5 ـ مرصاد عرشي - قضایا النقدیة فی النثر الصوفی نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

قضایا النقدیة فی النثر الصوفی - نسخه متنی

وضحی یونس

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

5 ـ مرصاد عرشي

من كتاب (مجموعة في الحكمة الإلهية) للسهروردي، يحيى بن حبش (549 ـ 587 هـ)

يقول السَهْروردي:

1 ـ التوبة

نادَى منادٍ من الملائكةِ حفَّت من حولِ عرش النور أنْ ـ يا أيُّها التايهون في مهمه البوار. إنَّ أبواب السموات تُفتح في صبيحة كلِ جمعة. طلعت شموسً من مغاربها، فهلمُّوا إلى البابِ الأكبر وحرّكوا الذكر الحكيم وقولوا:

يا آخذ النَّواصي.

بدأتَ فتمِّم، خلقتَ فاهْدِ، قضيتَ فاعفُ، ملكتَ فاغفرْ.

يا واهبَ الحياة حقّاً:

ببابكَ عبدُ من عبادكَ أتى من رجس الهيولى تايباً، أفيرجعُ من روحِك خايباً؟
يا مَنْ غواشي نوره أضاءت الذواتِ الذاكرات، وطوالعُ مواهبهِ زينُ الأرواحِ السَّابحات.

إنَّ نفسْاً طلبَتْكَ فلا تردّها في انقلابِ النَّاكسين، فارحَمْ، وانصُرْ، واعصِمْ، وأنتَ خيرُ العاصمين.

2 ـ يا نور كل نور

إلهنا وإله مبادينا.

يا قيومُ، يا حيّ، يا كلُّ، يا مبدأ الكل.

يا نورَ كلِّ نور، يا فايضَ كل خيرٍ وجود.

خلَّصنا إلى مشاهدِ عالم ربوبيتك.

نجِّنا من قيد الهيولى.

أذقْنا برد عفوكَ وحلاوة مناجاتك...

يا ربَّنا وربَّ كلِ عقلٍ ونفس.

أرْسلْ على قلوبنا رياح رحمتك، وأخرجنا عن هذه القرية الظالمِ أهلُها، وأنزل على أرواحِنا لوامعَ بركاتك، وأفضْ على نفوسنا أنوارَ خيراتِك.

يسِّرَ العروجَ إلى سماء القدس، والاتصال بالرّوحانيين، ومجاورة المعتكفين في حضرةِ الجبروتِ المطمئنين، في غرفات المدينة الروحانية التي هي وراء الوراء...

سبحانَك ما عبدناكَ حقَّ عبادتك، يا من لا يشغله سمعٌ عن سمع.

سبحانَك إنك أنت المُتجلّي بنورِك لعبادِك في أطباق السموات.

3 ـ في الخربة القذرة

لا تُحدِّث نفسَك، إنْ كُنتَ امرأً ذا جدّ بأن تتكئ على سرير الطبعِ راضياً برغدِ عيشةٍ في هذه الخربة القذرة وتمدّ رجليك فتقول: قد أحطتُ من العلوم الحقيقية بشطرِها، ولنفسي عليَّ حقّ، كيف وقد فزتُ بقصَبِ السبْق على أقراني. إنّ هذه خطرةٌ ما أفلح من دام عليها قطّ!

4 ـ انتبه يا مسكين

كلُّ هذه العلومِ صفيرُ سفيرٍ يستيقظك عن رقدةِ الغافلين، وما خُلِقتَ لتنغمس في مهلكك، انتبه يا مسكينُ، وانزعجْ بقوة وارفض أعداءَ الله فيك، واصعدْ إلى آل طاسين لعلّك ترى ربَّك بالمرصاد.

5 ـ نداء الله

أتسمُع منادي الله يناديك وتتصامم؟
قُمْ من مرقدِ طبيعتِكَ واستشرقْ.. لعلَّ نفحةً من الله تتلقَّاك... وإذا عصمتَ فاصبرْ، وإذا شرعتَ فتمّم، وإذا طرحتَ فاصعدْ، وإذا رأيت فاسجد، فلعل بارئَك يناجيك.

