الفصل الرابع دراسات تطبيقية في نصوص نثرية صوفية - قضایا النقدیة فی النثر الصوفی نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

قضایا النقدیة فی النثر الصوفی - نسخه متنی

وضحی یونس

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الفصل الرابع





دراسات تطبيقية


في نصوص نثرية صوفية

1 ـ (رؤيا أبي يزيد) لأبي يزيد البَسْطامي

من كتاب (المعراج)
لأبي يزيد البسطامي طيفور بن عيسى
(188-261هـ)
قال أبو يزيد البسطامي:

(رأيتُ في المنام كأنّي عرّجتُ إلى السموات، فلمّا أتيتُ إلى الدنيا فإذا أنا بطيرٍ أخضرَ، فنشرَ جناحاً من أجنحتهِ، فحملني عليهِ وطارَ بي حتى انتهى بي انتهائي إلى صفوف الملائكة، وهُمْ قيامٌ متحرّقةٌ أقدامُهم في النجوم يسبّحون الله بُكْرةً وعَشيّاً، فسلّمت عليهم، فردّوا عليّ السلام، فوضَعني الطيرُ بينهم ثمَّ مضى: فلمْ أزَلْ أُسبّح اللهَ تعالى بينهم، وأحمدُ الله تعالى بلسانهم، وهُمْ يقولون: هذا آدميٌّ لا نوريّ، إذْ لجاَ إلينا وتكلّمَ معنا. قالَ: فأُلهِمتُ كلماتٍ، وقُلتُ: باسمِ اللهِ القادرِ على أن يُغنينَي عَنْكُمْ، ثُمّ لَمْ يَزَلْ يَعْرِض عليَّ مِنَ المُلْكِ ما كلَّتِ الألسنُ عَنْ نَعْتِهِ وصِفَتِه، فعِلمْتُ أنّه بها يُجرّبني.

ففي ذلك كنتُ أقولُ: مُرادي غيرَ ما تَعْرِض عليّ، فلم ألتفت إليها إجلالاً لحرمته، ثم رأيت: كأنّي عرّجتُ إلى السماء الثانية فإذا جاءني فوجٌ من الملائكة، ينظرون إليّ كما ينظر أهل المدينة إلى أمير يدخلها، ثم جاءني رأسُ الملائكةِ اسمه لاويذ، وقال: يا أبا يزيد: إنَّ ربّك يُقرِئك السلام، ويقول: أحببَتَني فأحببتُك. فانتهى بي إلى روضةٍ خَضِرَة فيها نهرٌ، يجري، حولَها ملائكةٌ طيّارةٌ، يطيرون كل يوم إلى الأرض مئة ألف مرة، ينظرون إلى أولياء الله، وجوههم كضياء الشمس، وقد عرفوني معرفة الأرض؛ أي في الأرض، فجاؤوني وحيّوني، وأنزلوني على شط ذلك النهر، وإذا على حافتيه أشجارٌ من نور، ولها أغصانٌ كثيرة مُتدلّية في الهواء، وإذا على كلِّ غصنٍ منها وِكرُ طير؛ أي من الملائكة، وإذا في كُلِّ وِكْرٍ مَلَكٌ ساجِد.

ففي كُلَّ ذلك أقول: يا عزيزي مُرادي غيرُ ما تعرض علي، كنْ لي يا عزيزي جاراً من جميع المستجيرين، وجليساً من المجالسين؛ ثم هاج من سرّي شيءٌ من عطش نار الاشتياق، حتى إنَّ الملائكة مع هذه الأشجار صارت كالبعوضة في جنب هِمَّتي، كُلُّهم ينظرون إليّ متعجّبين مدهوشين من عِظَمِ ما يرونَ منّي. ثُمَّ لم يزلْ يعرض عليّ من المُلْك ما كَلّتِ الألسنُ عن نعتِهِ.

ففي كلِّ ذلك علمتُ أنّه بها يُجرّبني، فلم ألتفتْ إليه إجلالاً لحرمةِ ربي، وكنت أقول: يا عزيزي مُرادي غيرُ ما تعرض عليّ، فلمّا علم الله تعالى مني صدق الإرادة في القصد إليه، وتجريدي عمّن سواه، فإذا أنا بمَلَكٍ قد مدَّ يدَه فجذبني، ثمَّ رأيتُ كأنّي عرّجتُ إلى السماء الثالثة، فإذا جميعُ ملائكةِ الله تعالى بصفاتهم ونعوتهم قد جاؤوني ويُسلّمون عليّ، فإذا مَلَكٌ منهم لـه أربعةُ أوجهٍ: وجهٌ يلي السماء، وهو يبكي لا تسكنُ دموعُه أصلاً، ووجهٌ يلي الأرضَ ينادي: يا عبادَ الله اعلموا يومَ (الفراغِ)، (وفي راوية أخرى يوم الفزع) يوم الأخذ والحساب، وجهٌ يلي يمينه إلى الملائكة يُسبِّح بلسانِه، ووجهٌ يلي يساره يبعثُ جنودَه في أقطارِ السمواتِ يُسبِّحون الله تعالى فيها، فسلّمتُ عليه فرَدَّ عليّ السلام ثمّ قال: من أنتَ؟ إذ فُضِّلتَ علينا، فقلت عبدٌ قَدْ مَنَّ الله تعالى عليه من فضله، قال: تريدُ أنْ تنظرَ إلى عجائبِ الله؟ قلت: بلى، فنشر جناحاً من أجنحته، فإذا على كلِّ ريشةٍ من ريشه قنديلٌ أظلمَ ضياءُ الشمس من ضوئها، ثم قال: تَعَالَ يا أبا يزيد، واستظل في ظِلِّ جناحي، حتى تُسبّح الله تعالى وتُهللّه إلى الموت، فقلت لـه: الله قادرٌ على أن يغنيني عنك، ثمّ هاجَ من سرّي نورٌ من ضياء معرفتي أظلمَ ضوؤها: أي ضوء القناديل من ضوئي، فصار المَلك كالبعوضة في جنب كمالي، ثم لم يزلْ يعرض عليّ من المُلك ما كَلّت الألسن عن نعته.

