنات بين مغريات التعامل مع الولايات المتحدة في حقول الصناعة والتجارة، مروراً بتفوق الجامعات الأمريكية على نظيراتهاالأوروبية، ولم ينس أفلام هوليود، ومسلسلات التلفزيون الأمريكي!
لقد إعتمدت الولايات المتحدة وسائل كثيرة لإرساء قواعد 'العولمة' الأمريكية الأحادية، أحياناًبمشاركة من حلفائها الغربيين، وأحياناً بأعمال فردية ضد معارضة أولئك الحلفاء، ومن أپرز تلك الوسائل إنشاء منظمة الأمم المتحدة، وأجهزتها السياسية والمالية والثقافيةكالبنك الدولي، ومنظمة اليونسكو ومنظمة حقوق الإنسان، وغيرها ، وكلها تخضع للتوجيه الأمريكي الواضح أو المستتر، وقد وضح الآن أن من أهداف إنشاء الأمم المتحدة هو منعقيام المحاور الجديدة، بدعوى الحفاظ على السلام والإستقرار الدوليين، أما الغرض الحقيقي فهو تنفيذ السياسة الأمريكية، وكان أول البراهين على ذلك - ولما يمض على إنشاءالمنظمة سوى بضع سنين - إصدار قرار تقسيم فلسطين بإنشاء الدولة العبرية خلافاً لمنطق العدالة والتاريخ، (1947) ثم الهجوم الأمريكي على كوريا الشمالية، تحت أعلام الأممالمتحدة (1950)، ولاتزال الأمم المتحدة حتى اليوم تقوم بدور الغطاء الدولي لسياسات الولايات المتحدة في مهاجمة الدول الصغيرة، أو فرض الحصار عليها لأتفه الأسباب، وحينتحاول الكتل الدولية أو الإقليمية أن تعيد منظمة الأمم المتحدة إلى الدور الذي حدده ميثاقها المعلن، تبادر الولايات المتحدة إلى إستخدام حق النقض، وإبطال أي قرار لاترضى عنه، وخصوصا فيما يتعلق بإسرائيل، ويساعدها على ذلك وجود مقر المنظمة الدولية وأكثر المؤسسات المعاونة على الأراضي الأمريكية، وقد أشهرت الولايات المتحدة سلاحالتهديد عند أول مبادرة إستقلالية من جانب الأمم المتحدة؛ فقلصت إشتراكاتها المالية لسنوات طويلة، ومارست الضغط لمنع اعادة ترشيح بطرس غالي للأمانة العامة، أمااليونسكو فقد حرصت على أن تغطي هذه المؤسسة الجانب الثقافي من المخطط الأمريكي، وحين حاول مديرها العام السنغالي أحمد مختار أمبو أن يسلك طريقاً محايداً في مسألة(إسرائيل) والقدس أوقفت دفع إشتراكاتها السنويةلأحراج المدير العام، ثم عملت على إخراجه من المنظمة.
وحين شعرت الولايات المتحدة أن خطة 'العولمة' الأحادية تمضيفي ريح رخاء دون أي معارضة جدية، أخذت تعزز هذا الإنتصار في ميادين أخرى، وتمهد السبيل أمام إمبراطورية حقيقية تتفق مع سابقاتها في الأهداف وتختلف عنها في وسائلالسيطرة، من ذلك المؤتمرات الدولية التي تعقد لترويج النظريات الأمريكية، حول الإرهاب، وحقوق الانسان، ودور المرأة، والإسكان، وغيرها من القضايا، وكان أقرب المشاهدوليس آخرها - حتماً - مايسمى قانون مكافحة التمييز الديني، الذي يعطي للولايات المتحدة - وحدها - حق تصنيف الدول وموقفها من الأٌقليات الدينية، ثم توقيع العقوبات عليها منخلال الأمم المتحدة والبنك الدولي وغيرها من الأجهزة الدولية العاملة معها، وكما إستطاعت أن تضع حركة التحرر الوطني الفلسطيني تحت لافتة الإرهاب الدولي، فقد تنجح فيوضع أي حركة للتوعية الدينية أو الإنبعاث الإسلامي، تحت مظلة إضطهاد الأقليات الدينية!. وقد جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، والتي لايزال يحيط بها الغموض لتعطيللولايات المتحدة مبررا للعدوان على نطاق عالمي فكان احتلال أفغانستان واحتلال العراق على النحو المعروف، وهناك دلائل وبراهين كثيرة أن خطط السيطرة والتوسعالإمبراطوري لن تقف عند هذا الحد.
