4 ـ (مخاطبة وبشارة وإيذان الوقت)
من كتاب (المواقف والمخاطبات) للنِّفَّري،أبي عبد الله محمد بن عبد الله (... ـ 354 هـ)
يقول النِّفَّري:
أوقفني وقال لي: قُلْ لليل ألا أصبح لن تعود من بعد لأنني أُطِلع الشمس من لدن غابت عن الأرض، وأحبسها أن تسير، وتحرق ما كان يستظلُّ بك وينبت نباتاً لا ماء فيه، وأبدو من كل ناحية فأرعى البهائم نبتك، ويطول نبتي ويَحْسُن وتنفتح عيونه ويروني وأحتج فيكتبون حُجّتي بإيمانهم، ويغرق الجبل الشاهق من قعره بعد أن كانت المياه في أعلاه وهو لا يشرب، وأخفض قعر الماء، وأمدّ الهاجرة، ولا أُعقبها بالزوال، هنالك يجتمعون وأكفئ الأواني كلّها، وترى الطائر يسرح في وِكره، وترى المستريح يشتري السهر بالنوم، ويفتدي الحرب بالدعة .وقال لي: قل للباسطة الممدودة تأهّبي لِحُكمك وتزيّني لمقامك واستري وجهك بما يشف وصاحبي من يسترك بوجهه، فأنتِ وجهي الطالع من كل وجه فاتخذي إيماناً لعهدك، فإذا خرجتِ فادخلي إليّ حتى أُقبّل بين عينيك وأُسرّ إليك ما لا ينبغي أن يعلمه سواك، وأخرج معك إلى الطريق وترين أصحابك كأنهم قلوب بلا أجسام، وإذا استويت على الطريق فقفي فهو قصدك، كذلك يقول الرب أخرجي يمينك وانصبي بها عِلْمَك ولا تنامي ولا تستيقظي حتى آتيك .يا عبدُ قِفْ لي فأنت جسري ومدرجة ذكري عليك أعبر إلى أصحابي وقد نصُّبتك وألقيتُ عليك الكَنَف من الريح وأريد أن أُخرج علمي الذي لم يخرج فأجنّده جُنداً جُنداً ويعبرون عليك ويقفون فيما يليك من دون طريق، وأبدو ولا تدري ما أين، أمن قبلهم أم على مدرجتهم، فإذا رأيتني سِرْتَ وساروا ونصبّتُك على يدي قَمّرَ كل شيء وراءك فمن عبر عليك تلقيتَهُ وحملتَهُ ومن جاز هلك الهلاك كله.يا عبدُ قف في الناموس فقد أوقفتُكَ، وثِبْ إلى ثأر همِّك وَثْبَ السبعِ إلى فريسته على السغَب، وقُمْ فأدْرِك بي واطلبني بقيوميتي فيما تدرك فمن رآني رأى ما لا يظهر ولا يستتر.يا عبد آنَ أوانك فاجمع لي عُصبي إليك واكنز كنوزي بمفاتحي التي آتيتُك واشدْد واشتد فقد أشرفتَ على أشدّك، وأَظهر بين يدي بما أظهرك فيه واذكرني بنعمتي الرحيمة فيحبني من تذكرني عنده.كذلك يقولُ الربُّ إنّي طالعٌ على الأفنية أبتسمُ ويجتمعون إليّ، ويستنصرني الضعيف ويتوكلون كلّهم عليّ وأُخرج نوري يمشي بينهم يُسلّمون عليه ويُسلّم عليهم فلتتنبهين أيتها النائمة إلى قيامك، ولتقومين أيتها القائمة إلى أمامك، فارجمي الدور بنجومك، واثبتي القطب بإصبعك، والبسي رهبانية الحق ولا تنتقبي، إنما الحُكْمُ لكِ وعُودُ البركةِ بيمينك، فذلك أريدُ وأنا على ذلك شهيد، تلك أنوار الله فمن يستضيء بنوره إلا بإذنه، ذلك هو الحق ونبأ لا تنبئك به الظنون، وما يجادل به إلاَّ الجاهلون.كذلك يقول الرب أقبل، ولا تراجع، وأنظم لك القلادة، وأُخرج يدي إلى الأرض، ويروني معك، وأمامك، فابرزي من خدرك فإنني أُطلع عليك الشمس، وخُذي عاقبتك بيمينك، واشتدي كالرياح، وتذرّعي بالرحمة السابقة، ولا تنامين فقد اطلعتُ فجرَكِ وقرُبَ الصباحُ مِنْكِ. ذلك من آيات ربّك، وذلك لنزول عيسى بن مريم من السماء إلى الأرض، وأوانٌ قريبُ يبشِّر به، وإمارةُ للذين أوتوا العلم وهُدى يهدي به الله إليه، وستُنقِذُ كثيراً يجهلون.