6 ـ قرب الموعد

جُلْ ببدنٍ غابتْ نفسُه، واعتصمْ بكلمةٍ تُقدّسُك، وقلْ لقومك خذوا حذركَم واتقوا، فقد قَرُبَ الموعد، فإن لم تنتهوا فإنَ عذاب الله آت.

7 ـ درب الأزل

أما والعاديات لفرط شوقٍ دارتْ على أرجاء الكون، ونفوس قصدْنَ بقوةٍ إلى ذُرَى العرش ـ إنَّ إنساناً لم يحاربْ بني جِنٍّ أوَوْا إلى قُلَّةِ طَودٍ منعوا حقَّ الله عزّ وجلّ لن يعبُر عن سكته إلى درب الأزل ولن يصل إلى ساحل العزة ولعلَّ موجاً هيَّجه، العاصفات سراعاً تختطفه، فيغرق في تيَّار الغَسَق، حيث لا عينٌ تطرِف، ولا قرينٌ ذو ودٍّ يسامرِ، فهناك يلاقيه مَقْتُ السلاطة في هيبةٍ لا معبر عنها للعابرين.

8 ـ كوة الكبرياء

إنَّ سكينةً من رحمةِ الله لن تلحقَ إلا نفساً فارقت أطلال ذوي إفْكٍ عَتوْا، ورنَت ووقفتْ على رصدٍ فرأت طيوراً صافَّات، حاضرات، واقفاتٍ عند كُوّة الكبرياء نادت بخفيِّ ندائها:

يا منجي الهَلْكي.

ويا غيّاثَ من استغاث.

إنَّ ذاتاً هبطت فاغْتربت، وتذكَّرتْ فاضطربَتْ فسارعتْ فمنعت... فهل إلى وصول من سبيل؟

9 ـ شراب الأبرار

لا تحسبنَّ أنّ السعادة على نوعٍ واحد بل للمقرّبين من العلماء، البالغين في المَلَكات الشريفة لذّات عظيمة، ولأصحاب اليمين أيضاً لذّاتٌ دونها سيّما على تقدير وجود المُثُل التخيلية، فلهم وقفةٌ في العالم الفلكي معها دون الوصول إلى رتبة السابقين.

*والسابقون* *أولئك هم المقرَّبون* ، وقد يخالط لذّاتِ المتوسطين شوبٌ من لذّات المقرَّبين كما يشير إليه حيث قال تبارك وتعالى في شراب الأبرار إنه *من رحيق مختوم* *ومزاجه من تسنيم* ، *عيناً يشربُ بها المقرّبون* ، وهؤلاء لهم العروجُ إلى مشاهدة الواحدِ الحق، مستغرقين فيه، والأبرار على تقدير وجودِ المثل التخيلية يتلذذون بأصباغٍ تخيلية فلكية، وطيور وحُورٍ عين وذهبٍ وفضةٍ وغيرها أحسن ممّا عندنا وأشرف.

نصوص السهروردي هي وصايا إلهية، ورد بعضُها على ألسنة ملائكة محيطة بعرش النور (نادى منادٍ من ملائكة حفّت من حول عرشِ النور)، ووردَ بعضُها الآخر على لسان السهروردي (لا تُحدِّث نفسَكَ إن كُنتَ أمرأً ذا جد)، وموضوع هذه الوصايا هو تبشيرٌ بفلسفة النور الإشراقية، فهي المعرفة الحقيقية، حسب السهروردي، ومبدأ هذه الفلسفة الصوفية الإشراقية، هو أنّ الله تعالى هو نور الأنوار، ومصدر جميع الأنوار التي هي عماد العالم الروحي والعقلي، والنور في الفلسفة السهروردية هو طاقة تبثُّ الوجود في الكائنات، فما الوجود إلاَّ إشراق إلهي، أو هو فيضُ من نور الله؛ ولذلك ألحقَ السهروردي النور بألفاظه وعباراته، سواء منها الأسماء والأفعال (عرش النور)؛ و(غواشي نوره)، و(أضاءت)، و(طلعت شمسٌ)، و(يا نور كل نور)، و(لوامع بركاتك)، و(أنوار خيراتك)، و(المتجلّي بنورك)، (واستشرق). والنور الذي يتحدث عنه السهروردي هو نورٌ أصلٌ، إشراقٌ نور الوجودِ في ظُلمةِ العدم (طلعتْ شمسٌ من مغاربها)، فهو حضورٌ من غيابها في المغرب، والمغرب في الصوفية الإشراقية هو عالم الظلام، والنور الموصوف بأنّه هو الوجود، هو الخُلق، وهو هداية التائهين في قفرِ الهلاك، ويقتضي العبادة والذكر.

