3 ـ سر الغريب - قضایا النقدیة فی النثر الصوفی نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

قضایا النقدیة فی النثر الصوفی - نسخه متنی

وضحی یونس

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

3 ـ سر الغريب

من كتاب (الإشارات الإلهية)
لأبي حيّان التوحيدي، علي بن محمد ابن العباس (310 ـ 414 هـ).
يقول أبو حيّان:
(يا هذا هذا وصفُ غريبٍ نأى عن وطن بُنِي بالماء والطين، وبَعُدَ عن أُلاّفٍ لـه عَهْدُهم الخشونةُ واللين، ولعلّه عاقرهم الكأس بين الغدران والرياض، واجتلى بعينه محاسن الحَدَق المِرَاض؛ ثم إنْ كان عاقبةُ ذلك كُلّه إلى الذهاب والانقراض، ـ فأين أنتَ عن قريب قد طالت غربته في وطنه، وقل حظه ونصيبه من حبيبهِ وسكنه؟! وأين أنت عن غريب لا سبيل لـه إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان؟! قد علاه الشحوب وهو في كِنّ، وغلبه الحزن حتى صار كأنه شَنٌّ. إن نطق نطق حزنان منقطعاً، وإن سكت سكت حيران مرتدعاً؛ وإن قرُبَ قَرُبَ خاضعاً، وإن بَعُدَ بَعُدَ خاشعاً؛ وإن ظهر ظهر ذليلاً، وإن توارى توارى عليلاً؛ وإن طلب طلب واليأس غالب عليه، وإن أمسك أمسك والبلاء قاصد إليهِ؛ وإن أصبح أصبح حائل اللون من وساوس الفكر، وإن أمسى أمسى مُنْتَهَبَ السرّ من هَواتِكِ الستر؛ وإن قال قال هائباً، وإن سكت سكت خائباً؛ قد أكله الخمول ومصّه الذبول، وحالفه النحول؛ لا يتمنى إلا على بعض بني جنسه، حتى يفضي إليه بكامنات نفسه؛ ويتعلّل برؤية طلعته، ويتذكر لمشاهدته قديم لَوْعَته؛ فينثر الدموع على صحن خدّه، طالباً للراحة من كدّه.

وقد قيل: الغريب مَنْ جَفاه الحبيب. وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب، بل الغريب من حاباه الشريب، بل الغريب مَنْ نُودِي مِنْ قريب، بل الغريب من هو في غربته غريب، بل الغريب من ليس لـه نسيب، بل الغريب من ليس لـه من الحق نصيب، فإن كان هذا صحيحاً، فتعال حتى نبكي على حال أحدثت هذه الغفْوة، وأورثت هذه الجَفْوة:




  • من الوَجْد أوْ يَشْفِي نَجِيَّ البلابل
    لعَّل انحدارَ الدَّمْعِ يُعْقِبُ راحةً



  • لعَّل انحدارَ الدَّمْعِ يُعْقِبُ راحةً
    لعَّل انحدارَ الدَّمْعِ يُعْقِبُ راحةً



يا هذا! الغريب من غَرُبَتْ شمس جماله، واغترب عن حبيبه وعُذّاله، وأَعْرَبَ في أقواله وأفعاله، وعَرَّب في إدباره وإقباله، واستغرب في طِمْره وسِرْباله. يا هذا! الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة، ودلَّ عنوانه على الفتنة عُقَيْب الفتنة، وبانت حقيقته فيه الفينة حدّ الفينة. الغريب من إن حضر كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً. الغريب من إن رأيتَه لم تعرفه، وإن لم ترَهُ لم تستعْرِفه. أما سمعت القائل حين قال:




  • ولا نديمٌ، ولا كأسٌ، ولا سَكَنُ
    بِمَ التعلُّل؟! لا أهلٌ، ولا وطنٌ



  • بِمَ التعلُّل؟! لا أهلٌ، ولا وطنٌ
    بِمَ التعلُّل؟! لا أهلٌ، ولا وطنٌ



هذا وصف رجل لحقته الغربة، فتمنى أهلاً يأنس بهم، ووطناً يأوي إليه، ونديماً يحلُّ عُقَدَ سِرّهِ معَهُ، وكأساً ينتشي منها، وسَكَناً يتوادعُ عنده. فأمّا وصفُ الغريب الذي اكتنفته الأحزان من كل جانب، واشتملت عليه الأشجان من كل حاضر وغائب، وتحكّمت فيه الأيام من كلِّ جاءٍ وذاهب، واستغرقته الحسرات على كل فائت وآئب، وشَتّتَهُ الزمان والمكان بين كل ثقة ورائب، ـ وفي الجملة، أتت عليه أحكام المصائب والنوائب، وحطتّه بأيدي العواتب عن المراتب، فوصفٌ يخفى دونه القلم، ويفنى من ورائه القرطاس، ويَشِلُ عن بَجْسِه اللفظ، لأنه وصف الغريب الذي لا اسم لـه فيُذْكَر، ولا رسم لـه فيُشْهَر، ولا طيَّ لـه فيُنْشَر، ولا عُذْر لـه فيُعْذَر، ولا ذنب لـه فيُغْفَر، ولا عيب عنده فَيُستَر.

هذا غريب لم يتزحزح عن مَسقِط رأسه، ولم يتزعزع عن مَهَبِّ أنفاسه. وأغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيداً في محل قُرْبه، لأنّ غاية المجهود أنْ يسلو عن الموجود، ويُغْمِضَ عن المشهود، ويُقْصَى عن المعهود، لِيَجِدَ مَنْ يُغنيه عن هذا كلَّه بعطاءٍ ممدود، ورِفْدٍ مرفود، ورُكنٍ موطود، وحَدٍّ غير محدود.

يا هذا! الغريب من إذا ذُكِر الحق هُجِر، وإذا دعا إلى الحق زُجِر. الغريب من إذا أُسْنَدَ كُذّب، إذا تطاهر عُذَّبْ. الغريب من إذا امتار لم يَمْرِ، وإذا قَعَد لم يُزَرْ. يا رحمتا للغريب! طال سفره من غير قدوم، بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير، وعَظُم عناؤه من غير جدوى!

الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله. الغريب من إذا تنفَّسَ أحرقَه الأسى والأسف، وإن كتم أكمدَهُ الحزن واللَّهَف. الغريب من إذا أقبل لم يُوسّع لـه، وإذا أعرض لم يُسأل عنه. الغريب من إذا سأل لم يُعْطَ، وإن سكت لم يُبْدَأْ. الغريب من إذا عطس لم يُشَمَّت، وإن مرض لم يُتفقّد. الغريب من إن زار أُغْلِق دونه الباب، وإن استأذن لم يُرْفَع لـه الحجاب، الغريب من إذا نادى لم يُجَبْ، وإن هادى لم يُحَبَّ. إنّا اللهم قد أصبحنا غرباء بين خلقك، فآنسنا في فِنائك. اللهمّ وأمسينا مهجورين عندهم، فصلْنا بحِبائك. اللهم إنهم عادَوْنا من أجلك لأنّا ذكرناك لهم فنفروا، ودعوناهم إليك فاستكبروا، وأوعدناهم بعذابك فتحيرّوا، ووعدناهم بثوابك فتجبرّوا، وتعرّفنا بك إليهم فتنكرّوا، وصُنَّاك عنهم فتنمرّوا؛ وقد كِعْنا عن نذيرهم، ويئسنا من توقيرهم.

اللهمّ إنّا قد حاربناهم فيك، وسالمناهم لك، وحكمنا لهم عنهم لوجهك، وصبرنا على أذاهم من أجلك؛ فخذ لنا بحقّنا منهم، وإلا فاصرف قلوبنا عنهم، وأَنْسِنَا حديثَهم، واكفنا طِّيبَهم وخبيثهم. أيها السائل عن الغريب ومحنته! إلى ههنا بلغ وصفي في هذه الورقات. فإن استزدَّت زِدْتُ، وإن اكتفيتَ اكتفيتُ، واللهَ أسألُ لك تسديداً في المبالغة، ولي تأييداً في الجواب، لنتلاقى على نعمته، ناطقين بحكمته، سابقين إلى كلمته.

يا هذا! الغريب في الجملة مَنْ كُلّه حُرْقة، وبعضُهُ فُرْقة، وليلُه أسف، ونهارُه لَهَف، وغداؤه حَزنْ، وعشاؤُه شَجَن، وآراؤه ظِنَن، وجميعه فتن، ومَفْرِقه مِحَن، وسِرُّه عَلَن، وخوفه وطن.

الغريب من إذا دعا لم يُجَب، وإذا هاب لم يُهَب.

الغريب من إذا استَوْحَشَ استُوحِشَ منه: استَوْحَشَ لأنه يرى ثوب الأمانة مُمزّقاً، واستُوحِشَ منه لأنّه يجد لما بقلبه من الغليل مُحْرِقاً.

الغريب مَنْ فَجْعتُه مُحْكَمة، ولوعته مُضرمة.

الغريب من لِبْسه خِرْقة، وأكلته سَلْقَة، وهَجْعته خَفقةُ.

دع هذا كله! الغريب من أخبر عن الله بأنباء الغيب داعياً إليه. بل الغريب من تهالك في ذكر الله مُتوكِّلاً عليه. بل الغريب من توجَّه إلى الله قالياً لِكُلَّ من سواه. بل الغريب من وهب نفسه للهِ مُتَعرِّضاً لجدواه.

يا هذا! أنت الغريب في معناك. أيها السائل عن الغريب! اعمل واحدة ولا أقلَّ منها، وإذا أردت ذِكرَ الحق فانس ما سواه، وإذا أردتَ قُرَبُه فابعد عن كل ما عداه، وإذا أردت المكانة عنده فدَعْ ما تهواه لما تراه، وإذا أردت الدعاء إليه فمَيِّزْ مالكَ ممّا عليك في دعواه. ـ طاعاتُك كُلَّها مدخولة، فلذلك ما هي ليست مقبولة. همِمُكَ كُلَّها فاسدة، فلذلك ما ليست هي صاعدة. أعمالك كلها زائفة، فلذلك ما ليست نافعة. أحوالك كلها مكروهة، فلذلك ما ليست هي مرفوعة. ويلك! إلى متى تنخدع، وعندك أنك خادع؟ وإلى متى تظنّ أنك رابح، وأنت خاسر؟ وإلى متى تدّعي، وأنت منفّي؟ وإلى متى تحتاج، وأنت مكفّي؟ وإلى متى تُبدي القلق، وأنت غنيّ؟ وإلى متى تهبط وأنت عَلِيّ؟ ما أعجبَ أمراً تراه بعينِكَ، ألهاكَ عن أمرْ لا تراه بعقلك. الحمار أيضاً يرى بعينيه ولا يرى بغيرها. أفأنت كالحمار فَتُعْذَر؟ فإن لم تكن حماراً، فلم تتشبّه به؟ وإن كنت، فلم تدّعي فضلاً عليه؟ وإذا لم تكن حماراً بظاهر خَلِقْك وصِبْغَتِك، فلا تَكُنْهُ أيضاً بباطن نيّتك وجَليَّتك. قد والله فسدت فساداً لا أرجوك معه لفلاح، ولذلك ما أدري بأي لسان أحاورك، وبأيِّ خُلقٍ أجاورك، وفي أي حقيقة أشاورك، وبأي شيء أداورك؟ ـ سِرُّك كفران، ولفظُكَ بهتان، وسرورك طغيان، وحزنك عصيان، وغِناك مَرَحٌ وبَطَر، وفقرُك تَرَحٌ وضجر، وشَبَعُك كِظَّةٌ وتُخْمةٌ، وجوعُك قنوط وتهمة، وغزوك رياء وسمعة، وحجُّك حيلة وخُدعة، وأحوالك كُلُّها بَهْرَجٌ وزَيف، وأنت لا تحاسب نفسك عليها: هَلُمَّ، ولا: بِلِمَ وكيفْ. ما أسعدَ من كان في صدره وديعة الله بالإيمان فحفِظَها حتى لا يسلُبَها منه أحد‍ أتدري ما هذه الوديعة؟ هي وديعة الله وديعة رفيعة هي التي سبقت لك منه وأنت بَدَدٌ في التراب لم تجمعك بعد الصورة، ولم يقع عليك اسم، ولم تُعْرَف لك عين، ولم يدلَّ عليك خبر، ولا يحويك مكان، ولم يَصِفْك عيان، ولم يُحِطْكَ بيان، ولم يأتِ عليك أوان. أنت في ملكوتِ غيبِ الله ثابتُ في علم الله، عُطُلٌ من كل شيء إلا من مشيئة الله. تُرَشَّح لمعرفته، وتُلحظ في صفوته، وتُؤَهَّل لدعوته. فما أسعدك أيها العبد‍ فهذه العناية القديمة من ربك الكريم الذي نظر لك قبل أن تنظر لنفسك، وأيَّدك بما لم تهتدِ إليه همّتُك، حتى إذا نَشَر مَطْوِيَّك ورتق مُفَتَّقّك، وجمع مفتَرِقَك، وقوّم مُنأدّك، وسوَّى مُعْوَجَّك وفتح عينيك، وطرح شعاعها على ملكوته التي جعلها قبالة بصرك، وعرّفك نفسك، ودعاك باسمك، وشهرك بحكمته فيك، وأظهر قدرته عليك، وعجَّبك وعجَب غيرك منك، ولاطفك ولطف لك، وبيّن لك مكانتك إذا أطعت، ومهانتك إذا عصيت، وثبت على شهواتِكَ فتناولتَها، وعلى لذّاتِك فانهمكَت فيها، وعلى معاصيك (لمن هذا حديثُه معك) فركبتَ سنامها، ولم تفكر فيما خلفها وأمامها. ولما قيل لك: اتق الله! أخذتك العزة بالإثم وبُؤت فيما فيك من نعم الله عليك تَهُرُّ على ناصحك، وتهزأ بالمشفق عليك، وتُحَاجُّه بالجهالة وتقابله بالكبرياء والمخيلة. إنك عندي لمن المسرفين، بل من المجرمين، بل من الظالمين، بل من الفاسقين، بل من المطرودين، بل ممن قد تعرَّض لأن يسلبه الله ما أعطاه، ويجعل النار مأواه، حتى يصير عبرة لمن وراه.