ففي ذلك علمتُ أنّه بها يُجرّبني، فلم ألتفتْ إلى ذلك إجلالاً لحرمتِه، وكنتُ أقول في كلِّ ذلك: يا عزيزي مُرادي غيرُ ما تعرض علي، فلمّا عَلِمَ الله تعالى منّي صِدْقَ الإرادة في القصد إليه، فإذا أنا بِملَكٍ مَدَّ يدَه فرفعني، ثُمَّ رأيتُ: كأنّي عرّجتُ إلى السماء الرابعة، فإذا جميعُ الملائكةِ بصفاتِهم وهيئاتِهم ونعوتِهم قد جاؤوني ويسلّمون عليّ، وينظرون إليّ كما ينظر أهلُ البلد إلى أميرٍ لهم في وقتِ الدخول، يرفعون أصواتَهم بالتسبيح والتهليل، من عِظَمِ ما يرون من انقطاعي إليه، وقِلَّة التفاتي إليهم، ثمّ استقبلني مَلَكٌ يقال لـه: ينائيل، فمدّ يدَه وأقعدني على كرسيّ لـه موضوع على شاطئِ بحرٍ عجاج، لا ترى أوائلَه ولا أواخرَه، فأُلهِمْتُ تسبيحَه، وأُنْطقتُ بلسانِه، ولم ألتفتْ إليه، ثمَّ لم يزل يعرض عليّ من المُلك ما كلّتِ الألسن عن نعتِه.

ففي كلِّ ذلك علمتُ أنّه بها يُجرّبني، فلم ألتفتْ إليه إجلالاً لحرمته، وكنت أقول: يا عزيزي مرادي غيرُ ما تعرض علي، فلمّا علم الله تعالى منّي صدق الانفراد به في القصد إليه، فإذا أنا بمَلَكٍ مَدّ يدَه فرفعني إليه، ثُمّ رأيتُ كأنّي عرّجتُ إلى السماء الخامسة، فإذا أنا بملائكة قيام في السماء، رؤوسُهم في عَنانِ السماءِ السادسة، يقطرُ منهم نورٌ تبرقُ منه السمواتُ، فسلّموا كُلُّهم عليّ بأنواعِ اللغات، فرددتُ عليهم السلام بكل لغةٍ سلّموا عليّ، فتعجّبُوا من ذلك، ثم قالوا: يا أبا يزيد: تعالَ حتى تُسبِّح الله تعالى وتُهلّلهُ ونُعينُك على ما تريد، فلم ألتفتْ إليهم من إجلالِ ربي، فعندَ ذلكَ هاجَ مِنْ سرّي عيونٌ من الشوقِ، فصارَ نورُ الملائكةِ فيما التمعَ منّي كسراجٍ يُوضَعُ في الشمس، ثُمَّ لم يزلْ يعرِض عليّ مِن المُلك ما كلّتِ الألسنُ عن نعتِهِ.

ففي كلِّ ذلك عَلِمتُ أنَّه بها يُجرّبني، وكنتُ أقول: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، فلمّا علم الله تعالى مني صدقَ الإرادةِ في القصدِ إليه، فإذا أنا بَمَلَكٍ مَدَّ يدَه فرفعني إليه، ثمَّ رأيتُ كأنّي عرّجتُ إلى السماءِ السادسة، فإذا أنا بالملائكةِ المشتاقين جاؤوني يُسلّمون عليّ ويفتخرون بشوقهم عليّ، فافتخرتُ عليهم بشيءٍ من طيرانِ سرّي، ثُمَّ لم يزلْ يَعْرِض عليّ من المُلْكِ ما كَلّتِ الألسنُ عن نعتِه.

ففي كلِّ ذلك علمتُ أنّه بها يُجرّبني، فلم ألتفتْ إليه، وكنتُ أقول: يا عزيزي مرادي غيرُ ما تَعْرِض عليّ، فلمّا عَلِمَ الله تعالى منّي صِدْقَ الإرادة في القصد إليه، فإذا أنا بِمَلَكٍ مدَّ يدَه فرفعني، ثمَّ رأيتُ كأنّي عرّجتُ إلى السماء السابعة، فإذا بمئة ألف صفّ من الملائكة استقبلني، كلُّ صفّ مثلُ الثقلين ألفَ ألفَ مرّة، مع كلِّ ملكٍ لواءٌ من نور، تحت كلِّ لواءٍ ألفُ ألفُ مَلَك، طولُ كلِّ مَلَك مسيرةُ خمسمائة عام، وكان على مقدمتهم مَلَكٌ اسمُه بريائيل، فسلّموا عليّ بلسانهم ولُغتهم، فرددتُ عليهم السلام بلسانهم فتعجّبوا من ذلك، فإذا مُنادٍ ينادي: يا أبا يزيد: قِفْ قِفْ. فإنّكَ قد وصلتَ إلى المنتهى، فلم ألتفتْ إلى قولهِ، ثُمَّ لم يزلْ يعرض عليّ من المُلكِ ما كلَّت الألسنُ عن نعته.