كذلك يقول الرب إنّما أخبرتُكِ لظهور الأدب فاكشفي البراقع عن وجهك، واركبي الدابّةَ السيّاحة على الأرض، وارفعي قواعدي المدروسة وتحمَّليهم إليّ على يديك، من وافقك على اليمين، ومن خالفك على الشمال، وابتهجي أيتُّها المحزونة وتفسّحي أيتها المكنونة، وتشمّري أثوابك، وارفعي إزارك على عاتقك، إني أنتظرك على كل فجر فانبسطي كالبرِّ والبحر، وارتفعي كالسماء المرتفعة، فإني أرسل النار بين يديكِ، ولا تَذر ولا تستقّر، إنّ في ذلك لآيةً تُظهرُ كلمة الله فيُظهِرُ اللهُ وليَّه في الأرض يتخذ أولياءَ الله، يُبايع لـه المؤمنون بمكة، أولئك أحبّاءُ الله ينصرهم الله وينصرونه، وأولئك هم المستحفظون عدَّة من شهدوا بدراً يعملون، ويصدقون، ثلاثماية وثلاثة عشر أولئك هم الظاهرون.كذلك أوقفني الرب وقال لي قل للشمس أيتها المكتوبة بقلم الرب أخرجي وجهك، وابسطي من أعطافك وسيري حيث ترين فرحك على همّك، وأرسلي القمر بين يديك ولتُحدّق بك النجوم الثابتة، وسيري تحت السحاب واطلعي على قعورِ المياه ولا تغربي في المغرب ولا تطلعي في المشرق، وقفي للظل، إنمّا أنتِ مرحمةُ الرب وقدسُه يُرسِلك على مَنْ يشاء، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، كذلك يُنْزِل الله الوحي، فانقلي أيتها الثاوية واطمئني أيتها المتوارية فقد ألقيت الأزمة وقدَّم الرب بين يديك نجواه.كذلك يقول الرب اطلعي أيتها الشمس المضيئة، فقد سلختُ الليل، وانبسطي على كل شيء. يَنْبُتُ الزرع وتؤتي كُلُّ شجرة أُكُلَها بإذن ربِّها، ويخرج إليك اليتيم فيطول ويجتمع إليك الدعاة، وترين نوري كيف يزهر، فخذي أُهْبَتَكِ أيتها الخارجة وتزودي للسفر، إنما أنت نور الرب قال لـه الرب لتقيم للناس حكماً عادلاً تثبتهم وتركن إليك قلوب المؤمنين ويقوى الضعفاء بك فيدافعون عن أنفسهم ما يخافون.أيتها النائمة هلّمي فاستيقظي وأبشري فقد أُنزِلَت المائدة ونَبَعَت عليها عيون الطعام والشراب وسوف يأتونك فيروني عن يمينك وشمالك ويكونون أعوانَكِ ويغلبون؛ لأنَّ الذي يقاتلهم يقاتلني وأنا الغلوب، وانفسحي يا محصورة فقد أطلق أسرِك وفتحت الأبواب عليك، فتزيّني وزَيّني للشعوب بهائي فقد أُذهِبُ عنك الحزن، وملأتُ قلبك بالفرح، وسوف يصطفون صفّاً واحداً لقدومي وأقدم بغتةً، (فلا تدهشين ولا تتحيرين) فلست أغيب بعد إلاَّ مرةً، ثم أظهر ولا أغيب وترين أوليائي القدماء يقيمون ويفرحون.وقال لي حان حيني وأزّف ميقاتُ ظهوري وسوف أبدو ويجتمع إليّ الضعفاء ويقوونَ بقوتي وأُطعمهم أنا وأسقيهم وترى شكرهم لي، فقم يا نائم، ونم يا قائم. فقد جعلت المصيبة أسر العزاء وأنزلت هداي ونوري وعمودي وآياتي.وقال لي انصب لي الأَسّرة، وافرش لي الأرض بالعمارة، وارفع الستور المسبلة لموافاتي، فإنّي أُخرج وأصحابي معي وأرفع صوتي وتأتي الدعاة فيسترعوني فأحفظهم، وتنزل البركة وتنبت شجرة الغِنى في الأرض ويكون حكمي وحدي، ذلك على المعيار يكون وذلك الذي أريد).