2 ـ قضية المعرفة
المعرفة قضية عامة، وهي أنواع متعددة، كالمعرفة العلمية، والمعرفة البديهية، والمعرفة الميتافيزيقية، وأنواع أخرى، وقد ابتكر الصوفيون معرفة خاصة بهم هي معرفة الله، ويتم تحصيل هذه المعرفة تقرّباً من الله في تجربة ذوقية، ومن البديهي أنّ أنواع المعرفة الأخرى ـ عدا الصوفية ـ كانت موضع إهمال الصوفييّن؛ لأنّ امتلاكها يحول دون عيش التجربة الصوفية الروحية الذوقية، والمعرفة الصوفية هي نوع آخر غير المعرفة العقلية، التي قال بها فلاسفة المسلمين ووصفوها بالإيجابية، بينما وصفوا المعرفة الصوفية بالسلبية، لأنها تعتمد ـ في أحد جوانبها ـ على الخيال الذي ينظرون إليه نظرة أخلاقية، فهم (يضعون المعرفة الصوفية تحت رقابة مُشدّدة من العقل أو الفكر، ذلك أنّ نشاط المخيّلة عندهم يرتبط بالقوة النزوعية في الإنسان، وهي مجموع الغرائز والانفعالات المحرّكة للسلوك الإنساني عامة) ، وفي هذا تعارض واضح بين الخيال والعقل، نجده في الفلسفة ولا نجده في الصوفية.يُفرّق الصوفيون بين العلم المألوف عند الناس، وهو العلم الدنيوي المُكتَسب والمُلقّن، والمعرفة الصوفية التي هي علم الحقائق، وهو علم موهوب، والعلماء وسائر المؤمنين من زاهدين وعابدين يحرصون على الوصول إلى الجنة، بينما العارف ـ وحده ـ يحرص على الوصول إلى رب الجنّة، و يُفرّق الصوفيون ـ أيضاً بين العلم العام، والعلم الكشفي للغة، أي قراءة باطنها العميق؛ ففي العلم اللغوي الوضعي دلالة لغوية ثابتة للمدلول، وفي العلم الكشفي دلالات لا متناهية متحرّكة وخالقة ومتجدّدة، وهذا ما يحدث مع الصوفي العارف.إنّ الطريق إلى معرفة الله يمر بالقلب، يُؤثَرُ عن المسيح قوله: ( لا تجرحوا قلب الإنسان فهو مثوى الله)، وهذا القلب المدرك لله يُسميّه الصوفيون (النفس الناطقة) و(عين الفؤاد) و(مقلة القلب) و(عين البصيرة)، فالقلب هو المرآة التي تنعكس فيها صورة الله، وتشرق، ولكن ليست أية مرآة تصلح، لابُدّ أن تكون مرآة في غاية الصفاء، مرآة متجردة عن الذات البشرية، ورغباتها، وأدرانها، فالمعرفة الصوفية، معرفة قلبية لا عقلية، والصوفيون يرون الله بقلوبهم الصامتة، لأنّ المعرفة الصوفية أبعد عن اللغة والكلام يرى أدونيس أنّ (المعرفة حالٌ لا ثبات لها، أي لا نهاية لها، وهي معرفة ترفض المسبق، والجاهز والمغلق، معرفة تشعر أنها ما تزال ضيقة بقدر ما تتسع، وكلما ظننّا أنّنا اقتربنا بها من الطمأنينة ازددنا حيرة) ، فالشطح الصوفي أرقى تجليات المعرفة، لكنّ الشطح لا يمكن بلوغه إلاّ بمعاناة حال السُكر، ففيه يتم الكشف والمشاهدة.الكشف درجة ثانية بعد درجة الوحي، والمعرفة الكشفية تتحصّل بزوال حجب قد تقوم بين القلب والإنسان الصوفي، وبين الله تعالى كحجاب النفس، أو الشيطان، أو الدنيا، أو الهوى، وعلى الرغم من اتفاق الصوفيين على الكشف الذي هو معرفة الله، نجد بينهم اختلافات في وسائل تحقيق هذه المعرفة، فها هو ذا ابن عربي (يعيد حصول هذه المعرفة إلى الخيال أعظم قوة خلقها الله في الإنسان، لأنّ الخيال بدء التجلي، ففي الخيال جزءٌ إلهي هو الرؤيا ، وفي أنواع الرؤيا ما يُسمى بالمُبشِّرات، وقد وصفها الرسول * بأنها جزء من النبوة) .