ففي كلِّ ذلك علمتُ أنّه بها يجرّبني، وكنتُ أقول: يا عزيزي مرادي غيرُ ما تَعْرِض عليّ، فلمّا عَلِمَ الله تعالى منّي صِدْقَ الإرادة في القصد إليه صيّرني طيراً، كان كلُّ ريشة من جناحي أبعدَ من المشرق إلى المغرب ألف ألف مرة، فلم أزل أطيرُ في الملكوت، وأجولُ في الجبروت، وأقطعُ مملكةً بعد مملكة، وحُجُباً بعد حُجُب، وميداناً بعد ميدان، وبحاراً بعد بحار، وأستاراً بعد أستار، حتى إذا أنا بِمَلَكِ الكرسي استقبلني، ومعهُ عمودٌ من نورٍ، فسلّم عليّ ثمَّ قال: خُذِ العَمود، فأخذتُه فإذا السموات بكلِّ ما فيها قد استظلّ بظلِّ معرفتي، واستضاء بضياء شوقي، والملائكةُ كلّها صارت كالبعوضة عند كمالِ هِمّتي في القصدِ إليه.

ففي كلِّ ذلك علمتُ أنّه بها يجرّبني، فلم ألتفتْ إليها إجلالاً لِحرمةِ ربي الله تعالى. ثُمَّ لم أزل أطيرُ وأجولُ مملكةً بعد مملكة، وحُجُباً بعد حُجُب، وميداناً بعد ميدان، وبحاراً بعد بحار، وأستاراً بعد أستار، حتى انتهيت إلى الكرسي فإذا قد استقبلني ملائكة لهم عيونٌ بعددٍ نجومِ السموات، يبرقُ مِن كلِّ عينٍ نورٌ تلمعُ منه، فتصيرُ تلك الأنوار قناديلاً، أسمع من جوفِ كلِّ قنديلٍ تسبيحاً وتهليلاً، ثم لم أزل أطير كذلك حتى انتهيتُ إلى بحرٍ من نورٍ تتلاطمُ أمواجهُ، يُظلِم في جنبهِ ضياءُ الشمس، فإذا على البحر سفنٌ من نور، يُظْلِمُ في جنبِ نورِها أنوارُ تلك الأبحر، فلم أزل أعبرُ بحاراً بعد بحار، حتى انتهيتُ إلى البحرِ الأعظمِ الذي عليه عرشُ الرحمنِ، فلم أزلْ أسبحُ فيه حتى رأيتُ ما مِن العرْشِ إلى الثّرى من الملائكةِ الكروبيّين وحملةِ العرشِ وغيرِهم ممّن خلقَ اللهُ سبحانه وتعالى في السموات والأرض. أصغرَ مِنْ حيث طيرانِ سرّي في القصدِ إليه، من خردلةٍ بين السماءِ والأرضِ، ثمّ لم يزلْ يعرِض عليّ من لطائِف برّهِ وكمال قدرتهِ وعِظَمِ مملكتهِ ما كلّتِ الألسنُ عن نعتِه وصفتِه.

ففي كلِّ ذلكَ كنتُ أقولُ: يا عزيزي مُرادي في غيرِ ما تعرِض عليّ، فلم ألتفتْ إليها إجلالاً لحرمتِه، فلمّا علم الله سبحانه وتعالى مني صدق الإرادة في القصد إليه فنادى: إليّ إليّ، وقال: يا صفيّي ادنُ منّي، وأشْرِف على مُشرفاتِ بهائي، وميادينِ ضيائي، واجلسْ على بساطٍ قدسي حتى ترى لطائفَ صُنعي في آنائي، أنتَ صفيّي وحبيبي، وخِيرتي مِن خَلقي، فكنتُ أذوبُ عند ذلك كما يذوبُ الرصاص، ثمَّ سقاني شربةً من عينِ اللُطفِ بكأسِ الأُنسِ، ثمّ صيّرني إلى حالٍ لم أقدر على وصفِه، ثم قرّبني منه، وقرّبني حتى صرتُ أقربَ منه من الروحِ إلى الجسدِ، ثم استقبلني روحُ كُلِّ نبيٍّ، ويسلّمون عليّ ويعظّمون أمري ويكلّمونني وأكلّمهم، ثمّ استقبلني روحُ محمّدٍ*، ثمّ سلّم عليّ، فقال: يا أبا يزيد: مرحباً وأهلاً وسهلاً، فقد فضَّلكَ اللهُ على كثيرٍ من خلقِه تفضيلاً، إذا رجعتَ إلى الأرضِ أقرئ أمتي منّي السلام، وانصحهم ما استطعت، وادعُهم إلى الله عزّ وجل، ثمّ لم أزلْ مثلَ ذلك حتى صرتُ كما كان من حيثُ لم يكن التكوين، وبقيَ الحقُ بلا كونٍ ولا بينٍ ولا أين، ولا حيثُ ولا كيف، جلّ جلالُه وتقدَّست أسماؤه.

رؤيا أبي يزيد رؤيا منامية عرَّجَ فيها إلى السموات، قاصداً الله سبحانه وتعالى، كي يقيم معه إلى الأبد، ومعراجه معراج امتحان لنيّةِ أبي يزيد، إذ تُعرض عليه في كل سماء عطايا في غاية النفاسة، يغضُّ بصره عنها جميعاً، لأنّ مراده كان أنفس من تلك العطايا، وهو الوصول إلى ربّه.

وهذه الرؤيا هي أول معراج صوفي واضح، وهي مرحلة من مراحل تطور نص المعراج، من نصٍ تاريخي وديني إلى نص فنّي رمزي خيالي، فقد تخلّى نص البسطامي عن التقاليد التي عرفها المعراج التاريخي قبله، والتقاليد التي تمسّك بها المعراج الصوفي بعده؛ تخلّى عن تقليد التحضر للرحلة (التخلص من العناصر الأرضية التراب، والماء، والنار، والهواء)، فاحتفظ بتكوينه البشري وفُضِّل على كثير من خلق الله، ودخل مباشرة في المعراج، ممّا يشفُّ عن اقتناع البسطامي، هو أنّ الذي ينال شرف العروج هو كائن أسمى كون التراب والماء والنار والهواء، وفي السماء الأولى يقول الملائكة عن أبي يزيد: هذا آدمي لا نُوري)، ويؤكّدُ هذا التخلّي أنّ معراج أبي يزيد هو رؤيا منام، لا تأليف، وقد قدّم البسطامي لرؤياه المعراجيّة بحرفِ التشبيه والتمثيل (الكاف) في كأنّي ما جعل رؤاه تقع بين اليقظة والنوم، مُعلّقةً مثله بين السماء والأرض في لحظة توتّر، كانت هي الذروة، ومنحت النص جماليات التشويق، والغموض، والسحر، والغرابة.