يا هذا! أَحَجَرٌ أنتَ؟ فما أقسى قلبك! وما أذهبك فيما يُغْضِبُ عليكَ ربَّك! أبينَك وبينَ نفسِك تِرَةٌ أو كيد؟ هل يفعل الإنسان العاقل بعَدُوِّه ما تفعله أنت بروحِك؟ لا ينفعُكَ وعظٌ وإن كان شافياً، ولا ينجعُ فيك نصْحٌ وإن كان كافياً! اللّهم تفضّل علينا بعفوك إن لم نستحق رضاك. يا ذا الجلال والإكرام!).

عاصر التوحيدي الحكم العباسي، وشهد في بغداد ثورات الطبقات الفقيرة، التي ترافقت مع انتصار المذهب الشيعي فكراً وسياسة وكان ينادي ببناء السياسة على قاعدة دينية توسّلاً للعدل والصواب، كما دعا إلى حلِّ الصراع الاقتصادي بين الطبقات، وتحقيق العدالة والمساواة في توزيع الثروات ورفض العنصرية والشعوبية وكل أشكال الصراع بين القوميات والأجناس. ولهذه الغربة الاجتماعية ما يرفُدها في حياة التوحيدي من غربة شخصية يؤكِّدُها الدكتور عبد الرحمن بدوي بقوله: (إنه كان من الموالي الذين اختلطت فيهم الدماء والعناصر، وكوّنت مكوناً غريباً، على أنه كان يشعر بواشجة قربى مع الغرباء حتى كان لا يخالط إلا الغرباء والمجتدين) ، وكان فَقَد والديه مبكِّراً وليس في كتبه إشارة إلى زوجة أو ولد والأغلب أنه عاش وحيداً فقيراً يتيماً.

في ظل هذه المؤثرات نَمَتْ شخصية التوحيدي وتكونت ثقافته ونفسيته من مكوّني القلق والفقر، وألَّف إشاراته الإلهية، ومن بينها نص الغريب، إذ بناه على الأسس التقليدية المعروفة للرسالة في الأدب العربي، فبدأه بمقدمة يخاطب فيها شخصاً وهميّاً، ويبدو أنّ وجود المخاطب كان ضرورة فنية ليِتم للتوحيدي إقامة حوار وإن كان في أصله حواراً داخلياً نفسياً وقد يكون المخاطب هو المتكلم ولكن (وجود المخاطب ضروري في حالة أبي حيان لينثر في وجهه التبكيت، ويصاوله اللوم، ويُفرِغ عليه ما كانت تجيشُ به نفسُه من سورة) ، وهذا أبرز ما في المعنى عند التوحيدي وهو في علم البديع (التجريد)، والتجريد هو إخلاص الخطاب لغيرك، وأنت تريد به نفسك لا المخاطب نفسه، وله فائدتان ـ حسب ابن الأثير ـ وهما (التوسع في الكلام، وأن يتمكن المتكلم من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره على نفسه إذ يكون مُخَاطباً بها غيره، ليكون أعذَر وأبرأَ من العهدة فيما يقوله غيرَ محجورٍ عليه) ، ويُمَثّلُ هذا التجريد محاولةً لكسر جدار غربة التوحيدي إذ يتخيل صديقاً حبيباً ما ينفكُّ يذكره ويذكر غيابه على امتداد الرسالة ويقيم معه حواراً كي لا يظل وحيداً مع صدى أحزانه ويشبه أسلوب التوحيدي أسلوب الشيخ المعلّم في الصوفية، حين يدعو المريد إلى الانخراط في الطريقة، وهو يتألم كثيراً، لأن دعوته قُوبِلَت بالرفض كدعوة نبي أُهدِرَت كرامتُه في وطنه، فنُفِي وطُرِدَ (الغريب من إذا ذَكَرَ الحق هُجِر، وإذا دعا إلى الحق زُجِر، الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله) فغربة التوحيدي غربة ذاتية عاشها دائماً في ظلِّ نزوع إنساني يفيض بظمأ لا حدود لـه إلى صديق وقد بلغ هذا النزوع في رسالة (الغريب) حدّاً فاجعاً، إذ لم يُحَدّد اسماً، ولا وصفاً ولا شرطاً للصديق الذي يتمناه (لا يتمنى إلاَّ على بعض جنسه حتى يفضي إليه بكامنات نفسه، ويتعلل برؤية طلعته، ويتذكر لمشاهدته قديم لوعته فينثر الدموع على صحن خدّه، طالباً للراحة من كدّه)، فغريب التوحيدي يريد بِشرا فقط ليتواصل معه وجدانياً، فهذه المشاركة هي المعنى الصحيح لعلاقة الإنسان بالإنسان، إِنَّه يُسْعِدُ التوحيدي ويُدْهِشُهُ أنْ يَجِدَ من يفهمه لأنه وهو الخبير بطبيعة الوجود الإنساني وما ينطوي عليه من اغتراب، يدرك أنّ شعور الغربة الذي يعانيه لن يكسِرَ من حدّته شيء لا وصال المحبوب ولا قرب الأهل، ولا الأصدقاء. فغربته ليست غربة المتنبي حين قال في البيت الذي يذكره التوحيدي في النص:




  • ولا نديمٌ، ولا كأسٌ، ولا سكنُ
    بم التعلُّل لا أهلٌ ولا وطنُ



  • بم التعلُّل لا أهلٌ ولا وطنُ
    بم التعلُّل لا أهلٌ ولا وطنُ



لأن غريب المتنبي يريد أهلاً، ووطناً، وكأساً، وسكناً، لكنّ غريب التوحيدي يريد فرحاً ويقيناً ومكانة؛ فرحاً لأن (الحسرات استغرقته على كل فائت وآئب)، ويقيناً لأنه (شتّته الزمان والمكان بين كل ثقة ورائب)، ومكانةً لأنه (آتت عليه أحكام المصائب والنوائب، وحطّته بأيدي العواتب عن المراتب). لكنّ هذا الغريب لم يعثر على الفرح واليقين والمكانة، في منزله الأرضي المبنيّ من ماء وطين زائلين، بين آلاف لهم كل يوم لون فوجد من الأحرى به أن يقصد آلاّفاً خالصي المودة، لعلّه يصل إليهم في منزل سماويٍّ باقٍ.

إنّ غربة التوحيدي غربة وجودية، تتلخص في (الغربة داخل الغربة) يقول التوحيدي: (بل الغريب من هو في غربته غريب)، يغيب الغريب عن الوجود، فيتوقف وجودُه الذاتي الشخصي، بينما الوجود سائر بدونه، وهو غريب لأنه ابتعد عن الأرض وظل غريباً أثناء ارتحاله إلى السماء؛ لأنه لم يصل بعد، وهذه هي نقطة التحول الهامة في تجربة التوحيدي، والتي تفصل بين عهدين من حياته، إنه يشبه السالكين وحلمه الوصول، ونص الغريب يكاد يكون وصفاً للرحلة والطريق، وعذاب المسافر بلغة تقارب لغة الصوفيين.

فإذا كان الواصلون يصفون اتحادهم بالله، والوارثون يصفون رحلتهم واتحادهم، ويسردون العبر التي استخلصوها من الرحلة والوصول، فالتوحيدي ليس واصلاً، ولا وارثاً، إنّه يشبه السالكين في نصّه (حرارة، وتوق، وشوق، ونداء، واغتراب، وثورة، وقلق، وعرفان) ، والذي يبدو في النص تصوّفاً هو نزوع قوي نحو الصوفية، وهو تحليق التوحيدي المفكر والفنان في أفق روحي يشارف التصوف.

وتبدو غربة التوحيدي اختياراً فهي محاولة للخلاص من الغربة والدخول في وطن الله، هروب من الوجود العدم، إلى وجود ممدود موطود غير محدود، فالغربة مصطلح صوفي، والأصل في معنى الغربة هو غربة الروح في أرض المادة، فالصوفية في أهم معانيها هي حنين الروح للعودة إلى موطنها الأول في سماء المعنى، وما إحساس الغريب بالعدم، أو على الأقل بنقص الوجود إلا وجهٌ من وجوه الرغبة الصوفية في الكمال، يذكر القاشاني عدة معانٍ لمصطلح الغربة منها (الخلوة مع الحق، والاعتزال عن الخلق، وإيثار المحبوب بالهجرة إليه عشقاً، والاغتراب عن الخليقة للانمحاق برسمه في الحقيقة) .

إنّ نصّاً بعنوان الغريب مُتَضَمّناً في كتاب بعنوان (الإشارات الإلهية)، وموضوعه مناجيات إيمانية خالصة متجردة من أي طمع في الدنيا، منقطعة إلى طمع في الله، لا يمكن قراءته إلاَّ قراءة تأويلية باطنية. تثير التساؤل حول ما إذا كانت غربة التوحيدي مصدر تعب أو مصدر راحة، أو مصدر تعب وراحة معاً، يكاد يختارها الصوفي فيرفض الحياة، لأنه يراها قيداً وقد يطلب الموت توسلاً للحرية.

يقارب التوحيدي في معاني غربته معنى الغربة الصوفية، فهي غربة داخل الوطن، وبين الأهل والأحبة، غربة النفس، والروح داخل الجسد، وغربة الفكر داخل منظومة المجتمع (أين أنت من غريب لا سبيل لـه إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان)، (أغربَ في أقواله وأفعاله)، (أصبح حائل اللون من وساوس الفكر)، (إذا قال لم يسمعوا قوله)، و(إذا رأوه لم يدوروا حوله)؛ فهي إذن غربة الإنسان عن ذاته، فتجربة الغريب هي تجربة فكرية روحية، فليس عند غريب التوحيدي انتماء نهائي واضح، وليس لـه اقتناع حاسم بالخطأ أو الصواب.