الأساس القرآني لمذهب الإشراق هو قوله تعالى: *الله نورُ السماواتِ والأرضِ مَثَلُ نوره كمشكاةٍ فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجةُ كأنّها كوكبٌ دُرّيٌ يُوقَدُ من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقية ولا غربية يكادُ زيتُها يُضيءُ ولو لم يمسسهُ نارٌ، نورٌ على نورٍ يهدي الله لنورِه من يشاء ويضربُ اللهُ الأمثالَ للناس واللهُ بكلّ شيء عليم) . والنور اسم من أسماء الله، وغاية هذا المذهب هي ارتقاء الإنسان للاتصال بالنور، فالوجود نور صادر عن الله، عائد إليه، وهذا الارتقاء في النصوص هو المعراج، وهو موهبة إلهية يطلبُ السهروردي من الله تيسيرها، (ربِّ يسّر العروج إلى سماء القدس)، و(يا من غواشي نوره أضاءت الذوات الذاكرات، وطوالع مواهبه زين الأرواح السابحات)، و(إنّ نفساً طلبتك، فلا تردّها في انقلاب الناكسين، فارحم وانصر، واعصم، وأنت خير العاصمين).

ويُوفّر السهروردي لمعراجه عنصريه الرئيسين؛ وهما: التخلّص من العناصر الأرضية (التراب، والماء، والنار، والهواء)، والهداية إلى شرائع الأنبياء، فهو يؤكد ـ إذن ـ شرط المعراج، وهو خلع الجسد، ورفض الحواس، فيتجرد من المادة، ويدخل في ذاته الحقيقية، ويرى بهاءً وسناءً وجمالاً، ويعلم أنّه جزء لا يتجزأ من الله، وأنّ بإمكانه الاتحاد بمن انفصل عنه ذات وقت. (إذا عصمتَ فاصبر، وإذا شرعتَ فتمّم، وإذا طرحتَ فاصعد، وإذا رأيتَ فاسجد،... وقل لقومك خذوا واتقوا، فقد قَرُبَ الموعد، فإن لم تنتهوا فإنّ عذاب الله آتٍ). فالعارج يصبر عن الاعتصام عن الزلل، ويطرح طبيعته المادية، ويبدأ برحلة المعراج، فإذا وصل، ورأى الله سجدَ ثم عاد، وهو يحمل وصايا الأولياء المنقولة عن وصايا الأنبياء، بغاية الهداية إلى المعرفة.

إنّ الوظيفة الأساسية لمعراج السهروردي هي التحقّق والتيقُّن من الرؤية التي قد تحدث في اليقظة أو في المنام، وهي الإشراق أي الكشف بظهور الأنوار العقلية، ولمعانها، وفيضانها، بإشراقها على الأنفس عند تجرّدِها.