النّص ليس حقيقة، وليس كرامةً، إنّه حلم، وهو لا ينتمي إلى نوع أدبيّ سبقه، فهو وليد ذاته، كما هو وليد طريقة البسطامي في الفكر، والكتابة، والإيمان، والطقوس. كما تخلّى البسطامي عن تقليد اللقاء بأرواح الأنبياء في السموات السبع، لكنّه التقى بهم جميعاً في السماء السابعة قبل لقائه بالنبي محمد*: فيكون بذلك احتفظ بتقليد اللقاء بروح النبي محمد*، وتقليد العودة إلى الأرض للتذكير بالتشريع المحمدي، يقول لـه النبي*: [يا أبا يزيد مرحباً وأهلاً وسهلاً، فقد فَضّلك الله على كثير من خلقهِ تفضيلاً إذا رجعت إلى الأرض، أقرئ أمتي مني السلام، وانصحهم ما استطعت وادعهم إلى الله عزّ وجل].

إنَّ أبرز التقاليد الخاصة بمعراج أبي يزيد لقاؤه الملائكةَ في كل سماء، واستقبالُهم لـه، ووصفُه لهم؛ ففي السماء الثانية يلتقي فوجاً من الملائكة، وفي مقدمتهم رأس الملائكة لاويذ الذي يُقرئه السلام من الله تعالى، ويبلغه منه رسالة حب موجزة: (أحببتني فأحببتك)، وفي السماء الثالثة يأتي جميع الملائكة ليسلّموا على أبي يزيد، وبينهم ملك لـه أربعة وجوه، يرى البسطامي من عجائب الله عليه قنديلاً على كلِّ ريشة من ريش جناحيه، يُظلم ضوء الشمس من ضوء هذه القناديل، وفي السماء الرابعة ـ أيضاً ـ يأتي جميع الملائكة مع الملك ينائيل لتُسبّح وتُهلّل، وفي السماء الخامسة يلتقي ملائكةً قياماً رؤوسهم في عنان السماء السادسة، يقطر منهم نور تبرق منه السموات، سلّموا على أبي يزيد بأنواع اللغات، وفي السماء السادسة يلتقي مائة ألف صف من الملائكة، كلُّ صفٍّ مثل الثقلين ألف ألف مرة، مع كل ملك لواء من نور، تحت كل لواء ألف ألف ملك، طول كل ملك مسيرة خمسمائة عام.

وصف الملائكة ـ إذن ـ إضافة أدبيّة إلى التقاليد الأصلية للمعراج، واللقاء بهم تقليد انفرد به معراج أبي يزيد، فقد تصوّر أشكالاً خيالية للملائكة، أبرزُ ما في وصفه لها عددُها الهائل، (ألف ألف)، و(مئة ألف صف)، كلّ صفّ مثل الثقلين ألف ألف مرة، ميزتُها أنّها (طيّارة)، (تطير كل يوم إلى الأرض مئة ألف مرة)، وطبيعة تكوينها من النور (تتحرك أقدامهم في النجوم)، و(وجوههم كضياء الشمس)، و(نور الملائكة كسراج يُوضع في الشمس)، (على كل ريشة من جناحه قنديل يُظلم ضياء الشمس من ضوئها)، و(ملائكة يقطر منهم نور تبرق منه السماوات)، ووظيفتهم التسبيح، والتهليل، ونقل الوحي إلى البشر، كالملاك صاحب الوجوه الأربعة، فبينَ وجوهه وجه يلي الأرض يخبر عن يوم الحساب، ووجه يُسبّح، ووجه يبعث جنوده إلى أقطار السموات يُسبّحون الله. يرى الدكتور نذير العظمة في هذه الوجوه الأربعة أنها (تُمثّل طرائق مختلفة وتجارب معينة من فقه وزهد وعلم في المجتمع الإسلامي تُمجّد الورع والتقوى والعبادة وقوة الأعمال، وعجائب الله) .

وكانت المهمة الأبرز التي على الملائكة القيام بها، أثناء معراج أبي يزيد، هي تقديم المغريات لـه، وهي على التوالي: البقاء بين الملائكة، وسلام من الله، ورسالة حب، وروضة خضراء يجري فيها نور حولها ملائكة طيّارة، وعلى ضفتي النهر أشجار من نور، وعلى كل غصن وكر طير من الملائكة، وفي كلِّ وكر مَلكٌ ساجد، والبقاء في ظلّ جناح الملك صاحب الوجوه الأربعة، والإغراء ببلوغ سدرة المنتهى، غير أنّ مصير هذه الإغراءات كلّها كان إهمال أبي يزيد، وإحساسه بأنّها كالبعوضة، مقارنةً بهمّتهِ. وإجلاله حرُمة الله، ولذلك كان يُكرّر لازمته المعروفة: (لم يزل يعرض عليّ من الملك ما كَلّت الألسن عن نعتَهَ ووصفه، فعلمتُ أنّه بها يُجرّبني ففي ذلك كنتُ أقول: مرادي غير ما تَعرض عليّ)، وتتكرر هذه اللازمة كحركةٍ داخلية في النص، لتكونَ أساساً في بُنيته المعمارية التي تقسمُ المعراج إلى مراحل؛ حيث كل سماء من السموات السبع مرحلة، يخرج من امتحان ملائكتها ناجحاً، في تأكيد قصده إلى الله تعالى، فيرفعه ملك إلى السماء التالية، ومن غير هذه اللازمة لكان النص شكلاً ثابتاً للعاطفة والهمّة، غير أنّ الارتقاء من الأرض إلى السموات السبع سماءً فسماء، هو تدرّجٌ في المعرفة، وتطورٌ ونُضجٌ في علاقة البسطامي والله، يكمنان في تأكيد صدق عاطفة أبي يزيد، وتنوّع المكافآت الإلهية، إلى أن يبلغ المكافأة المقصودة، وهي (لقاء الله والاتحاد به)، وقد تكررت هذه اللازمة ليكونَ تكرارُها اتحاداً للبسطامي برغبته الصوفية اتحاداً لا فكاك منه.