النص مزيجٌ من المواقف والمخاطبات، فيه وقفتان وأحد عشر خطاباً، الفقرة الأوّلى، والتاسعة وقفتان، تبدأان بـ أوقفني ، والفقرات الباقية مخاطبات تبدأ بـ (قال) أو (كذلك يقول الرب ).وقد يوحي أسلوب المخاطبة بأنّ الله يخصّ النِّفَّري من عباده، لكنّ الحقيقة هي أنّ المخاطبة تتوجه لعموم العباد، أمّا التخصيص الذي يوحي به النِّفَّري، فهو تخصيص محبة، فبين النِّفَّري والله حب متبادل لا يلبث أن يكبر، ويعم، وتتبادلـه الكائنات والموجودات، فالشمس تحب الأرض، وتشرق عليها بعد كل غروب، حُبَّاً يُوحّدُ المتناقضات، ويُطلعُ الوجودَ مِن العدم، فحين قال النِّفَّري: أُطِلعُ الشمس من لدن غابت عن الأرض حرص على ذكر الغياب لكي يُبرز قيمة الحضور، فطلوع الشمس، وسيرُها وِفق نظامِها الأزليّ، يضمنان استمرار دورة حياة الكون والكائنات (النبات، والبهائم، والطير، والجبل، والصحراء، والإنسان...).فالله خالق الكون ومنظمّهُ، ومانح السلام والفرح والراحة والأبد، والإنسان هو خليفة الله على الأرض، خَلَقَهُ على مثاله (أنتَ وجهي الطالع من كل وجه)، الإنسان هو الحاكم وهو صاحب المقام، والأرض أمانة موضوعة بين يديه، والإنسان العبد جسر الله إلى الإنسانية، وهذا الجسر ينبني بالاتحاد بين العبد والله، وباستخلاف الإنسان في الأرض قد نصبتُكَ وألقيتُ عليك الكنف من الريح ، وعلى الإنسان الوقوف في ناموس الكون، والامتثال للقوانين والتشريعات الإلهية، وإنّ أي خرق ظالم باطل للناموس يقتضي تصحيحاً وانتقاماً يا عبد قف في الناموس، وثِبْ إلى ثأرِ همِّك وثبَ السبع إلى فريسته على السَغَبْ ، دون إهمال سلاح فعّال في معركة تطبيق القانون وإحقاق الحق هو تجنيد العلم أُخرِج علمي الذي لم يخرج فأجنّدّة جنداً جنداً .والله سبحانه القادر ـ وحده ـ على التدخل في نظام الكون، بيده كل شيء، يأمر الشمس بإخراج وجهها، وبَسْطِ أعطافها، وإرسال القمر بين يديها، وتحديق النجوم بها... كلّ هذه وغيرها أعمال يأمر بها الله، لكن على لسان العبد النِّفَّري ، أو المهدي ، ما يشفُّ عن أنّ الله قد يمنح قدرته إلى بعض عباده فيتصرفون بأمره.الإنسان الكامل إله على الأرض، والقوة التي يملكُها هي مرحمة الرب وقدسُه يرسلها على من يشاء، كذلك يُنزل الله الوحي ، فعلى غرار الوحي المُنَزل على الأنبياء، هناك الوحي المنَزل على الأولياء في وقت الضرورة، كما هو الحال في النصف الأول من القرن الرابع الهجري ـ الفترة التي عاش فيها النِّفَّري حيث عرفت ظروفاً سياسية لافتة، أبرزها توالي عدد من الخلفاء على الخلافة العباسية خلال أعوام قليلة، وانتشار وسائل القتل، وثورات القرامطة بسبب الفقر والجوع، وهجومهم على مكة، ونهبهم الكعبة، حتى لقد شبَّه أدونيس الصوفية بالقرمطية (التصوف هو اللاتمّلك في عالم قوامه التملك، القرمطية والصوفية تهدمان كُلٌّ بخصوصيتها، الإسلام السلطوي التقليدي الأولي: تبني مجتمع الفقراء والاشتراكية، والثانية: ترفض الجماعية وتقيم الدخيلاء الذاتية) .يكشفُ سياق النص عن أنّ الليل ، و الشمس و الماء ، و النبات ، و النور ، و الأنثى ، و المهدي كُلّها رموز؛ ما يؤكِّدُ السِمةَ الإشارية الإيحائية لأسلوب النِّفَّري إذ تكثر في النص الصور المجازية برموزِها الواضحة القريبة، ورموزِها المُكثفة خفيّة الدلالة.