لقد ألقى الر ئيس الامريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في كتابة المشهور 'إنتهاز الفرصة' الضوء على إتجاهات السياسة الأمريكية، بلواجبها في فرض 'العولمة' الغربية في مرحلة تاريخية جعلت منها الظروف القوة الدولية الوحيدة دون منافس، فبعد أن إستعرض التطورات التي أدت لإنهيار الإتحاد السوفياتي'كدولة' عظمى، وقيام حكومة غير شيوعية لا تستطيع أن تلعب دوراً مؤثراً في الخارج(7) وبعد ان إستعرض - مطولاً - المجالات السياسية والإقتصادية التي يمكن للولايات المتحدة أنتؤكد فيها زعامتها المنفردة، خلص للقول 'تقليديا، فإن الدول قد إختارت أن تشن الحرب تبعا لمصالحها. وليست الولايات المتحدة إستثناء من هذه القاعدة، وأن كان قادتها مثلوودرو ويلسون، وفرانكلين، وروزفلت قد إستطاعوا بمهارة أن يضعوا لجوءهم للحرب في نطاق المباديء المثالية للشعب الأمريكي، وإلى حد كبير حاول الرئيس بوش أن يتبع هذاالتقليد خلال حرب الخليج 'الفارسي'، وهذا الأسلوب لا يجب أن يدمغ بإعتباره 'ميكيافيلية' انتهازية، وذلك لأن مبادئنا المثالية ليست قوة أخلاقية محركة فحسب، ولكنها وسيلةرئيسية لخدمة مصالحنا الوطنية(8) . ويلاحظ أن الرئيس نيكسون حرص طوال الكتاب أن يضع للسياسة الأمريكية أهدافا 'مثالية' كالديمقراطية والعدالة والسلام، على الصورة'الأحادية' التي تحقق مصالح الولايات المتحدة.
بعض مجالات 'العولمة'
تعرضنا - حتى الآن - للعولمة، وصنوها (النظام العالمي الجديد) ودوافعهماالحقيقية، ومن النقاط البارزة التي أثرناها ونرجو أن نذكر بها، حقيقة أن الظروف الدولية المعقدة في مرحلة من المراحل تجعل أمثال هذه التطورات تبدو وكأنها مصادفة، أو قدرمحتوم نرى نتائجه ولا نرى (كل) دوافعه، بحيث يصبح الدور البشري هو دور 'إنتهاز الفرصة' كي نستعير تعبير نيكسون أو إستغلال الظرف، وركوب الموجة المندفعة، وهذه الحقيقة لاتصلح لتشخيص الموقف الأوروبي - الأمريكي فحسب، ولكن يجب أن تؤخذ في الإعتبار عند البحث في موقفنا كعرب ومسلمين من 'العولمة' والنظام العالمي الجديد، وقدرتنا على المقاومةالمباشرة لتيار دولي غلاّب؟ أو مسايرة التيار وأخذ حسناته الواضحة والتوقي من سيئاته الكثيرة؟ وكيف يمكن ذلك؟ مما سنتعرض له بعد قليل. يتحدث الغربيون عنالديمقراطية - مثلاً - ويعتبرونها شرطاً للتعامل مع الدول، غير أنهم يستخدمون مقياسين يظهر بينهما التناقض الواضح أولهما: فهمهم هم للنظام الديمقراطي السائد عندهم.والثاني إختيار النمط الذي يتفق مع سياساتهم ويخدم أغراضهم، بصرف النظر عن الظروف الخاصة للمجتمعات الإنسانية التي يتعاملون معها، مما يذكرنا بكلمة الإستعماري العتيقلورد بلفور حين وقف في مجلس العموم يثني على اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني وسياسته في قمع المصريين ويقول عنهم 'أنهم فقدوا كل حس بالنظام وأن الفوضى هي قاعدةحضارتهم'(9)!.