ثمةَ بُعدٌ كامنٌ وراء تحوّل النص، من حلم يقظة إلى رؤيا منامية، هو أنّ الإنسان صورة عن الله الذي خلقه على مثاله، فأحبته الملائكة، وكرّمته، بعد أن أحبّه الله، وكرّمه، وعليه ـ إذن ـ ألا يسقط من هذه العلياء التي وهبتْ لـهُ، بل عليه أن يرتقي، ليُصبح جديراً بالخَلق والخالق؛ يرتقي إلى سماء الحب، فسماء المعرفة، فسماء الكمال، فسماء الله.

الحب هو الذي قاد البسطامي إلى الله، لا تعاليم الأنبياء، فهو لم يلتقهم في سماواتهم، ولم يتعلّم منهم، فتجربة البسطامي مبنيّة على الحب، الذي منحه الحدس والإلهام بالعروج، لكنّه، وفي وضعه في إطار رؤية منامية، بدا وكأنه منحة إلهية، وفي طريق معراجه لم يرَ جحيماً ولا جنة، فهو لم يصفهما، ولم يأتِ على ذكرهما، فالجنة ليست ثواباً، والجحيم ليس عقاباً، والبسطامي لا يريد الجنة، إنّه يريد الله، يقول: الجنّةُ لا خطرَ لها عند أهل المحبة، وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم .

وحب البسطامي لله ليس منّةً، إنّه شكر، فالله سبقَه إلى الحب، ذكره، وعرفه، وأحبّه، وطلبه، يقول أبو يزيد: (غلطتُ في ابتداء أمري في أربعة أشياء: توهمتُ أنّي أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه، فلمّا انتهيت، رأيتُ ذكره سبقَ ذكري، ومعرفته تقدمت معرفتي، ومحبته أقدم من محبتي، وطلبه لي أولاً حتى طلبته) . إنّه تبادل المحبة والامتنان والشُكر أدباً، وإجلالاً، من الله والإنسان كل منهما للآخر، بل إنّه السبق إلى فضيلة الحب التي يتبادلها الله والإنسان؛ ففي بداية المعراج، أرسل الله سبحانه إلى أبي يزيد رسالةً يقرئه فيها السلام، ويقول لـه فيها: (أحببتني فأحببتك)، وفي نهاية المعراج يعلم الله صدق قصد أبي يزيد فيناديه: (إليّ... إليّ... وقال: يا صفيّي ادنُ منّي وأشرف على مشرفات بهائي، وميادين ضيائي، واجلس على بساط قدسي حتى ترى لطائف صنعي في آنائي، أنتَ صفيّي وحبيبي، وخيرتي من خلقي) ثمّ قرّبه منه، حتى صار أقرب إليه من الروح إلى الجسد.

في تجربة الحب البسطامية يتردّد لفظ (الشوق)، والشوق الصوفي هو (حركة الشوق إلى الله بالمحبة المنبعثة من مطالعة تجليات الصفات) . وقد ذكر الشوق أكثر من مرة، مرّةً في السماء الثالثة (هاجَ من سرّي شيء من عطش نار الاشتياق)، والعطش هو (عطش السالك إلى ما يبلغه إلى المطلوب، ويُروّحُه بشهود المحبوب) ، فالهياج والسر والعطش والنار والاشتياق هي من أكثر ألفاظ العربية اقتراناً بالحب، وتعبيراً عنه حتى لو ذُكِرَ أحدهما منفرداً، فكيفَ إذا ذُكِرَت متتالية، وكل واحد منها يمكن أن يرادف الآخر، أو أن يقترب من معناه، وذكر الشوق مرّة ثانية في السماء الخامسة، فقال: (هاجَ من سرّي عيون من الشوق)، وذكره مرّة ثالثة في السماء السادسة، فقال: (فإذا أنا بالملائكة المشتاقين جاؤوني يُسلّمون عليّ ويفتخرون بشوقهم عليّ)، وذكره مرّةً رابعة في السماء السابعة (فإذا السموات بكل ما فيها قد استظلَّ بِظلِّ معرفتي واستضاء بضياء شوقي).

تدرّجَ الشوق وتطوّر، فبدأ بـ(شيء من عطش نار الشوق) ثمّ تحوّل إلى (عيون من الشوق)، ثمّ دخل أبو يزيد مع الملائكة في مباراة للشوق، فافتخروا عليه بشوقهم، لكنّ المباراة انتهت إلى فوز شوق أبي يزيد، فالسموات بما فيها استضاءت به؛ لأنّه الشوق إلى معرفة الله، فالشوق سلاح الصوفي في حربه لفراق محبوبه والهجران بينهما وبقائه وحيداً.