إنّ أهم غايات الرمز هنا إخفاء الحقيقة، والإشارة إليها من بعيد خوفاً من السلطان الجائر، والرمز هو طريقة التعبير المُثلى التي أراد النِّفَّري بوساطتها وصف رؤياه، ونقل بشارته المثالية؛ وهي أبدية النوع الإنساني بوصفه رمزاً للوجود، والمواكبة بين وجود الله ووجود الإنسان، إنّها فكرة الخلود والديمومة التي ملكت وجدان النِّفَّري، والوجدان الصوفي عامة. فالليل ليس ليل الطبيعة الذي يخلقه الله، بل ليل الظلم والباطل اللذان يصنعهما الإنسان، والشمس شمس الحق والحقيقة والعدل وكرامة الإنسان، والنبات والماء نعيم الله الذي سُخَّر للإنسان، والأنثى هي القوة السياسية التي ستعيد للإنسان كرامته في كون، الأصل فيه تكريم الإنسان، وسيتحقق كل ذلك على يد الإنسان المُخلِّص الذي شاء لـه النِّفَّري، أن يكونَ المهدّي المُنتظر؛ الوجه الآخر للمسيح عيسى بن مريم النبي المُخلّص، إذ يذكره النِّفَّري لتأكيد معنى رمز المرأة، وهو القوة السياسية ابرزي من خِدْرك فإنني أُطلعُ عليك الشمس، وخُذِي عاقبتكِ بيمينك، واشتدّي كالرياح، وتذرّعي بالرحمة السابقة، ولا تنامين فقد أطلعتُ عليك فجركِ وقَرُبَ الصباح منك ذلك من آيات ربّك وذلك لنزول عيسى بن مريم من السماء إلى الأرض وأوان قريب يُبشّر به... .وكان النِّفَّري قد لمّح إلى فكرةِ المهديّة في أحد مواقفهِ موقف جاء وقتي في قولـه: وقال لي: قد جاء وقتي وآنَ لي أن أكشِفَ عن وجهي وأُظهر سبُحاتي، ويتصل نوري بالأفنية وترى عدوّي يحبني، وترى أوليائي يحكمون، فأرفع لهم العروش، وأُعمّر بيوتي الخراب، وتتزين بالزينة الحق، وأجمع الناس على اليُسر فلا يفترقون ولا يذلّون، فأستخرج كنزي، وتحققّ ما أحققتك به من خبري وعدّتي وقرب طلوعي، فإني سوف أطلع وتجتمع حولي النجوم .ثم تحوّل التلميح إلى تصريح في مخاطبة وبشارة وإيذان الوقت حيث ذكر عدد أنصار المهدي بـ (313) رجلاً شهدوا بدراً: إنّ في ذلك لآيةً تُظهِرُ كلمةَ الله فيُظهِر الله وليّهُ في الأرض يتخذ أولياء الله أولياءً يُبايع لـه المؤمنون بمكة فأولئك أحباء الله ينصرهم الله وينصرونه وأولئك هم المستحفظون عدّة من شهدوا بدرا يعملون ويصدقون ثلاثماية وثلاثة عشر أولئك هم الظاهرون .كما ذكر في المقطع الحادي عشر غيبتي المهدي الصُغرى والكُبرى فلا تدهشين ولا تتحيّرين فلستُ أغيب بعد هذه إلاَّ مرّة، ثم أظهر ولا أغيب ، فالنِّفَّري يُحوّل المهديّة من فكرة دينية إلى فلسفة إنسانية شعبية، فلسفةٍ لأحلام الفقراء والمظلومين لوعدهم بالخبز والعدالة، ويؤكد الدكتور مصطفى كامل الشيبي الفهم الاجتماعي الاقتصادي لفكرة المهدية، بدليل (ذكر الشعوب لأول مرّة في تاريخ التشيّع والتصوّف معاً) .هكذا يتوضح البعد الإنساني في كون القضية قضية الضعفاء واليتامى والجائعين والمظلومين؛ فالقوة الثورية التي خاطبها النِّفَّري على امتداد النص، وأيقظها من نومها، وأحياناً من موتها ستصنعُ معجزاتها تنبت الزرع تأتي كل شجرة أكلها بإذن ربَّها ، ويخرج إليك اليتيم ، أنت نور الرب قال لـه الرب لتقيم للناس حكماً عادلاً ، و يقوى الضعفاء بك فيدافعون عن أنفسهم ما يخافون ، و أنزلت المائدة ونبعت عليها عيون الطعام والشراب .