ويقال ذلك عن حزمة المبادئ الأخرى كالحرية والعدالة وحقوق الإنسان والمرأة. بالرغم من ظهور شقوق كثيرة في تطبيق هذه المبادئ في الولايات المتحدةنفسها وفي الغرب بصورة عامة، وإذا كان من مظاهر 'العولمة إنهيار السدود بين الحضارات والثقافات فعلينا أن نتوقع المزيد من العادات الغربيةفي القرية العالمية الصغيرة،ولدينا من ذلك بدايات لا تخطئها العين، تظهر في المطاعم، والأزياء، والتقاليد الإجتماعية، التي تأتي مع الكتاب، والكاسيت، والأفلام، والمسلسلات التلفزيونية، وليسلدينا حتى تلك 'الحمية' الفرنسية التي تحاول أن تصدر قوانين لحماية تراثها الثقافي أمام إندفاع المد الأمريكي! وقد ينبري من السطحيين من يقول: وأي خطر حقيقي يمكن أنيهددنا، إذا شاعت هذه المطاعم والأزياء، والتقاليد، والجواب هو المثل الفرنسي المشهور الذي يقول: 'أخبرني ماذا تأكل، أخبرك من أنت' فألأكل والمشرب والتسلية واللباس تجلبمعها مفاهيم بلد المنشأ وعاداته، وذلك يوضح الصلة الوثيقة بين هذه 'الخدمات' وبين انفراط الأسرة، وضعف التدين، وإنتشار الكحول والمخدرات، والجريمة المنظمة.
وإذاكانت هذه هي المؤثرات الثقافية والإجتماعية، فإن الجانب الإقتصادي أكثر خطرا، لأن أمام كل مطعم أو مقهى أو متجر من الماركات الغربية المشهورة يقام في بلادنا ينهار أمامهعشرات المؤسسات الوطنية الوليدة، التي لا تملك أسباب المنافسة، مما يزيد من معدلات الفقر والبطالة، ويهز أركان الإستقرار الاجتماعي، ناهيك عن النزيف الدائم الذي يمثلههروب رؤوس الأموال الوطنية.
غير أن الميل للتأثير على الثقافة الإسلامية قد اكتسب في الآونة الأخيرة شكل البرامج العملية والمؤسسات الثقافية، فعلى سبيل المثالأنشأت الإدارة الأمريكية مكتباً خاصاً في وزارة الخارجية للعلاقات مع العالم الإسلامي، وأنشأت محطة إذاعة وتلفزيون باسم 'سوا' الغرض منها بث برامج معينة وإعطاء اهتمامخاص للشباب وكأن المقصود هو إنشاء جيل منحرف متحلل يشن الحرب على تقاليد قومه وثقافتهم.
غير أن مجال الإقتصاد يتجاوز هذا المدى المحدود إلى صميم الهيكلالإقتصادي الوطني والقومي، فحين يقع الضغط لتأكيد حرية التجارة، والإستيراد والتصدير، والعمالة، وحرية الإستثمار، وغير ذلك من التسهيلات، فإن الطرف المستفيد حتما هوالدول المتقدمة صناعيا، والشركات المتعددة الجنسيات، التي تملك رؤوس الأموال الضخمة، وتستطيع أن تصبر على المنافسة حتى تقضي على المؤسسات المحلية، وتخلو لها الاسواقفتفرض الأسعار التي تعوض خسارتها أضعافا مضاعفة، وقد ظهرت بوادر الخطر في بعض الدول العربية التي استخفت بالشركات الإسرائيلية وفتحت لها المجال في بلادها.
ومنالواضح أن المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد والصناديق الأخرى تمارس دوراً خطيرا ينسجم مع هذا التخطيط، وقد رأينا أن الضغط التحكمي الإعتباطي علىسياسة التخصيص، وإبعاد الدولة عن واجبها في التخطيط المتكامل والرقابة، وخصوصا أمام ضعف إستعداد القطاع الخاص في أكثر البلاد، قد أدى لإنهيار كثير من الشركاتالإستثمارية في البلاد العربية، علاوة على أن تطبيق مايسمى 'التصحيح الإقتصادي' العشوائي المفروض من الخارج، قد أضعف القدرة الشرائية للمواطن العربي، وجعله عاجزاً عنتأمين السلع الضرورية للعيش، مما تسبب في إنتفاضات الخبز، وثورات الجياع.