يُقِّدم السهروردي وصاياه الصوفية تقديماً منطقياً فلسفياً، سواء في ترتيب الأفكار أو في أسلوب التعبير عنها؛ ففي ترتيب الأفكار الخلق مرحلة أولى، وعبادة الخالق مرحلة ثانية، وتتميم الغاية من الخلق ـ وهي المعرفة ـ مرحلة ثالثة. (يا آخذ النواصي، بدأتَ فتمّم، خلقتً فاهدِ، ببابكَ عبدٌ من عبادك، أتى من رجس الهيولى تايباً، أفيرجعُ من روحك خايباً؟)، وفي مرحلةٍ رابعة يُميّز السهروردي بين العلم والمعرفة، ويدعو إلى عدم الاكتفاء بالعلوم الدنيوية، وإلى طلب المعرفة المنتمية إلى آل طاسين: (لا تُحدِّث نفسَك... فتقول: قد أحطتُ من العلوم الحقيقية بشطرِها... إنّ هذه خطرةٌ ما أفلحَ من دام عليها قطّ! كلُّ هذه العلومِ صفيرُ سفيرٍ... اصعدْ إلى آل طاسين...) فمعرفة آل طاسين هي معرفة أهل بيت النبي *، لأنّ آل طاسين هم الجواهر العقلية، والنفوس الفلكية، فإذا تيسّر للسالك الصعود والاتصال بالجواهر العقلية فهو قد اتصل بالنفوس الكاملة من أهل بيت النبوة وقول السهروردي (استشرق) هو دعوة إلى طلب المعرفة عن طريق المذهب الإشراقي، والإشراق في اللغة هو السنا، والبهاء، وطلوع الشمس، وفي عالم الحس هو بهاء الصبح وأول بريق النجم، وفي عالم الروح هو لحظة تجلّي المعرفة، ففي النص ذوات وأرواح ونفوس مغتربة، وتائهة في (مهمه البوار) ترغب بالتطهير من رجس المادة، والتوبة عن ذنوبها، ونيل عفو الله وغفرانه، والاهتداء إلى الحقيقة، وهذا كُلّه ينتمي إلى عالم الشعور الذي اهتم به التصوف بوجهٍ عام، وفلسفة الإشراق بوجه خاص ففلسفة الإشراق هي عمل الوجدان في الكشف عن الحقيقة إشراقياً حيث يمكن الوصول إليها بإشراقٍ قلبيّ وفيضٍ روحي.

يُعبّر السهروردي عن القضية المعرفية المُتضمَّنة في وصاياه بالقول (إنكَ أنتَ المتجلّي بنورك لعبادك)، و(إنّ نفساً طلبتك فلا تردّها) فالله يتجلى بنوره لعباده، فلتطلب نفوسهم معرفته، والنفوس التي تطلب معرفة الله شقّت لنفسها طريق الإيمان، طريق العروج إلى الله، بهداية طيورٍ صافاتٍ حاضرات واقفات، هي النفوس المؤمنة، والذوات التي هبطت من السماء إلى الأرض، فهي غريبة تعاني ألوان العذاب والاضطراب، وتحلم بالوصول، أمّا تلك النفوس التي لا تُوجِّهُ إدراكها الباطني التوجيه الصحيح، فتظل بعيدة عن الله، وعقابها الغرق في بحر الظلمة، وعلى هذا العقاب يقسم السهروردي بالأفلاك التي تتحرك دائرةً حول عالم الكون والفساد، كما يقسم بنفوس الأولياء التي قصدت ذرى العرش الإلهي (أما والعاديات لفرطِ شوقٍ دارت على أرجاء الكون، ونفوس قصدن بقوةٍ إلى ذُرى العرش ـ إنَّ إنساناً لم يُحارب بني جِنٍّ أووا إلى قٌلّة طودٍ منعوا حقّ الله عزّ وجل لن يعبر إلى درب الأزل ولن يصل إلى ساحل العزّة... فيغرق في تيار الغَسَق).

الظلم الكوني، وهو حبس الروح في رجس الهيولى وقيدِها، ليس الظلم الوحيد الذي يقع على الإنسان، فهناك ظلمٌ آخر هو ظلم الإنسان للإنسان *أخرِجنا من هذه القريةِ الظالم أهلها*، وينجلي هذا الظلم إذا تذكرنا أنّ عصر السهروردي عصر حروب صليبية على الصعيد السياسي، ينعكس على حياة الناس، هناك ظلم، وظلام في (مهمه البوار) في قفر الهلاك، يؤكد هذا التفسير أنّ السهروردي يطلب من الله النصر إلى جانب الرحمة والعصمة، النصر الديني والأخلاقي المقابل للسيطرة السياسية والمذهبية، ولعلّ أبرز أشكال هذا النصر الديني، هو الخلاص الصوفي المعرفي، في بدايات القرن السادس الهجري التي عاش خلالها السهروردي وهي مرحلة إمارات منفصلة ضعيفة، وأطماع أجنبية، وحروب صليبية.