وسواءً أكانت الأنثى هي الأرض، أم القوة السياسية التي يطلبها النِّفَّري من جانب الشعب تحريضاً لـه على الثورة، فإنّه يستعين بقوة رمز المرأة لإيصال أفكاره وللإقناع بها، فالمرأة في الصوفية رمزٌ تُخاطبُ الذاتُ الإلهية بوساطة الغزل به، ورمزٌ للحقيقة، وللخلق، وقد كثّف النِّفَّري من الخطاب المُوجّه للأنثى، فطغى على الخطاب المُوجّه للمُذكّر، وبلغَ عدد المرات التي يُخَاطِبُ فيها الأنثى سبعَ مرات، موجودة على التوالي في سبعة مقاطع، هي ـ على التوالي ـ الثاني، والسادس، والسابع، والثامن، والتاسع، والعاشر، والحادي عشر: تأهبي لحكمك وتزيّني لمقامك، واستري وجهكِ) (لتنتبهين أيتها النائمة إلى قيامك، ولتقومين أيتها القائمة إلى أمامك) (البسي رهبانية الحق ولا تنتقبي إنّما الحكم لك ووعود البركة بيمينك). فالتأهب للحكم، والاستتار، والانتباه من النوم، والقيام إلى الأمام، والتسلح بالحق، كُلّها قرائن تُرجّح كون هذه الأنثى قوة سياسية، أو ثورة يجب أن تكون مدروسة واضحة المعالم، وفي ذات الوقت على أصحابها إخفاؤها، بمعنى صونها، وحمايتها إلى أن تغدو قوةً قادرةً على المواجهة وتحقيق الأهداف.إنَّ ثمة علاقة حميمة بين هذه المرأة (الثورة) وأصحابها، فصاحبها الأول النِّفَّري يؤمن بها كما يؤمن الرجل العاشق بالمحبوبة، وكما يؤمن الصوفي بالغيب، فإذا خرجتِ فادخلي إليّ حتى أُقبّل بين عينيك، وأُسرَّ إليك ما لا ينبغي أن يعلمه سواك ، وأصحاب النِّفَّري هم أصحابها، يحبونها، ويؤمنون بها، (وأخرج معك إلى الطريق وترينَ أصحابك كأنّهم قلوبٌ بلا أجسام)، فحُبُهم للثورة حُبٌّ قلبيّ منبعه ومصبُّه، والطريق إليه هو القلب، وأصحاب الثورة قلوبٌ بلا أجسام، أرواح عاشقة مؤمنة ليس للعالم المادي أي ثقل في ميزانهم، والطريق هنا يكفُّ عن أن يكون طريقاً إلى الثورة وحسب، إنّه الطريق إلى الله أيضاً؛ لأنّ من أهداف الثورة الحق والعدل والقيم والمُثل، والله هو مجمع القيم والمثل، وهنا ـ أيضاً ـ تكفّ المرأة عن أن تكون رمزاً للثورة وحسب، فهناك طريق وأصحاب سالكون عليه، فلا شيء يمنع أن تكون الثورة شاملة، فتكون ثورة معرفة فضلاً عن كونها ثورة سياسية، فالأنثى المُخاطَبة ـ إذن ـ هي الثورة، والمعرفة، والحقيقة؛ وهذه المرموزات كلُّها ماهيّاتٌ صوفية شفّافة، على الصوفي سترُها، وإنْ كانت طالعةً من كلِّ وجهٍ؛ لأنَّها مبثوثة في الكون سرّ كون الكائنات، ووجود الموجودات.وبهذه الأفكار يدخل النص في ساحة الممنوع فيخفي، بين سطوره خطاباً نقدّياً إصلاحيّاً بديلاً لمواجهة السلطة بالقوة. يُقدِّم النصُ النثرّ نوعاً أدبيّاً قسيماً للشعر يثبت التطور الذي حققته لغة النثر إذ لم يعد هناك مضمون سابق وشكل لاحق، بل تزامن بين المضمون والشكل في لحظة إبداعية واحدة، يُبدع فيها الحس والفكر، والذائقة الفنية معاً. كما يثبت النص كفاءة النثر في استيعاب قضايا إنسانية كبرى وهي هنا الاشتراكية؛ قضية الفقراء بكل أبعادها.