وفي كل هذه المشاريع المشتركة علينا أن نتبيّن الأصبع اليهودي الصهيوني الذي يشارك فيالتخطيط ثم يستفيد منه في دعم الاقتصاد الإسرائيلي، وإخضاع الاقتصادي العربي للدخول تحت ظلاله.
هذه بعض العناوين العامة للآثار السلبية التي يمكن أن تأتي بها'العولمة' في الجوانب الإجتماعية والإقتصادية، ولا شك أنها تحتاج لدراسات تفصيلية متخصصة يضيق عنها هذا المجال، غير أن الجذر الذي يحكمها كلها هو ما بدأنا به البحث، وهوأن هدفها الأوحد هو إزالة الحدود والقيود أمام ثقافة مغايرة وما يتبعها من القيم والتقاليد، والإستيلاء على الثروات الوطنية، وتقليص الأسواق الوطنية إلى أسواق إستهلاكلترويج منتجات الشركات الأجنبية، وتراكم أرباحها.
المسلمون... والاسلام... أمام العولمة
والآن، ماذا بوسع الدول الإسلامية أن تفعل؟
لايمكن لأحد أن ينصح بمحاربة 'العولمة' أو التصدي لها ومقاطعتها لأسباب كثيرة منها:
أولا: أنها ظاهرة عالمية يصل تأثيرها عبر أقنية مفتوحة لا حصر لها في وسائلالإعلام، وحركة السياحة، والإتصال المباشر بين الشعوب.
ثانياً: إن طبيعة النظام العالمي تقوم على التبادل، والتعامل المشترك، والإعتماد المتبادل، ويستحيل علىأي طرف أن يحبس نفسه داخل أسوار العزلة.
ثالثاً: أن الدول العربية والإسلامية لا تزال في أولى مراحل البناء الاجتماعي والإقتصادي وهي بحاجة لرؤوس الأموال،والأجهزة، والخبرات المدربة.
رابعاً: إن أغلب الدول العربية والإسلامية لا تزال تعيش نهاية مرحلة الإستعمار الأجنبي، وما تركه من حدود، وعداوات، وخلافات ولاتزال جسورها موصولة بالسيد القديم أكثر من إتصالها بالجيران والأخوة.
خامساً: أن مؤسسات الوحدة والتضامن العربية والإسلامية لم تثبت وجودها للأسباب السابقة،وعجزت أو تمنع الدول الأعضاء عن الوفاء بالإلتزامات المقررة، أو التقيد بالقرارات التي تشارك في وضعها، والأرجح أن يحاول مد العولمة اكتساحها حتى لا يبقي مجالاللمقاومة.
الواقع - إذن - أن المقاطعة أمر مستحيل، ولا يبقى إلا الحل الآخر وهو أسلوب 'التخير' وقبول الجوانب الحسنة ورفض المساوئ ولا يتأتى ذلك - بطبيعة الحال - إلابسياسة مستقلة، وقدرات مادية ومعنوية تحمي ذلك الإستقلال، وهنا يبدو واضحا أنه لا غنى عن توحيد مواقف الدول العربية والإسلامية، وتقنية مواردها وطاقاتها في خطط موحدة،وبعث الحياة في مؤسسات التنسيق والتعاون العربية والإسلامية، وفي طليعتها منظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية، كما لابد من تنفيذ قرارات كثيرة علاها الغبارحول السوق المشتركة، وإعادة النظر في الرسوم الجمركية، وحرية إنتقال البضائع والأيدي العاملة، والمشاريع المشتركة في ميادين الإعلام، أي بإختصار أن تعمل طواعية بين دولنا، ما يطلبه منا قصراً أسياد 'العولمة' ودعاتها. هذا عن الظروف الواقعية التي تضع المسلمين أمام العولمة، فماذا عن موقف الاسلام نفسه؟
لكي يستطيع المسلم أنيحدد دوره إزاء 'العولمة' والنظام العالمي الجديد، لابد أن يعرف أولا موقف الإسلام كعقيدة من هذه التبدلات فمن المفروض أن الانسان المسلم يبني مواقفه كلها على أساس الفهمالصحيح للإسلام والإلتزام بتعاليمه ومبادئه، وأول آثار الإلتزام أنه يمنح صاحبه مقياساً ثابتاً يزن به الأمور ويحدد الجوانب التي تتفق مع نظرة الإسلام الكلية للحياةوالناس، كما يحدد المصلحة الإسلامية أيضا، وفي قضية شديدة التعقيد، كثيرة المداخل والشبهات كـ 'العولمة' تزداد الحاجة لهذا الميزان العقائدي الثابت، ولو كانت ظاهرة'العولمة' الراهنة تتفق مع باطنها، وشعاراتها مع حقيقتها، فيجب أن تلقى من المسلمين تأييداً غير محدود.