وقد حققّ البسطامي بمحبته وشوقه ومعرفته كمَاَلهُ، فالمُلك والملائكة (كالبعوضة) في جنب كماله، وهمّته، وضوئه ومعرفته؛ ففي السماء الأولى، كان رفضُه عرضَ المُلك الذي قُدِّم لـه درجةً ارتقاها إلى السماء الثانية التي تلقّى فيها رسالةً من الله: (إنَّ ربّك يقرئك السلام...)، وكان رفضه عرضاً جديداً للمُلك في هذه السماء ارتقاء لدرجةٍ أخرى، وبدءاً من السماء الثالثة بدأ المقارنة بين مُلك البسطامي من النور والهمّة والمعرفة والمحبة والشوق، ومُلك السموات، فتفوّق مُلك البسطامي حتى صارت الملائكة مع عوالمها كالبعوضة في جنب همّته... وهكذا في كل سماء يرفض مغريات الملائكة فيواصل ارتقاءه، لقد تحوّل الشوق والهمّة إلى عيون من الشوق، ثمّ إلى النور والمعرفة والكمال، حتى أصبحت (السموات بكل ما فيها تستظل بظل معرفته). فالبسطامي متنبئ واثق (جاءني فوجٌ من الملائكة ينظرون إليّ كما ينظر أهل المدينة إلى أميرٍ يدخلها)، و(يا أبا يزيد إنّ ربّك يُقرئك السلام ويقول: أحببتني فأحببتك)، و(الملائكة مع الأشجار صارت كالبعوضة في جنب همّتي)، و(كلّهم ينظرون إليّ مُتعجّبين مدهوشين من عظم ما يرون مني)، و(سرى نور من ضياء معرفتي أظلم ضوء القناديل، فصار الملك كالبعوضة في جنب كمالي)، (فصار نور الملائكة فيما التمع منّي كسراجٍ يُوضع في الشمس)، و(السماوات بكلِّ ما فيها قد استظلّ بظلّ معرفتي، واستضاء بضياء شوقي). فهو يرى نفسه جديراً بدخول حضرة العظمة والجلال، في ساحة الله التي تبدو العوالم الثمانية عشر ألفاً إلى جانبها كالذرّة.

إنّ نبرة التنبؤ الواثقة هذه تُدرج في باب الشطح، ففكرة المعراج في ذاتها شطحةٌ كبيرة؛ لأنها رغبةٌ بالنبوّة، وهي في نص أبي يزيد رغبةٌ بالارتفاع فوق النبوة، والالتحاق بالألوهية، وصياغتُه لهذه الرؤيا على شكل رؤيا منامية لا يُخفّف من حدّة نبرة الثقة، ولا يُبرِّئُ البسطامي من قصده لشطحاته في هذا النص، وهي كثيرة، فمن الشطح أن يحمل طيرٌ البسطامي، وينتهي به إلى صفوف الملائكة، وأن يتبادل البسطامي مع الملائكة السلام والكلام، ومن الشطح أن يبعث الله رسالةً إليه، ومن الشطح أن يُسبغ على الملائكة صفاتٍ خارقة منها العدد الهائل (ألف ألف ملك)، والمسافات الخيالية (مسيرة خمسائة عام)، ومن الشطح استقبال أرواح الأنبياء لـه، وحديثه مع النبي محمد*، ومن الشطح حديثه مع الله سبحانه.

دوافع الشطح عند البسطامي في رؤياه المعراجية الوجد، والاتحاد، والسُكر؛ فأمّا الوجد فقد بدأ شيئاً من الشوق، ثم تحول إلى عيون من الشوق، فاق شوق الملائكة وتحوّلَ إلى نور، وأمّا الاتحاد فبين البسطامي والله اتحادٌ قبل أن يبدأ المعراج هو اتحادُ إرادة، فبينما الصوفيون يطلبون من الله، كان البسطامي يطلب الله؛ من أقواله: (من عرف الله فإنه يزهد في كل شيءٍ يشغله عنه، إنّي لا أريد من الله إلا الله) .

وأمّا السُكر الذي يضعه د. عبد الرحمن بدوي بين العناصر الضرورية لوجود الشطح، فيقابله هنا (النوم)، فالبسطامي لا يشطح وهو سكران، يشطح وهو نائم، والمعنى المُتوخّى من السُكر هو اللاشعور، ففي المنام، كما في السُكر، عفوٌ من المسؤولية، وشطحات البسطامي صانِعُها خيالٌ فذٌ يسعى لأنسنة الله، وتأليه الإنسان، وحسب الدكتور عبد الرحمن بدوي من مرامي أبي يزيد من شطحاته تجريد الأمور الدينية، من كل ما يُشعر بالحسِّ فيها، والتسامي الروحي ليتفوّق على المُنزِّهين والموحدين .

اختار البسطامي لرؤياه المنام لكي يبيح شطحاتِه، ويُبرزَ سُكرَهُ ويجد لأفكاره وخيالاته حيّزاً في فضاء اللغة فيصف قوةَ وجده، وظمأ رغبته في التحرّر من الأرض، والانطلاق إلى السماء.

والشطح في هذه الرؤيا حركة انتقلت من نفس البسطامي، وجسده، وعقله إلى أفكاره، ومن ثمّ إلى لغته وصوره، ما سبّب ابتعادها عن اللغة الاصطلاحية، ومنْحِها باطناً لا نهائياً.