على الرغم من اعتماد حصول المعرفة الصوفية على الذوق فهي ليست عفوية، ولا مباشرة إنّ تحصيلها يشترط آليّةً مُعقّدة، ومراحل طويلة يخوض فيها الصوفي السالك أحوالاً لا تُحصى، ولا تُوصف، على الرغم من تشابهها في تجارب الصوفيين، ونظرياتهم، فهذا تشابه لا ينفي خصوصية في التجربة والنظرية من صوفي إلى آخر، فالصوفية مقامات، ولكل مقام شروط وأحكام يجب أن يستوفيها الصوفي، حتى يتم لـه الانتقال من المقام الذي هو فيه، إلى مقام آخر عن طريق التطلّب، والتكلّف، والتصرّف، والرياضة إلى أن يصل إلى الأحوال الصوفية، فيتقلب بين أحوال كالخوف، والرجاء، والقبض، والبسط، والهيبة، والأنس، والتواجد، والوجد، والوجود، والجمع، والفرق، وجمع الجمع، والفناء، والبقاء، والغيبة، والحضور، والذوق، والشُرب، والصحو، والسكر، والمحو، والإثبات، والستر، والتجلي، والمحاضرة، والمكاشفة، والمشاهدة، في ظل لوائح، وطوالع، ولوامع، وبواده، وهجوم، وتلوين، وتمكين، وقُرب، وبُعد، وشريعة، وحقيقة، وأنفاس، وخواطر، ولطائف، وأسرار، وأحوال أخرى كثيرة... إلى أن يبلغ جانباً من مقام المعرفة، لا المعرفة كلها، وهذا التعدد في الأحوال ذات الوجوه اللغوية ما بين صيغ منتهى جموع، ومصادر، وبيان، وبديع، هو غنى ورحابة في عالم لامتناه من الغنى، والرحابة، وقد عبّر النَّفَّري عن ذلك فقال: (كُلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) وقال الشبلي: (أول المعرفة لله تعالى وآخرها ما لا نهاية له) ، ويقول بابا طاهر: (حقيقة المعرفة العجز عن المعرفة) ومعرفة الله هي معرفة قلبية تعتمد على الحدس، والإلهام، وهما نور وهبة من الله، تتداخل نظرية المعرفة مع نظرية الحب، وقد شُغِلَ المتصوفة طويلاً بمحاولة الإجابة عن السؤال: أيهما أسبق، الحب، أم المعرفة؟ وهل تنشأ المعرفة عن الحب، أم أنّ الحب ينشأ عن المعرفة؟بعض الصوفيّين يرى أنهما أزليّان، مُنِحَتهما الروح معاً قبل أن تهبط إلى البدن، وبعضهم يرى أنّ المعرفة تسبق الحب، ولعلّ متصوفي القرون الهجرية الأولى كانوا يرون أنّ الحب يسبق المعرفة كما حدث مع رابعة العدوية، وآخرين، فمن المعروف أنّ رابعة أحبّت الله وكانت في منأى عنه إلى أن سلكت إليه طريقاً شاقاً وطويلاً.المعرفة، والحب في الصوفية، وجهان لحقيقة واحدة؛ ففي الحكمة الخامسة من (فصوص الحِكَم) لابن عربي، والمعنونة بـ (حكمة مهيّمية في كلمة إبراهيمية)، ومهيّمية من الهيام، وهو الإفراط في العشق ، وإبراهيمية لأن النبي إبراهيم عليه السلام هو النبي الذي اتخذه الله سبحانه خليلاً لـه، في هذه الحكمة ميّزَ ابن عربي بين ثلاث درجات للمعرفة يتطور فيها الذوق الصوفي المتجه نحو إدراك الحق، في الدرجة الأولى ينكشف للسالك معنى الألوهية عن طريق النظر في صفات العالم الذي يتخذه الصوفي دليلاً على وجود الحق. وفي الدرجة الثانية ينكشف أنّ الحق عين الدليل على نفسه لأنّ العالم لا وجود لـه إلا به، وفي الدرجة الثالثة ينكشف لـه أنّ كل شيء هو في الحقيقة عين الآخر، وهذه وحدة الوجود .