إن الإسلام يتجه - بطبيعته - نحو العالمية، وينظر للكونوالجنس الإنساني الذي يسكنه ككيان واحد وأسرة واحدة، ويذكر في هذا السياق التذكير القرآني الكثير بالأب الأول، والأم الأولى، وما في ذلك من تطابق الصفات، ووحدة المصير،ورفض التمايز بسبب العصبية أو اللون أو اللغة، وقد جاء في الحديث الشريف 'الناس لآدم وآدم من تراب' وحدد الإسلام ميزاناً وحيداً للتفاضل بين بني البشر، هو ميزان التقوى،وما تنطوي عليه هذه الكلمة الجامعة المانعة من إستحضار مخافة الله في كل أمر، والحدب على عباده، والحرص على إعمار الكون، وإشاعة الخير والصلاح بين ربوعه 'أن اكرمكم عندالله اتقاكم'.
وقد تحدث القرآن الكريم عن الأمة الواحد أكثر من مرة، وكان التذكير برابطة النسب 'الايماني' يأتي مباشرة بعد ذكر السلسلة الطويلة من النبواتالسالفة، وكأن المقصود هو رفض العلاقات العصبية السلالية وإرجاع الجيل المسلم إلى مكانه من الدوحة التي إتصلت أسبابها بالسماء، 'وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكمفاعبدون' وقد تقع في بداية النقلة من حال الجاهلية للإيمان هفوات وأخطاء تخالف روح العقيدة، فيأتي الرد عليها حاسماً حتى يصبح الخطأ نفسه هو الدرس الباقي المتألق، فحينيغفل خالد بن الوليد عن الأسس الاجتماعية الجديدة ويذكر زنجياً بلونه وأصله، يتدخل الرسول (ص) بنفسه ليقول له 'أنك أمرؤ فيك جاهلية'! ويشيد الرسول بسلمان الفارسي وبلالالحبشي ويرفع شأنهما بجمع من وجوه قريش وساداتها'.
ولم تقف هذه المبادئ عند الحدود النظرية المثالية، ولكن طبقت عملياً في المجتمع الإسلامي الأول، حتى رأيناالموالي من غير العرب يتصدرون مكان القيادة، ومع إتساع الرقعة الإسلامية وإحتواء حضارات عريقة ولغات عديدة، ترعرعت العلوم والمعارف، وبرز ساسة ومفكرون وفلاسفة منالفرس والترك، والروم، واليهود، وإستطاع موسى بن ميمون أن يكتب أشهر كتبه في أصول الدين اليهودي، ويوجه الرسائل للجاليات اليهودية المنتشرة في العالم يحثها على التمسكبدينها وثقافتها وهو يعمل طبيبا للأسرة الأيوبية في مصر، واستطاع يوحنا الدمشقي أن يكتب كتبا في الالهيات المسيحية وهو يعمل وزيرا للمالية في قصر الخليفة الأموي فيدمشق، وفي الحالتين حصل العالمان على أذن ولي الأمر المسلم مع أن كتبهما اشتملت على غمز مباشر أو غير مباشر في الاسلام. ولم يكن هناك حرج أن تنتقل القيادة السياسية للعالمالاسلامي برمتها من ديار العرب، وأن تصبح الجزيرة العربية نفسها مهد الرسالة ومتنزل الوحي جزءا من الإمبراطورية العثمانية، 'التركية' وأن يقود دولاً إسلامية، ملوك منالترك والألبان والأكراد وغيرهم.