أمّا في أسلوب التعبير فرمز النور أساسٌ في بناء الفلسفة الإشراقية، وهو الوجه الثاني لرمزٍ كامن هو الظلمة، إنهما رمزان متلازمان فكريّاً ولغويّاً، فحدوث النور يفترض أنّ ظلمةً سبقته، وإذا أحصينا ألفاظ النور وتراكيبه، وقابلناها بعبارات الظلمة، فإننا سنجدُ سبعَ عبارات نور صريحة، مقابل ثلاث عبارات (ظلمة) تتخفى وراء الكناية البيانية، فعرش النور يقابله (مهمه البوار)؛ أي قفر الهلاك الذي ينطوي على معنى الظلمة، و(طلعت شموس) يقابلها (من مغاربها)، و(غواشي نوره أضاءت) و(يا نور كل نور) يقابلها ظلمة مستورة، فالإضاءة ـ حتماً ـ تكون للظلمة، لكن سرعان ما تتكشف هذه الظلمة في تعبير (قيد الهيولى) الذي يتحطم بتجلّي نور الله، وأنوار خيراته، ولوامع بركاته.

إنّ كلمتي (النور) و(الظلمة) كلمتان تتحولان، فالنور يدور في فلك الروح، والعقل، والنفس، والمعرفة، والله، بينما الظلمة حبيسة المادة، لكنّ مدلولات النور طغت على مدلولات الظلمة، فالنور يغشى الظلمة، ومن تحولات كلمة النور تحولات ظاهرية إلى (شموس، وأضاءت ولوامع، وأنوار...)، وتحولات باطنية إلى (المعرفة) و(الخلاص) و(السعادة)... وهكذا فاللغة هي في خدمة النور، وكذلك السمة الأدبية العفوية للنصوص، وكذلك الصور ذات الطابع الأسطوري والخرافي أحياناً، والتي تتسم غالباً بتشخيص الطبيعة، وإسقاط العالم النفسي الإنساني على العالم الطبيعي، وعلى التصورات الدينية: (نادى منادٍ من الملائكة)، و(أبواب السماء تُفتح)، و(طلعت شموس)، و(الأرواح السابحات) و(رياح الرحمة)، و(لوامع بركاتك)، و(أنوار خيراتك)، و(غرفات المدينة الروحانية)، و(ساحل العزة) و(درب الأزل). فهذه صورة رمزية ترسمها ريشةٌ صوفية تغرفُ من أصولٍ كامنة في الثقافة الإسلامية، وهذه الصور المركبة من عناصر محسوسة أحياناً، رُسِمَت لتحاكي حالة معرفية، هي نتاج التجربة الروحية الإشراقية، وهي في نظر الحكماء الإشراقيين رؤى صادقة وبمنزلة وحي، فالخيال مصدر الوحي المعرفي الإشراقي.

وصايا السهروردي هي مناجيات لا تخلو من خطابة، ووعظ، في أساليب خبرية وإنشائية؛ خبرية أبرزها (التوكيد) (إنّ أبواب السماء تُفتح في صبيحة كل جمعة)، و(إنّ نفساً طلبتك) و(إنك أنت المتجلّي بنورك لعبادك)، و(كل هذه العلوم صفيرُ سفير)، و(إنّ سكينةً...)، و(إنّ ذاتاً...)، وإنشائية: كالنداء (يا أيها التايهون، ويا آخذ النواصي، ويا واهب الحياة...)، والأمر: (هلمّوا، وحركوّا، وقولوا، وتمّم، واهدِ، واعطف، واغفر، وارحم، وانصر...)، والنهي (لا تُحدّث نفسك، ولا تردّها...).

كل ذلك يعكس شخصية حكيم زاهد لا يمتلكُ الأفكار وحسب، بل يمتلك أيضاً أسلوباً جميلاً عذباً، في وصف مشاعر حب الله والشوق إلى الوصول إليه، ومشاعر السخط على رضا الناس بما حصّلوا من علوم الدنيا، ومشاعر الاستنكار والاستغراب من الذين يصمّون آذانهم عند نداء ربهم، ومشاعر الحزن على الذين لم يُحسنوا توظيف إدراكاتهم الباطنة، والحنين إلى مصدر النور (الذات الإلهية).