المعرفة الصوفية معرفة قلبية، تعتمد على الحدس، والإشراق، والإلهام، أما وقوع الاختلاف بين التجارب الصوفية، وتباين المعارف التي يتوصلون إليها، فيعود إلى كون المعرفة الصوفية ذاتها بغير حدود، وبغير نهاية. ويظل موضوع المعرفة غيباً بعيداً عن كل إحاطة، ومن أجل ذلك كانت أدوات الصوفيين في مقاربة هذه المعرفة هي الصورة، والرمز، والإشارة، وفي هذه المنطقة من الغيب غير المكشوف، يرى أدونيس جمالاً وحقيقة يصفها بقوله: (هذا الغيب الحضور هو مدى الكشف الذي تتأسس عليه جمالية التصوف، وقوامها أمران؛ الأول: أنّ محاولة الكشف عن الغيب لا توصل إلاّ إلى مزيد من الحاجة إليها والثاني: أنّ تجربة الكشف تفترض تعبيراً خارج العقل والمنطق) .إنّ التباين القائم بين الله الخالق والإنسان المخلوق، هو الذي استدعى موضوع المعرفة؛ فثنائية الله والإنسان هي الجدلية التي ولّدت المعرفة الصوفية، وجعلت أهم غاياتها نشدان الوحدة بين الإنسان والله، عن طريق الكمال الإنساني، هذا الطريق الذي أصبح نظرية متكاملة عند ابن عربي، والذي سمّاه علم إلحاق الإنسان الكامل بربه ، وعند الجيلي الذي سمّاه (الإنسان الكامل)، وهذا الكمال، وإلحاق الإنسان بالله لن يكونا إلاّ بالمعرفة، عبر علاقة الضدّية التي تقوم على التباين والمشابهة في آن معاً بين الله والإنسان. وصفها الدكتور نصر حامد أبو زيد بقوله: (هناك طريقان وغايتان: طريق الرب وغايته الإنسان، والذي تكتمل به دائرة الوجود وجودّياً ومعرفياً، والطريق الآخر هو طريق العبد، وغايته الوصول إلى ربّه) .أداة المعرفة الصوفية هي القلب، فهو حسب الصوفية موطن الروح، والروح الإنساني الكامل هو خليفة الله في الأرض، وهذا القلب الروح هو موضع التجليات الإلهية التي هي مادة المعرفة الصوفية،والتي تتنزل على قلوب العارفين، فتمنحهم نعماً كثيرة؛ منها تأويل الكون، واكتشاف أسراره وحقائقه. يؤكد ابن عربي في إحدى حكمه وهي (حكمة قلبية في كلمة شعيبية) أنّ أداة تحصيل المعرفة هي القلب، فالقلب هو مركز إدراك، وتأمل، وذوق، والروح رديفته هي مركز العاطفة والحب، وبهما معاً يسلك الصوفي طريقه نحو معرفة الله، والمعرفة القلبية محور الإيمان الصوفي، وفي ضوئها تُفسّر كل القضايا العقيدية، حتى البعث لا يغدو يوم قيامة الجسد من الموت، وحسب، بل يوم قيامة الروح من الحياة، وعودة النفس الجزئية الإنسانية إلى النفس الكلية الإلهية عن طريق معرفتها والسير باتجاه الوحدة معها.