فضلاً عن حركة ثنائية شوق البسطامي إلى ربّه، وحركة لقائه به، ولّد شطح البسطامي حركات ثنائية أخرى كحركة السماء والأرض (رأيتُ كأنّي عرّجتُ إلى السموات، فلمّا أتيتُ إلى الدنيا فإذا بطيرٍ أخضر)، وحركة الملائكة والبشر (هذا آدمي لا نوري)، وحركة النور والظلام (على كل ريشة من ريشه قنديل أظلمَ ضياء الشمس من ضوئها، ثم هاجَ من سرّي نور من ضياء معرفتي أظلمَ ضوء القناديل من ضوئي) وحركة الفرح والحزن (مَلَكٌ لـه أربعة وجوه وجه يلي السماء، وهو يبكي لا تسكن دموعه أصلاً)، وحركة الشوق واللقاء (هاجَ من سرّي عيون من الشوق) فالشوق مستغرقٌ النص كاملاً أمّا اللقاء ففي نهايته (لمّا علم الله سبحانه وتعالى منّي صدق الإرادة في القصد إليه فنادى: إليّ إليّ...).

رؤيا البسطامي رؤيا خيالية تجري أحداثُها في عوالم السموات السبع إذ يُقدِّمُ تصوراً رمزيّاً لها، ويتخيّلُ ماهيتها، ولعلّ أبرز ما فيها حسب وصفه الرياض والأنهار والأشجار والملائكة والبحار والسفن والنور...

الفناء في رؤيا أبي يزيد اتحادٌ، ففناء، فكمال الاتحاد صحبةٌ مع الله، والفناءُ فناءٌ فيه، والكمالُ بقاءٌ به، يموت الإنسان في البسطامي ليحيا الله، تُمحى رسومه، وتفنى هويته، وتغيب آثاره، وتنعدم أحواله، وحين يُعبّر البسطامي عن الفناء في النص، يُعبّر عنه بمصطلحات، مثل (تجريدي عمّن سواه)، وقول البسطامي عندما سمع نداء الله وكلماته (كنتُ أذوب كما يذوب الرصاص، ثم سقاني شُربة من عين اللطف بكأسِ الأُنس، ثم صيّرني إلى حالٍ لم أقدر على وصفه، ثمّ قرّبني منه، وقرّبني حتى صرتُ أقرب منه من الروح إلى الجسد).

والفناء في معجم المصطلحات الصوفية زوال الرسوم جميعاً بالكُليّة في عين الذات الأحدية مع ارتفاع الإثنينية وهي مقام المحبوبية ، وصور الفناء تختلف عند الصوفيين، فهو فناء عن العادات وامتثال للمأمورات، وهو فناء عن الهيئات الطبيعية النفسية بالهيئات النورانية القلبية، وهو فناء عن الأفعال البشرية بالأفعال الإلهية، وهو فناء عن الملكات النفسية بالأخلاق الإلهية، وهو فناء عن إرادة الأغيار بإرادة الحق .

يتكرّر في النص لفظ النور، ومرادفاته (الضوء)، و(اللمعان)، و(القناديل)، والنور رمزٌ لمعرفة الله، وقد وُظّفَ رمز النور ليخدم فكرة المعراج ـ من حيث ـ إنّ هدف المعراج هو الوصول إلى النور، فالملائكة نوريّون، وفي السماء الأولى حين حمل الطيرُ الأخضر البَسْطامي ووضعه بين الملائكة كانوا قياماً تتحرق أقدامهم في النجوم، وقالوا عن البسطامي: (هذا آدمي لا نُوريّ) ووجوه الملائكة كضياء الشمس، والأشجار من نور، والملاك صاحب الوجوه الأربعة على كل ريشة من ريشهِ قنديل، ومعرفة البسطامي من ضياء، والعمود من نور، واللواء من نور... وشوق أبي يزيد مضيء...

إنّ قصص المعراج نوعٌ أدبي رمزي أُنشئ لاحتواء الخبرات الروحية، والتصورات الدينية الصوفية، وإنّ السموات التي عرّج إليها البسطامي سماواتٌ من نور، حتى بدا الأمر بعد أن تخلّى عن وصف الجنة والجحيم، أنّه قدّم تصوّراً خاصّاً للجنة، هو النور؛ لأنّ النور هو المعرفة، والمعرفة هي جنة المؤمن الصوفي.

لقد بُنيَ النص على لون النور، وحركته، ورموزه، يرى الدكتور نذير العظمة أن (قصة معراج البسطامي تطورت تطوّراً كبيراً وانتقلت من قصة دينية إلى قصة رمزية، البسطامي هذا الصوفي الرؤيوي فتح الطريق أمام غيره من المتصوفة لاستغلال الطاقة الرمزية المُعبّرة لهذه القصة العظيمة) ، ما يؤكِّد هوية فنية فريدة في النص حيث ينبثق إبداع جديد في النص مُؤكَّدٌ بالطرافةِ، والإغراب، والإيحاء، وقوة الخيال، وبعد الأفكار، وعُمقِها الإنساني والكوني المُلامِس مثلاً أعلى في السمو والطهارة.

إن حُسن استخدام (الإشارة) يدل على مقدرة بلاغية، ومهارة، يضع البسطامي المعنى الكثير في الكلام القليل، فالرمز مرونة في المعنى بفضل ما يمنح من إيحاء ويكاد يكون الرمز أو الغموض نوعاً من الموسيقى يحتمل مختلف التأويلات ويثير أنواع الأحاسيس.

