فقد ذهب المعتزلة والخوارج والزيدية وأهل الحديث إلى أنّ الاِيمان اسم لاَفعال القلوب والجوارح مع الاقرار باللسان . وأنّ الاِيمان يتناول طاعة الله ومعرفته مع ما جعل الله تعالى عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً في الكتاب والسُنّة المطهّرة . وأنّ الاخلال بواحد من هذه الاُمور كفرٌ .
وذهب أبو حنيفة والاَشعري إلى أنّ الاِيمان يحصل بالقلب واللسان معاً.
وهناك فريق ثالث يرى أنّ الاِيمان عبارة عن الاعتقاد بالقلب فقط . وتبلور عنه اتجاه يحصر الاِيمان في نطاق ضيق هو معرفة الله بالقلب حتى
____________
(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة ، للراغب الاصفهاني : 100 مكتبة الكليات الازهرية ـ مصر 1393 هـ ط1 .
( 12 )
أنّ من عرف الله ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقرّ به فهو مؤمن كامل الاِيمان .
وبالمقابل برز فريق رابع يرى أنّ الاِيمان ـ حصراً ـ هو الاِقرار باللسان فقط .
وتبلور عنه إتجاه يرى أنّ الاِيمان هو إقرار باللسان ولكن بشرط حصول المعرفة في القلب (1).
ولكن التدبر في آيات القرآن الكريم يكشف حقيقة أُخرى للاِيمان بعيدة عن كلِّ ما تقدم ، وهي أنّ الاِيمان ليس مجرد العلم بالشيء والجزم بكونه حقاً ، لاَنَّ الذين تبين لهم الهدى لم يردعهم ذلك عن الارتداد على أدبارهم ولم يمنعهم من الكفر والصد عن سبيل الله ومشاققة الرسول كما في قوله تعالى : ( إنَّ الَّذين ارتَدُّوا على ادبارِهم مِنْ بَعدِ ما تَبينَ لهَمُ الهُدى... إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وصَدَّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وشَاقُّوا الرسُولَ مِن بَعدِ ما تَبيَنَ لهُم الهُدى) (2) ومنهم من أضله الله على علم (3).
فالعلم إذن لا يكفي وحده في المقام ما لم يكن هناك نوع التزام بمقتضاه وعقد القلب على مؤداه بحيث تترتب عليه آثاره ولو في الجملة .
ومن هنا يظهر بطلان ما قيل : أنّ الاِيمان هو العمل ، وذلك لاَنّ العمل يجامع النفاق ، فالمنافق له عمل ، وربما كان ممن ظهر له الحق ظهوراً
____________
(1) التفسير الكبير ، للفخر الرازي 1 : 23 ، 25 الجزء الثاني .
(2) سورة محمد 47 : 25 و 32 .
(3) كما في سورة الجاثية 45 : 33 ( وأضله الله على علم ) .
( 13 )
علمياً، ولا إيمان له على أي حال (1).
وفي هذا الخصوص ، وردت أحاديث كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام تعكس التصور الاِيماني الصحيح وفق نظرة شمولية ترى أنّ الاِيمان هو عقد بالقلب وقول باللِّسان وعمل بالاركان .
سُئل أمير المؤمنين عليه السلام عن الاِيمان ، فقال : « الاِيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان ، وعمل بالاَركان »(2).
وقال الاِمام الباقر عليه السلام في معرض تفريقه بين الاِسلام والاِيمان : «الاِيمان إقرار وعمل والاِسلام إقرار بلا عمل » (3).
ويؤكد الاِمام الصادق عليه السلام على قاعدة التلازم بين القول والعمل في تحقق مفهوم الاِيمان ، فيقول : « ليس الاِيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكن الاِيمان ما خلص في القلوب وصدّقته الاَعمال » (4). وعن سلام الجعفي قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الاِيمان فقال : « الاِيمان أن يطاع الله فلا يعصى » (5).
ويتضح من خلال تلك الاَحاديث ونظائرها أنّ أهل البيت عليهم السلام قد رفضوا كون الاِيمان مجرد إقرار باللسان ، أو اعتقاد بالقلب ، أو بهما معاً ؛ لاَنه فهم سطحي قاصر ، إذ هكذا إيمان لا روح فيه ولا حياة ، ما لم يقترن
____________
(1) تفسير الميزان ، للعلاّمة الطباطبائي 18 : 259 مؤسسة الاَعلمي ـ بيروت 1393 هـ ط2 .