يؤمن الصوفيون بأنّ الوجود الإنساني أبعد من المادة، ويؤمنون بالغيب، وبإمكانية الاتصال بعالم الغيب عن طريق القلب والنفس والروح، لا عن طريق العقل والجسد والحس، والإنسان العارف المؤمن الطاهر، يمكن أن تفيض على نفسه، من العالم الأعلى، معانٍ وحقائق يخصّه بها الله سبحانه وتعالى، فالنفس الصافية الطاهرة المتحررّة مصقولة كمرآة، تتلقى الصور من الغيب، بعد أن تتصل به، ويُحدد العرفاء لهذا الاتصال شروطاً يجب أن تتوافر في النفس كالتوجه الكامل إلى الغيب والصفاء من الكدورات، عندئذ يمكن الاتصال بالعقل الفعّال، أو الروح القدس، أو الله، وهذه هي المعرفة الحقيقية، وقد فصّل هؤلاء العرفاء في آليّة الاستشراف القلبي للمعرفة، فرأوا أنّ الإنسان يصل إلى مرتبة الاستشراف والاستلهام إذا طوى منازل السائرين، إذن فقد أحدثت الصوفية تحوّلاً في مفهوم المعرفة بنقلها من إطاري النقل، والعقل إلى إطار القلب، ولم تعد معرفة الله تصحّ أو تتحقق إلا بالاتحاد به، وبالمعرفة القلبية لـه، والتي هي إدراك مباشر لـه، وحالُ اتحاد به، في تجربةٍ معيشيةٍ ذاتية وكليّة حدسية، ووجدانية معاً.تكمن المأثرة الأدبية في النتاج الصوفي، في الأسلوب بوجه خاص، في فنيّة الصياغة اللغوية، إنّها ليست صياغة علمية أو منطقية في ظاهر التعبير، فالعلمية والمنطقية سمةٌ لمادتها الفكرية من داخل، أمّا الخارج فأدبٌ خالص، كالأقوال الحِكمية التي يصوغُها أبو يزيد البسطامي في المعرفة، من نحو: (العارف لا يُكدّرهُ شيء ويصفو لـه كل شيء) ، فالوجه الأول للطباق نفي الفعل، والوجه الثاني إثبات الفعل، وبين لا يُكدّرّه شيء، ويصفو لـه كل شيء، طباق بصياغة جديدة، وفي مثالٍ آخر يقول أبو يزيد: (من عرف الله صار على النار عذاباً، ومن جهل الله صارت عليه عذاباً، ومن عرف الله صار للجنّة ثواباً، وصارت الجنةُ عليه وبالا) ، فهذا النص رمزٌ آخر من رموز اختزال اللغة الصوفية، وغِناها الإشاري الكامن، فالعارف في هذه الشطحة ينجو من عذاب النار، ويصبح ناراً على النار، فتكون النار عليه برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم عليه السلام.إنّ هذه الضديّة الفكرية، ولباسها التعبيري هما ديدن الصوفيين على الدوام، طباق المعرفة والجهل، والجنة والنار، والعذاب بسبب النار، وعذاب النار ذاتها، والترادف بين العذاب والوبال، وإن كان الوبال درجة أعلى من العذاب، وفي نص معرفي آخر يقول أبو يزيد البسطامي أيضاً (غلطت في ابتداء أمري، حسبت أني ذكرته، فإذا هو ذكرني قبل ذكري لـه، وحسبت أني أعرفه، فإذا هو عرفني قبل معرفتي به، و حسبت أني أحبه، فإذا هو أحبني قبل محبتي لـه، وحسبت أني أعبده، فإذا هو قد جعل خلائق الأرض في خدمتي) ، فالطباق بين ذكرته وذكرني، وأعرفه وعرفني وأحبه وأحبني، هو تضاد يحمل في داخله لقاء ووفاقا، فهناك علاقة الذاكر والمذكور، والعارف والمعروف، والمحب والمحبوب، وكلاهما واحد، بمعنى أن الذاكر هو المذكور، والعارف هو المعروف، والمحب هو المحبوب، والمذكور المعروف المحبوب هو الذاكر والعارف والمحب، ويقول أبو يزيد البسطامي أيضاً في المعرفة (لا يزال العارف يعرف، والمعارف تعرف، حتى يهلك العارف في المعارف فيتكلم العارف عن المعارف، ويبقى العارف بلا معارف) ، يتعامل البسطامي مع اللغة تعاملاً خاصاً، نادراً، إذ يستخدم مصدراً لفظياً هو عرف ويشتق من فعل المعرفة اسم الفاعل،، وصيغة منتهى الجموع، فتتضاءل باقي مفردات اللغة أمام الصيغ المختلفة للفظ المعرفة، والبسطامي لا يريد أن يعرض ـ هنا ـ أحجية كما يبدو أولَ وهلة، بل يريد إخراج فكرته إخراجا فنياً فريداً، ونقل تجربته بنورها و نارها معاً.