إنه يتأرجح بينهما في حضن الحيرة باحثاً عن حقيقة، بل عن حقائق الحياة والكون التي لم يصل إلاَّ إلى إشارات بعيدة غامضة منها، وما نص الغريب سوى محاولة يائسة لالتقاط بعض معاني تلك الإشارات بأداة اللغة، فيكتب ما يحسّه، ويعلن أنّ الحقيقة الوحيدة التي يمكن بلوغها هي اللا حقيقة، (أيها المُعجَبُ باللفظ، هل لك نصيب من المعنى؟ أيها المُدِلُّ بالعبارة هل لك حقيقة في الإشارة، أيها المسحور بالبلاغة هل لك بلاغ إلى الغاية) .

ينتمي غريب التوحيدي إلى وطن الله بمعرفة هي هداية، وهي نقيض الضلال، الذي يذكر الكثير من معانيه (إلى متى تنخدع وعندك أنك خادع؟ إلى متى تظن أنك رابح، وأنت خاسر، إلى متى تدّعي، وأنت منفي، إلى متى تحتاج وأنت مكفي؟ وإلى متى تبدي القلق، وأنت غني، إلى متى تهبط وأنت عليّ، ما أعجبَ أمراً تراه بعينيك، ألهاكَ عن أمرٍ لا تراه بعقلك). ويبلغ الغضب بالتوحيديّ أقصى درجاته فيرى الإنسان الضال حماراً لا يُعذَرْ (الحمار أيضاً يرى بعينيه، ولا يرى بغيرها، أفأنت كالحمار فتُعْذَر؟ فإن لم تكن حماراً، فَلِمَ تتشبّه به؟)، ليس إنساناً ذلك الذي لا يرى بعقله، وما إصرار التوحيديّ على الإنسانية إلا لأنّ الله خلق الإنسان على مثاله، وعلى الإنسان الحفاظ على هذا الانتماء السامي، فإذا لم يحافظ عليه أصبح ضالاً وهذا هو سبب الغضب العارم الذي دفع التوحيديّ إلى هذا التشبيه، الذي قد يبدو دخيلاً ومجافياً للهوية الأدبية والفنية للنص.

والمعرفة التوحيديّة هي معرفة عامة، هي هداية، ودعوة إلى الله، وإلى قيم الخير والعدالة والفضيلة، وهي ليست معرفة صوفية فلسفية، بل نزوع نحو التصوف، لقد أخبر الغريب عن الله، وتهالك في ذكره وتوجَّهَ إليه، وابتعدَ عمّا سواه (الغريب من أخبر عن الله بأنباء الغيب داعياً إليه، بل الغريب من تهالك في ذكر الله متوكِّلاً عليه، بل الغريب من توجّهَ إلى الله قالياً لكلِّ من سواه، بل الغريب من وهبَ نفسه لله متعرِّضاً لجدواه)، وذكر أسباب غربته، وأهمُّها معاداة الناس لـه بسبب دعوته إلى الله: (اللهم إنهم عادونا من أجلك لأنّا ذكرناك لهم فنفروا، ودعوناهم إليك فاستكبروا، وأوعدنا بعذابك فتحيّروا، ووعدناهم بثوابك فتجبّروا، وتعرّفنا بك إليهم فتنكروا). وهناك سبب آخر هو انتقاده العبادات الظاهرة، في إشارة منه إلى ضرورة توافق ما يظهره الإنسان، مع ما يبطنه (غزوك رياء وسمعة، وحَجُّك حيلةٌ وخدعة وأحوالك كلها بهرج وزيف). هذه دعوة إلى نيّة صافية، وإيمان باطن حقيقي، وعبارته (حَجُّك حيلة وخدعة)، تُذكِّر باسم كتابه (الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي).

ومن مضامين المعرفة التي يدعو إليها (معرفة الذات، من خلال التمعن في الوديعة الإلهية في الإنسان، وهي روحه، وعقله، ونفسه، وجسده على حدٍّ سواء صورها في مقطع صوفي الشكل والمضمون، فعبارات مثل (تجمعك الصورة)، (تعرف لك عين)، (يحويك مكان)، (يصفك عيان)، (أنت في ملكوت غيب الله ثابت)، (عطل من كل شيء إلاَّ من مشيئة الله). هي عبارات غارقة في مصطلحات الصوفية معناها أنّ الله وهب الإنسان وديعة رفيعة هي روحه الطيبة، ولم يكن الإنسان بعد قد صُوِّرَ وظهرت هيئةُ خَلْقَتِهِ، ولم يكن لـه حقيقة أو ذات أو ماهية، ولم يصفه الله، لم يكن الإنسان شيئاً لا في المكان، ولا في الزمان، كان الإنسان غيباً مستوراً في علم الله وحده، فهو ثابت لـه وجود عقلّي وذهنيّ في علم الغيب قبل أن يزيد الله من تكريمه فيهبه من مشيئته تحقّقاً ووجوداً في الزمان والمكان.

يحضر الحب إلى جانب المعرفة، إذ ينصرف الغريب عن أحبائه الذين عاقرهم الكأس بين الغدران والرياض، إلى حبيبه الله، وينتقل من المنزل الأرضي إلى المنزل الروحي، والإلهي، ومن حب الإنسان الزائل إلى حب الله الباقي.

