دخلت الرواية العربية، مع بداية عقد الستينيات من القرن العشرين، مرحلة جديدة من مراحل تطوّرها الذي قطعته منذ نشأتها الجنينية في أواخر القرن التاسع عشر، وأعلنتْ، في ظواهرها الجمالية التي أنجزتها في العقود الثلاثة الأخيرة، عن امتلاكها سمات تكاد تكون خاصة بها، ومميِّزة لها من الرواية العالمية، بعد أن ظلّت تدين بولاء شبه مطلق للإنجازات التي حققتها الأخيرة، وللمقولات التي أنتجها نقد الرواية في الغرب.وقد جعلت هذه السمات منها ما يمكن وصفه بجنس أدبيّ عربيّ حديث بالمعنى الذي يبدو لصيقاً، إلى حدّ كبير، بالشخصية القومية، من غير أن يعني هذا انقطاعها عن الظواهر الجمالية التي أثارتها تحوّلات الجنس الروائي العالمي، وإلى حدّ يمكن القول معه إنّ الحديث عن ظاهرة روائية في أدبنا العربيّ الحديث لم يعد وقفاً على ذلك العدد الوفير نسبياً من النتاج الروائي المتواتر في المشهد الثقافي العربيّ، بل إنّه يمتدّ ليشمل، أيضاً، تلك البنى الفنّية المتطوّرة التي يتّسم بها هذا النتاج.يشكّل الموروث الحكائي، العربيّ والعالمي، بنوعيه الرسمي والشعبي، أحد أهمّ الحوامل التي شيّدت الرواية العربية المعاصرة معمارها الجديد عليه.وتُمثّل الأسطورة، بوصفها واحداً من أهمّ منابع هذا الموروث، مرجعاً أساسياً من المرجعيّات النصّية، الرمزية والفنية، التي مكّنت هذه الرواية من تحقيق تقدّم نوعي على مستويين بآن: مضموني وجمالي، ومن الدخول إلى تلك المرحلة التي أشرتُ إلى بعض تجلّياتها آنفاً والتي تُعدّ مفصلاً واضح المعالم بين نسقين متمايزين في مسيرتها: نسق تقليدي يرتهن إلى مُنجَز سابق عليه ومُفرِطٍ في نقله الآليّ عن الواقع، وآخر يحاول التحرّر من الأعراف الجمالية التي أرساها الشكل الروائي الوافد، ثمّ التأصيل لأعراف جمالية روائية عربية.لقد حقّق استلهام الروائيين العرب للأسطورة إنجازاً نوعياً للخطاب الروائي العربي، ولم يكن لهذا الاستلهام أن يتمّ بمعزل عن حركة الثقافة العربية، ومن ورائها حركة الواقع العربي نفسه، كما لم يعد خاصاً بفنّ الشعر الذي يُمثّل الإطلالة الأولى للأجناس الأدبية العربية الحديثة على الموروث الحكائي الإنساني بأشكاله كافة: الأسطوريّة، والملحمية، والشعبية، و.بعد أن تجلّت بواكيره الأولى في الأدب المسرحي.وإذا كان معظم المسرحيين العرب الذين كتبوا نصوصاً مسرحية تستمدّ من الأسطورة، جزئياً أو كلّياً، مضامينها ورموزها، وتعيد في الوقت نفسه إنتاج ذلك كلّه وفق الحاجة الحضارية / الجمالية للثقافة العربية، وإذا كان هؤلاء المسرحيون قد ركنوا إلى الصمت في السنوات الأخيرة، وكان الشعر، هو الآخر، قد استنفد، أو كاد، الظاهرة الأسطوريّة، بعد أن كانت السمة الأكثر بروزاً فيه خلال عقدي الخمسينيات والستينيات خاصة، فإنّ الرواية العربية تمثّل، الآن، الجنس الأدبي العربي الأول الذي تشكّل الظاهرة فيه حضوراً قويّ الدلالة على تحوّلات الحركة الثقافية العربية، وعلى استجابة الرواية العربية لهذه التحوّلات.غير أنّ الظاهرة، على الرّغم من تلك المكانة التي شغلتها، وما تزال، في الخطاب الروائي العربي المعاصر، فإنّها لم تلق التقدير اللائق بها من الخطاب النقدي المعني بالجنس الروائي، سواء أكان هذا الخطاب صادراً عن المؤسسة الجامعية العربية أم خارجها.فباستثناء الجزء الأخير من الفصل الخامس من دراسة شكري عزيز ماضي: "انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية" 1978، الذي يحمل عنوان: "توظيف الأسطورة والملحمة"، ودراسة وليد منير: "حول توظيف العنصر الأسطوريّ في الرواية المصرية المعاصرة"، المنشورة في مجلّة "فصول" القاهرية، العدد الثاني 1980، ودراسة د.شفيع السيد: "اتجاهات الرواية المصرية منذ الحرب العالمية الثانية إلى سنة 1967" 1982، ودراسة عبد الرحمن بسيسو: "استلهام الينبوع، المأثورات الشعبية وأثرها في البناء الفني للرواية الفلسطينية" 1983، المكرّسة لاستقراء أشكال استلهام الروائيين الفلسطينيين للموروث الشعبي الفلسطيني، ثمّ دراسة د.مراد عبد