حول المعرفة كتب الحلاج نصاً نثرياً تحت عنوان بستان المعرفة ، وفيه يثبت فكرة أن معرفة الله غير ممكنة، وهو لذلك يدحض النظريات التي تدعي إمكانها، وهذا معرفة، معرفة صعوبة تحصيل المعرفة ـ إن لم نقل استحالتها ـ ومن النص ما يلي: (المعرفة في ضمن النكرة مخفية، والنكرة في ضمن المعرفة مخفية، النكرة صفة العارف، وحليته، والجهل صورته، فصورة المعرفة عن الأفهام غايبة آيبة، كيف عرفه ولا كيف، أين عرفه ولا أين، كيف وصل ولا [وصل]، كيف انفصل ولا [فصل]، ما صحت المعرفة، لمحدود قط، ولا لمعدود، ولا لمجهود، ولا لمكدود. المعرفة وراء الوراء، وراء المدى، وراء الهمة، وراء الأسرار، ووراء الأخبار، ووراء الإدراك، هذه كلها شيء لم يكن فكان، (والذي لم يكن ثم كان) لا يحصل إلا في مكان، والذي لم يزل كان قبل الجهات و(العلاّت والآلات)، كيف تضمنته الجهات، وكيف تلحقه النهايات. سبحان من حجبتهم بالاسم والرسم والوسم، حجبتهم بالقال والحال والكمال والجمال عن الذي لم يزل ولا يزال. للفهم طولٌ وعرض، وللطاعات سننٌ، وفرض، والخلق كلهم في السماء والأرض، وليس للمعرفة طول ولا عرض، ولا تسكن في السماء والأرض، ولا تستقر في الظواهر والبواطن، مثل السُنن والفرض) .لا يخلو النص السابق ـ على الرغم ـ من كونه نَصّاً فلسفياً ـ من مشاعر عاطفية تختبئ وراء كلماته، ومنها المباهاة بمعرفة المعرفة، وهي أنها نكرة، فضلاً عن مشاعر الحب والإعجاب، حب المعرفة والإعجاب بجمالها وجلالها، وهي مشاعر هادئة تنظم إيقاع موسيقي النص.تتبادل المعرفة والنكرة موقع المبتدأ، كلاهما مبتدأ وخبرهما واحد هو (مخفيّة)، والابتداء بالمعرفة ثم بالنكرة تقديمٌ لهما وابتداءٌ بهما، ومساواةٌ بينهما، تتساويان في الخفاء، وتتبادلان الموقع فكلاهما مخفيٌ في الآخر، ولذلك فهي معرفة تأتي وتذهب، وتذهب وتأتي إلى قلوب العارفين، معرفة تسكن بين النقيضين، لا تنتمي لا إلى الشيء، ولا إلى نقيضه، ولذلك فهي موضع تساؤل دائم عن كيفيتها، ومكانتها لكنّه تساؤل دائم لا إجابة لـه، لأنه (ما صحّتِ المعرفة، لمحدود قط، ولا لمعدودٍ، ولا لمجهود، ولا لمكدود) أمّا فائدة التضاد والطباق بين المعرفة والنكرة والوصل و الفصل ، فهي زيادة في تعريف المعرفة التي هي نكرة، هذه المعرفة التي يريد الحلاّج وصفها، وإعطاء معلومات عنها، لكنّها معلومات تزيد في كونها مجهولةً غير مدركة، لأنها وراء الإدراك كما هي وراء الوراء، ووراء المدى، ووراء الهمة، ووراء الأسرار.وقد أسهم السجع أيضاً في تعريف المعرفة، ووصْفِها من خلال (حليته) و(صورته)، (الاسم) و(الرسم) و(القال) و(الحال)، وتمّ تأكيد مجمل أفكار النص بوسائل تعبيرية، كالترادف بين (محدود) و(معدود) وبين (مكدود) و(مجهود)، والرمز (وراء المدى) (ووراء الأسرار) و(الهمة)... فضلاً عن لغةٍ أدبية خالصة تتسم مفرداتها بغنى في المعنى لا ينتهي.