قد لا يكون التوحيدي صوفيّاً، لكنّ غربته غربة صوفية، فهي ـ كما وصفها ـ إحساس دقيق خفيّ يكاد يكون العدم، إحساس بالفقد والفناء، وَوَصْفُ هذه الغربة (وصفٌ يخفى دونه القلم، ويفنى من ورائه القرطاس، ويَشِلُ عن بجسهِ اللفظ، لأنّه وصفٌ للغريب الذي لا اسم لـه فيُذكر، ولا رسم لـه فيُشْهَر، ولا طيَّ لـه فيُنشر، ولا عُذر لـه فيُعذر، ولا ذنبَ لـه فيُغفَر، ولا عيبَ عنده فيُسْتَر). فيخفى، ويفنى، ويَشِلُ، أفعالْ نقيضة الظهور والحياة والحركة، فهي عدم و(المعدوم عين ثابتة معدومة: ثابتة في وجودها في علم الله القديم، معدومة أي مسلوب عنها الوجود الخارجي في زمان ومكان. والمعدوم لـه وجود عقلي متميز في علم الله) ، ونفي الاسم، والرسم، والذنب، والعذر، والعيب، والطي، والنشر، هو تأكيدٌ لهذا العدم، لا وجود لشيء، ولا لنقيضه، ونفي الحياة هو إثبات للموت، ونفي الوجود هو إثبات للعدم، وربَّما لو تحرّر التوحيدي من قيد الضرورة الفنية، الأدبية، التي تقتضي تغيير الأسلوب، والانتقال من فكرة إلى فكرة أخرى، لظلّ ينفي إلى ما لا نهاية، لأنَّ شعوره بغربته سيلٌ دفّاق لا ينتهي، وقد انتقل من النفي بلا النافية (لا اسم ولا رسم ولا طيّ ولا نشر)، إلى النفي بلم الجازمة (هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه)، و(لم يتزعزع عن مهبِّ أنفاسِه)، وذلك دلالة نفي المستقبل بعد نفي الماضي لتأكيد معنى العدم. ثم انتقل إلى النفي باستخدام أفعال معناها النفي أيضاً: (يسلو) نفي التذكر، و(يغمض) نفي انفتاح العين والرؤيا، و(يقصي) نفي القرب في قوله: (أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيداً في محل قربه، لأن غاية المجهود أن يسلو عن الموجود، ويغمض عن المشهود، ويُقصى عن المعهود)، وقد وصف الدكتور مصطفى ناصف هذا بالقول: (أبو حيان كان مولعاً بالنفي لمخاصمة التوكيد والإثبات) .

في النص تشبيهات، واستعارات، وكنايات، تشبيهات مثل: (أفأنت كالحمار)، (كأنه شن) واستعارات مثل: (محاسن الحدق المراض) و(أكله الخمول) و(مصّه الذبول) و(ينثر الدموع على صحن خده)، فالعيون مريضة، والخمول يأكل، والذبول يمص، والخد صحن، والمعاصي لها سنام، والإنسان الذي يذمُّه التوحيدي لأنّه يرفض النصيحة الصادقة كلب ينبح ويُكشِّر عن أنيابه، فهذه استعارةٌ دافعها الغضب ذاته الذي دفع التوحيدي في صورة سابقة إلى تشبيهه بالحمار، فضلاً عن صور أخرى يُشَخّصُ فيها على سبيل المجاز العقلي: الأيام، والزمان، واللفظ، والمصائب، والقلم، والقرطاس، هي (تحكمت الأيام)، (وشتَّته الزمان والمكان)، و(أتت أحكام المصائب)، (ويخفى القلم)، و(يفنى القرطاس)، و(يشل اللفظ)، وبرغم كثرة هذه الصورة والعناية بصياغتها، فالتوحيدي لم يرسمها لذاتها، لأنّه غلّب غايته الفكرية على غايته الفنية الصِرف، فهدف هذه الصورة في النص هو إيضاح أفكار، ونقل الغضب العارم الذي يغلي في نفسه تجاه الإنسان المغرور المتكبر، وهي صور تدخل في صلب المعنى بل هي عند التوحيدي أداة هامة في التعبير، وتسهم في صنع الدلالة (المعنى)، فالتوحيدي مشغولٌ بالفكرة، ومنتصرٌ للمعاني الذهنية المُترجِمَة لها يحشد قدرته الأدبية لخدمة فكرة الغربة الفلسفية الصوفية.

الغربة في نص (الغريب) معنى متعدد، فالغربة هي البعد عن الوطن، والبيت، والأحبة، وهي الوحدة بلا صديق، ولا حبيب، ولا نسيب، وهي غربة الأفكار، والمشاعر، والمبادئ، وهي الفقر، والحزن، والخوف، فضلاً عن أنّ كل معنى من هذه المعاني قابل لتوليد معان ثوان لا نهاية لها، وقد تحولت غربة التوحيدي من الفقر إلى الجهل، إلى البعد عن الله، يقول د. إحسان عباس: (فقر التوحيديّ إلى المال أصبح فقراً إلى الرحمة، بل إلى المعرفة، بل إلى الوصول الصوفي، وكانت غربته في طبيعته وخُلْقِهِ، وفي قلة المُشَاكل والنظير، فأصبحت غربة النفس العُلْوية في دنيا الطين) ، وهي أيضاً: (غربة الموهبة، وعاقبة التفرد، غربة الذات التي تدرك قيمتها فتفشل في تحقيق الصلة بمن يحيطها، فتسعى إلى تحقيق الصلة بالمطلق، بالأبدي، بالأكوان كلها) .

وليس لفظ الغربة وحده الذي يحمل طاقة إيحائية، ويتعدد معناه، فالوطن قد يكون مكانياً، أو زمانياً، أو انتماءً نفسياً، والألاف أهلاً، أو أحبة، أو أصدقاء،. والكأسُ كاسَ الخمرِ، أو كأسَ المحبة، أو ماضياً جميلاً... إلخ، ما يؤكد دور النثر الصوفي في تغيير مفاهيم نقدية، جامدة كمفهوم (المعنى).

إن توحيد اللفظ والمعنى في النص نتيجة لحرص التوحيدي على أن تكون لغته نقلاً دقيقاً لأفكاره، فاللفظ ليس مجرد أداة توصيل بل تعبير يكاد يناظر الحالة الصوفية (نطق حزنان منقطعاً، وسكت حيران مرتدعاً، وقرب خاضعاً، وبَعُدَ خاشِعاً، وظهرَ ذليلاً، وتوارى عليلاً..)، (طلب واليأس غالب عليه)، و(أمسك والبلاء قاصد إليه)، الخ، وبذلك انتفت ثنائية اللفظ والمعنى، وواكب النص ـ كسائر كتابات التوحيدي ـ النقد القائل بقيام العمل الأدبي على أساس المعنى، مع مراعاة اتساع المعنى الصوفي، وتجاوزه حدود اللفظ في أحيان كثيرة.