جسّد السهروردي المجرّد، وشخَّص الطبيعة؛ فـ (رياح الرحمة، وأنوار الخير، ولوامع البركة، وسرير الطبع) هي صور استعارية، و(الخربة القذرة) رمزٌ للدنيا الفانية، و(تمدّ رجليك) كناية عن الارتياح لتحصيل الإنسان العلم، و(مرقد طبيعتك) رمزٌ لفطرة الإنسان قبل أن يختار لنفسه مذهباً أو فلسفةً، و(يحارب بني جنة أووا إلى قُلّةِ طود) استعارة، و(درب الأزل) و(ساحل العزة) كلاهما استعارتان رمزيتان، وكذلك تيار الغَسَق وهو بحر الظلمة، والطيور الصافّات هي رمز الطيور التي تنزل من السماء، لتهدي الصوفي إلى طريق العروج.

إنّ هذه النصوص القصيرة، بما فيها من تفرّد في الرؤية، هي أقرب نصوص مجموعة الحكم الإلهية إلى الصياغة الأدبية، والفنية العفوية النابعة من طبعٍ تأليفي، يملكه السهروردي الكاتب الذي يُوظِّفُ (السجع) بين (تايباً) و(خايباً)، وبين (الذاكرات) و(السابحات)، وبين (الناكسين) و(العاصمين)...، ويُوظّف التشابه والتقسيم في (بدأتَ فتمّم، وخلقتَ، فاهْدِ، وقضيتَ فاعفُ، وملكتَ فاغفرْ)، و(إذا عصمتَ فاصبر، وإذا شرعتَ فتمم، وإذا طرحتَ فاصعدْ، وإذا رأيت فاسجُد)، (وحيث لا عين باصرة تطرف، ولا قرينٌ ذو ودٍّ يُسامِر، هبطت فاغتربت، وتذكّرتَ فاضطربت...).

وظَّفَ السهروردي تنّوع الأساليب لخدمة الوحدة الفكرية والفنية، لتكونَ أبلغ تعبير عن وحدانية الذات الإلهية وكمالها، وأهم أشكال هذه الوحدة هي ائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف الألفاظ مع بعضها، وائتلاف المعاني أيضاً، (أيها التائهون في مهمه البوار) (يا من غواشي نوره أضاءت الذوات الذاكرات، وطوالع مواهبه زينُ الأرواح السابحات)...، والتناظر حيث الجمل أجزاء متساوية في حجمها وطريقة صياغتها (بدأتَ فتمّم، خلقتَ فاهدِ، قضيتَ فاعفُ، ملكت فاغفر...). فضلاً عن التدرّج والتطور وحسن الانتقال.

كان السهروردي حكيماً إشراقياً، وفيلسوفاً صوفيّاً؛ إذ جمع بين منهج النظر الفلسفي ومنهج الذوق الصوفي، وتأثرت كتاباته الأدبية بطابع المنطق والفلسفة، كما في قوله: (يا كُلّ..، يا مبدأَ الكلّ، رجس الهيولى، يسّر العروج إلى سماء القدس، والاتصال بالروحانيين، ومجاورة المعتكفين، في حضرة الجبروت، في غرفات المدينة الروحانية التي هي وراء الوراء) (مرقد طبيعتك).

وعُرِفَ السهروردي فيلسوفاً ولم يُعرف أديباً برغم أنّه نظم الشعر، وكتب القصص الرمزية، التي كان دافعه الأهم إلى تأليفها نشر الأفكار الاستشراقية، وإنقاذ المجتمع، وكشف الحقائق الكونية عن طريق الحكمة، فالحكمة السهروردية رؤية داخلية، تُقدِّم معرفةً بكيفية عودة الروح الإنسانية الغريبة في الأرض إلى منزلها الأول في السماء، وهذه مهمة الحكيم الإلهي، فهو نبيٌّ باطني ـ في رأيه ـ وهو الرأي الذي تسبّب بإصدار قرار تكفير السهروردي وسجنه، وقتله.

/ 112