رسم البسطامي لوحة معراجه بالكلمات، فالنص كُلّه تشبيه كبير؛ لأنّه معراج إنسان يحاكي معراج النبي *، ولأنّه رؤيا منامية، فهو مجموعة من الصور التي كُرِّست لرصد حركة النور ومعانيه، والصور في النص كثيرة، وقاسِمُها المشترك هو النور؛ ففي السماء الأولى صورة طير أخضر ينشر جناحاً من أجنحته، ويحمل البسطامي، وفي السماء الثانية صورة روضة خضراء فيها نهر يجري، حوله ملائكة طيّارة تطير كل يوم إلى الأرض مئة ألف مرة، ينظرون إلى أولياء الله، وجوههم كضياء الشمس، ثم صورة أشجار من نور على حافة نهر، كُلّها أغصان كثيرة متدلّية، على كلِّ غُصن وكرُ طير، في كلِّ وِكرٍ مَلَكُ ساجد، وفي السماء الثالثة صورة مَلَكٍ لـه أربعةُ وجوه، وجهُ يبكي، ووجهُ ينادي عباد الله ليوم الحساب، ووجهٌ يُسبّح الله، ووجه يبعث جنوده في أقطار السموات لتسبيح الله، ثم صورة ملك نشر جناحاً من أجنحته، على كل ريشةٍ قنديلٌ يظلمُ ضياءُ الشمس من ضوئه، وفي السماء الخامسة صورة ملائكة قيامٌ رؤوسُهم في عنان السماء السادسة، يقطرُ منهم نور تبرق منه السموات، وفي السماء السابعة مئة ألف صفٍّ من الملائكة، كُلُّ صفٍّ مثل الثقلين ألف ألف مرة، مع كل ملك لواء من نور، تحت كل لواء ألف ألف ملك، طول كل مسيرة خمسمائة عام، ثم صورة ملائكة لهم عيون بعدد نجوم السموات، يبرق من كل عين نور فتصير الأنوار قناديل، داخل القناديل تستبيح.. صور كثيرة، فالتصوير أبرز سمة أسلوبية في بيان البسطامي عن معراجِه، صور تنطوي على قدرة مثيرة لانفعالات الحزن، والفرح، والخوف، والأمن، والدهشة، والاستغراب، والإيمان، صور تنتمي إلى الكشف والحدس والتأويل، وهي ـ مع لغة القص والحوار، والسمة الملحمية والأسطورية ـ تفتح الطريق لنوعٍ أدبي جديد. والصورة في النص هي أهم عناصر المعنى بما تمنح من دهشة مُحلّقة في فضاء الألوهية، إذ تتميز هذه الصورة بطرافتها وغرابتها (فوجٌ من الملائكة ينظرون إليَّ كما ينظر أهل المدينة إلى أمير يدخلها). كما تتميز بكونها خيالية، وما ورائية، لأنها تصفُ عالماً مجهولاً (شط نهر على حافتيه أشجار من نور، لها أغصان كثيرة على كل غصن وكر طير في كل وكر ملك ساجد). فضلاً عن تنوع الصور في التعبير عن فكرةٍ محورية هي المقارنة بين شوق الملائكة وشوق البسطامي وتفوّق شوق البسطامي (فوجٌ من الملائكة ينظرون إليَّ كما ينظر أهل المدينة إلى أمير يدخلها) (الملائكة مع الأشجار صارت كالبعوضة في جنب همتي) (صار نور الملائكة فيما التمع مني كسراجٍ يُوضع في الشمس).

وقد صيغت الصور بطريقة رمزية إذ أودع فيها البسطامي الأنواع الثلاثة للرمز الصوفي فمن الرموز المادية (الطير، والروضة، والأشجار، والماء، والنور... الخ).

إنَّ الطير رمزٌ لتحقق حلم البسطامي، فالطير وسيلة نقله من الأرض إلى السماء، إنّه رمزٌ مادي لمرموز معنوي قوامُه المعرفة، فبالمعرفة طار البسطامي من الأرض إلى السماء، الطير هو الروح التي تريد خلع الطينية، وارتداء ثوبها الأصلي من الحرية والانطلاق إلى موطنها الأول.

وأمّا الماء فرمزٌ تَجسَّدَ في النهر والبحر، وهو فضلاً عن إشارته إلى الحياة والوجود، تصويرٌ للجنة الصوفية، فالنهر هو نهر وعلم ومعرفة بدليل أشجار النور على حافتيه، وأوكار الطيور (الملائكة) الساجدة على هذه الأغصان، وقد تحوّل النهر في نهاية النص إلى بحر، ثم إلى بحار رمزاً لاتساع المعرفة والعلم الباطنيين، وقد تنقّل البسطامي بين البحار حتى وصل إلى (البحر الأعظم الذي عليه عرش الرحمن).

أمّا النور فهو أهم رموز النص لأنّه هدف هذا المعراج المنامي، النور من أسماء الله تعالى ومن صفاته، فالله هو الهدف الحقيقي من رمز النور، والنور هو المعرفة والخلاص، ومن رمز النور تولّد قاموسٌ لفظيّ خاص (ضياء، قنديل، تبرق، التمع، سراج،...).

ومن الرموز المجازية رمز الخمر ففي نهاية النص (الرؤيا) يسقي لله سبحانه وتعالى البسطامي خمرَ المعرفة فيتذوق ويرتوي من الجمال الإلهي المطلق، أمّا الحال التي لا يقدر على وصفِها فهي السُكر.

ومن الرموز الذهنية: ما احتوته صور استقبال الملائكة والله للبسطامي (مدّ يده وأقعدني على كرسي لـه موضوع على شاطئ بحر) و(ملائكة سلمّوا عليّ بأنواع اللغات) و(علم الله سبحانه وتعالى مني صدق الإرادة فنادى إليّ وقال: يا صفييُّ ادنُ منّي، واجلس على بساطٍ قدسي.. ثم سقاني.. ثم قرّبني) فهذه صور ذهنية وإشارات إلى حُظوة البسطامي عند الله سبحانه.

إنّ الرموز السابقة كلها مُنتَظَمة في سياقِ رمزٍ كبيرٍ هو (المعراج) فرؤيا البسطامي هي معراجه الخاص الذي يعرض فيه تصوراته الصوفية الخاصة، والمتميزة على الرغم من حفاظه على الوظيفة الأساسية للمعراج وهي الوظيفة الدينية؛ الدعوة إلى الله والنبي، وعلى الوظيفة المعرفية التعليمية.

/ 112