يشهد النص على محاولة فن النثر الخروج على تقسيمات النقد الأدبي إلى أنواع محددة، وإنّ (معنى المعنى) هو أهم المفاهيم النقدية التي وجد فيها الصوفيون مخرجاً لغوياً لمحنتهم المتمثلة في عجز اللغة عن وصف رؤاهم.

أولى التوحيدي اهتماماً بالغاً للألفاظ والتراكيب، فالنص عزفٌ توحيدي منفرد على وتر (الغربة)، فيه ترجمة دقيقة لشعورٍ غامض ممتد لا ينتهي، اختار لوصفه ألفاظاً أبرز سماتها الرقة، ودقة الوصف، ودلالتها المشتركة على موضوع واحد هو الغربة (حزن)، و(خوف)، و(يأس) و(حيرة)، و(خضوع)، و(ذل)، و(خيبة)، و(لوعة)، (لَهَفْ، حَزَنْ، ظِنَنْ، بعداء، رائب، مخيلة...) كما اختار تراكيب أبرز سماتها: (الإيجاز، ووفرة المعنى (كالخشونة واللين)، فالخشونة قد تكون جفاءً، أو فرقة، أو خيانة...، واللين وفاء، أو حبا، وكذلك (الذهاب)، و(الانقراض)، (وهواتك الستر)، و(كامنات النفس)، و(عقد السر)، و(العطاء الممدود)... الخ.

كما يتسم أسلوب التوحيدي بغزارة اللفظ، وكثرة الترادف، كوسائل للإبانة والإفصاح، وأمثلة الترادف منها (حظه ونصيبه)، و(مصّه الذبول وحالفه النحول)، و(طمر وسربال)، و(المصائب والنوائب)، و(عطاء ممدود ورفد مرفود)، و(إذا ذكر الحق هجر وإذا دعا إلى الحق زُجِر)، و(إن زار أُغلق دونه الباب وإن استأذن لم يرفع لـه الحجاب)، مع ملاحظة الفروق الدقيقة في المعنى بين الجمل التي تتشابه في معانيها، ما يؤكدُ دقّةً لفظية يتمتع بها أسلوب التوحيدي، وهي دقة تنبع من أهميتها من ذاتها، ومِمَّا تمنحه للنص من ميزة موسيقية عبر السجع والإيقاع، والطباق، فالنص مسجوعٌ كاملاً، وقد كسَر تبدل صيغ الإنشاء والخبر من سكون النص، وكذلك التضاد بالطباق (الخشونة واللين)، و(إدباره وإقباله)، و(غائب وحاضر) و(جاءٍ وذاهب)، و(فائت وآئب)، و(ثقةٍ ورائب)، و(حاربناهم فيك وسالمناهم لك)، و(طيبهم وخبيثهم)، و(سر وعلن)، و(رابح وخاسر)، و(مكانتك إذا أطعت ومهانتك إذا عصيت).

وقد رأى الدكتور عمر الدقاق في هذا الطباق التوحيدي تضادّاً عقليّاً قال عنه (النغمة الموسيقية متعانقة مع التلوين العقلي، كأن يسعى إلى التضاد ليزيد المعنى جلاء والفكرة مضاءً) ، فضلاً عن أنّ التضاد يعكس طبيعة شخصية توحيدية حائرة، وطبيعة إنسانية عامة، كلُّ عاطفةٍ فيها تنطوي على نقيضها.

إنّ اهتمام التوحيدي بتوفير الإيقاع يؤكد تبنيّه النقدي فكرة المساواة بين الشعر والنثر، فالأداء الفني في كلٍّ منهما يحتاج إلى الدرجة ذاتها من الإتقان والجودة، وقد جهدَ هنا لإظهار نثره في صورة النظم الأمر الذي أكّده معظم نقّاد العربية فسمّاه قدامة بن جعفر توسيع مجال البلاغة إلى الكلام، والقول، وعدم تحديده بشعر ونثر.

ولم يهتم التوحيدي بالمعنى واللفظ كلّ منهما على حدة، وحسب، بل وحّد بينهما وجاء نصّهُ (الغريب) تطبيقاً أمثلَ لرأيه النقدي الاستثنائي القائل بالتحام الشكل بالمضمون واتحادهما. فالتوحيدي نادى بعشق المعنى واللفظ معاً، فجاء نصه ابتكاراً لعلاقة اتحاد اللفظ بالمعنى اتحاداً نادراً (لا تهوَ المعنى دون اللفظ، وكُنْ من أصحاب البلاغة والإنشاء في جانب) .

التنكير ظاهرةٌ لفظية بارزة، فالنص مليء بعددٍ من النكرات تستند إلى لفظٍ نكرةٍ رئيس هو (غريب)، لقد نُكِّرت كلمة غريب كثيراً، فوافقتها الصفات التي تتبعها في التنكير مثل (حزنان)، و(منقطع)، و(حيران)، و(مرتدع)، و(خاشع)، و(ذليل)، و(عليل)، و(هائب)، و(خائب).، حتى الألفاظ التابعة للغريب، والتي تخصّه، هي ألفاظ نكرات، مثل: (شن)، و(كِنّ)، و(وطن)، و(أهل)، و(سكن)، و(نديم)، و(كأس)، فالغريب هو إنسان يشعر بغربته وحسب، ومع التوحيدي أصبح الغريب غريباً عن غربته (الغريب من هو في غربته غريب)، وقد لجأ التوحيدي إلى التنكير لكي يُصوّر هذا الحدّ الفاجع من الغربة، لم يكتفِ بالمعاني التي قدّمها التنكير، أو النفي، بل نقل مشاعر الغريب بجمل قصيرة طاغية، ومشحونة بمعاني الألم (جمل قصيرة وعطف منفصل من خلال حرف الواو، تظهر أهمية الرنين الانفعالي والانبهار، وتُذكر بالقضاء والقدر) . (الغريب من كلّه حرقة، وبعضه فرقة، وليله أسف، ونهاره لهف، وغذاؤه حَزَن، وعشاؤُه شجن، وآراؤه ظِنَنْ، وجميعه فِتَنْ، ومَفْرِقُه محنْ، وسرّه علن، وخوفه وطن).