والإسلام يحث الناس على التعايش الآمن، والجيرة الحسنة، والمشاركة الفاعلة في الخير العام، ومع أنه يركز على الإيمان باللهوتوحيده توحيداً خالصاً، إلا أنه لا يعتبر ذلك شرطاً للمعاملة الحسنة ومنع الظلم وحفظ الحقوق، وإتاحة فرص العيش الكريم أمام الناس جميعا، كما لم يفرض على الشعوب التيإرتضت الإنتماء إليه ثقافة خاصة أو لغة بعينها، بل وصف إختلاف اللغات والحضارات بأنه آية من آيات الله التي تدل على قدرته ووحدانيته، وينبغي إحترامها والمحافظة عليها'ومن آياته خلق السموات والأرض وإختلاف ألسنتكم وألوانكم'(10).
ووجود الآية الكريمة في سورة الروم تنطوي على دلالة عميقة ذلك أن بدايات السورة حملت البشرى لأسرةالإيمان من العرب والرومان بنصر قريب بعد هزيمة ساحقة على يد الفرس الوثنيين في ذلك الحين، كما أن الآية جاءت وسط آيات أخرى من آيات الله الباهرة في الخليقة والطبيعةوسريان الرياح ونزول المطر، وإنبات الشجر والثمر، حتى لكأن المقصود هو تركيز المقارنة، فكما أن الإختلاف في الأوقات والمواسم سبب للخصب والخير والجمال، فالإختلاف فيالحضارات والثقافات والتقاليد، يغني التجربة الإنسانية، ويحفز الإنسان ليقتبس من غيره، ويقدم له أحسن مالديه من علم أو معرفة.
ان 'العولمة' التي نرجوها لناوللناس هي التي تسير وفق هذه الخطوط الربانية: أن تكون متصلة بنور الخالق والايمان به حتى لا تضل ولا تتعسف، ولا تحيل العالم الى غابة كبيرة يأكل فيها القوي الضعيف، ويجبالا تعني طغيان ثقافة بعينها على ثقافات الاخرين، او تستغل عوامل القوة المتاحة لها، لكي تمحو حضاراتهم وتقاليدهم وثقافاتهم، فمثل هذا الهدف جدير بأن يخلق عواملالمقاومة والرفض ويهيّئ المجال للعنف والحروب الصغيرة والكبيرة، إضافة الى أنه يحرم العالم من التجارب الانسانية الغزيرة التي يستحيل احتكارها، والتي اسهم فيهاالعلماء والحكماء في كل أرض، وصدق الله العظيم 'ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة'(11) . وقوله تعالى 'ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة'(12).
شبابنا... والعولمة
من الطبيعي أن ينتهي هذا البحث الى السؤال الطبيعي عن دور الشباب المسلم من هذه الهجمة الضارية ونقول: - ابتداء - أن النظرة الواقعية تجعل من الصعب أن تحدد دوراللشباب المسلم بمعزل عن دور الأمة كلها بحكوماتها وشعوبها واجهزتها السياسية والاقتصادية، ذلك أن طبيعة 'العولمة' تتجه الى كل مناحي حياتنا لتؤثر فيها ضمن تخطيط شاملمتكامل، وينبغي أن يكون التعامل معها من نفس العيار، سواء كنا ننشد الافادة من الفرص الايجابية التي تقدمها وهي موجودة فعلا، أو نريد التوقي من المحاذير والاخطار.ومنالمؤسف أننا حين نستعرض مواقف الدول العربية - الاسلامية فرادى أو جماعة ازاء مخاطر 'العولمة' لا نملك سوى أن نقول مع القرآن الكريم: 'يرتد البصر خاسئا وهو حسير'. الا أنميدان الحكومات يبقى هو الميدان الأول للعمل الاسلامي المنظم والتأثير عليها كي تنفض غبار الكسل والتواكل يبقى أوجب الواجبات. أن المنظمات الاسلامية الشعبية التي تتميزبأنها تضم أعدادا كبيرة من القادة الناضجين الواعين الذين صقلتهم التجربة، ولهم حضورهم المؤثر ونفوذهم الواسع في بلادهم، وتمنحهم صلتهم المباشرة بقطاعات عريضة من الشعبالمسلم، هذه المنظمات تستطيع أن تمارس ضغوطا 'ودية' مؤثرة على مواقف الحكومات، شريطة أن تنسق خطواتها ضمن برامج مدروسة تضمن الاستمرار والمتابعة، ومواكبة ظروف