عبّر التوحيدي عن أعمق أغوار ذاته، عن الأحاسيس الغامضة وليدة اليتم، والحاجة، والضياع، والرغبة بالتفوق، والسبق الفني الذي يكون تعويضاً عن فشل في الحياة (في الإشارات الإلهية تخطّى التوحيدي أساليب التعبير المستقرة، المؤطرة ليخلق أسلوبه الخاص، المتدفق الذي يستوعب كافة أساليب النثر العربي لكنّه يتجاوزها أيضاً) ، فلم يشغل الموضوع النفسي الوجودي التوحيدي الفنانَ، عن تقديم فكرته تقديماً أدبيّاً خالصاً، فأساليبه مُنوّعة بين استفهام، ونداء، وتعجب، ونفي، وخطاب، فمن الاستفهام (بأي لسانٍ أحاورك، وبأيِ خُلقٍ أجاورك، وفي أي حقيقة أشاورك، وبأي شيء أداورك)، و(أين أنت عن قريب قد طالت غربته في وطن، وأين أنت عن غريب لا سبيل لـه إلى الأوطان)، و(إلى متى تنخدع، إلى متى تظن أنك رابح، الخ). ومن النداء: (يا هذا)، و(يا أيها السائل)، و(يا ذا الجلال واللهم). ومن التعجب (ما أعجبَ أمراً تراه بعينك، ألهاك عن أمرٍ لا تراه بعقلك)، و(ما أسعد من كان في صدره وديعة الله بالإيمان)، و(ما أسعدك أيها العبد)، و(ما أقسى قلبك)، و(ما أذهبك فيما يُغضبُ عليك ربُّك!)، ومن النفي: لا ينفعُكَ وعظُ، ولا ينجعُ فيك نصح)، و(ولا اسم لـه فيُذكر، ولا طيّ لـه فيُنشر، ولا عُذْرَ لـه فيُعذَر، ولا ذنبَ لـه فيُغفَرْ، الخ).

إنّ هذا التنوع في الأساليب يشفُّ عن مقدرةٍ أدبيةٍ عالية، كما يشفّ عن محاولةٍ ثانية لكسر حدّة الغربة التي يشعر بها التوحيدي بعد المحاولة الأولى حيث تخيّل صديقاً، ووجّه إليه رسالة الغريب، فضلاً عن أنّ هذه الأساليب تُحوّل الغربة إلى أنس، وتوصل الفكرة بأفضل أشكال البلاغة وقد نفى د. مصطفى ناصف عن هذا الأسلوب السهولة أو العبثية في الإنشاء، فقال: (إنّ الذي تظنّه زخرفاً كان مكابدةً واستعلاءً على السهولة والركود، تفنّن أبو حيان من خلال السجع، والجناس، والطباق، والتناقض في التعبير عن القلق والجسارة والعري وتفاوت العلاقة) .

طوّر التوحيدي فنّاً أدبيّاً ظلّ مهملاً طويلاً، هو فن المناجاة، فأضاف إليه من ذاته، ومن الفلسفة، والتصوف، في آنْ معاً (تعمق المناجاة وخرج بها عن المألوف وأعطى لها طابعاً ذاتيّاً قلقاً) ، يؤكد جمال الغيطاني أنّ (التوحيديّ وحّد بين ظاهر النثر وباطنه، بين الأساليب التي تعارف عليها القوم، والمعاني التي لم يطرقها أحد، فأتى بكتابة ذاتية يتوحد فيها الكاتب بما يكتب، لا يخبر عن آخر، ولا ينقل عن أوليّن إنما الكاتب والمكتوب شيء واحد) .

وقد كان تطويره المناجاة في سياق تطويره أنواع النثر وأساليبه، حيث طبع النثر بطابع ذاتي؛ وليد فلسفته، وشكّه، وتساؤله، ودعوته، إلى تحكيم العقل، وذلك بدوافع من تنوع ثقافته التي نهلها من دكان أبيه الورّاق، ومن جمود تقاليد عصره علميّاً، وسياسيّاً، ودينيّاً، وبدافع من حربه ضد الشعوبية والعصبية، ومحاولته بناء عالم مثالي يبنيه الخيالُ بالكمال، وإيمانه بضرورة اللقاء الإنساني بين الأفراد والأمم، وهذه الدوافع هي ذاتها عوامل غربته التي انتهت به إلى الانتحار بإحراق كتبه، في ذروة إحساسه بغربته وغربة أفكاره، وكأنّه أراد عقاب كل من لم يؤمن برسالته.

إنّ نص (الغريب) يقترب كثيراً من النثر الصوفي، فهو نثرٌ جديد يتجاوز قواعد النثر البلاغي الذي يلتزم التزاماً حرفياً بقواعد اللغة والبلاغة والبيان، ويتخذ من موضوعات مختلفة (سياسية واجتماعية ودينية) مجال اهتمام لـه، فالنص سمح لنفسه بالانحراف عن تلك القواعد ليبتكر قواعده الخاصة به في اللغة والبلاغة والبيان، ويتخذ من موضوعات الحياة، والموت، والوجود، والعدم، مجالاً لاهتمامه. ونص (الغريب) شأنه شأن نصوص (الإشارات الإلهية) مرحلة مهمة من مراحل تطور فن النثر العربي، فهي نصوص تسلك طريقاً نحو التصوف.

إنّ الملامح الصوفية في النص أكّدت نزوعاً توحيدياً قوياً نحو التصوف، من خلال أزمته الوجودية التي لخّصها بـ (الغربة داخل الغربة)، ما جعل التوحيدي كاتباً بارزاً، اختطّ لنفسه منهجاً فكرياً وكتابياً مميزاً، وقد كشفت هذه الملامح الصوفية عن أنّ نص (الغريب) يُمَّثلُ نقطةَ تحوّلٍ مهمة في حياة التوحيدي، وفنّه، هي مرحلة النزوع نحو التصوف الذي رأى فيه طريقاً للخلاص.

/ 112