الحركةوتطورها الكثيرة المعقدة. من واجب الشباب المسلم أن يدعم هذه المنظمات، ويقدم لها الخدمات 'التطوعية' حتى يعينها على أداء هذه الأدوار الهامة في حياة الأمة ومستقبلها. وإنضواء الشباب المسلم في هذه المنظمات الخيرية الدعوية المقبولة يبعده عن الوقوع في حبائل تيارات مريبةغامضة لا نجرؤ على محاكمة نواياها ولكن محصلاتها النهائيةتصب في جداول الأعداء، وتعين على تنفيذ مخططاتهم في شق صفوف الأمة، وزعزعة الإستقرار، وتعطيل مسيرة الإقتصاد حتى في صورته المتواضعة. إن بعض الأسلحة المعاونةللعولمة - بقصد أو غير قصد - هي تشجيع الفساد والإنحلال، والإستغراق في الشهوات، وتبذير المال القليل على مسايرة المظاهر وحمى الإستهلاك، ويحسن بالشباب المسلم صنعا إذانظم نفسه في جماعات تقيم لنفسها مجالاتها الخاصة من الدراسة المفيدة، والرياضة البدنية، واللهو البريء وتتعاون على مكافحة هذه الأوبئة من خلال المساجد، والمراكزالثقافية، ووسائل النشر المتاحة، ومثل هذا النشاط الواضح البريء لا يمكن إلآ أن يلقى التأييد من الأجهزة الرسمية والشعب على حد سواء.
لاشك أن من الجوانبالإيجابية للعولمة التي لا يستطيع أحد أن يتحكم فيها، إن إنهيار الحدود، وسهولة الإتصال وإنفتاح الأسواق، وتداول المخترعات سوف يجعل المعرفة متاحة ميسورة، وواجبالشباب المسلم أن يقبل بشجاعة وحماس على العلم، وإكتساب المعارف والمهارات، ولاسيما إستخدام التقنية الحديثة التي باتت تفتح أفاقاً واسعة لإنسان الغد.
لقداتيحت لنا فرص عدة للقاء انماط من الشباب المسلم الذين تنعكس فيهم هذه الآمال. شباب يتفجرون حماسا وغيرة على الاسلام، ويبنون محيطهم الاجتماعي العائلي على اساسه، لكنذلك لا يمنعهم من تحصيل أرقى مراتب العلم والخبرة في الفنون الحديثة، ويحتلون أدق المناصب الفنية في الحكومات الاجنبية والشركات، التي تثق في امانتهم وكفاءتهم معا، وهوأمر يدعو للاعجاب والاعتزاز . هذا النمط من الشباب المسلم هو من ندخر لرفعة الدين وعزة المسلمين. وهذا هو النموذج الذي ندعو للاقتداء به والسير على منواله.
أنالعولمة بقدر ما يظهر عليها من علائم القوة والسطوة، تحمل معها بذور ضعفها وانهيارها، ومن شأن هذه البذور أن تزداد نموا كلما اتسعت الدائرة وتعددت مناطقها ومساربها.وأول نقاط الضعف أنها نظام مادي صرف يقوم على الجشع والسيطرة والاستغلال، وشهوة الكسب، ويثير أكثر الميول وضاعة في النفس الانسانية، ميول التقليد الأعمى، وعشق المظاهر،والتبذير، والاستسلام للشهوات، وبتعبير آخر اطلاق الوحش البدائي الذي يقطن أعماق الانسان، وتحطيم تلك الكوابح الاخلاقية التي جاء بها الأنبياء، وصاغها الفلاسفةوالحمكاء. ومن شأن هذه الميول أن تزداد ضراوة كلما اشتدت التناقضات التي تفد مع المادية كالطبقية والظلم الاجتماعي، وتفاوت الدخول، وغلبة الاستهلاك على الانتاج، وفيغيبة التدين وانحسار القيم والاخلاق، تصل هذه التناقضات ذروتها في موجات العنف، والارهاب، والحروب الأهلية،وتقع الصورة التي حذر منها القرآن الكريم أمثال هذهالمجتمعات 'قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم واتاهم العذاب من حيث لا يشعرون'(13). وعلى شبابنا أن يحيطوا أنفسهم علما بنقاطالضعف في هذه الظاهرة، وان يستعينوا بالله والايمان به والتمسك بالاسلام، حتى يحصنوا أنفسهم وأهليهم والبيئات التي يعملون فيها، وهذا الميدان الواسع يحتاج الى تعاونمنظم بين المنظمات الاسلامية المعنية بالشباب.
و'العولمة' بعد ذلك هي نوع جديد من أنواع الاستعمار، فيه كل مافي الاستعمار القديم من صفات، وله ما لسلفه منالأهداف والغايات، غير أنه ظن انه استفاد من دروس الماضي، حين أخفى مخالب الاستعمار القاسية تحت الفاظ ناعمة كالتعاون، والشراكة، والنشاط المتبادل، وحشد الى جوار القوةالعسكرية هيمنة المال والاقتصاد والتكنولوجيا الحديثة ووسائل الثقافة والاعلام، وأسباب التسلية والترفيه. وهذه الهجمة الكاسحة على مناطق الضعف والفراغ سوف تحدث أثرهادون شك، لكن ذلك سوف يكون لمدى محدود، يطول أو يقصر وفقا للظروف،وهو ما تنبأ به أيضا هنتنجتون وفوكوياما وغيرهم من الكتاب الاستراتيجيين الذين أشرنا اليهم، ودون أن نضطرللاقتباس من نظرياتهم ونبوءاتهم، فان تاريخ الاستعمار القديم يؤكد أن كل موجة من موجاته قد حملت معها عوامل انهيارها منذ البداية، بحيث بانت خطوط الصلة واضحة بين مراحلالنشوء ومراحل النهاية والدمار، كما صورها الحكيم الروماني بلوتارك وهو يقف على أطلال روما حين قال 'ان أول رجل تسبب في خراب الامبراطورية هو الذي بدأ يقدم لها الغنائموالأسلاب'، لأنه أثار لدى أهلها غول النهب والسيطرة من ناحية، والرفض - في المدى الطويل - من سحق الهوية، وتدمير الثقافة، واستلاب خيرات الشعوب، نقول كل ذلك من منطلقالتحليل الواقعي للتاريخ والظروف القائمة، دون أن يغيب عن الذهن أن دور المسلمين ليس بالضرورة محاربة العولمة او الحرص على اجهاضها، ولكن محاولة اكمال النقص، واضفاءالمسحة الانسانية 'الاسلامية' عليها، ومنعها من التغول، والانفرادية والاستبداد.
ونختم هذا المقطع من البحث بما بدأنا به بأن قدرة الأمة الاسلامية على مواجهةهذه التحديات الكبيرة، وتأدية الواجب في حماية الاسلام والمسلمين، والاسهام الايجابي في المسيرة العالمية، هو الفهم الصحيح للاسلام، وابراز مافيه من حسنات يحتاجهاالانسان المعاصر والترفع عن الخوض في الفرعيات الهامشية، وكبح النزعات المذهبية والطائفية الضيقة، التي كثيرا ما تحجب نور الاسلام وانسانيته وعالميته، واتساع آفاقه.
1 - الموضوع مقدم الى الاجتماع الرابع للجنة الخبراء المكلفة ببحث أوجه التحديات التي تواجه الامة الاسلامية في القرنالحادي والعشرين، الذي تنظمه منظمة المؤتمر الاسلامي والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية المنعقد في طهران في 14-12 جمادي الاولى 1424 المصادف 12 - 14 جولاي 2003. 2 - The Clash of Civilization And The Remaking of World Order
Samuel P.Huntington p.185
3 - Marxism and the National Question, Sect 6
4 - اقتباس 17. Edward Said 'Culture and Imperialism' p.
5 - The Final Secret ofPrearl Harbor; Rean Admiral Robert A.Theobalol
6 - Foreign Affairs 'How America Does It? 'Josef Joffe
7 - Richard Nixon (Seize the Moment) p.14
8 - المصدر نفسه صفحة 300:
9 - الاستشراق: ادوارد سعيد.
10 - الروم 20.
11 - المائدة / 48 .
12 - هود/ 118 .
13 - النحل/ 26 .